- هونج-شو تينج
- ترجمة: وفاء ناصر
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: ريمة بعث
أشار أستاذ تاريخ الأدب في جامعة هارفارد، كيفن برمنغهام في كتابه بعنوان:
(The Most Dangerous Book: The Battle for James Joyce’s Ulysses)
والذي نُشِر في ١٢ من يونيو ٢٠١٤ إلى أن مرض الزهري هو الذي تسبب في ضعف بصر المايسترو الحداثي وعجزه التام في آخر حياته. فعندما يحتفل معجبو الكاتب الإيرلندي جيمس جويس بما يُعْرف بالـ “bloomsday” في السادس عشر من يونيو من كل عام، إحياءً لذكرى روايته “عوليس” والتي تعد من أبرز الأعمال في الأدب الحداثي، يُقدّم لهم عملُ برمنغهام لمحةً غير مريحة وغير مرغوبة عن حياة الروائي المظلمة.
القول بأن جويس كان مصابًا بمرض الزهري ليس شيئًا جديدًا، فقد كان يشاع عنه ذلك وهو على قيد الحياة، ولكن النقاد و مؤلفي السِيَر الذاتية يتجاهلون ما يقال، ويعتبرونه محض ثرثرة معتادة حول المشاهير.
ولكن برمنغهام ومن خلال رسائل جويس لعام ١٩٢٨م، وجد أن الروائي حصل على حقن غير عادية مصنوعة من الزرنيخ ومركب الفوسفور، وبعدها بفترةٍ قصيرة، اكتشف أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك سوى دواء واحد – لم يكن شائعاً – يُدعى الجليل (Galyl) كان يُوصف بأنه وصفة طبية مخصصة لمرضى الزهري.
قادت المعرفةُ الطبية عالِمَ التاريخ والأدب هذا إلى تقديم دليل لا يمكن دحضه لحل اللغز الذي يقع مفتاحه بعيدًا عن متناول علماء الأدب، والآن يمكن حسم القضية وإغلاقها.
أهمية تحديد الإصابة بالمرض
لماذا هذه الضجة على أية حال حول أمراض الكُتَّاب العظماء؟ ألم يخبرنا عَرَّابُ النقد الأدبي دريدا أنه “لا شيء خارج النص”، أليس هذا العنوان “جويس المصاب بالزهري” مناسبًا فقط لعناوين الصحافة الصفراء بدلاً من البحوث الأكاديمية؟
لنأخذ على سبيل المثال مجموعةَ القصص القصيرة لجويس (ناس من دبلن)، التي تُقدِّم أولى قصصها تحت عنوان “الأخوات” كلمةَ “الشلل” على أنها الكلمة الرئيسية لعمله، تجسّد مدينةُ الشلل المرضَ العام للأمة، فإذا اقترب القارئ لهذه الصورة فقط من المعنى الرمزي عندها سيتم الكشف عن نصف القصة فقط.
تصف “الأخوات” كيف يتكيف صبيٌّ صغير مع وفاة قسيس ودود وطيب، يقوم الصبي بزيارة منزل القسيس الميت ثم يتعرف على سر وفاته الغامضة من ثرثرة الأخوات، ويصادف أخيرًا العالمَ المشلول للبالغين.
من منظور طبي، يصور “الشلل” في “الأخوات” الأعراضَ الواضحة والملموسة للمرض – الزهري – الذي يولد إحساسًا عميقًا بالذنب في المجتمع الغربي، ففي عام ١٩٧٤م أظهر مقالٌ في حوليات الطب الباطني أنه عندما قام جويس بمراجعة القصة في عام ١٩٠٥م كان يشير بشكل متعمد إلى مرض الزهري كمسؤول عن شلل القسيس. علاوةً على ذلك -ومثل ما كان يعرف جويس- رأى الأطباء في ذلك الوقت أن “الشلل” و”الشلل العام” مصطلحاتٌ قابلة للتبادل.
