- ترجمة: تقي الدين بن فيفي
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: أسامة خالد العمرات
– ما هو “مجتمع المخاطر” وكيف ظهر؟
– يعني مجتمع المخاطر أنّنا نعيش في عالم خارج نطاق السيطرة، لاشيء يقينيّ، كل ما هناكل فقط اللايقين. لكن لندخل في التفاصيل، إنّ مصطلح “المخاطر” له معنَيان مختلفان جذرياً، ينطبق الأول على عالم محكوم كلياً بقوانين الاحتمال، حيث يكون كل شيء قابلاً للقياس والحساب. إلا أنَّ المصطلح يشير أيضاً عادة إلى عدم اليقين الذي لا يمكن قياسه وإلى “مخاطر لا يمكن معرفتها”. حين أتحدث عن “مجتمع المخاطر” فإنني أعني المعنى الأخي، أي “عدم اليقين المُصنّع”. هذا اللايقين “الحقيقي”، مُعَزَّزاً بالاختراعات التكنولوجية السريعة وتسارع الاستجابة الاجتماعية= يخلق مخاطر عالمية جديدة، وفي خضم كل هذه المخاطر التكنولوجية اللايقينية، نكون منفصلين عن النتائج النهائية المحتملة بمحيط من عدم المعرفة.
– هل يمكنك أن تقدم لي مثالاً؟
– خلال سنواتٍ قليلةٍ ماضية، أعطى الكونجرس الأمريكي لِلَجنة علميّة مَهمة تطوير لغة رمزيّة يمكنها إيضاح الخطر الذي يشكّله الموقع الأمريكي لتخزين النّفايات الذرية. كانت المشكلة التي يتعيّن حلُّها كالتالي: كيف يجب أن تُشَكل المفاهيم والرموز حتى يتم التواصل مع من سيعيشون بعد 10000 سنة من الآن؟ تألّفت اللجنة من فيزيائيين، وأنثروبولوجيين، ولُغويين، وباحثين في الدماغ، وعلماء النفس، وعلماء البيولوجيا الجزيئية، وأخصائيي الشيخوخة، والفنانون وغيرهم. أولا، توجّب عليهم إجابة سؤال بسيط: هل ستكون الولايات المتّحدة الأمريكيّة متواجدة طوال عشرة آلاف سنة؟ الإجابة بالطّبع بسيطة: ستظل الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد! إلا أنّ الإشكال – كيف يمكن اليوم أنْ تبدأ محادثة مع شخص سيوجد بعد 10000 سنة في المستقبل؟- ثبت في نهاية المطاف أنه غير قابل للحل. تطلعت اللجنة إلى نموذج من أقدم الرموز الإنسانية، ودرست آثار ستونهنج Stonehenge (1500 ق.م) والأهرامات، ودرست كتابات هوميروس والإنجيل، واستمعت إلى شروحات دورة الحياة الوثائقيّة. إلا أنّ هذه وصلت إلى بضعة آلاف فقط من السنوات، ولم تبلغ عشرة آلاف سنة.
في تسارع تطوّره التكنولوجي، يزيد العالم الحديث من الفوارق العالميّة بين لغة المخاطر القابلة للقياس الكميّ التي نفكّر ونتصرّف بها، وعالم اللايقين غير القابل للقياس الذي ننشئه أيضاً. من خلال قراراتنا السّابقة عن الطّاقة الذريّة ومن خلال قراراتنا الحاليّة عن استعمال التكنولوجيا الوراثيّة وعلم الوراثة البشريّة وتكنولوجيا النّانو وعلم الحاسوب؛ فإننا نطلق العنان لعواقب لا يمكن التّكهّن بها، ولا يمكن التّحكُّم بها، بل حتّى عواقب غير قابلة للتحديد مُهدِّدةً الحياة على الأرض.
