- جيوف مان
- ترجمة: مصطفى هندي
- تحرير: سهام سايح
لم يُبدِ جون ماينارد كينز سوى القليل من التضامن مع العمال، كما ألهَم اقتصاد المؤسسات مدة قرن من الزمان؛ وقد تبنت حركة إحياء الاشتراكية في الغرب أفكاره وفسّروها بطريقتهم الخاصة.
إذا عاد جون كينز إلى الحياة اليوم – بعد أكثر من 70 عامًا من وفاته في أعقاب الحرب العالمية الثانية- فعلى الأرجح أنّه سيندهش من كثرة الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي يطلق عليها “كينزية”. وقد يفاجأ أيضًا أنه -على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية- يرتبط اسمه عادةً بأقصى يسار الطيف السياسي.
مع نشر كتابه “النظرية العامة للعمالة والفائدة والمال” في عام 1936 -الذي يعدُّ الكتاب الأكثر تأثيرًا في الاقتصاد في القرن العشرين- كان هناك بالتأكيد مؤيدو التجارة الحرة الذين ندَّدوا بهجومه على مبدأ “اقتصاد عدم التدخل”[دعه يعمل دعه يمر]، لكن الاشتراكيين المتعصبين هاجموه على الفور كما لو كان مسيح الرأسمالية المزيف، ولا يزالون مستمرين في هجومهم. وقالوا أن مبادئه الاقتصادية كانت مجرد طُعْم لتنطلي أفكار الرأسمالية على الطبقة العاملة. هذا الاتهام فيه شيء من الحق، فلقد قالها كينز صريحة “في الحرب الطبقية، سأكون دائمًا في صف البرجوازية المثقفة؛ لقد ولَّى زمن الثورة”.
في نفس الوقت، دافع العديد ممن يسمون أنفسهم بالـ “تقدميين”منذ فترة طويلة عن كينز و الكينزية، وأصبح الاقتصاد الكينزي مسألة حياة أو موت بالنسبة لحركة إحياء الديمقراطية الاجتماعية. قد لا يهتف الناشطون باسمه في الشوارع، ولنا أن نفترض أن الشريحة القارئة في التيّار اليساري لا تزال أكثر ارتباطًا بكارل ماركس. لكن بغض النظر عن تردده حول هذا الموضوع، فإنّ كينز الآن في قلب خيال وأحلام التقدميين. هناك العديد من المفكرين الذين يدفعون اليسار إلى ما وراء الاقتصاد التقليدي المُحدَّث، لكن أبرزهم هم الكينزيون.
هذا الاختلاف في توصيف كينز ليس ناتجًا عن مجرد القراءة الخاطئة والسطحية لأعماله، بل الغموض الذي يكتنف الفكر الكينزي هو الذي جعله محتملًا للتفسيرات والمناورات السياسية. في الواقع، إن بعضًا من المعارك الاقتصادية الأكثر ضراوة في فترة ما بعد الحرب كانت بين مدارس من يصفون أنفسهم بالكينزيين: فمن ناحية هناك منتقدو الرأسمالية الذين يعتقدون أنّ الاقتصاد الكينزي يمكن أن يجعل النظام السيئ أقل قسوة، وهناك أنصار الرأسمالية الذين يعتقدون أن اقتصاد كينز يمكن أن ينقل النظام من حسن إلى أحسن. وعلى الرغم من أن عدوهما واحد – وهو التيار المتعصب لحرية السوق في مدرسة شيكاغو للاقتصاد- إلاّ أنّ الخلاف بينهما كان شديدًا، وتُطوى تلك الخلافات مؤقتًا لسبب واحد هو:الأزمة. ففي حالة الطوارئ، يبدو أن لدى الكينزية فرصة أفضل للتصدّي للتحديات المعاصرة مما يكون في أوقات الرخاء، كما أنها تحظى بقبول سياسي أكثر من بعض البرامج الأشد تطرفًا التي يعرضها اليسار. وكما قال روبرت لوكاس، الخبير الاقتصادي بشيكاغو الحائز على جائزة نوبل، “في الأزمات:الجميع كينزيون”.
