- خالد بريه
- تحرير: لطيفة الخريف
بناءُ القصَّة في النَّصِ القرآني قائمٌ على التَّركيزِ بكثافةٍ على الفكرةِ التي يُرادُ لها أن تصلَ إلى المتلقي. فإذا تحدثَ القرآنُ عن شخصيةٍ أو حدَثٍ في عهدٍ ما، تجد أنَّ القصة تحوي مضامين أساسية في الشيء المحكيِّ عنه.. يغلبُ عليها أسلوب الإيجاز، وتكثيف المعنى، وتوسُّع المدلول، من أجلِ القدرة على تنزيلِ وقائعِها في مختلفِ العصور..
قد يظهر أحيانًا أن ثمَّةَ تكرارًا في قصةٍ من القصصِ الواردةِ في القرآن، والتِّكرار هنا مرادٌ لذاته تارة؛ لتثبيتِ فكرةٍ معينة، ولإيضاحِ زاوية أخرى من الحدثِ تارة أخرى.
لا يهتمُّ القرآن الكريم بإيرادِ التَّفاصيل، ولا يحفلُ بها، ولو ذكرَ جزئية في قصةٍ من القصص، فلأهميتها، أو لرسالةٍ تحملها تعزِّز من فكرةِ الحدث الذي ساقه النَّص القرآني. كأن يورد مثلًا خبر الكلبِ مع أصحابِ الكهف، أو يذكر شأنَ النَّملةِ مع النَّبي سليمان عليه السَّلام!
ولو علمَ الله خيرًا في أكثرِ مما أجمله في تنزيله الحكيم، لتفضَّل علينا بتفصيله، ولذا يوقفُ عند إجماله فيما أجمل، وتفصيله فيما فصَّل.
وكل ما لم يحفل به النَّص الإلهي في القصةِ القرآنية، ولم يعره اهتمامًا، يجب أن لا نجعل منه أساسًا للفهم والاستدلال؛ كأن نكمل خفايا القصة أو الفراغات التي نظنها بحاجةٍ إلى اكتمال، بحشو خيالاتٍ وحكايا من العهدِ القديم، ثم نلصقُ كل ذلكَ بتفسيرِ القرآن الكريم؛ الأمر الذي يجعلها في مكانٍ عالٍ باعتبارِ دخولها تحتَ مسمَّى التَّفسير!
ثمة تباينٌ عظيمٌ بين تناولِ القرآن الكريم للقصصِ والشخصياتِ التي وردَ ذكرها في ثنايا النَّصِ القرآني، وبينَ الكتابِ المقدَّس الذي يحفلُ بذكرِ تفاصيل وجزئيات مكانها في كتب الأدبِ والحكايا، لا في نصوصٍ تُنسَبُ إلى الله ويُضفى عليها لفظُ المقدَّس، وفي حالِ النظر فيها، يكونُ ذلك من بابِ الاستئناس لا من بابِ التَّأسيس للفهم، فإن كان ثمةَ ما لا يتصادم مع النَّص القرآني فهو تأكيدٌ وتعزيز، وإن كانَ مصادمًا فلا ينبغي أن يُثقل به التَّفسير، ويُساق باعتباره جزءًا منه!
وقد تنبَّه الراحل الدكتور محمد حسين الذهبي إلى مسألةِ الإسرائيليات وأثرها على الدرس التَّفسيري، فقال رحمه الله: “قد كان للإسرائيليات التي أخذها المسلمون عن أهل الكتاب وشرحوا بها كتاب الله تعالى أثر سيئ في التفسير. ولم يقف الأمر على ما كانوا عليه في عهدِ الصحابة، فالذين جاؤوا من بعدهم زادوا على ذلك ورددوا كل ما قيل لهم من روايات من غير تمحيص. ودخل في التفسير كثير من القصص الخيالي المخترع؛ مما جعل الناظر في كتب التفسير التي هذا شأنها يكاد لا يقبل شيئا مما جاء فيها؛ لاعتقاده أن الكل من بابٍ واحد”[1].
إنَّ أول ما تقابله وأنتَ تقرأ في أسفارِ “العهد القديم”؛ الخيالات والمبالغات التي نُسجت حولَ كثيرٍ من القصص، والتَّصوير المخل لمقامِ النُّبوة في غالبِ المنظومة السَّردية، من خلالِ رسم مسير الأنبياء بصورةٍ فجَّة لا تتسقُ مع الرِّسالة التي أنيطت بهم.
