- تأليف: تيري إيغلتون
- مراجعة: نايفة العسيري
- تحرير: عبد الله الهندي
المؤلف والكتاب:
تيري إيغلتون: ناقد ومنظّر أدبي، وباحث مرموق في حقل الدراسات الثقافية، ولد عام 1943م، من أصول إيرلندية، ولا يزال أستاذًا في جامعة لانكستر البريطانية، عمل في جامعات إكسفورد ومانشستر، ونشر أكثر من أربعين كتابًا أَثْرَتِ النظرية النقدية الاجتماعية والأدبية. عُرف بآرائه المستقلة في نقد الحداثة وما بعدها، كما عُرف بغزارة إنتاجه مع جودته وسعة تأثيره، فهو كاتب حيوي سيّال، يقول: «لطالما تظاهرت -مدفوعًا بحيرتي وارتباكي- بأنني أعمل على إنجاز كتاب واحد بعينه، في الوقت الذي أكون منشغلًا بإنجاز ستة كتب تنتظر على لائحة الإنجاز اليوميّ».
كتابه [الثقافة] يأتي تاليًا لكتابه [فكرة الثقافة]، وهما يبحثان مفهوم الثقافة بمنظور فكري اجتماعي نقدي، إلا أن كتاب الثقافة يعد بحثًا تاريخيًا اجتماعيًا أنثربولوجيًا مركبًا في مفهوم الثقافة، لذا كان أقرب في أسلوبه إلى القارئ، خاصة حين يمزج المؤلف أفكاره بنكهة فكاهية تقرّب الفكرة حين تشرّحها السخرية، ويؤكد -دومًا- فكرته: «أن حسّ الفكاهة يمكن أن يحافظ على التجانس والطواعية في روح المرء، ويجعلها أكثر قدرة على إدامة روح التواصل مع الآخرين».
عتبات الكتاب:
يبدأ الكتاب -بعد مقدمة المترجمة- بتعريف بالمؤلف، وحوار معه منشور في مجلة تصدر عن جامعة بيل الأمريكية، بمناسبة صدور كتاب [الثقافة] فكان عتبة ثانية -بعد عتبة الصفحة الأولى- جملة: «لو لم يكن تيري إيغلتون موجودًا لكان من الضروري اختراعه» لسايمون غريتشلي، ولا يهم إن كانت العتبات من دار النشر أو المترجمة؛ المهم أنها تؤدي الهدف نفسه: مزيد إجلال للمؤلف وللكتاب.
فهل يستحق إيغلتون تلك المكانة الخاصة في نفوس خاصة الخاصة من القراء؟ القارئ المحايد الذي ينفر من العتبات المؤثرة ربما لا يملك إلا أن يقول: نعم يستحق.
الكتاب في خمسة فصول منظّمة متجانسة: الثقافة والحضارة، انحيازات ما بعد حداثية، اللاوعي الاجتماعي، رسولٌ للثقافة، من هيردر إلى هوليود، ثم حصيلة ختامية بعنوان: غطرسة الثقافة.
مفاهيم معقدة:
في الفصل الأول [الثقافة والحضارة]: يشير المؤلف إلى صعوبة مفردة «الثقافة» وأنها شديدة التعقيد، فهي الثانية أو الثالثة بين الكلمات الأعقد في اللغة الإنجليزية؛ فقد تعني: تراكم العمل الفني والذهني، وقد تعني: الطريقة الكلّية المعتمدة للحياة. ويناقش مطوّلا هذا التعريف للثقافة، وأنها تراكمية دقيقة لا تتمظهر بسرعة أو وضوح، يقول: «يستطيع المرء تعهّد نموّه الروحاني بالرعاية على مدى سنوات عديدة، في حين أن الزراعة تشتمل على رعاية خلال فترة محددة من الزمن، الثقافة -بهذا المعنى- ليست شيئا يمكن اكتسابه دفعة واحدة على نحو فوريّ، مثل شراء حيوان منزلي أو الإصابة بالانفلونزا».
