- ويليام ديفيز
- ترجمة: محمود مصطفى الحكيم
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: سهام سايح
في وقت متأخر بعد ظهر الجمعة في نوفمبر 2017 استُدعيت الشرطة إلى سيرك أكسفورد في لندن لأسبابٍ وُصفت أنّها (ذات صلة بالإرهاب). تم إخلاء محطة مترو سيرك أكسفورد، مما سبب تدافعًا بين الناس عند أبواب الخروج. كان هناك تقارير عن إطلاق أعيرة نارية، وظهرت صور ومقاطع فيديو على الإنترنت لجموع تفرّ من المنطقة، بينما يتجه ضباط الشرطة المدججون بالسلاح في الاتجاه المعاكس. ووصف شهود العيان الصراخ والفوضى، مع تجمع الناس داخل المحال التجارية من أجل السلامة.
وسط هذا الذعر، لم يكن مصدر هذا التهديد واضحًا، أو ما إذا كان هناك عدد من الهجمات نُفذت في وقت واحد، كما حدث في باريس قبل عامين.
اقتحمت الشرطة المسلحة متجر سيلفريدج بينما صدرت تعليمات للمتسوِّقين بإخلاء المبنى. وبداخل المتجر في ذلك الوقت، كان هناك نجم البوب أولي مور، الذي غرد لمتابعيه على تويتر (والبالغ عددهم 8 ملايين):
(اللعنة لكل من يخرج من سيلفريدج الآن، هناك طلقات نارية الآن). وبينما كان المتسوِّقون يتوجهون للخارج، كان هناك آخرون يندفعون للداخل على عجالة في نفس الوقت، ممّا أدى لتدافع بين الناس.
وجود الهواتف الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعية أدى لتسجيل هذا الحدث بشكل كامل، ومناقشته، ومناقشة في وقت حدوثه. حاولت الشرطة تهدئة الذعر باستخدام تغريداتها على تويتر، ولكن قدرة هذا على موازنة إحساس الخطر الذي اجتاح المتابعين الآخرين كانت أقل. غرد القائد السابق لرابطة الدفاع الإنجليزية اليمينية المتطرفة تومي روبنسون بأنّ هذا (يبدو وكأنّه هجوم جهادي آخر في لندن).
كشفت جريدة الديلي ميل عن تغريدة بريئة قبل عشرة أيام، والتي وصفت شاحنة متوقفة على رصيف في شارع أكسفورد، واستخدمت هذه التغريدة لسبب غير مفهوم كأساس لقولها أنّ هناك (إطلاق أعيرة نارية) مع تطويق ضباط الشرطة المسلحين لمحطة سيرك أكسفورد، بعد أن انجرفت الشاحنة ناحية المارة.
لم تكن وسائل الإعلام تورد الكثير من الحقائق؛ لأنّها تعمل على مزامنة انتباه ومشاعر جمهور المشاهدين.
بعد حوالي ساعة من الإخلاء الأولي لسيرك أكسفورد، أصدرت الشرطة بيانًا قالت فيه أنّ (الشرطة حتى الآن لم تجد أثرًا لمشتبه فيهم، أو أدلة على إطلاق نار، أو خسائر في الأرواح). ثم تبين لاحقًا، أنّ 9 أشخاص كانوا بحاجةٍ للعلاج في المشفى لإصابتهم بحالة من الذعر، ولم يتم اكتشاف أي شيء أكثر خطورة حتى الآن. بعد بضع دقائق غردت هيئة مترو لندن أنّ المحطات أعيد فتحها، والقطارات تعمل بشكلٍ طبيعي. بعد ذلك بوقت قليل توقفت خدمات الطوارئ رسميًا، ولم يكن هناك أسلحة أو إرهابيون.
ما الذي الحدث؟ تلقت الشرطة اتصالات عديدة من أفراد من عامة الناس يُبلغون عن إطلاق نار في مترو الأنفاق والشارع، ووصلت في غضون 6 دقائق على استعدادٍ للرد. لكن العنف الوحيد الذي شهده أي شخصٍ بعينه كان اشتباكًا على رصيف مزدحم وقت الذروة، حيث ارتطم رجلان ببعضهما البعض، وتبادلا الضربات. في حين أنّه لم يتضح على الإطلاق ما الذي سبب انطباعًا بوجود طلقات نارية، المشاجرة كانت كافية لدفع الجمع المحيط للتراجع في خوفٍ فجأة، مسببين موجة من الحركة السريعة، التي تضخمت بعد ذلك، مع انتشارها على طول الرصيف المزدحم، وعبر المحطة.
