- مصطفى شلش
- اسم الكتاب: “عصر الإقطاع الجديد، تحذير للطبقة الوسطى العالمية”
- اسم المؤلف: جويل كوتكين
- دار النشر: Encounter Books
- سنة النشر: 2020
- عدد الصفحات: 224
يشير البروفيسور جويل كوتكين – أستاذ الدراسات الحضرية بجامعة تشابمان في أورانج، كاليفورنيا، والباحث في الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة والدولية – في كتابه الأخير الصادر بعنوان:
“The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class , “2020
إلى حركة نشطة عرفها بـ “الأديان الجديدة”، أبرزها: الإيمان بالتقدمية، والإيمان الأخضر (أي حركات البيئة)، والإيمان ما بعد الإنسانوي.
وينطلق كوتكين من ملاحظة صموئيل هنتنغتون أن “الدين هو السمة الأساسية المميزة للحضارات”. حيث يُمكننا أن نرى أهميتها في تطور أقدم المدن في بلاد ما بين النهرين ومصر والهند والصين. فقد قدم الدين نظرة إلى العالم ساعدت الناس على مواجهة الكوارث والخوف من الموت، مما أعطى الأمل في الخلود.2 كما لعب الدين دور المدونة الأخلاقية والقانونية ووسيلة لتماسك الإجتماعي. الآن، في العصر الحديث، فقد الدين المتمثل في الكنائس التقليدية تأثيره، لكن في المقابل انفتح المجال الديني لنمو انتماءات روحية جديدة لخدمة أغراض مماثلة.
كنيسة “التقدميين”
الكنيسة الكاثوليكية اليوم منقسمة ومتورطة في الفضائح المُشينة، وبدأت الحركة الإنجيلية التي كانت ديناميكية في السابق تفقد أتباعها في العالم المتقدم. حسب كوتكين، فإن أمريكا، التي كانت تعتبر في يوم من الأيام استثناءً لاتجاه العلمنة العالمي، أصبحت الآن “تتدهور” بسرعة. فجيل الألفية في الولايات المتحدة يغادر المؤسسات الدينية بمعدل أربعة أضعاف مثيله منذ ثلاثة عقود. وما يقرب من 40 بالمائة[1] من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا ليس لديهم انتماء ديني.
وهذا الاتجاه أكثر وضوحًا في أوروبا، حيث أكثر من 50% من أولئك الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا لا ينتمون إلى أي دين. والخاسر الأكبر هنا هو المسيحية. في المملكة المتحدة، هناك العديد من المسلمين الذين يحضرون الصلاة الأسبوعية الآن مثل المسيحيين الذين يحضرون الكنيسة، لكن منذ عام 2001م شهدت البلاد إغلاق حوالي خمسمائة كنيسة.[2]
في نظر كوتكن هذا لا يعني أنّ المعتقد الديني آخذ في الزوال، بل يعني أنّ الكثير من الناس ترفض المعتقدات المنظمة لكنهم يحافظون على بعض القيم الروحية. اليوم، يرتاد عدد أقل من أي وقت مضى الكنيسة، لكن ثلثي الأمريكيين غير المنتسبين الذين استطلعت آراؤهم “مركز بيو” ما زالوا يؤمنون بالله أو بروح مُتعالية. وقد يبحث هؤلاء الأفراد عن بعض الصخور الروحية الجديدة ليضعوا عليها آمالهم أو يبحثون عن المعنى.