ويناقش التمييز بين ما هو حضاري وما هو ثقافي عند عدد من النقاد والمفكرين، عند من يرى -مثلاً- أن وسائل النقل والتدفئة والخدمات التقنية= حضارة، وأن الفنون والأطعمة وأزياء الناس= ثقافة، أن جوته عند الألمان= ثقافة، والعطور عند الفرنسيين= حضارة، وهذا ما يجعل البحث عن الثقافة (بوصفها الطريقة الكلية لعيش الحياة) أكثر صوابا عند تطبيقها على مجتمع قبَليّ أو ريفي؛ فالثقافة قِيَمٌ في المقام الأول، يؤمن بها مجتمع ما، والحضارة الصناعية اليوم جعلت مفهوم الثقافة (الذي تبلور في القرن التاسع عشر) ملاذًا للأرواح التي تبحث عن سد الإفقار الروحي السائد، وكلما توغّلت الحضارة في نزوعها المادي أكثر= ستُبدي الثقافة نزوعًا مقابلًا أكثر ترفّعًا عن الاهتمامات الدنيوية.
من أتى أولًا؟!
يحلّل إيغلتون في تطور لولبيّ عميق: كيف تكون الحضارةُ هي الشرطَ المسبقَ للثقافة، وإن كانت الثقافةُ في سياق الرفعة الأخلاقية أكثرَ أهمية، وكيف تضم الحضارة المادي والروحي معًا. أما الثقافة فأصبحت تعايشها شعوب لم ترتق بعد لأن يلبس رجالها البزّات الرسمية أو نساؤها التنانير القصيرة، وفي نهاية الأمر تراوح الثقافة إلى أن تكون حضارة (أي من الحالة العضوية إلى الحالة الميكانيكية!) مع استقراء المؤلف لآراء عدد من المفكرين حول العلاقة الفلسفية بين الفنون والثقافة والحضارة.
جُمل عدم الانحياز:
وفي الفصل الثاني [انحيازات ما بعد حداثيّة]: يناقش المؤلّف عددًا من الأفكار، مثل: التنوّع الثقافي، ويرى أن الكثرة للأشكال الثقافية لا تمثّل قيمة في حدّ ذاتها بل التضامن، ويشير إلى المقولات التي تتردد بوفرة، مثل: كل وجهات النظر تستحق الاحترام، وما يُشار إلى حق الأقلّية أو المهمّش، ويرى أن المهم هو منطق هذه الأقلّية، وأنّ هناك وجهات نظر بغيضة وشوهاء لا يجب أن تُحترم، فكل فكرة لن تعدم لها مناصرين وأتباعا؛ أفكار مثل استغلال الأطفال أو التجارة بالنساء وأمثالها= أشكالٌ يجب استبعادها من المشهد العالمي.
ومن الجمل الثقافية التي يحلّلها: إيجابية التغيير، يقول: «شاع الافتراض بأنّ التغيُّر شيء إيجابي بذاته، وبكيفية شبيهة بأن تقايض أطفالك مقابل سيارة فورد متهالكة، ثم ترى في هذا الأمر فعلًا يستحق التهنئة!».
زراعة وعي لا صناعة ثقافة:
وفي الفصل الثالث [اللاوعي الاجتماعي]: يشير إلى مقصوده بهذا المصطلح بأنه: «ذلك الخزين الهائل حيث تتجاورُ جملةٌ من الغرائز والانحيازات ومشاعر التقوى والإحساسات العاطفية والآراء غير النضيجة والفرضيات الفطرية التي تعزز فعالياتنا اليومية وقلّما وضعناها موضع الاستنطاق والمساءلة». وعن امتحان ذلك اللاوعي يقول: «إذن، بطريقة معاكسة لما نفترضه؛ فإنّ قدرًا من القمع أمرٌ طيّبٌ لنا: إن قَدْرًا محدّدًا من العمى عن الذات وفقدان الذاكرة هو ما يجعلنا ننمو ونزدهر، ويسلّم بصحة هذا الأمر فريدريك نيتشه مثلما يُسلّم به فرويد، ولكن الكثير من القمع يجعلنا -بالتأكيد- مرضى بشكل أو بآخر».