وبالنظر لوقوع هجومين إرهابيين ناجحين في لندن، في وقتٍ سابق من هذا العام، وإحباط الشرطة لسبع عمليات أخرى، فليس من الصعب فهم كيف انتشر الذُعر في مثل هذه الأماكن المحصورة.
مثل هذه الاضطرابات الوهمية حدثت من قبل، حيث شهد مطار جون إف كينيدي في نيويورك حدثًا مماثلاً العام الماضي. في ذلك الحدث اندلعت حوادث تدافع في محطات وصول عديدة، مع تقارير على تويتر عن (قاتل نشط) طليق. أحد التفسيرات هو أنّ الحشد بدأ في طرق الأعمدة المعدنية التي تُنظم خطوط الركاب، وكان الصوت التراكمي لأولئك الذين يضربون الأرضية يشبه إطلاق النار.
حادثة بسيطة، أو سوء فهم يبالغ فيه بسرعة، والفضل في ذلك لمزيجٍ من خيالات الارتياب، ووسائل التواصل الاجتماعي.
بعد حادثة سيرك أكسفورد، طالب أصحاب المتاجر المحلية بتركيب نظام مكبرات صوت في الشوارع المحيطة على غرار (نظام طوكيو)، للسماح للشرطة بالتواصل مع الحشود بأكملها في وقتٍ واحد. اكتسبت الفكرة زخمًا ضئيلاً ولكنها شخصت المشكلة. حين تتكثف الأحداث بسرعة، وتتأجج المشاعر، يكون هناك غيابٌ مفاجئ لأي نظرة مرجعية للواقع.
في العصر الرقمي، فراغ المعرفة الصعبة يُملأ بسرعة بالشائعات والخيال، والتخمين، وبعضها يتم تحريفه والمبالغة فيه بسرعة ليناسب السرد المُفصل. إنّ الخوف من العنف لا يقل تدميرًا عن العنف الحقيقي، وقد يكون من الصعب إخماده بمجرد أن يصبح طليقًا.
من الناحية الإحصائية فرصة الموت في هجوم إرهابي، أو إطلاق نار جماعي في لندن أو نيويورك ضئيلة للغاية. لكن هذا النوع من النظر الهادئ والموضوعي غير منتشر – ولا يُشكِّل أي إفادة على نحوٍ خاص- للشخص الذي يشعر بالخوف المباشر على حياته. بعد أن ينتهي الذعر يعود الأمر للسلطات السياسية، ومراسلي الصحف، والخبراء، في محاولة التثبت من الحقائق. لكن لا أحد يتوقع من الناس، أن يتصرفوا وفقًا للحقائق في حرارة اللحظة الراهنة، حيث تندفع كتل من الأجساد، وتصرخ من حولهم. عندما تكون الاستجابة السريعة ضرورية= تتولى الغريزة الجسدية زمام الأمور.
أحداث كهذه تُشير إلى شيء حول الأوقات التي نعيش فيها، عندما تكون سرعة رد الفعل لها الأولوية، على التقييمات الحذرة والبطيئة. كلّما أصبحنا أكثر تجاوبًا مع الأحداث ووسائل الإعلام (في الوقت الحقيقي) ينتهي بنا الأمر حتمًا إلى وضع مزيدٍ من الثقة في الإحساس والعاطفة أكثر من الأدلة.
تحظى المعرفة اليوم بتقدير أكبر لسرعتها وتأثيرها أكثر من موضوعيتها، وغالبًا ما تنتقل الأكاذيب العاطفية أسرع من الحقيقة.
في حالات الخطر الجسدي حيث يكون الوقت جوهريًا يكون التفاعل السريع منطقيًا. لكن تأثير البيانات في (الوقت الحقيقي) يمتد الآن إلى ما هو أبعد من المسائل الأمنية. الأخبار، والأسواق، والصداقات، والعمل، تنخرط في تدفقٍ متواصل للمعلومات جاعلةً من الصعب التراجع وإنشاء صورة أكثر موثوقية لأي منها. والتهديد الكامن في هذا هو أنّ الأوضاع السلمية بشكل آخر قد تُشعر بالخطورة، حتى تصبح في نهاية المطاف كذلك.