قصة أيوب في الكتاب المقدَّس “انموذجًا”:
أثناءَ محاولتي القراءة لمدلولِ الآياتِ القرآنيةِ في سورتي “ص” و “الأنبياء” حول نبيِّ الله أيوب عليه السَّلام، قررتُ أن أقفَ ابتداءً على “سِفْر أيوب” في العهدِ القديم، الذي وردت فيه قصَّة أيوب، بصورة مفصَّلة، وراعني أنَّ التفاصيل التي ساقها السِّفر لا تتفقُ في كثيرٍ منها مع مقامِ النَّبي أيوب، ربما لأنَّ السِّفر ساقَ حكاية أيوب على اعتبارِ أنه رجلٌ ثريٌّ، مستقيم يحيد عن الشَّر، وليسَ بنبيٍّ مرسَل من الإله، ثم ذكر تفاصيل خبره مع الشَّيطان وابتلائه، وما صاحبَ ذلكَ من مبالغاتٍ لا يقبلها العقل في الغالب[2].
قصة أيوب عند أئمة التَّفسير:
عند العودة إلى كتبِ التَّفسير للنَّصِ القرآني؛ لا تجدها تكتفي بالقدر الذي أورده القرآن الكريم، وإنما تجد قصةً مضاعفةً بتفاصيل دقيقة كأنها نزلت شارحة للآياتِ الموجزة التي وردت فيها قصَّة النَّبي أيوب.
فقد ذكر في كثيرٍ من التَّفاسير المفاهيم ذاتها في سِفْر أيوب، وذكروا في بلائه رواياتٍ مختلفات، بأسانيد واهيات، لا يُقامُ لها عند أئمةِ الأثرِ وزن. ولا تُعار من الثِّقة أدنى نَظَر. وأثبتوا جزئياتٍ وتفاصيل لا قيمةَ لها، ولا تتفقُ مع مقام النُّبوة المصان في التُّصور القرآني! وهذا ما جعل مفسِّرًا كابن عاشور – رحمه الله – يصفُ بعضَ الأقوال الواردة في ثنايا قصةِ أيوب في بعضِ كتب التَّفسير بـ”السَّماجة“[3]
وتنبَّه صاحبُ الظِّلال للكمِّ الهائل من الحكايات والمبالغات التي طرزت حول نبي الله أيوب، فقال رحمه الله: “وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة؛ وهي تضرب مثلًا للابتلاءِ والصَّبر. ولكنها مشوبة بإسرائيلياتٍ تطغى عليها”[4].
والأمر الذي أريد أن ألفتَ النَّظر إليه، من خلال هذه الإلماحة، أنَّ روايات العهد القديم ممثلةً بسفْر أيوب، طغت على الروايات التي تناقلها أئمة التفسير عن “وهب ابن منبه” في بيان القصة، الأمر الذي تركَ أثرًا كبيرًا في فهمِ الآيات، وقدرتها على تشكيلِ بعض الأحكام الفقهية كما سيتبينُ لنا.
فعلى سبيل المثال، وقوفهم عند خبر زوجة أيوب، في قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ص 44.
هذه الآية مجملة في القصة، وقد ذهبت التفاسير في الحديثِ عنها إلى مذاهب متعددة، وانطلقت الخيالات تنسجُ قصصًا في سببِ حلفه على زوجه، منها ما هو باطلٌ لا يصحُّ اعتقاده، ومنها ما هو ضعيفٌ واهن.
وأغلب التفاسير تثبتُ أنَّ أيوب عليه السَّلام حلفَ على زوجته، أن يضربها مائة جلدة، وذكروا لذلك أسبابًا، جميعها لا تثبت، ولم تصح. قال القاسمي: “وقد رووا هنا آثارًا في المحلوفِ عليه، لم يصح منها شيء، فالله أعلم به، ولا ضرورةَ لبيانه”[5].
ومع أن هذه الآية لم يثبت فيها شيء صحيح، إلا أنَّ أغلب أئمة التَّفسير – رحمهم الله – استنبطوا منها بعض الأحكامِ الفقهية، ثم ذكروا لها تفريعاتٍ، ومذاهب.
واعتبرها الإمام ابن القيم، أصلٌ في الحيلِ الشَّرعية، قال رحمه الله: “فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثًا، وهو الحزمة من الشَّيء، مثل الشَّماريخ الرطبة والعيدان ونحوها، مما هو قائمٌ على ساق، فيضربها [أي زوجته] ضربةً واحدة”[6].
ثم يقول بعد بيانِ الصورة التي ذكرها، “وهذا تعليمٌ منه سبحانه لعباده للتخلصِ من الآثام، والمخرج من الحرج بأيسرِ شيء وهذا أصلنا في بابِ الحيل، فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلًا“[7].