إنّ الأزمة المالية الأخيرة لهي دليل على مدى صحة هذا الأمر. فقد أحيت الأزمة في عامي 2007 و 2008 الأفكار الكينزية وسياستها بشكل صادم، حتى بين من كان إيمانهم بالسوق ذاتية التنظيم لا يتزعزع قبل بضعة أشهر فقط، وبين عدد غير قليل من زملاء لوكاس في تيّار الاقتصاد السائد. كما أعلنت صحيفة وول ستريت في ذلك الوقت، كان كينز “الزعيم الاقتصادي الحاضر الغائب”. إنّ هذه العودة إلى كينز -على وجازتها- تجعل وضعه أعقد من ذي قبل. على الرغم من كونه مرتبطًا دائمًا باليسار، إلاّ أنه غير مرحب به تمامًا من اليسار، وغير مرحب به على الإطلاق داخل اليمين. وهذا يفسّر إلى حدٍ ما كيف انتهى الأمر بالاقتصادي البورجوازي ما بعد الإدواردي بأن يكون ذا أهمية قصوى لكثير من التيارات الاقتصادية في اليسار الأوروأمريكي، وكيف أصبح من السهل أن يتحول الموالون للاقتصاد السائد ورجال الأعمال المؤيّدين للسوق الحرة إلى كينزيين إبان أزمة الرهن العقاري.[1]
لقد قال الاقتصادي ميلتون فريدمان ذات مرة: “الآن جميعنا كينزيون”،ورغم أنه لم يكن يقصد المعنى الظاهر للكلمة، إلا أنّه اتضح فيما بعد صحة تلك العبارة: فمنذ الحرب العالمية الثانية، كان فريدمان وزملاؤه من سكان الجزء الأثرى من العالم جميعهم تقريبًا كينزيون باعتبار ما، لكن كان لكلٍّ منهم “كينزيته” الخاصة.
بالطبع هناك لونٌ من الكينزية ارتبط منذ فترة طويلة بسياسات دولة الرفاهية التي قضى فريدمان حياته المهنية محاولًا تشويهها وتفنيدها. ليس من الواضح ما الذي كان يرمي إليه كينز من استمرارية البنية المؤسسية الضخمة لدولة الرفاهية. (قد توحي النظرية العامة أن ليس ذلك ما كان يدور في خلد كينز: “ستعوض الأشغال العامة – حتى تلك المشكوك في فائدتها- تكلفتها أكثر من مرة في حالة البطالة القُصوى، ولو بسبب انخفاض تكلفة الإنفاق على الإعانات فحسب،[وذلك بشرط أنّه يمكننا أن نفترض أن نسبةً أصغر من الدخل ستُدخر حين تكون البطالة أعلى]، لكن الأشغال العامة قد تصبح اقتراحا غير مضمون النتائج بدرجة أكبر عند الاقتراب من حالة التوظيف الكامل”) ومع ذلك، أكد كينز أنه في حالة “الركود” كانت الإجراءات الحكومية المنسقة – وخاصة خفض أسعار الفائدة وتقليل دعم العمالة إذا لزم الأمر- هي الحل الأمثل.
التقى كينز الرئيسَ الأمريكي فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات وشجعه على استخدام الموارد الفيدرالية لمحاربة الكساد (على الرغم من أنّه ليس من الواضح على الإطلاق أيُّ جانب من جوانب الصفقة الجديدة لروزفلت يمكن وصفه بأنه كان “كينزيًا”). وعندما كان الانتقال إلى اقتصاد السِّلم في المملكة المتحدة يحتاج إلى دفعة في نهاية الحرب، رحب كينز بتقرير بيفريدج، وقد أصبح الآن الوثيقة التأسيسية لدولة الرفاه، والأصل الذي تقوم عليه مؤسسات الخدمة الصحية الوطنية والتأمين الاجتماعي، وتعويضات العمال عن إصابات العمل، وتنظيم ومراقبة الإيجارات وغيرها من المؤسسات. ولن نكون مخطئين تمامًا إذا وصفنا “الصفقة العادلة” للرئيس الأمريكي هاري ترومان أو برامج “المجتمع العظيم” للرئيس ليندون جونسون بالـ “الكينزية”.
ولكن كان هناك دائمًا أيضًا ما يمكن تسميته بطريقة “اليمين الكينزي” في الاقتصاد وتطبيق السياسة الاقتصادية. في الواقع، على الرغم من أنّ دولة الرفاه تعتبر عادةً انتصارًا للسياسة الاقتصادية اليسارية، إلاّ أنها كانت مرتبطة فعليًا بنمط التفكير الاقتصادي المناهض للرأسمالية. لم يكن الاقتصاد الكينزي الذي هيمن على المؤسسات الاقتصادية والسياسية في العصر الذهبي لما بعد الحرب – وبرر توجه مؤسسات تلك الحقبة نحو الرفاهية مثل الإسكان العام أو المفاوضة المشتركة- يساريًا على الإطلاق ولم يكن يرى نفسه كذلك.