أُسس العالم الحديث على ثنائيات متقابلة، استهل كل منها العمل في منتصف القرن السابع عشر: ثنائية العقل والجسد، والحرب والسلام. هذه الثنائيات تضعف تدريجيًا منذ أكثر من مائة عام.
وكما سنرى، فإنّ صعود علم النفس والطب النفسي في أواخر القرن التاسع عشر جعل العقل والجسد أقرب لبعضهما البعض، ممّا يدل على كيفية تأثر أفكارنا بالاندفاعات العصبية والمشاعر. وكان اختراع القصف الجوِّي في أوائل القرن العشرين يعني أنّ الحرب أصبحت تشتمل على تقنيات لإفزاع السكان المدنيين والسيطرة عليهم، متجاوزة بذلك حدود القتال.
هاتان السمتان – العقل والجسد والحرب والسلام- يبدو أنّهما فقدا مصداقيتهما تمامًا، ونتيجةً لذلك نشهد صراعًا يتطفَّل على الحياة اليومية.
منذ تسعينيات القرن العشرين كان التقدُّم السريع في علم الأعصاب بمثابة رفع للدماغ فوق العقل باعتباره الطريقة الرئيسية التي نفهم بها أنفسنا، ممّا يدل على أهمية العاطفة، وعلم وظائف الأعضاء لكل عملية صنع القرار. وفي الوقت نفسه، ظهرت أشكال جديدة من العنف حيث تتم مهاجمة الدول من قِبل مجموعات غير دولية، وتتم النزاعات باستخدام وسائل غير عسكرية (مثل الحرب السيبرانية)، ويصبح التمييز بين عمل الشرطة والتدخل العسكري غير واضح. ومع تدفق التكنولوجيا الرقمية للمجتمع؛ أصبح من الصعب تحديد ما ينتمي للعقل، وما ينتمي للجسد، ما هو الحوار السِّلمي؟ وما هو الصراع؟.
في المساحة المُعتمة بين العقل والجسد، والحرب والسلام؛ تكمُن الدول المتوترة: الأفراد والحكومات الذين يعيشون حالة من اليقظة الدائمة والمتشددَّة، معتمدين بشكلٍ متزايد على الشعور وليس الحقيقة. وإن رسم خريطة لتلك الحالة وتحديد أصلها هو مهمة هذا الكتاب.
عندما نتحدث عن الشعور بشيء ما، فإن هذا قد يعني أمرين مختلفين. أولاً: هناك إحساس جسدي، بما في ذلك المتعة والألم، وهو أمر بالغ الأهمية للتنقل عبر بيئتنا، حيث يستقبل نظامنا العصبي أحاسيس من العالم الخارجي لتنسق أجسادنا، وحركاتنا الغريزية. عبقرية شبكتنا العصبية في أنّها تعمل على تيسير الاستجابة الفورية للمعلومات الجديدة، سواء أكانت هذه الاستجابة من أوضاعنا البدنية أو من أجهزتنا الداخلية.
ويدير الدماغ الانطباعات الحسيَّة بسرعة فائقة، ويُقدِّم من بين أشياء أخرى دفاعًا حاسمًا ضد التهديدات الخارجية. الدماغ نفسه عضو معقد، تَعلم تنظيم الانطباعات بمرور الوقت واستخراج الأنماط منها.
وقد لا تعتبر الأحاسيس الفردية كمعرفة، لكن لا غنى عنها كشكلٍ من أشكال البيانات التي نعتمد عليها بشكلٍ دائم.
ثانيًا هناك مشاعر بمعنى العواطف، وهذه هي التجارب التي نستطيع التفكير فيها والتعبير عنها بوعي. لدينا مفردات واسعة لتسمية هذه المشاعر والتعبير عنها. نحن نُظهرها جسديًا في تعبيرات الوجه ولغة الجسد. وتخبرنا بأشياء مهمة عن علاقاتنا وأنماط حياتنا ورغباتنا وهوياتنا. والمشاعر من هذا النوع تَعرض نفسها على أذهاننا حتى أنّنا نلاحظها بالفعل، حتى ولو لم نتمكَّن من السيطرة عليها.
الآن بات من الممكن التقاط المشاعر وتحليلها خوارزميًا (تحليل المشاعر) بفضل البيانات السلوكية التي تجمعها التكنولوجيات الرقمية. ومع هذا، فإنّ مشاعر من هذا النوع ليست موضع ترحيب في كلِّ مكان.