الذي أراد جويس إيصاله كان أكثر من مجرد تمثيل رمزي للكلمة: فقد أدرج عن علم وصمةَ العار لأمة مشلولة في أوصاف حية لإصابتها بمرض الزهري.
فقط عندما تُطعًّم الدراسة الأدبية بالدرس العلمي= يمكن الكشف عن ثلاثي القسيس والشلل الجزئي والشلل العام.
للأسف، فإن التفاصيل الطبية المهمة في قصة جويس تُفلِت من معظم علماء الأدب الذين كانوا منشغلين بالتفسير النصي لفترة طويلة؛ وحتى التحليل النفسي، وهو “الأكثر علمية” من بين كل النقد الأدبي، يكرس جهوده في الكشف عن العقل الباطن للمؤلف ونصه.
لطالما تم التعامل مع التفسير العلمي للأدب على أنه غير تقليدي، حتى أنه يضر بالمعنى الأدبي.
عندما نشر”The Most Dangerous Book” وضّح المؤلفُ فيه أن الوقت قد حان أخيرًا لدمج الحساسية العلمية في الدراسة الأدبية، وأن هذا الجهد قد لا يكون خطيرًا كما قد يعتقد بعض أساتذة الأدب.
نطاق انتقائي للثقافة الثالثة
وجد سي بي سنو، الروائي والفيزيائي الإنجليزي، أن المعارضة المستمرة بين العلم والعلوم الإنسانية مثيرة للقلق. في الثقافتين، هناك حذر من الصراع بين التخصصات، فهي في نظره قسم غير مواتٍ لتوسيع المعرفة.
عندما دخل الكتاب في مرحلة الطبعة الثانية عام ١٩٦٣م، أشار سنو إلى حتمية الاندماج وتنبأ بقدوم “ثقافة ثالثة”.
بعد سنوات من التفاعل والنضوج، حققت الثقافة الثالثة أخيراً نتائج مبهرة في التسعينات. في عام ١٩٩٦م، نشر جون بروكمان المؤلف الأمريكي ومؤسس منصة المعرفة الشهيرة Edge.org، الإعلان الرسمي لقدوم ما يسمى” بالثقافة الثالثة”، وهي عبارة عن مجموعة من تأملات كبار العلماء وتفسيراتهم لأسرار الحياة، هؤلاء العلماء الجدد الناشئون يجمعون بين الحدة في الطرح العلمي، والحساسية في الطرح الأدبي، ويقومون باقتحام تلك المجالات والتي عادةً ما تكون تحت وصاية علماء العلوم الإنسانية. في عصر الثقافة الثالثة، يريد العلماء أيضًا البحث ومحاولة استكشاف معنى الحياة ومعرفة سِرُّها الجوهري.
بدأ الكثير من العلماء توجيهَ كتاباتهم لعامة الناس، وتتجسّد أعمالهم في كتابة العلوم الأدبية لكي تمثل بوضوح روح الثقافة الثالثة رغبةً في استكشاف أسرار الحياة الأبدية من خلال البحث العلمي.
ممثل بارز لهذا الاتجاه هو الفائز بجائزة بوليتزر مرتين، وعالم الأحياء الأمريكي إي ويلسون، يستمد كتابه عن الطبيعة البشرية من علم الأحياء التطوري لتفقد البشرية،” Consilience ” أو ما يُعرف بتوافق الأدلة، يوضح روعة التوليف متعدد التخصصات. يكتب ويلسون بأسلوب أنيق، ويجادل بالنبرة الحكيمة للفيلسوف، موضحًا تمامًا النطاق الانتقائي للثقافة الثالثة.
مبعوث آخر بارز للثقافة الثالثة هو عالم الحيوان الإنجليزي ريتشارد داوكينز، الذي يصف الجين الأناني بتفاصيل دقيقة وكأنه روائي، وكيف يمكن رؤية الحياة داخل الذرة الصغيرة للجين. هذه الكلاسيكية الحديثة في علم الأحياء التطوري هي النموذج القانوني لكتابة العلوم الأدبية المعاصرة. دافع داوكينز في كتابه “صانع الساعات الأعمى” بقوة عن الداروينية والذي حظى بإعجابٍ من جميع جوانب النقاش.