الكينزية – وإن لم تكن مهيمنة- إلاّ أنّ لها تأثيرًا بالغًا في الاقتصاد حتى يومنا هذا. ولا نلاحظ هذا بشكل كبير لأن الحِس العام حاليًا يتجه إلى أنَّ الاقتصاد الرأسمالي القوي يجب أن تكون علاقته بالدولة والحياة الاجتماعية قليلة قدر الإمكان. ولكن في عقود طفرة ما بعد الحرب، اعتقد معظم الاقتصاديين أن للدولة دورًا حاسمًا يتداخل مع عمل الرأسمالية يتمثل في حماية المواطنين من عقوباتها التعسفية وتقنين اللامساواة الناتجة عنها، ولم يكن يُنظر إلى ذلك الدور على أنه يساري.
إنّ جمع الاقتصاد الكينزي لعدد من المُتضادات له عدة عوامل. لا يمكننا أن نُنكر أنّ اعتداد كينز بنفسه وحرصه على قبول أفكاره على نطاق واسع كان عاملًا مهمًا، لكن السبب الأهم هو التشعُّب والتنوع الذي يتمتع به التحليل الكينزي الذي بدأ بمجرد نشر النظرية العامة. في رسالة مشهورة إلى جورج برنارد شو قُبيل نشر كينز لكتابه، قال أن كتابه “سيُحدث ثورة” في الاقتصاد، ولكن كما اتضح لاحقًا لم يحظ بتأييد الجميع.
إنّ “الثورة” التي تهدف النظرية العامة إلى إشعالها هي الهروب من التيّار القديم الذي سماه كينز “الاقتصاد الكلاسيكي”، وهو تيار مُبهم إلى حد ما، عزا كينز إليه ذعر الكثير من زملائه -إن لم يكن كلهم-. وبتبسيط مُجحف، جادل كينز بأن النظرية العامة تغلبت على التفكير “الكلاسيكي” بالتخلّي عن ارتباطه غير المبرر بقانون ساي[2] -أي الافتراض بأن آلية أسعار الأسواق تربط دائمًا بين العرض والطلب بكفاءة،[العرض يخلق الطلب المكافئ له] مع ضم جميع الموارد المتاحة – بما في ذلك العمالة- إلى الإنتاج. والأسوأ من ذلك ،حسب رأي كينيز، أنّ هذا يشير إلى أنّه عندما كانت جميع المحركات الاقتصادية من الواضح أنها لم تعد تعمل، كان من الأفضل عدم التدخل، لأنها ستدفع الاقتصاد بشكل طبيعي إلى حالة العمالة الكاملة. كانت جميع شروط التوظيف شبه الكامل، بحكم تعريفها، واقعة في ما أسماه “اختلال التوازن”. هذا النوع من التحليل الاقتصادي، هو الكامن وراء إحجام البنوك المركزية مثلا عن خفض أسعار الفائدة والتخلّي عن معيار الذهب عندما اجتاحهم الكساد.
ولكن تذكَر أنّ هذا كان عام 1936. بعد سنوات من انتشار البطالة وتكدُس كميات هائلة من الموارد في كل دول الغرب الرأسمالي دون استغلال، بدا واضحًا أن الأسواق لا تصحح نفسها بنفسها، وأن الاقتصاد يمكن بسهولة أن يصل إلى توازن كارثي، أو حتى لا يصل إلى التوازن على الإطلاق، ويبتعد كثيرًا عن العمالة الكاملة.
كان النقد الأشهر الذي تعيَّن على كينز التعامل معه في الأشهر التي تلت ظهور النظرية العامة هو القول بأنها كانت مجرد فكرة قديمة تسربلت برداء مُعاصر، ويمكن تفسيرها بسهولة وعزوها إلى مصطلحات “كلاسيكية”. إن توقيت هذا النقاش أمر حاسم، ففي حين أنّ الاتجاه نحو إضفاء الطابع الصوري أو”الرياضي” على الاقتصاد قد بدأ قبل عدة عقود من طرح كينز، إلاّ أنه بحلول الثلاثينيات من القرن الماضي كان هذا الاتجاه يمر بمرحلة انتقالية حرجة، حيث كان الفكر والعمل الاقتصادي يَحيد عن طريقة التعبير التفسيرية التي يفضلها كينز ومعظم الاقتصاديين السياسيين الأقدم الذين اعتمدوا على القليل من الرياضيات البسيطة لتوضيح وجهة نظرهم، والتحول إلى الأسلوب الصوري المعقد السائد اليوم. وإن كينيز نفسه كان يشكُّ في جدوى الاعتماد على الأساليب الصورية بشكل متزايد -“أشك إذا كان بإمكانه أن يقدم لنا ما لم يقدمه الخطاب العادي”- كانت هذه (وما زالت) هي اللغة المفاهيمية التي يدور حولها الكثير من النقاش حول النظرية العامة بين كلٍّ من المؤيدين والمعارضين.
