- فينسنت بيفنز
- ترجمة: مصطفى هندي
- تحرير: روان ناصر
[صورة العرض: في عام 1965، ساعدت الحكومة الأمريكية نظيرتها الإندونيسية على الاعتقالات الجماعية وقُتل ما يصل إلى مليون من مواطنيها].
إذا قرأت التعليقات الصادرة عن نيويورك و واشنطن، أو تحدثت مع النخب في أوروبا الغربية، فمن السهل أن تجد الناس يشعرون بالذعر من فقدان “القيادة الأمريكية”. مُنذ انتشار تعهدات حملة جو بايدن للمؤسسات البحثية عبر الأطلسي (TABC)، وهناك شعارات وتحذيرات لإحياء التفوّق الأمريكي واحتواء الأزمة الصينية في كل مكان.
لديهم سبب للقلق: هذه اللحظة تهزُّ أسس هيمنة أمريكا. من الواضح بشكل مُؤلم أن الولايات المتحدة غير مؤهلة للتعامل مع جائحة كورونا، الذي خرج عن نقاط القوة الأمريكية (فمهما يكن، لا يمكننا إطلاق النار عليه). ظلَ الرئيس ترامب لسنوات يُقيل الحلفاء ويستثير عِداء المؤسسات الدولية؛ ويبدو أن الصين تضع أولى لبنات صعودها كقوة عظمى. يتحدث المسؤولون الأمريكيون الآن بصراحة عن “حرب باردة جديدة” لمواجهة بكين، ويبدو أن الصين تمثل الآن تهديدًا لدرجة أن هال براندز من معهد American Enterprise يتساءل عما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تعود إلى العمل من خلال إسقاط الحكومات غير الصديقة سرًا.
من غير المستغرب أن يساور خبراء المؤسسة وصنَّاع السياسة الأمريكيين وحلفاءهم القلقُ بشأن التدهور الأمريكي؛ لقد كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية هي الفائز الوحيد في العملية التي خَلقت هذا العالم المعولم، والمستفيد الأول من انتصار واشنطن في نهاية الحرب الباردة. لكن الكثير من الناس لديهم شعور مختلف للغاية.
في أوائل أبريل، تلقيت رسالة من وينارسو Winarso، وهو رجل أعرفه من إندونيسيا، ويُدير منظمة تهتم بالناجين من القتل الجماعي الذي وقع هناك في الستينيات. كان يحاول جمع المال لشراء الأرز حتى لا يجوع قومه بسبب الإغلاق العالمي. لا يزال الدولار يقطع شوطًا طويلاً في إندونيسيا، كما يعرف وينارسو جيدًا.[1] يعزو وينارسو القوة الاقتصادية والسياسية لأمريكا إلى الحرب الباردة؛ وأخبرني أنه من السهل أن نرى أن واشنطن كانت منتصرة حقًا في القرن العشرين، لأننا جميعًا حصلنا على نسخة من الرأسمالية التي تتمحور حول الولايات المتحدة، والتي أرادت واشنطن نشرها. سألته: كيف فازت أمريكا؟ كانت إجابته بدهية وسريعة: “لقد قتلتنا”.
لقد أمضيتُ السنوات الثلاث الأخيرة مع الخاسرين في تلك اللعبة الوعرة، والأفراد الذين تحطمت حياتهم حتى يتحقق بناء هذا النظام العالمي. قضيتُ معظم وقتي في مقابلة الضحايا والناجين من شبكة عريضة من برامج القتل الجماعي التي استهدفت المعارضين المدنيين لحلفاء واشنطن في الحرب الباردة. تعرفتُ على أناس في أربع قارات عاشوا في ظل الانقلابات والضربات التي نظمها ضباط الـ CIA، تلك المؤامرات السرية التي يتحدث عنها السيد براندز. لفهم طبيعة القوة الأمريكية -ومستقبلها- فإن تجاربهم لا تقل أهمية عن تجارب أي شخص في قاعة اجتماعات باريس أو مركز أبحاث واشنطن.
بلد وينارسو هو المثال الأكثر أهمية. في عامي 1965 و 1966، ساعدت الحكومة الأمريكية في قتل ما يقرب من مليون مدني إندونيسي. كانت هذه واحدة من أهم نقاط التحول في الحرب الباردة -ومن الجدير بالذكر أن إندونيسيا هي رابع أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم- وأدرك صنَّاع السياسة في ذلك الوقت أنها جائزة أكثر قيمة من فيتنام؛ ولكن تلك الأحداث لا يلتفت إليها بشكل كبير في العالم الناطق بالإنجليزية على وجه التحديد لأن تلك التجربة كانت نجاحًا مدويًا؛ فلم يُقتل جنود أمريكيون؛ لم يكن هناك سِوى القليل من الاهتمام والنظر إلى دولة أخرى أُدْخلت – طبيعيًا في الظاهر- إلى مدار الولايات المتحدة.
