مصطفى بن علي هيج
لو طلبت منك أن تؤوب بذاكرة إلى الوراء قليلًا وتتذكر آخر عرض سيرك شاهدته، وأن تتذكر -تحديدًا- أكثر فقرة أدهشتك وأخذت بلبك، كيف كانت ممتعة وغير متوقعة، أفترض أنك شاهدت هذا العرض في اليوتيوب إبَّان الحظر الكوروني، وأفترض أنك صفقت أو صرخت ربما، وأعدت المقطع مرة ومرتين، ولم تكد تكتشف شيئًا ذا بال.
وبما أنك عدت بذاكرتك إلى الوراء فاسمح لي -دام عزك- أن تفعل هذا كرة أخرى. هذه المرة خذ نفسًا كنفسك العميق بعدما ألفيت تمناه قلبك طويلًا، خذ النفس مرة أخرى وأغمض عينيك وغص في الخيال، وابتعد عما بحولك قدر استطاعتك، وتذكر آخر مرة شاهدت فيها خدعًا بصرية، كيف انتشيت مرة واثنتين وثلاثًا، وربما أرسلت رابطه لمجموعة أصدقائك على الواتساب أو أهديت صديقك الأثر تذكرة لحضور العرض ليذوق ما ذقت من لذة انخداع بمحض إرادتك.
كنتُ فأر تجارب:
هل جربت شعور فأر التجارب عندما يتوهم أنه يعيش حياته بينما يسير في دروب محددة رسمتها التجربة، هل جربت؟ هل فكرت في احتمال أن يجرى على الفأر تجربة ثانية أم تنتهي خدماته بنهاية التجربة الأولى؟ وما مصيره بعد ذلك؟ أترك لخيالك أو فضولك البحث عن إجابتي السؤالين الأخيرين، وسأقارب السؤال الأول: أزعم أني جربت شعورًا أبعد من شعور الفأر إذ أُدخلت تجربة دون أن أدري وعندما انتهت أُخبرت بهذا، أو ربما كان الإخبار جزءًا من التجربة، أي أنني كنت فأرًا وقتئذ ولم تنتهي خدماته إلى اليوم! كانت التجربة في دورة تنفيذ وصناعة المحتوى المرئي مع مخرج معروف في المنطقة الغربية، قُبيل استراحة الصلاة، طلب المدرب أن نصوره جميعًا، ثم قال: “بوريكم هذا الفيديو”، وشغل مقطعًا من فيلم أنتج عام 1997م، تظهر فيه طفلة شقراء تنظر إلى السماء أو نجم فيها عبر مايكروسكوب أو منظار -حسب تسمية أجدادنا الأكابر- ثم تلفت إلى الكاميرا وتنادي أباها ولا يجيب، فتهرع إلى الداخل راكضة بفزع شديد، ترقى الدرج إلى الدور الثاني، متجهة صوب الصيدلية، تفتحها وتخطف منها الدواء. العبقرية في اللقطة أن الطفلة تظهر في مرآة الصيدلية المعلقة على الجدار دون أن تُشاهد الكاميرا في اللقطة، حيث يرى المشاهد صورة الطفلة الشقراء كما ترى صورتها على المرآة وهنا الخدعة. انتهى الفيديو القصير الذي كان بمثابة إحماضة في درس المنطق، ثم غادرنا القاعة إلى الصلاة وبعضنا إلى البوفيه أولًا.
عندما عدنا بُعيد أن صلى الجمع، أعاد المدرب الفيديو الذي تولى حاسوبه عرض في Loop بلا انقطاع، وتوالت المشاركات التي لم تكن أي واحدة منها صحيحة، ثم كشف لنا الخدعة، كانت ذكية وماكرة،
وبعد ذلك أعاد طلبه غريبة: أن نصوره مرة ثانية، فتقاطرنا إليه نصوره، وما إن عاد الحضور إلى مقاعدهم حتى أمرهم أن يقارنوا بين الصورتين، ويروا هل من فرق بينهما؟ ولحظتها كانت الحيلة التي لم يهتدِ إليها الكثير، وهي أن المدرب غير قميصه -T-shirt- بآخر ولم يلحظ أحدٌ من المتدربين وعددنا ثلاثين غير واحد شك شكًا وما كان من المستيقنين، وسبب شكه محاولته أن يقرأ المكتوب على القميص الأول ولما رأي ثاني اختلف عليه مطلعها.
كلاب الصيد وحواراتنا اليومية:
لقد فعل بنا المدرب ما يفعله الكاتب البارع بقارئيه، يصرف أنظارهم إلى زاوية في قصته أو روايته وربما إلى أشخاص أو أحداث بينما يشكل عقدة نصه في مكان آخر ولا يبصر القارئ الحبكة إلا بعد تمامها واستوائها ووقتئذ ينال حظه من التشويق ويحظى الكاتب بالإعجاب المستحق، وهكذا يصنع السجناء الفارون يلقون نوعًا من سمك -يعرف بالرنجة الحمراء- فتنحرف الكلاب البوليسية عن مسارها وتطارد رائحة السمك النفاثة، ومن هنا جاءت تسمية المغالطة المنطقية الأشهر والأكثر حضورًا في حياتنا، تتجلى عندما يترك محاور القضية ويثير قضية أخرى ويلحقه نظيره وربما أثار ثانية وثالثة حتى لا يصلان إلى شيء، وما فعله المدرب معنا بعرض الفيديو وتغيير القميص أمر واحد، سلّط أنظارنا على معطى وفعل آخر دون أن نلحظ.