عمليًا، تضمنت النقاشات محاولات لصياغة أفكار كينيز باستخدام مصطلحات ونماذج الاقتصاد الكلاسيكي الذي ادعى أنه سينحدر إلى مزبلة التاريخ. إنّ الخلاف حول نتائج هذه الجهود هو أصل الانقسام في النظرة الكينزية للعالم والأهداف السياسية المتعددة التي يبدو أن كينز و الكينزية تخدمها: فما يسمى اليوم باقتصاديات “ما بعد الكينزية” – وبشكل أساسي التيّار اليساري الكينزي- قد رفض إعادة الصياغة والترجمة إلى اللغة الكلاسيكية، بينما أولئك الذين يُطلق عليهم الآن “الكينزيون الجدد” -الذين يمثلون التيّار الكينزي الهش في اليمين- قد احتفوا بهذا التحول. ومنذ ذلك الحين توجد فجوة واسعة بين تلك المعسكرات، وهي تلك المساحة التي تفصل بين ما أطلق عليه “اقتصاد كينز والاقتصاد الكينزي” كما قال الاقتصادي أكسل ليجونهوفود.
ولعل اللحظة الأهم في ظهور هذا الانقسام هي الجدل حول ما يعرف بنموذج IS-LM للاقتصاد الكلّي. صُمِّم هذا النموذج لأول مرة في عام 1937 من قبل جون هيكس صديق كينز، وذلك لوصف الاقتصاد على أساس المصطلحات الكلاسيكية بطريقة تأخذ بعين الاعتبار أحد الانتقادات الرئيسية للنظرية العامة للاقتصاد الكلاسيكي: وهي أنّها تفترض دائمًا ميلًا إلى العمالة الكاملة. حاول هيكس دفع هذا الانتقاد من خلال ابتكار نوعٍ جديد من نموذج التوازن الكلاسيكي. يقول نموذج هيكس، في أبسط صوره، أنّ الناتج الاقتصادي (بما في ذلك مستويات العمالة) سيتحدد من خلال تقاطع منحيين: الأول يصف نطاق العلاقات الممكنة بين الطلب على الاستثمار وعرض المدخرات (منحنى الادخار -الاستثمار) وهو ما يرمز له بـ IS، ويمكننا أن ننظر إليه على أنّه اقتصاد “حقيقي”، والثاني يصف نطاق العلاقات الممكنة بين الطلب على النقود وعرضها (منحنى تفضيل السيولة-عرض النقود) وهو ما يرمز له بـ LM، وهو يمثل الجانب المالي من الاقتصاد. هذا النموذج بديهي تقريبًا: توازن الاقتصاد الكلي هو النقطة التي تتداخل فيها ظروف الاقتصاد “الحقيقي” مع شروط الائتمان في أسواق المال. لا يوجد سبب لتوقع أنّ مستوى الإنتاج في هذه المرحلة يضمن العمالة الكاملة.
يعدُّ نموذج هيكس أو IS-LM هو الخطوة الأولى في ما أطلق عليه منذ ذلك الحين “التركيب الكلاسيكي المحدث”، وهو جمعٌ بين الحدس الكينزي وتحليل التوازن الكلاسيكي. أُنجز الجزء الأكبر من هذا العمل على يد الاقتصاديين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب مثل بول صامويلسون وألفين هانسن الذين وجدوا في نموذج هيكس أداةً مفيدة بشكل استثنائي لتحليل السياسات: فإذا كان منحنى IS هو الاقتصاد الحقيقي فيمكننا تغييره بالسياسة المالية؛ وإذا كان منحنى LM يعبر عن أسواق المال أو الجانب المالي للاقتصاد، فيمكننا تحويله إلى سياسة مالية. وعلى حد تعبير صامويلسون فإن الاستخدام الواعي للاثنين يمكنه أن ينتج “اقتصاد مُرَوَّض” يتصرف مثل النموذج الكلاسيكي المُحدث. بعبارة أخرى، يمكننا – بل يجب علينا بالفعل- استخدام الأدوات التنظيمية لتحقيق الاقتصاد الرأسمالي عالي النمو الذي قال الكلاسيكيون أنّ الأسواق ستنتجه من تلقاء نفسها. هذا فقط دونًا عن أيّ تيار من أجندة اليسار هو الاقتصاد الكينيزي الذي عزَّز الأساس الاقتصادي لدولة الرفاه، و مع تعرضه لتغيرات مهمة إلاّ أنّه يظل هذا الحِس العام السائد في قلب الاقتصاد الحديث. وإن بول كروغمان وجوزيف ستيجليتز – وهم من أبرز الاقتصاديين المعاصرين- كلاهما ينتمي إلى تيّار الكنزيين الجدد.
