كثيرون ممن يتناولون تاريخ الإسلام، لا يفطنون لحقيقة أن الإسلام جاء مُنقذاً للعلم من جموده ومثوِّراً له من رقاده، كيف حدث هذا؟ وما الدليل عليه؟ أضع بين هذا النص الصغير جانباً من الجواب عن هذين السؤالين الكبيرين، مع التوسل بلغة عامة مناسبة لغير المتخصصين. لكي يحرك الإسلام العلم والفلسفة ويثورهما في قوالب تجديدية، صنع باقة جديدة من طرائق التفكير، مزوَّدة بذخائر هائلة من الأدوات الناجعة. سأتناول ست ذخائر فقط على عجل:
أولاً: ذخائر الاجتهاد
هذا الجانب يمكن تصويره عبر العديد من المشاهد. لنأخذ مشهداً واحداً فقط طلباً للاختصار، حينما قَدِم الإسلام على البشرية، ألفى تفكيراً يتأسس على خرافات المنطق اليوناني، الذي يزعم -مثلاً- بأن الحد أو التعريف التام (بالشروط المنطقية المعروفة: بالجنس والفصل القريبين)، إنما يعكس حقيقة الشيء أو ماهيته أو “جوهره”، ولذا فإن البشرية لا تحتاج لتعريف آخر للإنسان، بعد أن تولى أرسطو تعريفه “نيابة” عنَّا، فحسم الأمر بأنه “حيوان ناطق”. تخيلوا هنا حجم الفقد للفلسفة والعلم والفكر حينما تتجمد هذه الحقول على تعريف “ماهوي” أسطوري مدعٍ كهذا! لقد فتح الإسلام للعقل بوابة الاجتهاد وجعلها مشرعة إلى الأبد، إذ يمكننا تعريف الإنسان (أو أي ظاهرة مبحوثة) بمئات التعريفات التوصيفية الاجتهادية بحسب منظورات معرفية عديدة، ووفق تقدم الحركة العلمية ونتائجها وأهدافها، وضمِنَ الإسلامُ لنا حينها الأجرَ، اثنين إن أصبنا أو واحداً إن أخفقنا. ولقد ظفر التفكير الإنساني بانتصاره الكبير على هذا التفكير المجمد للعقل في مراحل النهضة الفكرية الإسلامية المشرقة، وكان تتويجها الكبير على يد ابن تيمية، حيث أطاح بالتفكير التقليدي المقيد للإبداع والاجتهاد[1]. كيف يسعنا إعادة تحريك الاجتهاد المنهجي الدقيق داخل حقولنا المعرفية ضمن إطارنا الحضاري العربي الإسلامي مع قدر كافٍ من الأنفة الثقافية الواجبة؟
ثانياً: ذخائر الفطرة
أشعل الإسلام التفكيرَ بنور الفطرة، حيث عمد إلى تحريك الكليات الضرورية الفطرية للنظر والتفكير والتحليل، وطفق يحرك كوامن الطاقات الذهنية الفطرية في سياقين متكاملين: ديني-إيماني وعقلي-فلسفي، كما نجد ذلك جلياً في تقرير ابن تيمية لمحورية الفطرة في التفكير الإنساني وحركة العلم والتفلسف الرشيد، مقرراً أن “مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها، ومبنى السمع على تصديق الأنبياء صلوات الله عليهم..“[2]، ولتقرير كل ذلك نراه يتكئ بعمق على ما يمكن وصفه بآيتي الحق والعقل[3]: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: 17)، و{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، حيث يقرر بقالب حاسم أن القرآن إنما نزل بـ (1) الحق أي الهداية إلى التوحيد وما يكمَّل الفطرة في الأخلاق والسلوك، (2) العقل أي ما يعمق التفكير ويعضِّد الفطرة في التفكير والبرهنة والاستنتاج. لقد فتح الإسلام بمثل هذا المنظور العظيم كوّة كبيرة في الجدار الصلد للمعرفة، فانبعثت أنوار مُشسَّعة للاستكشاف في مختلف الميادين المعرفية. هل نعيد اكتشاف الذخائر الفطرية في العلم والتفلسف من جديد؟[4]
