- نشر: opensciences
- ترجمة: عمرو سعد
- تحرير: محمد الفضيلي
نحن نعتقد بأن العلوم مقيدة بالدوغمائية[1]، ولا سيما دوغمائية التبعية للفلسفة المادية، تلك العقيدة القائلة بأن المادة هي الحقيقة الوحيدة، وأن العقل ليس إلا نتاج النشاط الفيزيائي للدماغ. نعتقد أن العلوم ستكون أكثرَ علمية إذا كانت حرة في استكشاف العالم الطبيعي بطريقة مفتوحة تماماً -دون قيود المادية والتحيز لعقيدة معينة- مع الالتزام بالطرق العلمية لجمع البيانات واختبار الفرضيات والمناقشة النقدية.
1- تعتمد النظرة العلمية الحديثة في الغالب على افتراضات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفيزياء الكلاسيكية، والمادية – فكرة أن المادة هي الحقيقة الوحيدة – هي إحدى هذه الافتراضات. أحد الافتراضات ذات الصلة بالمادية هي الردّية Reductionism، وهي الفكرة القائلة بأن الأشياء المعقدة يمكن فهمها من خلال ردها إلى تفاعلات أجزائها، أو إلى أشياءَ أبسطَ أو أكثر جوهريةً منها مثل جزيئات المواد الصغيرة.
2- خلال القرن التاسع عشر، ضاقت هذه الافتراضات وتحولت إلى دوغما، واندمجت في نظام عقائدي أيديولوجي أصبح يُعرف باسم “المادية العلمية”. يشير هذا النظام من المعتقدات إلى أن العقل ليس سوى النشاط الفيزيائي للدماغ، وأن أفكارنا لا يمكن أن يكون لها أي تأثير على أدمغتنا وأجسادنا، وأفعالنا، والعالم المادي.
3- أصبحت أيديولوجية المادية العلمية سائدة في الأوساط الأكاديمية خلال القرن العشرين، لدرجة أن غالبية العلماء بدأوا يعتقدون أنها قائمة على أدلة تجريبية راسخة، و أنها تمثل وجهة النظر العقلانية الوحيدة للعالم.
4- لقد حققت الأساليب العلمية القائمة على الفلسفة المادية نجاحًا كبيرًا ليس فقط في زيادة فهمنا للطبيعة، ولكن أيضًا في تحقيق قدر أكبر من التحكم والحرية من خلال التقدم في التكنولوجيا.
5- ومع ذلك، فإن الهيمنة شبه المطلقة للمادية في العالم الأكاديمي قد قيدت العلوم بشكل خطير،وأعاقت تطوير الدراسة العلمية للعقل والروحانية. الإيمان بهذه الأيديولوجية، كإطار تفسيري حصري للواقع، أجبر العلماء على إهمال البعد الذاتي للتجربة الإنسانية، وقد أدى هذا إلى فهم فقير ومشوه بشدة لأنفسنا ومكاننا في الطبيعة.
6- العلم هو أولاً وقبل كل شيء طريقة غير عقائدية ومنفتحة على اكتساب المعرفة عن الطبيعة من خلال الملاحظة والتحقيق التجريبي والتفسير النظري للظواهر. منهجيتها ليست مرادفة للمادية، ويجب ألا تلتزم بأي تحيزات أو عقائد أو أيديولوجيات معينة.
7- في نهاية القرن التاسع عشر، اكتشف الفيزيائيون ظواهر تجريبية لا يمكن تفسيرها بالفيزياء الكلاسيكية، أدى ذلك إلى تطوير فرع ثوري جديد للفيزياء يسمى ميكانيكا الكم خلال العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي. شككت ميكانيكا الكم في الأسس المادية للعالم من خلال إظهار أن الذرات والجسيمات دون الذرية ليست أشياء كائنة حقًا – حيث لا يمكن الوصول إلى يقين حول مكان وزمان تواجدها في آن واحد. الأهم من ذلك، أن ميكانيكا الكم أدخلت العقل بشكل صريح في هيكلها المفاهيمي الأساسي منذ أن وجدت أن الجسيمات التي يتم ملاحظتها والمراقب -الفيزيائي والطريقة المستخدمة في الملاحظة- مرتبطان. وفقًا لأحد تفسيرات ميكانيكا الكم، تشير هذه الظاهرة إلى أن وعي المراقب له تأثير في وجود الأحداث المادية التي يتم ملاحظتها، وأن الأحداث العقلية يمكن أن تؤثر على العالم المادي، تدعم نتائج التجارب الحديثة هذا التفسير. تشير هذه النتائج إلى أن العالم المادي لم يعد هو المكون الأساسي أو الوحيد للواقع، وأنه لا يمكن فهمه بالكامل دون الرجوع إلى العقل.
