- فيليب جوف
- ترجمة: سمية محمد يسري
- تحرير: إبراهيم البابطين
لا يمكن للعلم كما نعرفه اليوم أن يوضح ماهية الوعي الإنساني، ولكن ثورة ما قادمة.
إن إيجاد تفسيرٍ لكيفية انبثاق شيء معقد كالوعي الإنساني من كتلة رمادية من الأنسجة تشبه الهلام هو بلا شك أعظم التحديات التي تواجه العلم اليوم. فالمخ عضو معقد بشكل غير عادي، يتكون من 100 مليار خلية تعرف بالنيورونات كل واحدة منها متصلة بعشرة آلاف خلية أخرى مكوّنةً بذلك عشرات المليارات من الوصلات العصبية.
لقد أحرزنا تقدما كبيراً في فهم نشاط الدماغ وكيف أنه يؤثر بشكل ما في السلوك الإنساني. ولكن الأمر الذي لم يستطع أحدٌ حتى الآن أن يجد له تفسيراً هو كيف ينتج عن هذا النشاط الأحاسيس والمشاعر والخبرات؛ كيف لمرور الإشارات الكيميائية والكهربائية من خلال النيورونات أن ينشأ عنه إحساس بالألم أو شعور بالغضب.
يزداد الشك دائماً في أن الطريقة العلمية التقليدية لن تكون قادرة أبداً على إجابة هذه الأسئلة. ولحسن الحظ، هناك اتجاه بديل قد يكون بإمكانه أن يجعلنا قادرين في نهاية المطاف على فك اللغز.
لمدة طويلة من القرن العشرين، كان التساؤل عن عالم الوعي الداخلي الغامض أمراً محرماً، فقد كان يعتبر موضوعاً غير مناسباً لأن تتم مناقشته نقاشاً “علمياً جاداً”. اختلفت الأمور كثيراً، وهناك اتفاق كبير هذه الأيام على أن معضلة الوعي هي مسألة علمية حقيقية. ولكن كثيراً من الباحثين في هذا الأمر يقللون من شأن هذا التحدي باعتقادهم أننا نحتاج فقط لأن نستمر في فحص التركيب الفيزيائي للمخ حتى نستطيع تفسير انبثاق الوعي منه.
إن معضلة الوعي -على أي حال- مختلفة جذرياً عن أي معضلة أو مسألة علمية أخرى. أحد أسباب ذلك هو أن الوعي خفي لا يُرى، فلا يمكنك أن تنظر في دماغ أحدهم فترى أحاسيسه وما يعتريه من مشاعر. ولذلك إذا تجاهلنا المعلومات التي يرويها البشر عما يعتريهم من أحاسيس ومشاعر وما يدور في عقولهم لن يكون لدينا أي أساس يمكننا من افتراض نظرية تخص الوعي على الإطلاق.
لقد اعتاد العلماء على التعامل مع الأمور غير المُشاهدة. الإلكترونات -على سبيل المثال- أصغر من أن تُرى. ولكن العلماء يفترضون غير المرئي حتى يكون بإمكانهم تفسير المرئي كالبرق أو مسارات البخار في السحاب. ولكن في الحالة الفريدة للوعي، الشيء الذي يراد تفسيره غير مرئيّ أيضاً. نحن نعلم بوجود الوعي ليس من خلال التجارب العلمية ولكن من خلال إدراكنا لما يعترينا من أحاسيس ومشاعر.
كيف يمكن للعلم أن يفسّر ماهية الوعي؟
عندما نتعامل مع بيانات ما نلاحظ فإننا نستطيع إجراء بعض التجارب لنختبر ما إذا كان ما نلاحظ يتماشى مع النظرية التي افترضناها أم لا. ولكننا عندما نتعامل مع البيانات غير المرئية للوعي فإن هذه الطريقة لا تصبح فعالة. إن أفضل ما يمكن للعلماء فعله في هذه الحالة هو أن يراقبوا العلاقة بين المشاعر غير المرئية والعمليات المرئية في الدماغ عن طريق تصوير أدمغة البشر في الأوقات التي تعتريهم تلك المشاعر.
وبهذه الطريقة يمكننا أن نقول على سبيل المثال أن الإحساس غير المرئي بالجوع مرتبط بنشاط مرئي في منطقة تسمى (الوطاء) في الدماغ. ولكن تجميع عدد من مثل هذه العلاقات لا ينشأ عنه نظرية توضح ماهية الوعي. ما نريد أن نصل إليه في النهاية هو السبب الذي يجعل هناك ارتباطاً بين العالم الداخلي والنشاط الدماغي. لماذا يحدث هذا التغيير في الوطاء عندما يشعر الانسان بالجوع؟
في الحقيقة، لا يجب أن نندهش من أن الطريقة العلمية المتفق عليها لا تستطيع التعامل مع الوعي، وذلك لأن العلم كان مصمماً منذ البداية وبشكل واضح كي يتعامل مع كل شيء عدا الوعي، كما أوضحت أنا في كتابي الجديد، خطأ جاليليو: مبادئ لعلم جديد للوعي.