حوار بين العلم والعلوم الإنسانية
الثقافة الثالثة تعزز ظهور “الإنسانية الجديدة” وبمعنى آخر يمكن قول أن المفكرين المتمسكين بالعلم هم على خط المواجهة مع التفكير العالمي.
إن كلا من عالم اللغة النفسي الأمريكي ستيفن بينكر وكتابه ‘غريزة اللغة’، وعالم الأعصاب البرتغالي الأمريكي أنطونيو داماسيو وكتابه الذي أثار الضجة ‘خطأ ديكارت’ حيث يفحص الجسد والعقل عبر العلوم المعرفية، وعالم الفيزياء الأمريكي جاريد دايموند ‘البنادق والجراثيم والصلب’ حول تطور التاريخ والمجتمع …قد تجاوزت هذه الأعمال البارزة للدراسة متعددة التخصصات الفئةَ الشائعة من العلوم الشعبية. عمق الكتابة يجعل هذه الأعمال “محاكيةً للأدب”.
تعقيد محاكمتهم يستحضر اجتراراً فلسفياً، وإن تأثيرها على التفكير العالمي لا يقل أهمية عن الأعمال البارزة في العلوم الإنسانية.
كما يلاحظ الروائي الإنجليزي إيان ماك إيوان، نظرًا لأننا نعيش في العصر الذهبي للعلومو يجب أن نشعر بقوة تجاه قضايا العلوم. فالعلم، مثل الأدب، كلاهما سعيٌ لفهم الطبيعة البشرية. لذلك، يجب على العلماء والروائيين أن ‘يقولوا الكثير لبعضهم البعض’. متأثرًا بشدة بالثقافة الثالثة، يكتب ماك إيوان العديد من الأعمال التي لا تنسى في العلوم والإنسانية مثل The Child in Time و Enduring Love و Solar. ويستجيب الروائي المعاصر كازو إيشيغورو أيضًا للعلم في Never Let Me Go، التي تتعامل مع الاستنساخ البشري والتي كانت مؤثرة مثل The Remains of The Day.
“سوف نموت، وهذا يجعلنا ضمن الأكثر حظاً، فمعظم الناس لن يموتوا لأنهم لن يولدوا أبداً”، هذه المقولة ليس جويس قائلها، وإنما ريتشارد داوكينز في كتابه Unweaving the Rainbow، فنرى هذا الوصي الحديث لداروين يستعير عبارات للشاعر الإنجليزي جون كيتس لكي يتّهم العلم بتدمير جمال الطبيعة من أجل الكشف بدوره عن جمال العلم وجماليات المساعي العلمية.
على النقيض من الإنسانية الجديدة والبليغة، يواجه علماء ومؤلفو العلوم الإنسانية التقليدية خطر التهميش. في شهر مايو، ألقى الكاتب الإنجليزي ويل سيلف حديثًا في أكسفورد بعنوان “الرواية ماتت (ونعني ما نقوله هذه المرة)”، مرددًا بوضوح مأزق كُتَّاب العلوم الإنسانية المعاصرة. واتِّباعاً لإرث القرن العشرين ومثقفيه المعروفين أمثال إدوارد سعيد، يجب علينا اتخاذ الخطوة التالية إلى الأمام لتشجيع جيل جديد من العلماء الأدبيين في القرن الحادي والعشرين على احتضان المعرفة الحكيمة من أجل قيادة العلوم الإنسانية للمشاركة في الحوارات عبر الحدود في الثقافة الثالثة.
وبينما يظهر العلم قوس قزح المعرفة، يجب أن تكون هناك غيوم في طرفي هذا القوس تنتظر انتباهنا وتحتاج إلى أن تُروَى ويُحكى عنها، حتى ولو كانت ستتلاشى وتزول.