– إذاً، ما الجديد بالفعل في مجتمع المخاطر؟ ألم تكن كلُّ تلك المجتمعات محاطةً بالأخطار وأنّ تلك المجتمعات قد تشكّلت في البداية لغرض توفير حماية ضدّها؟
– إنّ مفهوم المخاطر مفهوم حديث. إنّه يتضمن قرارات تحاول جعل العواقب غير المتوقعة للقرارات الحضارية متوقّعةً وقابلةً للتّحكُّم. على سبيل المثال، لو أنّ أحداً يقول إنّ خطر السّرطان على المدخّنين في مستوىً معّين، وخطر كارثةٍ في محطّةٍ للطّاقة الذريّة عند مستوىً معين، فإن هذا يتضمّن أنّ المخاطر يمكن أنْ العواقب السلبية يمكن تفاديها وتبدو محسوبة، مثلاً الأمراض أو الحوادث المحتملة، ومن ثَمّ فهي ليست حوادث طبيعية. إنّ حداثة مجتمع المخاطر تكمن في حقيقة أنّ قراراتنا الحضارية تتضمّن عواقب ومخاطر عالميّة، وأنّها تعارض بشكل جذريٍّ اللغة المؤسساتيّة للسيطرة – أو الوعد بالسيطرة- التي تتشعّب إلى الجمهور العالميّ في حالة حدوث الكارثة (مثل ما وقع في تشيرنوبل، إلى جانب الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن). إنّ هذا بالتّحديد يؤسّس للانفجار السّياسي لمجتمع المخاطر. هذا الانفجار له مركزيّته في ميدان وسائل الإعلام الجماهيريّة، والسّياسة، والبيروقراطيّة، والاقتصاد، على الرغم من عدم ضرورة تجاوره مع حدث معيّن يرتبط به. لا يمكن أن يوصف ويقاس الانفجار السّياسي لا بلغة المخاطر، ولا بصيغة علمية. في هذا “الانفجار” –إن سمح لي هذا التشبيه- تتسرب المسؤوليّة، وادّعاءات العقلانية، والشّرعيّة من خلال الاتّصال بالواقع. إنّ الجانب الآخر من الخطر المعترف بوجوده، هو فشل المؤسسات التي تستمد شرعيتها من التّحكُّم المزعوم في مثل هذه المخاطر. ومن ثَمَّ، فإنّ “الميلاد الاجتماعي” لخطرٍ عالميٍّ من المحتمل أن يكون أمراً دراميّاً بقدر ما هو صادمٌ بالفعل ومؤلمٌ للعالم. في تجربة الصّدمة التي تنشرها وسائل الإعلام الجماهيريّة، يصبح من البديهيّ أنْ تكون، -على حد تعبير غويا Goya-: غفوة العقل توقظ الوحوش.
– الخوف من مختلف المخاطر والمجازفات والمجهول، كان هو أساس معظم أساس التجارب الإنسانيّة ودوافعهم ومشاعرهم، إلى غير ذلك. تُجادل في كتابك “مجتمع المخاطر” بأنه: “في المجتمعات الطبقية تُلخَّص القوة المحركة بكلمة واحدة: أنا جائع! أما الحركة التي تطلق في مجتمع المخاطر فتعبّر عن نفسها بالصياغة التالية: أنا خائف! إنّ جماعة الخوف ستكون البديل عن جماعة الفقر” هل يمكن أن تتحدّث أكثر عن القوة المحركة لمجتمع المخاطر؟ كيف يختلف الخوف في مجتمع المخاطر في تركيبته عن الأنواع الأخرى من المجتمعات –على سبيل المثل- المجتمعات الزراعيّة الإقطاعيّة؟ هل تتفق مع تصريح أنطوني غيدنز Anthony Giddens بأنّ: “عصرنا ليس أكثر خطراّ –لا يشكل خطراّ بشكل أكبر- من الأجيال السّابقة، إلا أنّ التوزان بين المخاطرRisks والأخطار Dangers قد تغير”([1])