لكن العملية لم تكن طبيعية. استخدم الجيش المدعوم من الولايات المتحدة انتفاضة فاشلة كذريعة لسحق اليسار الإندونيسي، الذي كانت واشنطن تسعى إلى مواجهته لمدة عشر سنوات، ثم سيطرت على البلاد. تُوضّح وثائق وزارة الخارجية التي رُفعت عنها السرية مؤخرًا أن الولايات المتحدة ساعدت وحرضت على القتل الجماعي في إندونيسيا، وقدمت الدعم المادي، وشجعت عمليات القتل وكافأت الجناة.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تفعل فيها الولايات المتحدة شيئًا كهذا؛ ففي عام 1954 سلم السفير الأمريكي في غواتيمالا قوائم القتل إلى جيش ذلك البلد؛ وفي العراق عام 1963 قدمت وكالة المخابرات المركزية قوائم بأسماء الشيوعيين واليساريين المشتبه بهم لحزب البعث الحاكم.
كانت إندونيسيا في عام 1965 هي ذروة العنف المناهض للشيوعية في القرن العشرين. أبادت المذابح الحزب الشيوعي الإندونيسي Partai Komunis غير المسلح، وهو أكبر حزب شيوعي خارج الصين والاتحاد السوفيتي، وأطاحت بالرئيس سوكارنو -أحد القادة المؤسسين لحركة عدم الانحياز ومناهض صريح للإمبريالية- واستبدلته بالجنرال سوهارتو، وهو ديكتاتور يميني أصبح بسرعة أحد أهم حلفاء واشنطن في الحرب الباردة.
كان هذا انتصارًا واضحًا للحركة العالمية المناهضة للشيوعية، حيث بدأت الجماعات اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء العالم في استلهام نموذج “جاكرتا” وبناء برامج مقلدة. وساعدهم مسؤولون أمريكيون ومنظمات مناهضة للشيوعية انتقلت عبر الحدود. بدورها، تطرّفت الحركات اليسارية أوحملت السلاح، معتقدةً أنها ستُقتل إذا حاولت السير في طريق الاشتراكية الديمقراطية.
في أوائل السبعينيات، رسم المتطرفون اليمينيون في تشيلي اسم “جاكرتا” على منازل الاشتراكيين، مهددين بقتلهم أيضًا. وقد قتلوا بالفعل بعد الانقلاب المدعوم من وكالة المخابرات المركزية في عام 1973. هُدِّدَ اليساريون البرازيليون بـ “أوبراساو جاكارتا” أيضًا؛ وبحلول نهاية السبعينيات، كانت معظم أمريكا الجنوبية تحكمها حكومات استبدادية موالية لأميركا، والتي ضمنت السلطة بالقتل الجماعي. بحلول عام 1990، دفعت فرق الموت في أمريكا الوسطى عدد القتلى في أمريكا اللاتينية ليصل إلى مئات الآلاف.
في أمريكا الشمالية وأوروبا، عندما يفكر الناس في هذه الحملات الإرهابية -إذا فكروا بها أصلا-فالسردية السائدة هي أن الولايات المتحدة قد قامت بتحالفات مع شخصيات بغيضة، تلك الشخصيات ارتكبت انتهاكات مؤسفة. هذا خاطئ تمامًا. كانت حكومة الولايات المتحدة وراء الكثير من أعمال العنف، وكانت بعيدة كُل البعد عن كونها غير مؤثرة. وُضعت معظم الدول التي كانت من دول العالم الثالث سابقًا على مسارها الحالي من خلال الصراعات التي وقعت خلال الحرب الباردة. لقد أتاح العنف نسخة من رأسمالية صديقة شكَّلت الواقع اليومي لمليارات الناس، وهي جزءٌ لا يتجزأ من نسخة العولمة التي انتهى إليها العالم.
لا يوجد شخص عاقل ينكر الأشياء العظيمة التي قامت بها الولايات المتحدة في القرن العشرين، أو أن العديد من الدول تمتعت بالازدهار عندما كانت في تحالفات “ودودة” مع واشنطن. ولكن مع تقدمنا في القرن الحادي والعشرين، سيحتاج الأمريكيون إلى مواجهة الجانب المظلم من الهيمنة الأمريكية لأن معظم العالم قد فعل ذلك بالفعل. جزء من سبب هشاشة النظام الحالي هو أن الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم يعرفون -وفي الواقع يمكن أن يروا آثار ذلك في أجسادهم- أن واشنطن استخدمت الوحشية لبناء العالم كما نعرفه.
لا نعرف حتى الآن كيف سيبدو العالم لو تبوأت الصين المكانة التي تخسرها الولايات المتحدة حاليًا. لا يوجد سبب للاعتقاد بأنه لمجرد تلطُّخ هذا النظام العالمي بالدم، فإن شيئًا أفضل سيظهر عندما يزول.
في الوقت الذي يراقب فيه الأمريكيون -بقلق- وضع بلادهم الآخذ في التراجع في العالم، فإننا بحاجة إلى أن نفهم أن الولايات المتحدة ليست في الواقع محبوبة كمنارة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. من الأرجنتين إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن تيمور الشرقية إلى إيران، ملايين الناس يشكُّون في نوايا واشنطن، حتى لو لم تكن لديهم رغبة خاصة في اتباع حكومة الصين.
وعليه، فإن الفشل في فهم الواقع، وتدشين محاولات يائسة لاستعادة نظام عالمي مُتهالك ومُلطخ بالدماء، يمكن أن تكون عواقبه وخيمة على الجميع.
اقرأ ايضاً: الحياة العصرية سبب الصراع السياسي
[1] – لك أن تتخيل أن الدولار الواحد يساوي تقريبًا 14654.45 روبية إندونيسية. (المترجم)