في الحياة العامة، الاتِّهام بأنّك (عاطفي) يعني دلالة ضمنية أنّ شخصًا فقد موضوعيته وأفسح المجال لقوى غير عقلانية.
المشاعر هي الطريقة التي نوجِّه بها أنفسنا، وتُذكرنا أيضًا بالإنسانية المشتركة. قدرتنا على الشعور بالألم والحب أساسية فيما يتصل بالكيفية التي نهتم بها ببعضنا البعض. ولكن كما تظهر قصص سيرك أكسفورد وتدافع جون كيندي، فإنّ غرائز البقاء والأعصاب ليست جديرةً بالثقة دومًا.
يمكن أن تتعارض مشاعر معلومات الوقت الحالي بشكل صارخ مع الحقائق التي يتم إثبات صحتها في وقتٍ لاحق. كما أنّ النوعية الحاسمة للمشاعر – فوريتها وتلقائيتها- يجعلها مضلّلة نوعا ما، ممّا يؤدي لتوليد ردود فعل وخوف مبالغ فيه. لطالما استغل الساسة والشركات عديمة الضمير غرائزنا وعواطفنا، لإقناعنا بتصديق الأباطيل أو شراء أشياء لو تأملنا قليلاً لعلمنا أنّنا لسنا بحاجةٍ إليها.
تؤدي وسائل الإعلام في الوقت الحقيقي عملها عبر تقنيات الهاتف المحمول مؤدِّية بهذا إلى تفاقم الاحتمالات، ممّا يعني أنّنا نقضي المزيد من وقتنا منغمسين في سلسلة من الصور والإثارة، مع وقتٍ أقل للتأمل أو التحليل الهادئ.
خلال القرن السابع عشر أنتج العديد من العلماء الأوروبيين أفكارًا ومؤسسات تهدف لتنظيم المشاعر، على أساس أنّها غير جديرة بالثقة وربّما خطيرة. عالج الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الأحاسيس الجسدية بشكٍ كبير، على عكس المبادئ العقلانية التي تنتمي للعقل. وقال المنظر السياسي الإنجليزي توماس هوبز بأنّ الغرض المركزي للدولة هو القضاء على مشاعر الخوف المتبادل التي من شأنها أن تؤدي إلى العنف. في العصر نفسه، أدخلت المجتمعات الرائدة للتجّار والسادة قواعد جديدة صارمة لكيفية تسجيل انطباعاتهم، والتحدث عنها لتجنب المبالغة والتلاعب بالأرقام وحفظ السجلات العامة. أصبحوا لاحقًا معروفين بالخبراء وقدرتهم على إبقاء المشاعر الشخصية منفصلة عن ملاحظاتهم كانت إحدى سماتهم المميّزة.
هذه الفترة من التاريخ أنتجت لبنات البناء الفكري في العصر الحديث. المفاهيم المعاصرة للحقيقة، والخبرة العلمية، والإدارة العامة، والأدلة التجريبية والتقدم كلها موروثة من القرن السابع عشر. ورفع العقل فوق العاطفة كان منتجًا لحدٍ كبير، والواقع أنّ العالم قد تغير كأثرٍ تابعٍ له.
ومع ذلك، لم تكن المعرفة هي فقط ما نسعى إليه، بل السلام أيضًا. حتى يومنا هذا، فإن الكثير من قيمة الموضوعية في الحياة العامة، كما هو واضح في الإحصائيات أو الاقتصاد يتلخص في أنّها توفر أساسًا لتوافق الآراء بين الناس الذين لا يشتركون إلاّ في القليل. لاحظت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت أنّ (شغف الغرب الفضولي) للـ (موضوعية) يمكن إرجاعه في الأصل إلى السرد الهومري، الذي روى حكايات الحرب من زاوية المراقب الخالي من التحيّز.
المجتمع الذي يعترف بسلطة الحقائق يجب أن يُنشئ أيضًا بعض المهن والمؤسسات التي تتجاوز نزاع السياسة أو المشاعر أو الرأي.
لقد نجح مشروع القرن التاسع عشر وأعطانا النتائج التي نراها اليوم. لم يعد الخبراء والحقائق قادرين على تسوية الحجج كما كان من قبل، كما لم يعد من الممكن عزل المزاعم الموضوعية حول الاقتصاد أو المجتمع أو الجسم البشري أو الطبيعة بنجاح عن العواطف.