– لسنا نعلم ما إذا كنا نعيش في عالم أكثر خطورةً من الأجيال السّابقة. ليست المسألة مسألة كميّة الخطر، بل نوعية السّيطرة أو-لأكون أكثر دقة- عواقب القرارات الحضارية التي لا يمكن التّكهّن بها هي ما يصنع الفارق التاريخي. وعليه، فأنا أستعمل مصطلح “الشّكوك المصنّعة”. إنّ التوقّعات المؤسساتية للسّيطرة، وحتى الأفكار الرائدة عن “الاحتمال” و “العقلانية” في انهيار. ليس التغير المناخي أو الكوارث البيئيّة أو التهديدات الإرهابيّة العابرة للقوميّة أو بورصة بومباي BSE وغيرها في حد ذاتها، ولكنّ الوعي المتنامي بأنّنا نعيش في عالمٍ مترابط يخرج عن السيطرة، هو ما يصنع حداثة مجتمع المخاطر. المخاطر التي نواجهها لا يمكن حصرها في بُعدَيْ الزمان والمكان، أو في بُعدٍ اجتماعي، بل إنّها تتضمن الدّول القوميّة والحلفاء العسكريّين وكلّ الطبقات الاجتماعية، وبطبيعتها تفرض نمطاً جديداً من التّحدّيات على المؤسّسات المنشأة لغرض التّحكُّم بها. إنّ القواعد المؤسّسة للإسناد والمسؤولية القانونية –السببية والذنب والعدالة- كلّها انهارت، الأمر الذي يعني أنّ تطبيقها الحذر في البحث وفي نطاق القضاء كان له تداعيات متناقضة: إذ إنّ المخاطر قد ازدادت ومجهوليّتها أصبحت مُشرّعة. إذاّ فإنّ الفرق الجوهري بين ثقافة الخوف فيما قبل الحداثة، وثقافة الخوف في الحداثة الثانية هو: أنّ الأخطار Dangers فيما قبل الحداثة يمكن أن تُعزى إلى الآلهة أو الطبيعة، وكان وعد الحداثة هو تجاوز هذه التّهديدات من خلال التحديث وتحقيق المزيد من التقدم : علم أكثر وسوق اقتصادي أوسع وتكنولوجيا أفضل وأحدث، ورفع معايير الرعاية الصحة، وغيرها.
– في عصر المخاطر Risks فإنّ التهديدات التي نواجهها لا يمكن أن تُعزى إلى الآلهة أو الطبيعة لكنها تعزى إلى “التّحديث” و “التّقدم” نفسه، وهكذا فإن ثقافة الخوف تنبع من الحقيقة المتناقضة في كون المؤسسات التي أُنشِئت من أجل السيطرة هي ما تسبب في فقدان للسيطرة.
– في ظل المخاطر، لو كان “تركيزنا ينصب أكثر على المخاطر التي لا تقع تحت نطاق الرؤية، والتي لا يمكن التكهن بها بالنسبة لضحاياها، بل مخاطر بطريقة ما، لا تطال حتى المتأثرين بها على طول حياتهم، ولكن بدلاً من ذلك فإنها تطال أبناءهم، مخاطر تتطلب في كل حالة أجهزة استشعار متقدمة –نظريات وتجارب وأجهزة القياس- حتى تصبح قابلة للمشاهدة أو قابلة للتوقع كسائر المخاطر”، ما الذي يمكن أن يحدث لقدراتنا في السعي إلى العدالة في مجتمع المخاطر؟
– ليس هناك إجابة سهلة على هذا السؤال. ألقِ نظرة -على سبيل المثال- على فلسفةٍ من بين أشهر الفلسفات ونظريات الأخلاق والعدالة في زمننا، تلك التي أنشأها جون رولز John Rawls. لقد تصوّر أنّ العدالة في إطارٍ مرجعيٍّ، مبنيّةً على مبنيَيْن قديمين: الأول: “المنهجيّة القوميّة” “Methodological Nationalism” والتي تعني أنّ سؤال العدالة يُفهم ضمن تصنيفات الدولة القومية. والثاني: ركّز في نظريّته على توزيع “ما هو جيد” وأهمل توزيع “ما هو سيئ” أو “خطِر”، والذي يستتبع -كما أجادل في الكتاب- مَنطقاً مخالفاً. إذاً فإنّ “قواعد” الحياة والسّياسة التي نحيا ونفكّر ونتصرّف بمقتضاها قد عفا عليها الزمن، إلا أنّها تستمر في التحكم في طريقة تفكيرنا وأفعالنا. لنأخذ على سبيل المثال، التهديدات الإرهابيّة. إنّ أحداث 11 سبتمبر 2001 ترجع إلى فشل المفاهيم القديمة التي تقوم عليها الدولة مثل “الحرب” و “السلم” و “الصديق” و “العدو” و “الحرب” و “الجريمة” لقياس وتحليل واقتراح مناهج جديدة لتحليل الحقائق الأخلاقية والاجتماعيّة والسياسيّة. إن سؤالك عن كيفية إعادة تعريف العدالة في مجتمع المخاطر، لم يُطرح إلى الآن.