وبالفعل ظهرت تيارات دينية جديدة داخل بعض التقاليد الدينية الراسخة. في الكاثوليكية، واليهودية الإصلاحية، ومختلف الطوائف البروتستانتية الرئيسية، يتم استكمال المعتقدات الأرثوذكسية أو حتى استبدالها بما يمكن أن يسمى إنجيل تقدمي. ويعكس هذا الاتجاه الطابع المتغير للجامعات والمعاهد اللاهوتية، حيث تميل الكليات بشدة إلى اليسار. في أقسام الدين بالكليات الآن، يفوق عدد الليبراليين عدد المحافظين بنسبة 70 إلى 1.[3]
يشير كوتكين إننا اليوم أمام كهنة كنائس تقدميين، يغيرون الأديان من الداخل، والكنائس الأكثر التزامًا بالمسار التقدمي ما هي إلا إنعكاس عن حالة تدهور خطير، في نظره. حيث يستند إلى ما تفقده الطوائف الدينية من مؤيدين لها فمثلًا: الطوائف البروتستانتية الرئيسية فقدت خمسة ملايين تابع في العقد الماضي. وتخسر الكنيسة الكاثوليكية، التي تخضع الآن لبابا إصلاحي وتقدمي سياسيًا، أتباعها ليس فقط في أمريكا الشمالية وأوروبا، التي مِن المفترض ترحب بآراء البابا على نطاق واسع، ولكن أيضًا في موطنه في أمريكا اللاتينية. فاليوم، واحد من كل أربعة نيكاراغويين، وواحد من كل خمسة برازيليين، وواحد من كل سبعة فنزويليين كاثوليكيون سابقون. في المقابل، لا تزال الأديان الأكثر تحفظًا – بما في ذلك بعض الكنائس الإنجيلية واليهودية الأرثوذكسية والإسلام قوية لصمود عقائدها من ناحية، ومن ناحية يعيد كوتكين الفضل جزئيًا إلى معدلات المواليد المرتفعة، خاصة في العالم النامي.
وعلى الرغم من حيوية بعض الطوائف، فمن الممكن تمامًا أن تكون الأديان التقليدية السائدة في الغرب محكوم عليها بانعدام الأهمية الثقافية في غضون بضعة عقود. وفقًا لمركز بيو، على سبيل المثال، ستكون المسيحية هي الأقلية الدينية في جميع أنحاء بريطانيا وفي بعض الدول الأوروبية الأخرى بحلول عام 2050م.
الإيمان الأخضر
مع تضاؤل الأديان التقليدية، أصبحت البيئة تشبه إيمان العصر الجديد. قديمًا، قدمت المسيحية إرشادات لكيفية عيش المرء وإدارة شؤونه الشخصية بطريقة ترضي الله، لكن الحركة الخضراء تسعى إلى توجيه الناس نحو حياة في انسجام أفضل مع الطبيعة. يقول جويل جارو: إن حماية البيئة أصبحت “الدين المفضل للملحدين الحضريين”.
مثل الكاثوليكية في العصور الوسطى، يتوقع الإيمان الأخضر نهاية العالم بسبب النشاط البشري. فقد كتبت باربرا توكمان إلى الناس في العصور الوسطى: “كانت نهاية العالم في الهواء”. لم يكن بلاء الفناء الذي أتت به الخطيئة البشرية حقيقية فحسب، بل كان وشيكًا. وتنبأ القديس نوربرت في القرن الثاني عشر أنّ نهاية العالم ستأتي في عمر معاصريه. وبالمثل، فإن الحركة البيئية – سواء كانت دينية أو علمية أو يسارية – تتبع بشكل روتيني خطأً مباشرًا من المادية البشرية إلى الكارثة التي تلوح في الأفق.
في كتابه المؤثر للغاية الصادر عام 1968م، القنبلة السكانية، زعم عالم الحيوان الأمريكي بول إرليخ أنّ البشرية “تلد مِن أجل الانقراض”، كما تنبأ تقرير نادي روما الذي تم الترحيب به على نطاق واسع في عام 1972م بنقص هائل في الموارد الطبيعية ما لم يكن هناك نقص في معدل المواليد، وتباطؤ للنمو الاقتصادي، وانخفاض للاستهلاك المادي، وانخفاض الحراك الاجتماعي. وغالبًا ما يتم قبول مثل هذه التصريحات دون نقد في الأوساط الإعلامية والأكاديمية والسياسية. ومع ذلك، فإنّ هذه التنبؤات المروعة، وبمقارنتها بنظيرها في العصور الوسطى، يمكن أنْ يتبيّن أنّها مبالغ فيها أو حتى خاطئة تمامًا. وعلى العكس تمامًا، ورغم قوة العقيدة البيئية في السبعينيات، على سبيل المثال، لم تنفد الموارد الطبيعية، بل زادت معدلات استهلاك الطاقة والغذاء، وأصبحا أكثر إتاحة وتوفرًا.
لكن، يؤكد كوتكين أنّ هذا لا يعني أنّ الأزمات البيئية الحقيقية لا تحتاج إلى مواجهة، مثلما لا يجب اعتبار نقد المسيحية لخطيئة الإنسان وأنانية الإنسان غير ذي صلة بحياتنا. ولكن اليوم كما في الماضي، هناك عنصر رياء بين بعض أولئك الذين يقولون للآخرين أن يكتفوا بالفقر أو يمجدوا فضائله.