أُنجز الكثير من هذا العمل في كامبريدج وماساتشوستس، وخاصة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث تدرب كروغمان وستيجليتز. وعبر المحيط الأطلسي في كامبريدج الأخرى – كلية كينز في كامبريدج- اعتبَر الكثير من طلاب وزملاء كينز التركيبَ الكلاسيكي المحدث خطوة إلى الوراء وحيادًا عن الكينزية الحقيقية وخيانة لمساهمة كينز. بقيادة جوان روبنسون – وهو أحد أكثر الاقتصاديين ذكاءً وإبداعًا في القرن العشرين- تشكل ما نسميه الآن بتيار “ما بعد الكينزية”. وصف روبنسون التركيب الكلاسيكي المُحدث بأنّه “كينزية مزيفة”، وأنه مزيج جمع أجزاءً منتقاة بعناية لغرض ما من النظرية العامة والغطرسة الكلاسيكية.
إنّ هذه المسارات المتناقضة التي تلت الحرب العالمية الثانية هي منشأ الفجوة المعاصرة بين المعسكرات الكينزية، و قد كانت تلك الهُوة في اتساع مستمر. واليوم، يعدُّ فهم النقاشات داخل الكينزية مهمًا على الأقل في فهمنا للسياسة المعاصرة بقدر ما هو مُهم لفهمنا الصحيح للاقتصاد، وذلك لأنّه يُجسّد أيضًا النقاش حول المسائل الرئيسية في السياسة العامة. في الوقت الحالي، يسيطر الكينزيون الجدد مثل كروغمان وستيجليتز وجانيت يلين على الكثير من اتجاهات الفكر الاقتصادي، في حين أنّ بعضًا من ألمع العقول الاقتصادية في اليسار – مثل آن بيتيفور في المملكة المتحدة وستيفاني كيلتون في الولايات المتحدة- ينتمون إلى تيّار ما بعد الكينزية.
بالنسبة إلى الأول، فإن الفكرة الجوهرية في فكر كينز هي أن الطلب الفعال نادرًا ما يصل بمفرده إلى مستوى يُولد العمالة الكاملة، وفي هذا الصدد يستعملون في الغالب أدوات ونماذج مستمدة من تأصيل هيكس الذي قدمه في صورة نموذج IS-LM ، وهذا يعني أنّها اقتصادات توازن غير كينزية أضيف إليها الاختلافات والنزاعات، وتضارب المعلومات، وثبات الأسعار لجعلها أكثر واقعية. على النقيض من ذلك، فإنّ الاتجاه الثاني ينطلق من اقتراح مفاده أنّ جوهر المشكلة بالنسبة إلى كينز – كما قال روبنسون-“هو عدم اليقين”. حيث أنّ القرارات والحسابات والتوقعات وحتى القيم النقدية تتشكل في سياق تاريخي وليس منطقي. إذا كان هذا هو الحال، فإنّ جزءًا كبيرًا مما يعرف بـ”التحليل الهيدروليكي” في الاقتصاد الكلي -أي عند هبوط قيمة X يجب أن ترتفع قيمة Yمما ينتج عنه توازنًا آخر- هو محل خلاف.