– ماذا تعني “السُّلطة” في مجتمع المخاطر؟
– في صراعات المخاطر، فإن مسألة السُّلطة هي في الواقع مسألة تعريف. إنّها مسألة من يملك القدرة وبأي مصادر قانونيّة وفكريّة على تقرير ما يمكن أن نعتبره “مخاطر” وما يمكن أن نعتبره “سبباً” وما يمكن أن نعتبره “كلفة”. إنّ مسألة تحديد المسؤول ومن يتحمّل تبعات الأضرار، حُوِّلت إلى معركة حول قواعد الأدلة وقوانين المسؤولية. وسبب هذا يعود إلى أن صميم الصراع الحقيقي هو ما بين فكرة أنّ أحدهم مسؤول، وفكرة أنّ المسؤولية لا تقع على عاتق أي أحد.
– ألهذا السبب تحدثْتَ عن “اللامسؤولية المنظّمة” كخاصية لمجتمع المخاطر؟
– نعم، يقول السّياسيّون إنّهم غير مسؤولين، وأنّ عملهم يقتصر على ضبط مجال السّوق. ويقول العلماء المختصّون بأنّهم يصنعون فرصاً تكنولوجيّة فحسب، ولا يقررون كيف يتم تطبيقها. ويقول رجال الأعمال إنّهم يستجيبون لمتطلبات المستهلكين لا غير. والمجتمع قد أصبح مختبراً من غير مسؤول عن مآلات التجارب.
– في الماضي، سعت المجتمعات لتقديم “إجابات”، أو على الأقل كان هناك مؤسسات توفر إجابات مقبولة عن أصعب الأسئلة، وما يعتبر غير يقيني في الحياة. ومع حلول المجتمع الحديث، فقدت سلطة المؤسسات التقليدية مصداقيتها واستبدلت بشكل واسع بمؤسسات جديدة و “خبراء” يوفرون إجابات “حديثة”. في مجتمع المخاطر، فإن جزءاً من المعضلة يكمن في أنّ إجابات “الخبراء” أنفسهم قد فقدت (بدرجة ما، إن لم نقل كلياً) قدرتهم على توفير اليقين: حيث يمكننا أن نجد نوعا من الإيمان [وليس العلم] في تقييمات الخبراء للمخاطر. يبدو اليوم أنّه يتوجّب علينا أنْ نقيّم -من أجل أنفسنا- مخاطر الوثوق في وجهات نظر الخبراء. إن كان هذا تصوراً دقيقاً لظروفنا الحالية، فلمن نتوجه للإجابة؟ أو كيف نعيش بشكل فردي أو جماعي من غير يقين، ومن غير ضمان الأمن؟
– الصورة التي ترسمها صحيحة جدا. إلا أنّ مجتمع المخاطر مفهوم ذو وجهين. فإنّ عدم الإدارك والتقيّيم ليس سلوكا سلبيا فحسب، بل له جانب إيجابي أيضاً. في الواقع، فإنّ كلمة “المخاطر” دخلت إلى الانجليزية عن طريق الإسبانيّين أو البرتغاليّين، حيث كانت تستعمل للدلالة على الإبحار في المياه المجهولة.
إنّ مفهوم المخاطر لا يمكن فصله نهائياً عن ظروف الحداثة والإثارة والمغامرة. لقد كان التبنّي الإيجابيّ للمخاطر هو مصدر الطاقة الأساسيّ الذي يخلق الحرية والثروة في العالم الحديث. المسألة الجوهريّة تتمثّل في تقبّل المخاطر وشروطها. مقبولية المخاطر تعتمد على ما إذا كان أولئك الذين يتكبدون خسائر يتحصلون على فوائد أيضاً. إلا أنّ الحالة ليست كذلك، فالمخاطر لن يتم تقبلها من طرف أولئك الذين تطالهم. حتى ولو كانت الفوائد محل نزاع – كما هي الحالة مع الأغذية المعدّلة وراثياً- فإنّه لا يكفي مجرد توضيح أنّ “المخاطر الثّابتة”، متحدّثين إحصائياً، غير احتمالية بشكل كبير. لا يمكننا الأخذ بعين الاعتبار المخاطر فقط في حد ذاتها. فهي دائماً مؤطّرة بمعايير تُستعمل لتقييمها ومصبوغة بالافتراضات الثقافية المحيطة بها. ولنعيد صياغتها بعبارة أخرى، فإن المخاطر كبيرة بالشكل الذي تظهر به، وهذه حقيقة بشكل دائم. إلا أنّها أكثر حقيقة في حالة “الشكوك المصنّعة”.