قبل مجيء جاليليو جاليلي “مؤسس العلم الحديث” اعتقد العلماء أن العالم المحسوس مملوء بصفات معنوية كالألوان والروائح، ولكن جاليليو أراد أن ينشئ تعبيراً كمّياً خالصاً يصف العالم المحسوس، لذلك افترض أن هذه الصفات ليست موجودة بالفعل في العاَلمِ المحسوس بل في الإدراك أو الوعي والذي اعتبر أنه خارج مجال العلم.
تشكل هذه الرؤية للعالم الخارجي خلفية العلم حتى الآن. و إذا استمررنا في العمل في هذا الإطار فإن أفضل ما يمكننا فعله هو أن ننشيء ارتباطات بين العمليات الكمية للمخ التي نراها وبين الخبرات المعنوية التي لا نراها بلا طريق لتفسير كيف يقترنان.
العقل مادة
أنا أعتقد أن هناك طريقاً للتقدم لحل هذا اللغز، من خلال طريقةٍ في التفكير ترجع جذورها إلى العشرينيات من القرن الماضي على يد الفيلسوفين برتراند راسل وآرثر إيدينجتون حيث كانت نقطة انطلاقهما أن العلم الفيزيائي لا يخبرنا حقيقةً ما هي المادة.
هذا قد يبدو غريباً جداً، ولكنه ظهر بالفعل أن الفيزياء تقتصر على تفسير سلوك المادة. فعلى سبيل المثال للمادة كتلة وشحنة، وخصائص أخرى ينظر إليها في إطار كونها سلوكاً لها- ما بين انجذاب وتنافر ومقاومة وعجلة. لا يمكن للفيزياء أن تخبرنا أي شيء عما يطلق عليه الفلاسفة ” الطبيعة الجوهرية للمادة” أي: كيف هي في ذاتها.
في ذلك الوقت، بدا أن الرؤية العلمية للعالم تحوي فراغاً كبيراً- حيث أن الفيزياء تتركنا على غير هدى في ما يخص حقيقة المادة. وكان ما اقترحه راسل وإدينجتون هو أن نملأ هذا الفراغ بالوعي أو الإدراك.
ينتج عن هذا نوع من “النفسانية الشاملة” وهو توجه فلسفي قديم يقضي بأن الوعي جزء لا يتجزأ من العالم المحسوس وصفة حالّة فيه. ولكن “الموجة الجديدة” من “النفسانية” ينقصها الجزء الخارق للعادة الموجود في الأشكال السابقة منها، فهي تتحدث عن المادة فقط- لا شيء روحاني أو خارق للعادة- ولكن المادة فيها توصف من منظورين. يصف العلم الفيزيائي المادة “من الخارج” بالنظر إلى سلوكها، و “من الداخل” باعتبارها تتكون من شكل من أشكال الوعي.
هذا يعني أن العقل مادة، وأن أجزائه البدائية تحوي بشكل مدهش أشكالاً أولية من الوعي أو الإدراك. قبل أن تضرب بهذا الكلام عرض الحائط فكر في الآتي: قد يختلف الوعي في درجة تعقيده فلدينا ما يجعلنا نعتقد أن ما بُذر في الحصان من إدراك أو وعي يعد أقل تعقيداً من ذلك الذي في الإنسان. وأن ما بُذر في الأرنب من ذلك هو أقل تعقيداً من ذلك الذي في الحصان. وكلما كانت الكائنات أكثر بدائية كان هناك بعض المواضع التي يختفي فيها الوعي فجأة وقد يتلاشى ولكنه لا يختفي بشكل كامل مما يعني أن الإلكترون مثلاً لديه عنصراً من الوعي متناهي في الصغر.
ما تقدمه لنا “النفسانية” هو طريقة بسيطة وذكية لدمج الوعي والإدراك في رؤيتنا العلمية للعالم الخارجي. ولكن ما تفترضه هذه النظرية لا يمكن اختباره، فالطبيعة غير المرئية للوعي تقتضي أن أي نظرية تخصه تتخطى حدود مجرد إقامة علاقات وارتباطات ليست قابلة للاختبار. ولكنني أعتقد أن هذا يمكن تبريره باعتبار أنها قدّمت أفضل تفسير لما نحن بصدد الحديث عنه.
فالنفسانية هي أبسط نظرية تقدم سيناريو مقنعاً لموقع الوعي من المشهد العلمي، بينما لا يقدم المنهج العلمي الحالي أي نظرية على الإطلاق- فقط علاقات- فإن البديل التقليدي لادعاء أن الوعي مركب في الروح يؤدي إلى صورة مفككة من الطبيعة حيث ينفصل العقل عن الجسد. والنفسانية تتجنب التطرف في كلا الاتجاهين ولهذا السبب فإن بعض علماءنا الرواد في علم المخ والأعصاب يتبنون هذا الاتجاه لبناء علم جديد للوعي.
أنا متفائل بأننا يوماً ما سوف يكون لدينا علم للوعي ولكنه لن يكون كالعلم الذي نعرفه اليوم. لا يتطلب الأمر أقل من ثورة علمية وهي بلا شك في طريقها الآن.