إنّ وجود توقعات غير مؤكدة حول المستقبل كان – من نواح كثيرة- أكثر عناصر النظرية العامة التي أكد عليها كينز بعد نشر كتابه. تستثمر الشركات وتوظف (أو تتراجع عن ذلك) بناءً على الطلب المستقبلي المتوقع، وينفق المستهلكون (أو يُمسكون) على أساس الدخل المستقبلي المتوقع، ومن الوارد جدًا أن يتبيّن خطأ هذه التوقعات. إذا كان الأمر كذلك، فمن المؤكد أنّ الأمور في أيّ لحظة ستكون على الأقل غير متوازنة – فما يكون كثيرًا من شيء، قد لا يكون كافيًا ليتوازن مع شيء آخر. في هذا الواقع المتغير، يُعدِّل الجميع باستمرار توقعاتهم بشأن الغد والعام المقبل أو بعد عقد من الآن؛ وكلما تعمقنا أكثر قلّ ما معنا من اليقين كما قال كينز فيما يتعلق بأهم الأحداث المستقبلية: “نحن ببساطة لا نعرف”.
بالنسبة إلى روبنسون ومن حذوا حذوه، يُعدُّ تجاهل مسألة عدم اليقين في التركيب الكلاسيكي المُحدث من الأخطاء الفادحة العديدة التي ارتكبوها. إنّ نموذجIS-LM وقائمة خيارات السياسة الدقيقة التي قدّمها قد أعادت الاقتصاد إلى عالم التجريد وأبعدته عن إصرار كينز على تطويع اقتصاد “لنوع النظام الذي نعيش فيه بالفعل”. وقد تجاهلت اللايقين الواقعي واستبدلته بمجموعة من نقاط التوازن، لم يكن أيّ منها غير مؤكد لأنها حُدِّدَت ميكانيكياً بواسطة ديناميات النموذج، وقد وصفها هيمان مينسكي (الذي ساعدت فرضيته في عدم الاستقرار المالي الكثير من الناس على فهم انهيار بنك ليمان براذرز) بأنها “هاملت بدون الأمير”.
أضحت هذه الاختلافات واضحة جدا في النقاش الساخن حول ما يسمى بالنظرية المالية الحديثة. هذه النظرية -التي تستند إلى الادعاء بأن السيادة لا يمكن أن تتخلف عن سداد ديونها المقومة بعملتها الخاصة، وبالتالي هناك مرونة مالية لاستخدام العجز لتوليد العمالة الكاملة (أو مواجهة حالات الطوارئ المناخية التي تؤدي إلى توقف الأسواق)- وقد خرجت تلك النظرية مباشرة من رحم ما بعد الكينزية. الكينزيون الجدد يعارضون بشدّة الجزء الأكبر من النظرية، حيث يقول كروغمان -الذي يُطلق على نفسه “الكينزي المحافظ”- أنّ النظرية المالية الحديثة أغفلت ما سمّاه بالحقائق الجلية “للاقتصاد الكلي القياسي” مثل حقيقة أنّ ازدياد العجز سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة الذي بدوره يقلص الاستثمار الخاص. واستخدم كروغمان منحنى IS لتقديم حجته، مما دفع كيلتون إلى رفض “التفسير الكينزي المختزل لمنحنى IS-LM” الذي تقوم عليه حجة كروغمان.
في حين يظل تيّار الوسط السياسي المنتشر على نطاق واسع أو ما يسميه الأمريكيون بدائرة “الليبرالية” ملتزمًا بالرأسمالية وبنهج أشبه بالنهج الكينزي الجديد تجاه الاقتصاد (على الأقل في أوقات الأزمات)، نرى اليسار المعاصر يحوي مزيجًا من الكينزية والأفكار الاقتصادية الأكثر تطرفًا. وذلك لأنّ اليسار -إن صح التعبير- يضم تيارات من الصعب جدًا جمعها على كلمة واحدة، بداية ممن يُعتبرون اشتراكيين ديمقراطيين حقيقيين وانتهاءً بالليبراليين المتعاطفين مع السيناتور إليزابيث وارين وبيرني ساندرز. دفع اتساع هوة اللامساواة وتغير المناخ العام وصعود الرئيس دونالد ترامب الكينزيين الجدد الموجودين على الساحة مثل كروغمان وروبرت ريش إلى تضمين بعض أفكار ما بعد الكينزية في تحليلاتهم. يعتبر كيلتون -العقل المدبر لتيار ما بعد الكينزية والمُنظّر الأبرز للنظرية المالية الحديثة- مستشارًا اقتصاديًا لساندرز. في الواقع، على الرغم من أنّ كينز والكينزية ليس بالضرورة أن يكونا يساريين، إلاّ أنّه في لحظة ما تكون الأفكار الكينزية من الأشياء القليلة التي يبدو أنّ لديها القدرة على توحيد ائتلاف يساري قابل للحياة، وإن الإثارة الناتجة عن “الصفقة الخضراء الجديدة”[3] -التي ترتبط حاليًا ارتباطًا وثيقًا بحملة ساندرز والجمهورية ألسكندريا أواسيو كورتيز- دليل على أنّ اتفاق اليسار على كلمة واحدة مستحيل بأي حال من الأحوال-.