وليس الأهم هو الأشهر أو الأكثر تابعا في اللاوعي بل الأبقى، والخطورة تكمن في التراكم، يقول ساخرًا: «صحيح أن موسيقى جستن بيبر تصل أسماع الكثيرين، ولكن جدري الدجاج يفعل ذلك أيضًا»، فالشيوع ليس مؤشرًا ثقافيًا معتبرًا في رأيه.
وفي نقطة مثيرة للاهتمام، يتحدث عن شرعية الأدب الرسمي أو الرفيع -وهو ما يجعلني أقارنه بأيّ أدب مضمونيّ، والشرعية هنا ليست بعناها الديني بالطبع-، يرى أن التمييز الحاسم بين الثقافة الرفيعة والشعبية لا ينسحب على التمييز بين الثقافة الجيدة والرديئة؛ فمن الثقافة الشعبية ما هو صنف فاخر، في حين أن الشرعية الأدبية الرسمية قد تحوي كمًّا غير قليل من المادة الأدبية الرقيعة (بالقاف)، والسبب -في رأيه-: أن أعمال أي كاتب إذا انضمّت للشريعة الأدبية= فإن قَدْرًا طيبًا من كتاباته الأخرى الأقل تميّزًا وإبداعًا ستجد طريقها بيسر نحو تلك الشريعة، والنتيجة المتوقعة: هي الإضرار بالمعايير الإبداعية.
أما الجزء الأثمن -في رأيي- في هذا الفصل الطويل [اللاوعي الاجتماعي] فهو حديثه عن اللغة وأثرها في تكوين ثقافة الوعي الجمعي. فيرى أن الثقافة في أفضل حالاتها المرتجاة= حين تتناغم لغتها مع المادة الحيوية التي تنطوي عليها التجربة الشعبية الجمعية؛ فاللغة والثقافة تقطّران السيرة الروحية للمجتمعات، وتغدوان عالقتين في هشاشة مميتة إذا أصيب حارسها الفريد (المجتمع) بالملل. وما يكفل حياة اللغة وصحّتها هو حيويتها عند العامة وأواسط المجتمع لا عند النخبة، ويؤكّد: «إن ما لا يعلمه الفلاحون وأنصاف الجوعى والعاملون المستنزفون في المصانع أنهم هم -وليس آخرين غيرهم- يشكّلون مخزنًا للحكمة التي تستعصي على مفاعيل الزمن».
ويضرب مثلًا بقصيدة «أرض الخراب» لإليوت، حيث إنها -رغم نخبويتها- تستند على الأفكار والمشاهد المستلّة من اللاوعي الجمعي؛ لذلك يفضل إليوت أن يقرأَ عملَه ذاك شبهُ متعلمين. وهذا بدوره يقود المؤلف إلى الحديث عن الناقد الناجح الذي يجد مكانه بين عامة المجتمع، وسيظلّ الناقد المثقف المهمَل المستبعَد المركون جانبًا على تلك الحال حتى يجترح حوارًا ثنائيًّا حيويًّا بين ما هو متحضّر وما هو بدائيّ.
ثقافة المركز ونخبة الأطراف:
وفي الفصل الرابع [رسولٌ للثقافة]: يستدعي تجربة أوسكار وايلد، والأدباء الإيرلنديين بصفة عامة، مثل: إدموند بيرك، أولئك المطعّمة خبرتهم البلاغية بفصاحة نادرة، وما تركته تلك البلاغة على أكثر من صعيد، ويكاد يجد القارئ لهذا الفصل أثرَ الانتماء الإيرلندي عند المؤلف، في محاججته لآراء وايلد الثقافية وما واجهته اجتماعيًا وثقافيًا (وهي القصيّة) تواجه حاسرةً ثقافة المركز النخبوي في الجامعات البريطانية الكبرى.
وفي الفصل الخامس [من هيردر إلى هوليود]: يناقش المؤلف عددًا من أفكار «النقد الثقافي»، تلك الأفكار التي سيصغي المرء إلى صداها في عصرنا الراهن، «وقد أسهم كل من التصنيع المكثف، والتقنية، والتنافس الطاغي، والسعي وراء تعظيم الأرباح المتحصلة، والتقسيم المفرط للعمل= في إعاقة نمو القدرات البشرية وتوهين الطاقات الإبداعية».
