أ. د. زيد بن محمد الرماني*
الحكمة الشائعة تقول: إن لم يكن الكلام من ذهب، فهو على الأقل من فضة. ولذلك يزن بعض الناس كلامهم أو يحرصون على ألا ينفقوا منه أكثر مما ينبغي.
إن الكلمات تُسَكّ كما تُسَكّ العملات، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول. فهي – أي الكلمات – عملة التفكير، ونحن نمتلك منها أرصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة.
وعندما نتفاهم مع أحد فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه، وعندما لا نكون مخلصين فإننا لا ندفع إلا كلامًا زائفًا. وعندما نصف اللغة والنقود معًا بأنهما رصيدان، فإنما نلفت النظر إلى دوريهما في تحقق الفردية.
فهما – اللغة والنقود – قدرة كامنة تجعل تحقق الفردية ممكنًا عن طريق توسيع نطاق الفعل عند مَنْ يمتلكونها، ومن ثم تعينهم على التكيّف مع المجتمع. كذلك تُعدّ الكمبيالة أو السند شيئًا ذا طبيعة لغوية، والكلمات في الواقع لشيء قائمًا في طبيعته. والافتراض الساذج بأن للكلمة معنى متأصلًا فيها إنما هو افتراض يشبه التصور الساذج بأن للنقود قيمة في حد ذاتها.
ولكن الكلمة والعملة كلتيهما لا يمكن أن تكونا على ما هما عليه في الواقع إلا لأن الأمر ليس كذلك.
فهما – الكلمة والعملة – في الأساس أمران اصطلاحيان ويمكنهما أداء وظيفتيهما بفضل تجريدهما، فالأولى أداةٌ لتبادل السلع المعنوية، والأخيرة أداةٌ لتبادل السلع المادية.
وكثيرًا ما نظر إلى تشابه النقود واللغة، المعبر عنه بالترميز في اللغة ذاتها، باعتباره مجرد زخرفة أسلوبية.
ففي بدايات القرن السابع عشر الميلادي على سبيل المثال استعمل ذلك ستيفانو جواتسو، حين قال: التعبيرات والكلمات الأخرى ذات القيمة العظمى وذات القيمة الدنيا تخرج من فم المتكلم تمامًا مثلما تصدر من الخزانة كل أنواع العملات، الذهبية والفضية والنحاسية.
على أن تشبيه الكلمة بالعملة له أيضًا تقليد ممتد زمنيًا باعتباره دليلًا على الارتباط الأصيل بينهما. فجون لوك في كتابه: “مقال في التفاهم الإنساني” حوالي نهاية القرن السابع عشر الميلادي يصف الكلمات باعتبارها القاسم المشترك للتجارة والاتصال.
وفي الفترة نفسها تقريبًا يظهر في كتابات ليبنتز مجاز التبادل، الذي يربط بين النقود واللغة، حين يقول: من خلال محاولتنا الوصول للاستنتاج أو الخلاصة، فإننا كثيرًا ما نستعمل الكلمات بدلًا من الأفكار والأشياء، كما لو كانت شفرات أو فيشات، ومن ثم نصل في النهاية للب الموضوع. من هذا يتضح لنا مدى أهمية أن تكون الكلمات -بوصفها قوالب للأفكار وبوصفها كمبيالات إذا جاز التعبير- مفهومة ومتميزة وسهلة المنال ومتوافرة وشائعة ومرضية.
وبعد عقود قليلة فقط أوضح ديفيد هيوم في كتابه: “رسالة في طبيعة الإنسان” أن تشبيه الكلمة بالعملة أكثر من مسألة تفسير مجال معين للخبرة الإنسانية بطريقة مجازية باستعارة أدوات مفاهيمية من مجال آخر، ولكن هذا التشابه -من وجهة نظره- قد وجد في التطور المتوازي للغة والنقود وفي وظائفهما في المجتمع، حيث يقول: وبصورة متماثلة تأسست اللغات بالتدريج عن طريق الأعراف والمواضعات الإنسانية دون أيّ تعهد أو تعاهد. وبصورة متماثلة أيضًا الذهب والفضة أصبحا المعيارين العامين للتبادل، واعتبرا مقابلًا كافيًا لما يساوي قيمتهما مائة مرة.