لقد جاء الكثير من هذا الزخم والفعالية المتزايدة من الناشطين الشباب. من المحتمل أن يكون التحوُّل بين الأجيال حاسمًا هنا، لأن حقيقة أن المزيد والمزيد من الشباب يعتنقون الاشتراكية ويميلون إلى السياسة اليسارية -وهو ما يجعل أفكار ومشاعر كينز مثارًا للسخرية- يمكن القول أنّها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالانتشار الواسع والمناداة بالكينزية اليسارية أكثر من ارتباطها بالماركسية. لا يعني أنّ هؤلاء الشباب ليسوا راديكاليين حقيقيين، فالكثير منهم يصوغ اشتراكية متطورة تستند إلى أفكار ماركس وأنطونيو غرامشي وروزا لوكسمبورغ، لكن الفكر الاقتصادي الفدرالي الراديكالي -المؤيّد للسوق- والداعم للفردانية والذي هيمن على النقاش الأمريكي قبل ولادة هؤلاء الشباب جعل ما بدا لأجدادهم في السابق وسطًا وغير متطرف -مثل الكينزية- يبدو متطرفًا الآن. ليس خطأ من جانبهم أنّه بالنسبة لعدد غير قليل منهم تعدُّ الاشتراكية نسخة مستدامة بيئياً من دولة الرفاهية التي طالبت بها النقابات العمالية لعقود. في المسيرات المزدحمة للمؤيدين للصفقة الخضراء الجديدة، يعتبر روزفلت بطلاً مثل سلفادور أليندي.[4]
دائمًا ما كانت هناك درجة من التقارب بين التيّارات الكينزية المختلفة، لأنّ الكينزية -أيّا كانت أفكارها- كانت دائما تدور حول معالجة الأزمة، فعليةً كانت أو محتملةً. كتب كينز النظرية العامة في ثلاثينيات القرن الماضي في ظل الفوضى الاجتماعية المتنامية، وتمرُد الفاشيين، والتيارات الاشتراكية المتطرفة، ناهيك عن الإمبراطوريات التي بدأت في الانهيار. كان يُنظر إلى الـ “غير” الذي كان يلوح في الغرب في فترة الحرب الباردة على أنّه أجنبي وغير مألوف، إلا أنّه لا شك أن نظام بريتون وودز[5] (الذي ساعد كينز في تصميمه) واقتصادات دولة الرفاه قد شُيِّدت – جزئيًا على الأقل- في المجتمعات التي احتضنت الرأسمالية ولكنها لم تثق أبدًا بالسلع التي ستوفرها الأسواق الحرة. اليوم، وبعد ما كشفته الأزمة المالية من مثالب، أعاد الاقتصاد اكتشاف كينز. وبالنسبة للكثيرين، فإنّ الأزمات المتعاقبة في البيئة وعدم المساواة والديمقراطية تجعل الكينزية لونًا آخر أكثر جاذبية من الوضع الراهن.
بمعنى آخر، أصبح كينز ضروريًا لكثير من تيّارات اليسار، لأنّ الإحساس الراهن بالأزمة الوشيكة يدعو بشدّة إلى ضرورة التصرف، والسبب الآخر هو أنّ الاختلافات الكبيرة بينهما تبدو غير مهمة وغير مؤثرة في مواجهة الكارثة المحتملة. في الواقع، يمكن القول أن التقارب بين الكينزيين يحدث بالفعل. لقد كرّس ستيغليتز -الذي ربما يكون أبرز مفكّري الاقتصاد العام في العالم الناطق بالإنجليزية- طاقة هائلة لتحليل ودعم الضرائب الضخمة على استخدام الكربون، وتدابير لمعالجة عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها. أحدثُ مؤلفاته كتاب بعنوان “الرأسمالية التقدمية في عصر السخط”. إستير دوفلو -كينزية أخرى وواحدة من الفائزين بجائزة نوبل لهذا العام- لديها كتاب جديد يتناول مشاكل مماثلة. كلاهما يبدأ من نفس المكان: العالم قلق بشكل متزايد حول مستقبل الحضارة، وحريٌّ به أن يقلق. وليست تلك بمصادفة، لأنّ هذا ما كانت تدندن حوله الكينزية دائما.