لكنَّ السؤال: مالذي جعلهم يجزمونَ أنَّ المرادَ في الآية هي زوجته؟
وكيف علموا أنَّ عدد الضَّربات التي حلفَ أن يضربها أيوب مائة جلدة؟
بل، وكيف نجزم أنَّ الآيات تريد هذا المعنى أساسًا، إذ مفهوم الضرب مجملٌ في الآية، فمن الممكن أن يأتي بـ”الضَّربِ في الأرض”، أي: للإتجار وطلبِ الرزق، وهذا مفهومٌ قرآني أصيل[8]. لا سيما إذا أمعنا في سياقِ الآيات كونها ابتدأت في الحديثِ عن شفائه من المرض، ثم عودة أهله، وما بقي إلا قضية الرِّزق، وهذا وجهٌ له حظٌّ من النَّظر لا يُجزم به! ثم إن مفهوم “الحنث” قد يأتي في القرآن بمعانٍ عدة، منها “الإثم، والميلان، ومخالفة المعاهدة أو التعهد، فما المرجح الذي جعل أهل التفسير، يذهبونَ في تفسيرِ الآية على اعتبار أنه حلفَ أن يضربَ زوجته مائة جلدة، فأراد الله أن يخففَ عنه، فأفتاه بهذه الفتوى اليسيرة رحمةً به، بحسبِ زعمهم!
فإن كان المتكأ على ذلك، ما ورد في “سفْر أيوب”، فهل يصحُّ أن تُبنى أحكام فقهية، وتقريرات شرعية، كتقريرهم – مثلًا- أنَّ في الآية “دليلٌ على أنَّ للزوج ضرب زوجته، وأن يحلف ولا يستثني!”[9]، دون دليلٍ واضحٍ من كتابٍ أو سنة؟!
ثم لو تأملنا لوجدنا أنَّ الآية ختمت بقوله تعالى: “إنا وجدناه صابرًا”، فهل يستقيم مفهوم الصبر، مع موقفه من زوجته بأن يجلدها مائةَ جلدة؟! ولو أخذنا في الاعتبارِ الأسباب التي دعته لذلك، لوجدنا أنها ضعيفة لا ترقى لأن يضربَ زوجته بسببها. فلو كان هذا مستبعدٌ من آحادِ النَّاس، فكيف بنبيٍّ يُضرَبُ به المثل في المصابرةِ والصبر.
هذا نموذجٌ لقصةِ نبي الله أيوب عليه السَّلام[10]، وبنائها على مصادرِ العهدِ القديم، والاتكاء على ذلك، بينما يُفترضُ أن يكونَ الفهمُ للقصصِ القرآني من خلالِ القرآن ذاته، بما لا يخرجُ عن مقاصده وغاياته الكبرى، فما كان مجملًا في مكانٍ فُصِّلَ في مكانٍ آخر، والنَّظر في العهدِ القديم يكونُ من بابِ الاستئناس، لا من بابِ الاستدلال كما تقدم، ولو أراد الله أن يفصِّل لفعلَ ذلكَ في كتابه العظيم، لكنَّه آثر الإجمال بما يخدم الغرض، والفكرة، والعبرة، التي سيقت من أجله.
[1] التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، ص 178-179.
[2] ينظر: الكتاب المقدس، سفر أيوب، الإصحاح [1/42]، ص400-420.
[3] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور (23 / 269).
[4] في ظلال القرآن، سيد قطب (6 / 212).
[5] محاسن التأويل، القاسمي (8/246) .
[6] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن القيم الجوزية، (1 /380). والنص موجود أيضًا في التفسير المسمى: “التفسير القيِّم”.
[7] المرجع نفسه (1 /380).
[8] كقوله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20) ) المزمل: ٢٠.
[9] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الألوسي أبو الفضل (23 / 209).
[10] قصة أيوب هنا مجرد نموذج، وليس الغرض هنا بيان القصة، وتفاصيلها، وإنما إشارات فقط بما يخدم فكرة المقال
جزاك الله خير..
كلام جميل ..
كثير من الامور التى نعرفها من ذو الصغار لا اعتقد انها تتناسب ان تكون في سياق واحد من معنى النص القرآني العظيم ..
إشارة وفكرة ممتازة تشكر عليها يا أستاذ خالد، والأجمل فيها أنك نتاولت قصة النبي أيوب عليه السلام مثالا؛ لأنه قد كثرت الأقاويل والتفسيرات حولها كما بينت، وأؤيدك القول في هذه المسألة، لأن تفسيرات ما وراء النص لا بد أن تستند إلى نص مبين يفسر ويوضح، أو أنها لا تتعارض مع مبادئ الشريعة وأحكامها. وفقك الله.