إنّه وفي ظلّ هذا السّياق يتصور الخبراء التقنيّون السكانَ الذين يحيطون بهم على أنّهم لا عقلانيّون أو هستيريّون، أو لأنّهم يقيمون حسابات خاطئة عن المخاطر الشخصية -كما هو الحال في تظاهرات المدخنين ضد الطاقة الذرية- أو لأنّهم يعبّرون عن أنفسهم بشكل سخيف- كما هو الحال على ما يبدو في غزو الشّعور بالخوف الألمانيّ لبريطانيا العظمى، مفسدين عجائبها المعدلة وراثياً مثل “أطعمة فرنكنشتاين”.
إنّها لعبارة صادمة، وقد كانت بمثابة السلاح النهائي في حرب كلاميّة ضدّ الأطعمة المعدّلة وراثياً. إلّا أنّها احتوت على الفكرة المهمّة التي مفادها أنّه حتى المخاطر “الموضوعيّة” تحتوي على أحكام ضمنيّة لمَا هو صواب. لقد فقد الخبراء التقنيّون احتكارهم للعقلانيّة بمعناها الأصلي: فلم يعد الخبراء يُملون النِّسب التي عن طريقها يقاس الحُكم. تعتمد تصريحات المخاطر على المعايير الثقافية، وتعبر تقنيّاً عما لا يزال مقبولاً وما لا يعتبر كذلك. حين يقول العلماء أنّ احتماليّة ظهور حدث ما ضئيلة، ومن ثَمّ مخاطره لا تُعار لها أهمية، فإنّهم بالضرورة يربطون حكمهم بالنتائج المرتبطة بها. وبالتالي فإنّه من الخطأ النظر إلى الأحكام الاجتماعيّة والثقافيّة كأمور يمكنها تشويه فهم المخاطر. إذاً فإنّه من غير الأحكام الاجتماعيّة والثقافيّة فلا وجود للمخاطر، تلك الأحكام هي التي تشكل المخاطر، رغم أنّها كثيراً ما تكون كذلك بشكل خفي.
– ما نوع العبء الذي يفرضه هذا المكان على الأفراد والعائلات والمجتمعات ككل؟
– من الواضح أنّ الأفراد والعائلات يتحمّلون عبئاً ثقيلاً لاتخاذ قرار بشأن واقع المخاطر، هناك حاجة ماسّة إلى مؤسسات جديدة. دعني أركّز على العواقب بالنّسبة للاقتصاد وكل المجتمعات. لم تعد الأخطار الافتراضية بحاجة للوجود حتى يتم تصورها كحقيقة.
يمكنك نقدها كمخاطر وهميّة، إلّا أنّ هذا لا يهم على الصّعيد الاقتصاديّ. رؤيتها كمخاطر، يعني تسبّبها في خسائر فادحة وكوارث. ومن ثَمّ فإنّ الفرق بين المخاطر “الحقيقية” والتصور “الهستيري” لم يعد سارياً. على الصعيد الاقتصاديّ هذا لا يصنع الفرق. فقدان ميكانيزمات تسوية النزاعات ذات التوجه العلمي وهيمنة التصورات الثقافية لهما أثران رئيسان: فهي تزود وتعزز التنوعات العابرة للحدود الوطنية للمعايير التنظيمية، وهذه التنوعات يمكنها أن تتسبّب بتوترات كبيرة، لا على المستوى المحلّي فحسب، بل على المستوى العالميّ والإقليمي لأنظمة التجارة الثنائية. على سبيل المثال في الاتحاد الأوروبي، الذي ربما يكون قد حقق أعظم تقدّم في تأسيس هيئات صنع قرار عابرة للحدود الوطنية، فالدول الأعضاء لا تزال تقبل أو ترفض شهادة التخليص لِلَحْم البقر البريطاني وفقاً لمعاييرها. ومن ثَمَّ فإنّ عدم القدرة على إدارة اللايقين المُصنّع من الجانبين الوطني والعالمي قد يغدو واحداً من القوى المضادّة للنيوليبرالية. يمكنها أن تنتهي بطريقة فضيعة مسبّبة خيبة أمل لأولئك الذين علّقوا آمالهم على حلول السوق لمشكلة سلامة المستهلكين. أظهرت تشريعات حماية المستهلك الحديثة ومسؤولية المنتج ميلاً واضحاً نحو توقّع الخسائر الكامنة بدلاً من التأهُّب لتحمُّل الخسائر المتكبّدة بالفعل، علاوة على ذلك، فإنّ عبء الإثبات انتقل من المستهلك إلى المنتج في عدة حقول.