8- أظهرت الدراسات النفسية أن النشاط العقلي الواعي يمكن أن يؤثر سببيًا على السلوك، وأن القيمة التفسيرية والتنبؤية للعوامل الفاعلة (مثل المعتقدات والأهداف والرغبات والتوقعات) عالية جدًا. علاوة على ذلك، تشير الأبحاث في علم المناعة العصبية النفسية إلى أن أفكارنا وعواطفنا يمكن أن تؤثر بشكل ملحوظ على نشاط الأجهزة الفسيولوجية (مثل الجهاز المناعي والغدد الصماء والقلب والأوعية الدموية) المتصلة بالدماغ. من نواحٍ أخرى، تُظهر دراسات التصوير العصبي للتنظيم الذاتي العاطفي والعلاج النفسي وتأثير الدواء الوهمي (تأثير البلاسيبو) أن العمليات العقلية تؤثر بشكل كبير على نشاط الدماغ.
9- تشير الدراسات حول ما يسمى بـ “ظاهرة psi” (الظواهر الباراسيكولوجية([2])) إلى أنه يمكننا أحيانًا تلقي معلومات ذات مغزى دون استخدام الحواس العادية (إدراك الأحداث عن بعد)، وبطرق تتجاوز قيود المكان والزمان المعتادة. علاوة على ذلك، توضح الأبحاث الباراسيكولوجية أنه يمكننا التأثير عقليًا – عن بعد – على الأجهزة المادية والكائنات الحية (بما في ذلك الكائنات البشرية الأخرى). تُظهر أبحاث Psi أيضًا أن العقول البعيدة قد تتصرف بطرق غير مترابطة محليًا (التخاطر عن بعد)، أي يُفترض أن تكون الارتباطات بين العقول البعيدة غير وسيطة (لا ترتبط بأي إشارة نشطة معروفة)، ولا تقل مع زيادة المسافة، وفورية (متزامنة). هذه الأحداث شائعة لدرجة أنه لا يمكن اعتبارها شاذة، ولا أنها استثناءات للقوانين الطبيعية، ولكن كمؤشرات على الحاجة إلى إطار تفسيري أوسع لا يمكن أن يُبنى حصريًا على المادية.
10- النشاط العقلي الواعي يمكن أن يظل موجوداً أثناء الموت السريري -أثناء السكتة القلبية- هذا ما يسمى بـ “تجربة الاقتراب من الموت” NDE، حيث أفاد بعض الذين مروا بتجربة الاقتراب من الموت (NDErs) أنهم خرجوا من أجسادهم وتمكنوا من إدراك أحداث واقعية جرت حولها أثناء السكتة القلبية. كما أخبر أصحاب تجربة الاقتراب من الموت عن تجارب روحية عميقة خلال تجارب الاقتراب من الموت التي نتجت عن السكتة القلبية. ومن الجدير بالملاحظة أن النشاط الكهربائي للدماغ يتوقف في غضون ثوان قليلة بعد السكتة القلبية.
11- لقد وثقت التجارب المعملية الخاضعة للرقابة أن “الوسطاء الروحانيين” (الأشخاص الذين يدعون أنهم يستطيعون التواصل مع عقول الأشخاص الذين ماتوا جسديًا) يمكنهم أحيانًا الحصول على معلومات دقيقة للغاية عن الأفراد المتوفين. هذا يدعم أيضًا الاستنتاج القائل بأن العقل يمكن أن يوجد بشكل منفصل عن الدماغ.
12- يرفض بعض العلماء والفلاسفة ذوي الميول المادية الاعتراف بهذه الظواهر لأنها لا تتفق مع مفهومهم الحصري عن العالم. إن رفض التحقيق ما بعد المادي في الطبيعة أو رفض نشر نتائج علمية قوية تدعم إطار تفسيري ما بعد مادي يتعارض مع الروح الحقيقية للبحث العلمي، وهو أن البيانات التجريبية يجب دائمًا التعامل معها كما هي. لا يمكن رفض البيانات التي لا تتناسب مع النظريات والمعتقدات المفضلة مسبقًا. هذا الاستبعاد يمثل أيديولوجيا وليس علمًا.
13- من المهم أن ندرك أن ظواهر psi، وتجارب الاقتراب من الموت في حالة السكتة القلبية، والأدلة القابلة للتكرار من “الوسائط”، لا تبدو شاذة إلا عند رؤيتها من خلال عدسة المادية.
14- علاوة على ذلك، فشلت النظريات المادية في توضيح كيف يمكن للدماغ أن يولد العقل، وهم غير قادرين على تفسير الأدلة التجريبية المشار إليها في هذا المقال. يخبرنا هذا الفشل أن الوقت قد حان الآن لتحرير أنفسنا من أغلال الأيديولوجية المادية القديمة، وتوسيع مفهومنا للعالم الطبيعي، واعتناق نموذج ما بعد مادي.
15- وفقًا لنموذج ما بعد المادية:
أ- يمثل العقل جانبًا من جوانب الواقع الأساسية مثل العالم المادي. العقل أساسي في الكون، أي لا يمكن اشتقاقه من المادة أو اختزاله في أي شيء آخر.
ب- هناك ترابط عميق بين العقل والعالم المادي.