ويتحدث يوهان جورج هامان قائلًا: النقود واللغة موضوعان يتسم البحث فيهما بدرجة من العمق والتجريد توازي عمومية استعمالهما. وهما مرتبطان أحدهما بالآخر بصورة أقوى مما هو متصور، ونظرية أحدهما تفسِّر نظرية الآخر، ويبدو أنهما يقومان على أسس مشتركة. فثروة المعرفة الإنسانية كلها تقوم على تبادل الكلمات. ومن ناحية أخرى فإن كل كنوز الحياة المدنية والاجتماعية ترتبط بالنقود بوصفها معيارها العام.
ولقد كان لقول أنطوان دي رفارول ما يبرِّره حين كتب قبل سنوات من قيام الثورة الفرنسية، وكانت الأنشطة المجتمعية قد أصبحت تمارس بالفعل عبر واسطة النقود: الكلمات مثل النقود، كانت لها قيمة محدودة قبل أن تعبِّر عن كل أنواع القيمة.
إن الأوراق النقدية والكلمات تجسِّد العلاقة المثيرة بين تفرد الشيء المادي وعمومية الأمر المجرد، وهي -الأوراق النقدية والكلمات- بسبب هذا فقط يمكنها أن تؤدي وظيفتها بوصفها أداة للتبادل.
ومع أن النقود واللغة قد رُبط بينهما مجازيًا بصورة كافية، فإن التشابه الخاص فيما بينهما كثيرًا ما يُغفل.
فإيكو – مثلًا – يساوي بين الكلمات والعملات باعتبارها علامات لها نموذج مجرد أولي لم يفطن إليه أحد قط، ولكنه في الوقت نفسه يؤكد على الفرق بين الاثنتين، وهذا الفرق يقوم -كما يزعم- على أساس أن العملات، وليس الكلمات، لها قيمة سلعية، وهو يتجاهل بوضوح كلًا من الجانب المادي للكلمات والجانب المعنوي للعملات.
وهناك فرق آخر لا يمكن إنكاره بين التصرف في الكلمات والتصرف في النقود، فالاحتفاظ بذكرى ورقة بمائة ريال ليس مثل الاحتفاظ بذكرى كلمة.
فما دمت أحتفظ بذكرى كلمة في ذاكرتي فإنني أستطيع أن أنفقها مرة ومرة، ولكن الاحتفاظ بالريالات في ذاكرتي لا يساعدني على دفع قيمة فواتير وأقساط الشهر التالي.
بَيْد أننا نؤكد على أن الجانب المادي للكلمات ليس أقل أهمية من الجانب المادي للنقود سواء أكانت عملات أم أوراقًا نقدية.
يقول فلوريان كولماس في كتابه: “اللغة والاقتصاد” مؤكدًا ذلك: يمكن أن تكون للكلمات قيمة سلعية، فلو لم يكن الأمر كذلك، لما استطاعت طائفة من كل صائغي العبارات الرنانة أن تكسب رزقها.
مع أن هذا ليس هو المثال الوحيد للكلمة التي يُدفع لها مقابل عندما يكون للكلمات ثمن يُدفع.
وحقيقة الأمر: إن بين النقود واللغة علاقات ذات أهمية فيما يتعلق ببناء المجتمع، فالنقود تؤدي وظائف اتصالية، واللغة تؤدي وظائف اقتصادية.
ختامًا أقول إننا ما لم نفهم اقتصاديات اللغات، فإننا لن نتمكن من فهم تطور الخريطة اللغوية للعالم. ومن ناحية أخرى فإن الفهم الصحيح لبعض التطورات الاقتصادية يعتمد على قبول الكلمات بقيمتها الاسمية، بمعنى أن نتعامل مع اللغة بوصفها عاملًا اقتصاديًا مستقلًا بذاته…
- أ. د. زيد بن محمد الرماني، مستشار اقتصادي، وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
لا أدري هل يمكننا هنا ربط اللغة في هذا الموضوع بمسألة صياغة العقود التجارية؟
وكذلك الأمر هل ما قاله ابو إسحاق الألبيري في قصيدته التائية المشهورة يدخل تحت هذه المسألة؟ :
وكنز لا تخاف عليه لصاً… خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه… وينقص إن به كفاً شددتا..
احسنتم دكتور
اللغة لها اثر كبير في حياتنا، فمن المنظور الاقتصادي تكون اللغة عامل مهم يساعد على جذب المستهلكين، وكبار التجار الذين برعوا في اعمالهم كانت لهم عناية بعدة لغات وليس لغة واحدة، وتكمن ايضا ضرورة فهم ( اللغة الاقتصادية ) ان صح التعبير هناك عدة مصطلحات تطلق على المفهوم الواحد وتختلف من بلد الى اخر او يختص به مجمتع من المجتمعات دون غيره.