– كيف يمكنك وصف العلاقة بين ما يسمى العولمة والمخاطر؟ وبأيّ معنى يكون مجتمع المخاطر “مجتمع مخاطر عالمي”؟
– عرجنا على هذا الموضوع سابقاً. الكثير من المخاطر التي نواجهها هي عالمية بطبيعتها. هناك ثلاثة أبعاد للخطر يمكن تَمْييزها في مجتمع المخاطر العالمي، كل واحد منها يتبع نوعاً مختلفاً من منطق الصراع. فهي تُعمّم أو تحصر القضايا الأخرى، وتُدمّر أو تُكرّس الأولويات: أولاً، الأزمات البيئيّة، ثانياً، الأزمات الاقتصادية العالمية، وثالثاً، -منذ 11 سبتمبر، 2001- الأخطار الإرهابيّة الناتجة عن شبكة الإرهاب العابرة للحدود الوطنية. في كل أبعاد المخاطر هذه، ومع قطع النظر عن كل الاختلافات، فإنّه يمكن رؤية نموذج مشترك من الفرص والتناقضات السياسيّة في مجتمع المخاطر العالمي.
– كيف تم تقسيم مجتمع المخاطر العالمي؟ هل يحمل بعض الأفراد أو المجتمعات قدراً أكبر من تبعات مجتمع المخاطر أكثر من آخرين؟ هل نعيش بنحوٍ ما في مجتمعات مصيرها مشحون بقدر متساوي من المخاطر؟ ما مدى احتماليّة اللجوء للفعل الجماعيّ؟ ما هي تداعياته على الحكومة الوطنية والعالمية وآثاره على العدالة الاجتماعية؟
– إنّ مصطلح “مجتمع المخاطر العالمي” لا يجب أن يخلط مع تجانس العالم، وهذا راجع إلى أنّ كل المناطق والثقافات لم تطلها مجموعة موحّدة من المخاطر غير القابلة للإحصاء كمياً، وغير القابلة للسيطرة عليها في مجال البيئة والاقتصاد والشبكات الإرهابية، بل على العكس، المخاطر العالميّة في حدّ ذاتها موزّعة بطريقة غير متساوية.
تنتشر هذه المخاطر بطرق مختلفة في كل سياق عينيّ، بواسطة مختلف الخلفيّات التاريخية، والثقافيّة والنماذج السياسيّة. وفيما يسمى بالهامشيّ، فإنّ المخاطر العالميّة لا تظهر على أنّها عمليّة داخليّة، والتي يمكن أن تُحارب من خلال صنع القرار الوطني المستقل، بل على أنّها عمليّة خارجيّة مدفوعة بقرارات يتمُّ اتخاذها في بلدان أخرى، خاصة المركزيّة منها. يشعر البشر كأنّهم رهائن عاجزون يقعون تحت رحمة هذه العلميات، طالما أنّ التّصحيحات مستحيلة واقعياً على المستوى الوطني.
– أليس هذا صحيحاً فيما يُسمى “المركز”؟
– نعم، إلّا أنّ هناك فرقاً. هناك مجال حيث يكون الفرق ملاحظاً فعلياً، وهو تجربة الأزمات الماليّة العالميّة، حيث يمكن أن تغرق مناطق هامشيّة بأسرها في ركودٍ اقتصادي والذي لا ينظر إليه مواطنو المركز حتى على أنّه أزمة. علاوةً على هذا، فإنّ التّهديدات الإيكولوجيّة والشّبكات الإرهابية تنمو بشكلٍ خطير في ظلّ ضعف الدول التي تُعرف على أنّها هامشيّة.