إن ما يقترفه الفارون وفريق السيرك وبطل الخفة والمدرب هو عين ما تفعله وسائل الإعلام مع المتلقين حيث يبدأ السيرك وتسلط الأضواء على مساحة مدروسة، بينما تُمد خيوط الخدعة في الظلام، وتسري خلفية موسيقية عذبة في عرض الخدع البصرية وتركز الكاميرا في مكان ومن آخر تمر الخدعة بسرعة خاطفة دون أن ينتبه إليها أحد الحضور.
غسيل الدماغ:
إن من الصعوبة البالغة أن يبقى المشاهد مركزًا على كل شيء، فهذا يفوق طاقته، ويفقده المتعة التي أتى من أجلها، وفي الحياة اليومية نتعرض لسيل جرار من الإعلانات والبرامج والإخبار والمسلسلات تعمد إلى ذات الأسلوب ومما يزيد الفاعلية تظافر عدد من البرامج والإعلانات بعرضها في وقت واحد بخطاب واحد وهذا كفيل بنسف ما صنعه الحداد، ولا أعرف أحد نجى من خدعة عرض أو خبر أو إعلان مهما كان حصيفًا نبيهًا. في أحسن الأحوال بأيدنا تقليص التأثير إلى حدود دنيا بتذكرنا أن لكل محطة أو موقع أو أجندته وأهدافه، فلا الأفلاك تسير تائهة في الفضاء ولا الإعلاميون يسيرون بلا طريق مرسوم يحفظه خط التحرير، فعلينا فحص كل يهمنا مما يرد إلينا من قصص وأخبار، وكثير منها يحمل تناقضات في داخله كفيلة برده في ساعته.
إن التسلح بالتفكير الناقد وأدواته من أهم ما تكرم به عقلك هذا الأيام وتصونه من تلاعب رؤوس المال وبيادق الإعلان والإعلام الذي يعمد كثير منهم إلى استراتيجية في تغير وضع منتجه أو خدماته بتطورها أو بتهكير عقلك أو غسل دماغك ولي قصة مع هذا المصطلح.
أول مرة سمعت فيها به كان في أشهر تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر عندما تحدث المحللون عن غسيل دماغ الإرهابيين الذين قادوا الطائرة إلى برجي التجارة وفجوره، يومها لم أفهم معنى المصطلح، وبعد سنوات وقع في روعي أن الغسل بإدخال شريحة في دماغ الضحية تتحكم به كما يحدث في أفلام الخيال العلمي حيث يصبح صاحب الشريحة رهن إمرة غرفة التحكم أو البرمجة الموضوعة فيها، أي يصير مسلوب الإرادة فاقد الإدارة لحاله دون أن يدري، وبعد ذلك علمت أن الأمر أيسر تنفيذًا وأقل تكلفة من هذا بكثير، فلا حاجة إلى عملية جراحية أو إبرة فيها الشريحة، إنما تحتاج إلى إعلام قوي شديد وحملات متزامنة ليتغير بعدها كل شيء أو ينقلب انقلابًا، فالإنسان لا يتعامل مع الواقع كما حاله في الخارج، إنه لا يتعاطاه بموضوعية، الواحد منا ليس كاميرا تصور ما حولها كما دون تفاعل، فليس لها مزاج يؤثر على جودة الصور ولا انطباع سابق عن أحد، إن الإنسان يتعامل مع واقعه بناء على إدراكه له، حيث يستقبل ما يقع في الخارج وبناء على عوامل متعددة كمرجعيته الأخلاقية وذوقه وانطباعه يعالج ما أبصره وتتشكل أفكاره عنه ومشاعره فيتخذ قرارًا أو يصدر حكمًا أو يتخذ موقفًا، فتغيير تعامل الفرد مع ما يبصره، يقع إما بتغيير الواقع أو بتغيير الإدراك أو الخريطة الإدراكية كما يعبر عبد الوهاب المسيري، وهذا التغيير يشبه أن يمد أحد يدًا خفية إلى رأسك، ويتحكم به كما يريد، هذه اليد تنتهج أحد ثلاث: إما توظيف الخريطة الإدراكية لصالحها، أو تعديلها أو تغييرها كليًا ولكل نهج أدواته وأساليبه.
قدرك يا صديقي:
أنت تحيا في القرن الواحد والعشرين فربما قدرك أن تتخطفك وسائل الإعلام وليس بوسعك أن تعيش بمعزل، حاول أن لا تكون الفرد الذي يشبع لأنه ظن نفسه أكل وجبة بينما التهم طعمًا سيجره من بطنه إلى صنارة غيره، ومما قد يساعدك على ذلك أن ترتاب فيما يصلك ولا تمرر ما تسمعه كمسلمات لا تقبل الطعن، على الأقل أوقفها قليلًا وسائلها وقارنها ببعضها، واعلم أن وعيك الهدف أو ربما موقفك أو جيبك حتى، ولتتضح الصورة أنصح بكتب تناقش قضايا الرأي العام والتحكم بها وتوجيهها، ومن أيسر الكتب كاتب هندسة الجمهور للصحفي أحمد فهي فهو مناسب لغير المتخصص خصوصًا المبتدأ، أما المتخصص أو المتقدم فلا أظنهما وصلا إلى هنا، فهما غير مستهدفان بالمقال وإن وصلا هذا فإني أشكرهما وأتمنى لو أثرياه بتعليق أو إضافة عنوان كتاب عن ذات الموضوع.
مقال جميل ومهم جدا.. جزاكم الله خير ما يجزي به عباده المصلحين..
هل توجد بعض الأخطاء الطباعية عند نقل المقال على المنصة أم أني لم أحسن فهم السياق واستخدامات الكاتب للألفاظ