في 82% من البلدان حول العالم، أعرب أقلُّ من نصف الناس عن ثقتهم بوسائل الإعلام، وهذا يساهم بشكل مباشر في تزايد التشكيك تجاه الحكومات. يُنظر إلى المؤسسات الحكومية في الاتحاد الأوروبي وواشنطن العاصمة على أنّها مراكز امتياز النُّخبة التي تخدم نفسها وليس الناس.
مثل هذه المشاعر كثيرًا ما يكون لها أعظم قدر من التأثير بين المجتمعات التي تستفيد أيضًا اقتصاديًا من سياسات تلك الحكومات.
بعض المشاعر يكون لها قوة سياسية أكبر من غيرها. فقد تسببت مشاعر الحنين إلى الماضي، والاستياء، والغضب والخوف، إلى تعطيل الوضع الراهن. الانتصارات الشعبوية كما هو واضح في انتصارات دونالد ترامب، وحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وموجة النّعرات القومية في جميع أنحاء أوروبا هي حالات من هذا النوع، وقد تم انتقادها على نطاقٍ واسع بسبب تشويهها للخبرة، وتسخير الاستغلال العاطفي.
لكن هذه مجرد أعراض للمشكلة وليست أسبابًا. سيأتي الزعماء والحملات ويرحلون، لكن الظروف التي مكنتهم ستدوم. يمكننا تتبع الأسباب إمّا بالبحث عن المزيد من الحقائق في هذه الاضطرابات، أو من خلال تشخيص الدوافع الكامنة وراءها. يتبع هذا الكتاب المسار الأخير، جالبًا تاريخ الأفكار إلى حاضرنا المحيِّر، على أمل أن نتمكن من فهمه على نحوٍ أفضل.
هناك حقائق وأرقام مستخدمة على طول الطريق ولكن فقط كنقطة انطلاق لاستكشاف وتفسير الاضطرابات التاريخية، وليس على أنّها الكلمة الأخيرة عن الأشياء.
حجَّتي تتكون من جزأين: الأول يفحص كيف تم تأسيس فكرة الخبرة المثالية في القرن السابع عشر؟ ولماذا بدأت تفقد مصداقيتها، وخاصةً منذ تسعينيات القرن العشرين؟
وبشكل خاص، فإنّ اتساع فجوة التفاوت في الغرب تعني بالعديد من الطرق أنّ النتائج التي ينتجها الخبراء والتكنوقراطيون لا تعكس ببساطة واقعًا حقيقيًا يعيشه الكثير من الناس.
إنّ المؤشرات الموضوعية للتقدم، مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي؛ تخفي التصدعات العميقة داخل المجتمع، وبشكلٍ أساسي هذه الانقسامات ليست اقتصادية وحسب، بل إنّها اكتسبت بعدًا جسديًا ووجوديًا.
تتشكل حيوات الناس بفعل تباين الصحة، ومتوسط العمر المتوقع، والمواجهات مع الألم البدني والنفسي. وينبع التشاؤم بقوة من الأجساد التي تتقدم في العمر بشكلٍ أسرع، وتعاني أكثر.
يمكن للمرء أن يترك القصة هنا، ويرثي ببساطة انحطاط العقل الحديث، كما لو أنّ العواطف سطت على قلعة الحقيقة مثل البرابرة.
يزعم معظم المدافعون الأكثر عنفًا عن العقلانية العلمية أنّ القوى الأجنبية- الكاذبة، والدهماء، متصيّدو الكرملين، أو عامة الناس غير المتعلمين- قد حصلت على قدرٍ أكبر ممّا ينبغي من السلطة، ولابد من إزالتها من الساحة السياسية مرة أخرى.
هذا الرد يتجاهل تطورًا تاريخيًا لاحقًا، الذي لا يقل أهمية في تشكيل العالم الحديث والذي يكتشفه الجزء الثاني من هذا الكتاب.
الرغبة في تسخير العواطف والغرائز الجسدية لأغراض سياسية لها أيضًا تاريخ طويل، وتنتج مراكزها الخاصة لسيطرة النخبة، ولكن مع اختلاف واحد مهم: وهو أنّها تعمل في خدمة الصراع لا السلام.