ثالثاً: ذخائر التسمية
أمد الإسلامُ العقلَ الإنساني بأكبر مفاتيح العلم وهو “مفتاح التسمية“، وهذا ما نجده جلياً في هذه الآية الفاتحة لأفق العلم: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31)، فشرع المسلمون في بكور الحضارة العربية الإسلامية في تسمية أشيائهم وعوالمهم، مما مكنهم من السيطرة على هذه الأشياء والتحكم بها وفق منظومة أخلاقية وسلوكيات علمية قيمية، وذلك أنك إن لم تسمِ أشياءك فلن تطيق السيطرة عليها، وهذا ما يومئ إلى أحد أسباب افتقادنا للفعالية الكافية في الحضارة الراهنة، إذ لم نَعُد نسمي الأشياء، ولم نعد نضع لها معاييرها، بخلاف ما كنَّا عليه في فجر الإسلام وضحاه وظهره، حيث ابتكرنا حينذاك مئات المفاهيم الجديدة، وسكَكنا آلاف المصطلحات الدقيقة في مختلف الحقول المعرفية، وطوَّرنا أبنيتها الدلالية وبنينا عليها الأسس اللازمة لبناء نظريات في الشريعة واللغة والعلوم البحتة والرياضيات والشعر والفن والجمال والسياسة والاقتصاد والإنتاج، وأوجدنا المعايير للأشياء والمقاييس لها، فحققنا قفزات علمية هائلة، ووثبات حضارية خلال فترة قصيرة جداً. هل نجدد عهدنا مع علم التسمية، فنصنع متخصصين بالمصطلح والاصطلاحية في مختلف الحقول المعرفية تمهيداً لاستعادة دورنا في تسمية الأشياء؟
رابعاً: ذخائر الأصول
لم يكتفِ الإسلامُ بتعزيز الدفائن الفطرية ولا تفعيل علم التسمية ولا الاجتهاد فحسب، حيث نشَّط “الفضول المعرفي” لدى الإنسان في البحث عن “أصول الأشياء”، من أجل إحكام القبض على حبكة الأشياء وجذرها الوجودي وأنماط تغيرها وأسباب تجددها، ولهذا فإننا نجد أن في القرآن عشرات السرديات حول أصل الإنسان والحيوان وأصل الخلق للكون ونحو ذلك، وهذا ما دفع ابن تيمية إلى التقرير بأن “ معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعا. إذ المرء ما لم يحط علمًا بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة“[5]. كيف ننبت أصل الأشياء في باحة تفكيرنا المعاصر ومناهجنا التربوية لنخلق ذهنية العالِم والمستكشف؟
خامساً: ذخائر الأسئلة
أمَّن الإسلامُ طريقة ناجعة لفتح “علبة العلم”؟ بمَ؟ فتح الإسلامُ العلمَ بـ “فتَّاحة السؤال”، مما جعله يرص مئات الأسئلة في النص القرآني الخالد، فأكثر من الأسولة بصيغ تحفيزية للعقل وموسعة للعلم: أفلا تعقلون؟ أفلا تتفكرون؟ أفلا تتذكرون؟ ولم يستثنِ الإسلام المجال العقدي من ذلك مع حساسيته البالغة وأهميته القصوى في معمار الإسلام، حيث زرعه بعشرات الأسئلة عن خالق العالَم والمصير والحياة الآخرة ونحو ذلك، كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور: 35). وعَبّر الإسلامُ بأسئلة خلاَّقة صوب الحياة الدنيا واكتشاف عوالِمها، وهذا ما نجده -مثلاً- في هذا السؤال الكوني المحلِّق: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ} (يونس: 101). ولكي يحمي الإسلامُ السؤالَ من عبث الجاهلين وتطفُّل الحمقى والتافهين، فقد ربط السؤالَ بالجماعة العلمية، حيث قرر بأن دائرة السؤال والجواب مربوطة بأهل العلم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43). كيف نضمن للسؤال عافيته واستدامته، بلورة وإجابة واستفزازاً؟