هناك علاقة جدليّة بين التجربة غير المتكافئة في الوقوع ضحيّة للمخاطر العالمية والطبيعة العابرة للحدود للمشاكل. إنّ مظهر العبور للقوميّة على وجه التحديد هو ما يجعل التعاون أمراّ لا غنى عنه من أجل حلها، وهذا يعطيها فعلاً طبيعة كوزموبوليتانية. انهيار الأسواق العالمية أو التغير المناخي يؤثّر إلى حدٍ ما على المناطق بشكل مختلف. إلّا أنّ ذلك لا يغيّر من مبدأ أنّ الكل يطاله الأمر، ويمكن للكل أنْ يطاله بشكلٍ فضيع. ومن ثَمَّ بطريقةٍ ما، فإنّ هذه المشاكل تمنح كلّ بلدٍ مصلحة كوزموبوليتانية، الأمر الذي يعني أنّ الانعكاسيّة العالميّة العامّة لصراع المخاطر العالميّة ينتج الأساس لــ “لجماعة المصير”.«Community of fate».
– لكن، هل البشر على وعيٍ بــ “جماعة المصير”؟ على سبيل المثال، هل يشعر الصينيون بأنّهم جزء من جماعة مصير مع الأوروبيين فيما يتعلق بالاحتباس الحراري؟
– لا يملكون وعياً بذلك، بالنظر إلى الاحتباس الحراريّ أو حقوق الإنسان، لكن على الأقل من أجل لحظة تاريخيّة، فهم واعون بالنّظر إلى التّهديد الإرهابي. حتىLe monde استعملت العنوان الرئيس: “كلنا أمريكيون” « WE are all Americans ». عَبّرت الحكومة الصينية وانظمت إلى ائتلاف الولايات المتحدة ضد الإرهاب. علاوة على ذلك، فإنّه من الواضح فكرياً أنّ المشاكل العالمية تمتلك حلاً عالمياً وتتطلّب تعاوناً عالمياً. إلّا أنّه بين إمكانية التعاون العالميّ وتحقيقه، يوجد خطر صراعاتٍ كثيرة. وهناك أمثلة واضحة ولا حصر لها على هذا: فكّر في النزاعات حول “مخاطر لحم البقر”، أزمة اعتلال الدماغ الإسفنجي البقري([2]) « BSE » داخل أروبا والآن تظهر في الولايات المتحدة، فخطر الصّراعات المُحتَدمة حول الأطعمة المعدَّلة وراثياً والاحتباس الحراري والسيدا وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وأخيراً وليس آخراً، كيفية تعريف ومواجهة الإرهاب العابر للحدود القومية. وبعد فإن هذه الصراعات لا تزال تخدم كوظيفة تكاملية وتنويريّة، لأنّها تجعل وجوب إيجاد الحل العالمي أكثر وضوحاً، وهذا لا يمكن أنْ يتحقق من خلال الحرب، لكن من خلال التفاوض والتعاقد.
– هل تعني أنّ الحرب في العراق -التي ترمي إلى محاربة الخطر العالي للإرهاب- كانت لها وظيفة تكامليّة تنويريّة؟
– نعم، إلى حدٍ ما، فإنّ لها تلك الوظيفة! ما لم أكن أتمنّاه حتى هو ما يحدث الآن: إنّ القوة العُظمى الأمريكيّة أدركت أخيراً أنّه من غير الممكن أنْ “تنطوي على نفسها” ونحن الأوروبيون أيضاً بدأنا نتعلم أنّه من غير الممكن التركيز على ما نريد التركيز عليه أكثر: أوروبا. لو أنّ الديموقراطية فشلت في العراق، فإنّ ذلك سيلحق أضراراً بأوروبا أيضاً.
في العالم المترابط الذي نعيش فيه، لا يوجد “خارج”، وليس هناك رفاهية الانطواء على الذات. إذاً فإنّ البشر يدركون أنّ تهديدات الإرهاب تربط البشر الذين لا يريدون الارتباط، وجعْلِهم مجبرين على المواجهة والاستماع لبعضهم البعض. إذاً يتوجّب علينا نحن الأوروبيون أيضاً أن نطرح هذه الأسئلة ونجيب عنها: ما هي نظرتنا لعالم القرن الواحد والعشرين؟ ما هي إسهاماتنا لإيجاد حلول، مثلاً، عن الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ؟ ألَا يتوجّب علينا فتح حدودنا والاستثمار أكثر لتطوير الدول الفقيرة من أجل تقليص الخطر الإرهابي؟
– ما هي “الفرص” و “الأمور الجيدة” المحتملة لمجتمع المخاطر؟ بينما يبدو “الحظ” أو “المصير الجيد” له مكان في مجتمع المخاطر، وهل هناك مكان للأمل أيضاً؟
– هناك مكان للأمل. في الوقت الذي يزول فيه الاعتقاد في الحكومة والأمّة والطبقيّة، تتحول المخاطر العالمية المعروفة والمدركة إلى مصدرٍ للتعاون، فاتحة المجال لازدهار الفعل السياسيّ العالمي. لقد جعلت الهجمات الإرهابيّة الدولَ قريبة من بعضها البعض وحدّدت ماهيّة العولمة على أنّها: مجتمع المصير العالمي يواجه عنفاً وهوساً نحو التدمير.