وفي هذا الفصل: استقراء لآراء عدد من الأدباء حول فكرة ضرورة الفن والثقافة بصفة عامة، وهل هي حاجة روحية يمكن أن تشبع الروح أو تحل محل الدين؟ وكيف تكون صناعة الثقافة صناعة مربحة واستهلاكية بعد أن كانت تنأى عن المادة وتلوذ بالقيم؟ يقرّب ذلك -ساخرًا-: بأنه -حتى الابتسامة الناصعة- أصبحت تُسمى ابتسامة هوليود، وأن مثلها البرامج والحوارات الثقافية التي لا تكلّ عن عمل اللقاءات مع نعوم تشومسكي!
معاقل الثقافة:
اتّجه المؤلف في حصيلته الختامية إلى النخبة (الجامعات وأساتذتها بشكل خاص)، بدأ بغطرسة الثقافة وصورتها عند أساطين الإعلام، التي شكّكت النقاد الأدبيين في أهمية وجودهم، رغم أنه لا يوجد من ينكر أن الأدب يتعامل مع أكثر الحقائق جوهرية وأهمية في الوجود البشري، وهو ما قد يكون كافيًا لمنح شكل من المكانة المحترمة الخليقة بالتقدير لكل من يتعامل في حقل الفضاء الأدبي، لكن ذلك الأدب هاجر المكان العام وتقوقع في الدوائر الأكاديمية الضيقة؛ حتى أصبحت الدراسات النقدية والأدبية مثارًا للسخرية كأنها ترف من الماضي البعيد، وينبغي لها -كي تواجه هذا الرأي- أن تعزز الأسئلة عن فوائدها، وذاك بتطوير مفهوم الثقافة الشعبية، وتحسين منتجاتها، ومناقشة مشكلاتها، وبثّ الحيوية في الطرح النقدي بما ينهض بتلك الثقافة.
يوجه المؤلف تركيزه في الصفحات الأخيرة إلى النظام الجامعي، وإلى أساتذة الجامعات في الأقسام الأدبية، وإلى الخريجين الذين لا يجدون فرصة للعمل ويمثّلون شكلًا رثًّا، فحين تتحوّل الجامعات الأوروبية من مراكز فكر وتنوير إلى أماكن للتنافس في الأطعمة السريعة حينئذ سيجدون مدرّسيهم الجامعيين -عمّا قليل- قد تآكلت قدراتهم الفكرية عامًا بعد آخر. ويضرب مثلًا بجامعة بريطانية أصدرت أمرًا -مواكبًا للتغيير التقني- بألا يحتفظ المدرس الجامعي بكتب شخصية ورقية داخل مكتبه الذي تصغر مساحته تدريجيًا؛ لأن مكتبة المدرّس الجامعي عتيقة ومهجورة، حتى أصبح موت الإنسانيات -مقابل التقنيات- في جامعات اليوم ليس سوى حادثة تنتظر التحقق في الأفق المنظور.
وختامًا: الكتاب جدير بالقراءة، القراءة التي تستدعي تضافر الحواسّ لإبصار المشهد الثقافي والإنصات الدقيق لتفاصيله، لا القراءة العقلية التي تتطلّب البراهين؛ عملًا بالمقولة التي نقلها المؤلف عن إيليوت:«ينبغي على المرء أن يقرأ المنتجات الثقافية مستعينًا بجوارحه ونهايات أعصابه لا بعقله».
معلومات الكتاب:
الكتاب في 255 صفحة من القطع المتوسط، من إصدارات دار المدى، ترجمته: لطيفة الدليمي، ترجمة جيدة، لولا اقتحامها -الكثير- سطور الكتاب بشروحات وتعليقات غير ضرورية أحيانًا، وبعضها يقلّل من فهم القارئ، في ما يشبه الوصاية؛ حين توضّح الواضح، أو تعيد ربط ما هو مترابط، مع وجود أخطاء طباعية عديدة.
* العناوين الفرعية ليست من الكتاب، بل تنظيم يحاول أن يكسر سرد المراجعة.