سادساً: ذخائر البرهان
لكي تؤتي الذخائرُ السابقة أكلها، فلا بد أن تسيَّج ببرهنة مقنعة، وذلك أن الجواب لا يُقبل إلا إذا حمل برهاناً مقنعاً، ولهذا فقد عني الإسلامُ بالبرهنة وشسَّعها، فلم يقصُر البرهان على نوع واحد، بل أكَّد أن الدليل هو ما دلَّ على المطلوب، بأي طريقة أو منهجية مقبولة، وهذا ما أوجد سبيلاً قاصداً للانعتاق من شرنقة البرهانية المنطقية الضيقة التي كانت تزعم بأن البرهان مقتصر على “القياس” ممثلاً بقياس الشمول (القياس المنطقي)، حيث ابتكر المسلمون أقيسة كثيرة، ومنها على سبيل المثال: قياس الأولى وقياس التمثيل وقياس التعليل وقياس الدلالة[6]، ونحو ذلك من المناهج الاستنباطية والاستقرائية والتجريبية ونحوها، حيث طبقها العلماء المسلمون وأبدعوا في تنفيذها وتوثيق العملية البحثية وإجراءتها ونتائجها. ومن الصور التي تدهشني، ولا أملُّ من التأمل فيها طويلاً طويلاً، تلك الصورة التي تؤكد تجذُّر البرهانية في رحاب الإسلام، والتي تتمثل في أن الله تعالى طالبَ غير المؤمنين بالبرهان على شركهم: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (الأنبياء: 24).
عموماً، هذا جانب يسير وتوصيف خاطف لسردية الإسلام في رحاب العلم، وكيف أنه حرَّك العلمَ بمثل هذه الذخائر الكبار في مرحلة تاريخية، كاد العلم فيها أن يُرمَس في مدافن المنطق الصوري ومقابر الخرافات والأساطير[7]. والحديث في هذا يطول، ولعل في تلك اللفتة ما يغري على تأمل المسألة بعمق.
[1] للمزيد ، انظر مثلاً: أبو يعرب المرزوقي، إصلاح العقل في الفلسفة العربية – من واقعية أرسطو وأفلاطون إلى إسمية ابن خلدون، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 4، 2011؛ رائد عكاشة وأنور الزعبي، ابن تيمية – عطاؤه العلمي ومنهجه الإصلاحي، عمّان: دار ورد، ط 1، 2008.
[2] ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 368؛ مجموع الفتاوى، مج 9، المنطق، ص 226.
[3] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مج 9، المنطق، ص 172-173، الرد على المنطقيين، ص 378-379، 416-420.
[4] انظر : عبدالله البريدي، ابن تيمية: فيلسوف الفطرة، منصة معنى (نسخة مختصرة، مع نشر البحث كاملاً في مجلة علمية محكمة قريباً).
[5] مجموع الفتاوى، مج 10، علم السلوك، 368.
[6] انظر مثلاً ما ورد في: الرد على المنطقيين، ص 157-164، 193-202، 398؛ مجموع الفتاوى، مج 9، المنطق، ص 187-188.
[7] هذا النص كتبتُه على خلفية نقاش ثري ومداخلة لي صغيرة مقتصبة حول السؤال في غرفة لـ “كلوب هاوس” (ليلة الثلاثاء 25 رجب 1442 ، 9 مارس 2021)، افتتحها الأصدقاء في “أدب” ومنهم: د. عبدالله السفياني، ود. يوسف العليان، والأستاذ عبدالرحمن الخلف، ود. سامي العجلان، ود. نجم الحصيني، فلهم الشكر على هذا الفضاء الجميل للمثاقفة والتنوير.