ت- يمكن للعقل (بما هو إرادة/نية/قصد) أن يؤثر على حالة العالم المادي، وأن يعمل بطريقة تجاوزية (أو ممتدة)، أي أنه لا يقتصر على نقاط محددة في الفضاء، مثل الأدمغة والأجساد، ولا على نقاط محددة في الزمن، مثل الحاضر.
ث- العقول غير محدودة على ما يبدو، وقد تتحد معاً بطرق معينة، وهذا يوحي بوجود عقل واحد يجمع كل العقول الفردية.
ج- تشير تجارب الاقتراب من الموت في حالة السكتة القلبية إلى أن الدماغ يعمل بمثابة جهاز إرسال واستقبال للنشاط العقلي، أي أن العقل يمكنه أن يعمل من خلال الدماغ، ولكنه ليس ناتجًا عن نشاط الدماغ. إن تجارب الاقتراب من الموت التي تحدث أثناء السكتة القلبية، مقرونة بأدلة التجارب التي تمت على “الوسطاء”، تشير كذلك إلى بقاء الوعي، بعد الموت الجسدي، وإلي وجود مستويات أخرى من الواقع غير مادية.
ح- لا ينبغي للعلماء أن يخافوا من التحقيق في الروحانيات والتجارب الروحية لأنها تمثل جانباً مركزياً من الوجود البشري.
16- علم ما بعد المادية لا يرفض الملاحظات التجريبية والقيمة الكبيرة للإنجازات العلمية التي تحققت حتى الآن. إنه يسعى إلى توسيع القدرة البشرية لفهم عجائب الطبيعة بشكل أفضل، وفي هذه العملية إعادة اكتشاف أهمية العقل والروح كجزء من جوهر نسيج الكون. حركة ما بعد المادية شاملة للمادة أيضاً، والتي يُنظر إليها على أنها مكون أساسي للكون.
17- نموذج ما بعد المادية له آثار بعيدة المدى. إنه يغير بشكل أساسي الرؤية التي نملكها عن أنفسنا، ويعيد لنا كرامتنا وقوتنا، كبشر وكعلماء، ويعزز هذا النموذج القيم الإيجابية مثل التعاطف والاحترام والسلام. من خلال التأكيد على العلاقة العميقة بيننا وبين الطبيعة بشكل عام، فإن نموذج ما بعد المادية يعزز أيضًا الوعي البيئي والحفاظ على محيطنا الحيوي. بالإضافة إلى ذلك، فإنه ليس جديدًا، ولكن تم نسيانه لأربعمائة عام فقط، كما تم الاحتفاظ به والحفاظ عليه في ممارسات العقل والجسد والروح القديمة والتقاليد الدينية و المناهج التأملية.
18- قد يكون التحول من العلم المادي إلى علم ما بعد المادية، ذا أهمية حيوية لتطور الحضارة الإنسانية. قد يكون أكثر محورية من الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس.
* هذا البيان من إعداد كل من: ماريو بيوريجارد (دكتوراة في علم أعصاب الوعي، قسم علم النفس بجامعة أريزونا)، لاري دوسي (طبيب ومحرر في مجلة إكسبلور)، ليزا ميلر (دكتوراة في علم النفس الإكلينيكي، محرره لكتاب: “دليل أكسفورد لعلم النفس والروحانية”، أستاذة ومديرة معهد الروحانية والعقل-الجسد، جامعة كولومبيا)، ألكسندر موريرا ألميدا (دكتوراة في الطب، دكتوراه في الطب النفسي، مؤسس ومدير مركز الأبحاث في الروحانيات والصحة، البرازيل)، مارلين شليتز (دكتوراة في الأنثروبولوجيا الإجتماعية، الرئيس الفخري لمعهد العلوم العقلية)، جاري شوارتز (دكتوراة في علم النفس وطب الأعصاب والطب النفسي والجراحة، أستاذ بجامعة أريزونا ومدير مختبر التقدم في الوعي والصحة بجامعة أريزونا)، روبرت شيلدريك (دكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة كامبريدج، دكتوراه في علم الأحياء التنموي، دراسات الوعي)، تشارلز تارت (أستاذ علم النفس الفخري، جامعة كاليفورنيا)
– هؤلاء العلماء جمعوا توقيعات من 300 عالم حتى الآن ذوي تخصصات مختلفة: (علماء ذكاء اصطناعي، وعلوم حاسوبية، علم نفس، علم اجتماع، بيولوجيا، أنثروبيولوجيا، فيزياء، بيئة، كيمياء، رياضيات، تكنولوجيا، أعصاب، اقتصاد، لغويات، باراسيكولوجي، وأطباء، ومفكرين، وفلاسفة)، تأييدًا لهم والقائمة في ازدياد. (راجع المصدر لمشاهدة الاسماء)
[1] الدوغمائية هي حالة الجمود الفكري، التي تصل بصاحبه إلى التطرف لدرجة رفضه السماع لغير فكرته.
[2] الباراسيكولوجيا هي دراسة الظواهر الفيزيائية المزعومة وادعاء الخوارق