في ذروة عصر التنوير حيث بدا أنّ العقل ينتصر مرة واحدة وللأبد، أظهرت الثورة الفرنسية القوة الهائلة التي يمكن أن تطلقها المشاعر الشعبية. وكانت القدرة على حشد الناس العاديين في كتلة واحدة بمثابة الإلهام الذي سرعان ما سيسخر منه نابليون.
تُنتج الحرب الحديثة ضبابًا من المشاعر والمعلومات المضلّلة والخداع والسرِّية. فهي تعبئ السكان المدنيين وخدمات المخابرات بطرقٍ مبتكرة.
أدى صعود الحرب الجوية إلى أن مشاكل معنويات المدنيين وصنع القرار في الوقت الفعلي اكتسبت إلحاحًا كبيرًا، الأمر الذي أدى لإنتاج أساليب جديدة لإدارة المشاعر العامة واستشعار التهديدات القادمة.
هذا الجنون الارتيابي هو ما أدى لاختراع الكمبيوتر الرقمي ولاحقًا الإنترنت. تولي الحرب أهمية استراتيجية كبيرة للشعور بكل ما تحمله الكلمة من معنى: النوع الصحيح من المشاعر يحتاج لإطلاق شرارة بينما حركات العدو وخططه تحتاج للاستشعار في أسرع وقتٍ ممكن. فالمعلومات تُقَيّم لسرعتها كما تقيّم لمصداقيتها.
هذه طريقة جديدة تمامًا للتعامل مع مسألة الحقيقة والتي غالبًا ما تتعارض تمامًا مع المثالية العلمية الأصلية للعقل والخبرة.
منذ أواخر القرن التاسع عشر، سعى القوميون لحشد التعبئة الشعبية من خلال استحضار ذكريات الحروب الماضية والحماس للحروب المستقبلية. ولكن حدث شيء آخر مؤخرًا، وهو ما أدى لتغذية روح الحرب بهدوء في الحياة المدنيّة، ممّا جعلنا نتقاتل بشكل متزايد.
أصبح التركيز على المعرفة (في الوقت الفعلي) التي كانت تتمتع بامتياز في أصيل الحرب سمة من سمات عالم الأعمال، وخاصة في وادي السليكون. تصبح سرعة المعرفة وصنع القرار حاسمة، ويتم تهميش الإجماع في هذه العملية.
فبدلاً من الثقة في الخبراء، وعلى أساس أنّهم محايدون وخارج المعمعة، أصبحنا نعتمد على الخدمات السريعة، ولكن وضعها العام غير واضح. على سبيل المثال، وجد استطلاع أجري في عام 2017 أنّ عدد الأشخاص الذين يرغبون في الثقة في محركات البحث أكبر من عدد من يثقون في المحرِّرين من البشر.
إنّ وعد الخبرة، الذي تم تقديمه لأول مرة في القرن السابع عشر، هو تزويدنا بنسخة من الواقع يمكننا جميعا الاتفاق عليها وعلى النقيض من ذلك، فإن وعد الحوسبة الرقمية هو زيادة الحساسية للبيئة المتغيرة إلى أقصى حد. ويصبح التوقيت كل شيء. فالخبراء يُقدِّمون الحقائق؛ ويعرض جوجل وتويتر المواضيع السائدة.
ومع انحسار الرؤية الموضوعية للعالم، فقد حلّ محلها الحدس فيما يتعلق بالطريقة التي تتجه بها الأمور الآن. وتُقدِّم هذه الحالة العصبية قدرًا أعظم من التحفيز العاطفي والحساسية، ولكنها لنفس السبب مزعجة ومقلقة للأوضاع السلمية. وفي بعض الظروف، يمكن أن يولد الصراع والاضطراب من لا شيء. وفي الوقت نفسه، يكمن السؤال في خلفية من قد يسعى إلى إثارة مشاعر معينة ولماذا؟.
الخطر الأعظم لهذا الوضع هو الذي حدّده هوبز في القرن السابع عشر. إذا لم يشعر الناس بالأمان، فلا يهم ما إذا كانوا آمنين بشكل موضوعي أم لا؛ سيتعاملون في النهاية مع الأمور بأنفسهم.
إخبار الناس بأنّهم آمنون سيكون ذا قيمة محدودة إذا شعروا بأنّهم في حالات خطر. لهذا السبب، علينا أن نأخذ مشاعر الناس على محمل الجدّ كقضايا سياسية، وليس فقط استبعادها ببساطة باعتبارها غير عقلانية. فقد سيطرت دول بأسرها على العوالم الفردية والجماعية من خلال الشعور.