في العصور الوسطى، عانى معظم الرعية وبعض الكهنة من مشقة مادية كبيرة، بينما عاش العديد من الأساقفة في رفاهية، “محمّلين بالذهب ويرتدون اللون الأرجواني”، على حد تعبير بترارك. وبالمثل، يهدف دعاة حماية البيئة إلى فرض التقشف على الجماهير مع تسويغ تجاوزات مؤيديهم فاحشي الثراء. حتى في الوقت الذي يحثون فيه الجميع على تقليص الاستهلاك، يشتري “الأثرياء الخُضر” نسخة حديثة من صكوك الغفران من خلال أرصدة الكربون وغيرها من إرشادات الفضيلة، وهذا يسمح لهم بإنقاذ الكوكب بأناقة. في الآونة الأخيرة، تم تحليق ما يقدر بنحو 1500 طائرة خاصة[4] تنفث غازات الاحتباس الحراري إلى دافوس محملة بأشخاص لحضور مؤتمر لمناقشة الأزمة البيئية. ويبدو أنّ قلة من نشطاء المناخ البارزين على استعداد للتخلي عن منازلهم المتعددة أو اليخوت أو عدد كبير من السيارات.
وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنّ البعض في الحركة الخضراء أصبحوا عقائديين للغاية في وجهات نظرهم، وغالبًا ما يشوهون أو حتى يضطهدون أولئك الذين يجرؤون على المعارضة بأي شكل من الأشكال. اليوم، تعد المناقشات المفتوحة حول البيئة وأفضل السبل للحفاظ على كوكب الأرض نادرة مثل النقاش المفتوح حول وجود الله في الكنيسة الكاثوليكية في القرن الحادي عشر.
يشير كوتكين إلى بعض علماء المناخ المخضرمين – مثل روجر بيلك وجوديث كاري، أو مؤسس غرينبيس باتريك مور، أو الأعضاء السابقين في لجنة الأمم المتحدة الدولية المعنية بتغير المناخ – حيث تعرضوا للشيطنة والتهميش لانحرافهم وهو ما وصفته كاري بأننا أمام وجهة نظر “أحادية” متطرفة لفهم قضية تغير المناخ. ويبدو أنّ بعض نشطاء المناخ على استعداد لمقاضاة المعارضين في محاولة لحظر أفكارهم بالوسائل القانونية. حيث لم يتم استهداف شركات الطاقة فحسب، بل مراكز الفكر والعلماء المنشقين عبر دعاوى جنائية.
كل هذه التكتيكات تذكرنا بمحاكم التفتيش في العصور الوسطى، على حد تعبير كوتكين. إنها طريقة سيئة للغاية لمعالجة قضية علمية معقدة، حيث هناك حاجة إلى نقاش مفتوح وحر.
ما بعد الإنسانية: إيمان الطبقة الحاكمة الجديدة
المنافس الآخر للإيمان الجديد للأوليغارشية هو “ما بعد الإنسانية” ، أي البحث عن الحياة الأبدية من خلال التقنية. فقد كتب جارون لانير: “يتزامن صعود احتكارات الأولغارشية التقنية مع نوع جديد من الدين يعتمد على أن يصبح المرء خالدًا”. ويُحتمل أن يكون مذهب “ما بعد الإنسانوية” أكثر راديكالية وعمقًا من بين المذاهب الناشئة، وهو نهج علماني واضح لتحقيق الهدف الديني المتمثل في الخلود.
لا يعامل الدين التقني الجديد الفناء على أنّه شيء يجب تجاوزه من خلال الأفعال الأخلاقية، ولكن باعتباره “خطأ” يجب تصحيحه بواسطة التقنية. وعلى الرغم من أنه يبدو إلى حد ما مثل عبادة حمقاء، إلا أنّ “ما بعد الإنسانوية” لطالما مارست سحرًا قويًا لنخب وادي السيليكون. وبتعبير كوتكين نحن أمام: “تطوير وتعزيز لتحقيق ربوبية على أساس الذكاء الاصطناعي.”