قال كينز نفسُه إنّ مشاكلنا هي في معظمها “حيرة مخيفة، وأخرى عابرة، وثالثة غير ضرورية” يمكن أن ينقذنا منها العلم والخبراء والعقل، وعلى تلك النقطة يوافق كلُّ كينيزي تقريبًا. التغيير – جذريًا كان أم لا- هو على قدم وساق. لكن هل سيكون كافيًا؟ أو قريبًا من ذلك؟ لا نعرف. يبدو أنّ التغيُّر المناخي وحده يتطلب المزيد من العمليات والتحولات السياسية والاقتصادية، ولكن في الوقت الحاضر على الأقل فإن خطة الوصول إلى هناك تمر عبر كينز.
[1] – مما هو مشهور في عالم الاقتصاد : إذا اجتمع خمسة اقتصاديين فستخرج ستة آراء، اثنان منهم لكينز! (المترجم)
[2] -يسمى أيضا بقانون الأسواق (Law of Markets) وهو قاعدة اقتصادية تقول أن الإنتاج هو مصدر الطلب. ووفقا لقانون ساي، عندما ينتج الفرد منتجا أو خدمة ما فإنه يحصل على أجر مقابل ذلك العمل، وبالتالي يستطيع أن يستخدم المبلغ لطلب السلع والخدمات الأخرى، مما يعني أن كل سلعة يتم إنتاجها ستخلق طلبا مساويا لقيمتها في الأسواق. ولذلك عندما يخلق إنتاج السلع دخلا كافيا لشراء جميع تلك السلع، فلن يكون هناك أي نقص في الطلب على السلع ولا وجود لأي فائض منها وبالتالي لن يكون هناك تسريح للعمال أو البطالة. (المترجم)
[3] – الصفقة الجديدة الخضراء (بالإنجليزية: Green New Deal) هي تشريع مقترح في الولايات المتحدة الأمريكية يهدف إلى معالجة التغير المناخي وعدم التكافؤ الاقتصادي. يشير الاسم إلى برنامج «الصفقة الجديدة» وهو مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ومشاريع الأشغال العامة التي قام بها الرئيس فرانكلين روزفلت لمواجهة الكساد الكبير. تجمع الاتفاقية البيئية الجديدة بين منهج روزفلت الاقتصادي والأفكار العصرية كالطاقة المتجددة والكفاءة في استغلال الموارد. وأُطلقت الصفقة الجديدة الخضراء في عام 2006 من قبل «فرقة عمل الصفقة الجديدة الخضراء» كخطة تهدف لجعل نسبة استهلاك الطاقة النظيفة والمتجددة بحلول عام 2030 تبلغ 100% من عموم الطاقة المستهلكة في البلاد. وتضمنت الخطة أيضاً الاستفادة من ضريبة الانبعاثات الكربونية، وضمان الوظائف، وتأمين الدراسة الجامعية المجانية، والرعاية الصحية لكبار السن، والتركيز على استخدام البرامج العامة.أُدرجت الصفقة الجديدة الخضراء في برامج العديد من مرشحي حزب الخضر بدءاً من عام 2006، ومن بينها حملات هوي هوكينز للفوز برئاسة الحكومة في عامي 2010 و 2014، وحملات جيل ستين الرئاسية في عامي 2012 و 2016. (المترجم)
[4] – رئيس تشيلي، وهو أول رئيس دولة في أمريكا اللاتينية ذي خلفية ماركسية انتخب ديموقراطيا. شغل منصب رئيس جمهورية تشيلي منذ 1970 وحتى 1973 عند مقتله في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكمه والذي خططت له ونفذته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بقيادة الجنرال أوجستينو بينوشيه. (المترجم)
[5] – بريتون وودز (بالإنجليزية: Bretton Woods) الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد من 1 إلى 22 يوليو 1944 في غابات بريتون في نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد حضر المؤتمر ممثلون لأربع وأربعين دولة. وقد وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية. وتمنى الممثلون إزالة العقبات على المدى الطويل بشأن الإقراض والتجارة الدولية والمدفوعات. وقد رفع مؤتمر غابات بريتون خططه إلى منظمتين دوليتين هما: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وقد عمل الصندوق على تشجيع الاستقرار المالي الدولي وذلك من خلال توفير المساعدات قصيرة الأجل لمساعدة الأعضاء الذين يواجهون عجزًا في ميزان المدفوعات، وقد أعطى البنك قروضًا دولية ذات آجال طويلة خاصة للدول ذات النمو المتدني. (المترجم)