لسنا مضطرين إلى التّحدث بلغة (حرب الثقافة) أو تبنّي خطاب عنيف من أجل الاعتراف بأنّ السياسة أصبحت بشكل متزايد مؤطرة ومليئة بعبارات شبه عسكرية. المهمة السياسية هي أن نشعر أنّنا في طريقنا نحو سبل أقل ميلاً إلى جنون الشك والاضطهاد للربط فيما بينها.
الشعبوية تشكل تهديدًا، ولكنها تحتوي أيضًا على فرص. ما أنواع الفرص؟ وكما سأكشف، فإنّ العديد من القوى التي تحوّل الأنظمة الديمقراطية اليوم تنبع من جوانب من الحالة الإنسانية التي تكمن عميقًا في نفوسنا وأجسادنا، بما يتجاوز الأمور الواقعية: الألم الجسدي، والخوف من المستقبل، والشعور بفنائنا، والحاجة إلى الرعاية والحماية.
قد تبدو سمات الإنسانية هذه مظلمة قليلاً، بل ومخيفة، لكنها أيضًا أشياء نشترك فيها. عندما يصبح من الصعب إنشاء إجماع واسع النطاق من خلال الحقائق وشهادة الخبراء، قد نضطر إلى التعمق في ذواتنا العاطفية والجسدية بحثًا عن عالم مشترك. إذا كان أولئك الملتزمون بالسلام غير مستعدين للقيام بهذا التنقيب، فإن أولئك الملتزمين بالصراع سوف يفعلون ذلك بسعادة، بدلاً منهم.
عندما يكون العقل نفسه في خطر، هناك غريزة مفهومة لمحاولة إحياء أو إنقاذ شيء من الماضي. السؤال هو ماذا؟. ما هو الشيء العظيم في تلك الابتكارات والثورات في أوروبا في القرن السابع عشر على أي حال؟.
لقد أصبح من قبيل الابتذال الاحتفال بالعنف الفردي، والعقلانية الباردة والشجاعة التي يتحلى بها الرواد العلميون في البحث عن الحقيقة. ولكن في عصرنا الحالي، عندما يتم تنفيذ الذكاء والحساب بشكل أسرع وأكثر دقة بواسطة الآلات مقارنة بالناس، فإنّ الأمر يحتاج إلى بديل مثالي.
لعل الفضيلة الكبرى التي تتسم بها الطريقة العلمية ليس أنّها ذكية (وهي الآن سمة مميزة للهواتف والمدن والثلاجات) بل إنّها بطيئة وحذرة. ربّما لا نحتاج إلى مزيد من الذكاء في الوقت الحالي، ولكن سرعة أقل والمزيد من الرعاية والتأني في تفكيرنا وشعورنا.
في نهاية المطاف، قد تكون المشاعر (بما في ذلك الغضب) معقولة إلى حدٍ كبير، إذا مُنحت الوقت للتعبير والاستماع. على العكس من ذلك، يمكن أن يكون الذكاء المتقدم غير معقول تمامًا عندما يتحرك بسرعة متحدّيًا أي إمكانية للحوار.
الأنظمة الديمقراطية تتحوّل الآن بفعل قوة المشاعر التي لا يمكن تجاهلها أو عكسها. وهذا هو واقعنا الآن.
لا يمكننا عكس التاريخ، ولا يمكننا التحايل عليه؛ يحتاج هذا العصر التاريخي إلى أن يمر بحكم ورعاية غير عاديين. وبدلاً من تشويه سمعة المشاعر في مجتمع اليوم، نحن بحاجة إلى تحسين الاستماع إليها والتعلم منها.
بدلاً من التحسّر على تدفق العواطف إلى السياسة، يجب أن نقدِّر قدرة الديمقراطية على إعطاء صوت للخوف والألم والقلق الذي قد يتم تحويله في اتجاهات أكثر تدميرًا. إذا أردنا أن نتحرك خلال الحقبة الجديدة، ونعيد اكتشاف شيء أكثر استقرارًا إلى ما هو أبعد من ذلك، فيتعيّن علينا في المقام الأول أن نفهم هذا.
اقرأ ايضاً: الشعبَوية الملامح والتقاطعات
لا يمكننا عكس التاريخ فعلا