من جهة أخرى تبدو نزعة ما بعد الإنسانوية طبيعية بالنسبة لأولئك الذين يرفعون التقنية فوق كل القيم الأخرى. إنها تستغني عن الحقائق الجسدية والعاطفية للانتماء إلى الكنيسة. وتقدم “ما بعد الإنسانوية” فرصة تسويقية للتقنية الجديدة، كما يشير توماس ميتزينغر من كلية جوتنبرج للأبحاث في ماينز. مِن المُمكن أنْ يتم عرض تطبيق الخلود للبيع لقاعدة متديني “ما بعد الإنسانوية”.
يُمثل هذا الدين الجديد قطيعة كبيرة مع الأديان التقليدية. في نظر كوتكين، أكدت المسيحية واليهودية والإسلام على المساواة الجوهرية بين الناس (على الأقل بين المؤمنين)، وأمرت بأعمال الخير وغيرها من الأعمال الصالحة تجاه الأقل حظًا. وتغذي هذه التعاليم في النهاية التفكير الديمقراطي والمساواة، لا سيما في الغرب. لكنّ المؤمنين الجُدد بما بعد الإنسانوية؛ فإن المساواة ليست شيئًا مُهمًا، حيث يرى “يوفال نوح هراري” بدلاً من ذلك مستقبلاً تكتسب فيه “نخبة صغيرة ومتميزة من البشر المتقدمين” السيطرة على المجتمع وتستخدم الهندسة الوراثية لتعزيز المكانة المتفوقة لنسلهم. ولن يكون هدفهم اتباع قوانين الله بل هدفهم أن يصبحوا أنفسهم آلهة، من خلال نوع من التطور الموجه والمتسارع، ويضيف هراري قائلًا:
“لن تنتظر الهندسة الحيوية بصبر حتى يعمل الانتقاء الطبيعي بسحرها. وبدلاً من ذلك، سيعمل المهندسون الحيويون على الجسم العاقل القديم، ويعيدون عن عمد كتابة شفرته الجينية، ويعيدون توصيل دوائر دماغه، ويغيرون توازنه الكيميائي الحيوي، بل ويُنمّون أطرافًا جديدة تمامًا. وبذلك سيخلقون أتباعًا جددًا، قد يكونون مختلفين عنا، بقدر ما الإنسان العاقل مختلف عن سلفنا الإنسان المنتصب.”
ختامًا، يرى كوتكين أنّه مِن الواضح أن أديان النخب والأولغارشية التقنية الباحثة عن الخلود لا تعالج القضايا التي تؤثر على أولئك الذين ما زالوا يعيشون ضمن حدود الطبيعة. ومن المرجح أنْ يتطلع الشخص المأزوم إلى رجل دين أكثر من عالم البيانات للحصول على المساعدة. فالأديان التقليدية تعمل في أفضل حالاتها كأدوات قوية لتحسين المجتمع، مع الاهتمام بشكل خاص بالمحتاجين. وقد يكون محاربو العدالة الاجتماعية العلمانيون ملتزمين بحماس بقضاياهم، ولكن في نظر كوتكين، غالبًا ما تكون مجموعات مثل المعمدانيين أو أعضاء كنيسة يسوع هم الذين يأتون للإنقاذ بشكل أسرع وأكثر فعالية في الأزمات.
لطالما جمعت المؤسسات الدينية بين الأشخاص ذوي الخلفيات المتباينة وخصوصًا في الوضع الاقتصادي، وعملت على بناء روابط اجتماعية بينهم وعملت كناقل موحد للتقاليد والهوية الثقافية. في المقابل، تبدو أن الأشكال الجديدة للدين من المرجح أن تقسم الناس على أسس سياسية ومعرفية، وهم بدون أساس مادي في المجتمعات المحلية، بل إنها ديانات لا تشجع على اختلاط الأشخاص المتنوعين، ولكنها تميل إلى الاختيار الذاتي لأولئك الذين يرون أنفسهم متفوقين أخلاقياً وفكرياً على الغالبية العظمى من السكان. قد تقدم الديانات الجديدة إرشادات حول كيفية إطالة العمر، لكن مع القليل من التوجيه الأخلاقي. ولا يزال هناك عالم بدون دين تقليدي لكن يضم أشخاصًا لديهم وعي روحي، عالم لا يمكن أن يكون قاصرًا على بركات مؤسسات حديثة، عالم باقي على تضحية وإيمان آلاف السنين.
[1] The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class, by Joel Kotkin, 2020
[2] The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class, by Joel Kotkin, 2020
[3] The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class, by Joel Kotkin, 2020
[4] The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class, by Joel Kotkin, 2020