كيف تصبح السياسة مُمْكنة في عصر العولمة؟ إجابتي هي كالتّالي: من خلال المخاطر العالمية المدركة، التي تجعل نظام السياسات الدولية والوطنية، الذي يبدو أنّه متصلب، سيّالاً ومرناً، بهذا المعنى، فإنً الخوف يولّد وضعاّ شبه ثوري، الأمر الذي يمكن استعماله بشكل مختلف تماماً وعلى نحوٍ لا يمكن إنكاره.
مجدداً، يناقش المرء ويتساءل: ما الذي يمكنه توحيد العالم؟ إنّ الإجابة التجريبية هي هجمة من المريخ Attack from Mars. هذا الإرهاب هو عبارة عن هجمات من “المريخ الداخلي” « Inner Mars »، من أجل لحظة تاريخية، فقد توحدت المعسكرات المشتّتة ودول العالم ضد العدو المشترك للإرهاب العالمي. إنّ إضفاء الصبغة العالمية إلى التهديد الإرهابي ضد دول العالم هو الأمر الذي حوّل الحرب ضدّ الإرهاب العالمي إلى تحدٍّ بالنسبة للسياسات الكبرى، حيث تم تشكيل تحالفاتٍ تتجاوز المعسكرات المعادية، وسدِّ الصراعات الإقليمية، إلى جانب تشكيل خارطة سياسيّة عالميّة مختلطة من جديد.
– ألا يُعتبر هذا أملا متضارباً؟ ألست تجادل بأن الشكوك المصنعة في تزايد مستمر؟ وليس هناك طريق للرجوع لأرض اليقين والأمن والعقلانية الموعودة؟
– إنّ ما أقترح أنّنا بحاجة إليه هو “ثقافة الشكوك”، والتي من الواضح أنّها تفترق عن ثقافة “المخاطر المتبقيّة” من جهة، وعن ثقافة “اللاخطر” أو “الأمن” من جهة أخرى. يَكمُن مفتاح ثقافة الشكوك في الاستعداد للنقاش على نحو متفتّح عن مقاربة المخاطر، والرغبة في الاعتراف بالفرق بين المخاطر الكميّة وعدم اليقين غير الكميّ، والاستعداد للتفاوض بين مختلف العقلانيّات، بدلاً من تبادل الاتهامات، والرغبة في إقامة الطابوهات الحديثة على أسس عقلانية، وأخيراً وليس آخراً، الاعتراف بالأهميّة الجوهرية في إبداء رغبة جماعية للتصرف بمسؤولية بالنظر للخسائر التي دائماً ما ستظهر بالرغم من كل الاحتياطات.
لن تغدو ثقافة عدم اليقين تتحدّث بعد بلا مبالاة عن “المخاطر المتبقية” لأن كل متكلّم سيدرك أنّ المخاطر لا تكون متبقيّة إلّا في حالة ما إذا طالت الآخرين فحسب، والهدف من المجتمعات الديموقراطية هو تحمّل المسؤوليّة بشكل جماعي، إلّا أنّ ثقافة الشكوك تختلف أيضاً عن “ثقافة الأمن” والتي أعني بها ثقافةً تعتبر الأمن المطلق استحقاقاً يجب على المجتمع أن يبذل كل ما بوسعه من أجله. مثل هذه الثقافة قد تقتل كل تجديد في مهده.
[1] الفرق بين المخاطر والأخطار، أنّ الأولى تعبّر عن أذى محتمل يخيف الأفراد، ويرتكز على قرار يتّخذه الفرد بنفسه، أي أنّها عملية حسابيّة تأخذ قانون الاحتمالات بعين الاعتبار، أي العوائد والخسائر المحتملة. أمّا الثانية فتعني أذى محتملاً يمكن أن يتعرض له الفرد، إلّا أنّه لا دخل للفرد فيه ولا يمكنه دفعه، مثل الزلازل والبراكين. (المترجم)
[2] جنون البقر (المترجم)