“الجماهير فظة، عاجزة، محطمة، خبيثة في مطالبها وتأثيرها…لا أرجو التسليم لها، إنما ترويضها، اختراقها، تقسيمها وتحطيمها، ومن ثم انتزاع الأفراد منها”
- تأليف: ماريا بوبوفا
- ترجمة: أفنان نويد طيب
- تحرير: لطيفة الخريف
كتبت إيليانور روزفلت في مقالها “التأمل الأبدي في السعادة والانسجام”: “عندما تتبنى قيم ومبادئ شخص آخر، فإنك تتخلى عن نزاهتك وتصبح -على مدى تخليك-أقل إنسانية”.
فحتى الآن، نحن موجودون في المجتمع بوصفنا أفرادًا يتكتلون فيما يسمى بالجماهير، غارقين في المعايير المجتمعية التي تتغلغل في وعينا في كثير من الأحيان دون إذن منا أو حتى إدراك.
فكيف نتوسط بين البعد الاجتماعي الحتمي في حياتنا، وبين النزاهة الفردية المسلم بها ؟
برز رالف والدو إيمرسون (25 مايو 1803-27 أبريل 1882) وهو عملاق من المفكرين عن الذات الإنسانية في ذات الزمن – مع سورين كيركيغارد صاحب البصيرة المتوقدة في علم النفس المطابق، وإلياس كانيتي الحاصل على جائزة نوبل في أطروحته عن الجماهير والسلطة-، والذي طرح هذا السؤال في مقال بعنوان “اعتبارات بالمناسبة” والموجود في كتابه الذي لا غنى عنه “مقالات ومحاضرات”.
وكتب في ازدراء حماسي للانسجام:
“دعوا عنكم هذه الثرثرة المنافقة عن الجماهير. الجماهير فظة، عاجزة، محطمة، خبيثة في مطالبها وتأثيرها، ولا تحتاج إلى المديح بل إلى التوجيه. لا أرجو التسليم لها، إنما ترويضها، اختراقها، تقسيمها وتحطيمها، ومن ثم انتزاع الأفراد منها….
جماهير! الكارثة هي الجماهير. لا أرجو أي تكتل على الإطلاق، إنما رجال صادقون، ونساء لطيفات، حلوات منجزات فقط، وليس مفتولي العضلات، ضيقي العقل، شاربي الخمر من ملايين المشردين وحائكي الجوارب.
إن علمت الحكومات كيف، وسأود رؤيتها تتحقق من السكان وليس مضاعفتهم. وعندما تصل لأعلى درجات تطبيق السلطة، سيعتبر كل امرئ مولود عنصرًا مهمًا. بعيدًا عن هذا الهتاف للجماهير، ليكن لدينا الصوت المنصف للأفراد الذين تحدثوا بشرف وضمير.
الغالبية العظمى غير ناضجة، معظمهم لم يراجعوا أنفسهم بعد، ولا يعلمون ماهية آرائهم. وإن علموها فستكون وحيًا لهم وللجميع”
إلا أن إيمرسون كان حذرًا في إدراكه الذي يصطف جانبًا مع تصور آينشتاين عن “الذكاء الروحي”، أن نضوج الشخص والضمير، ليس موزعًا بشكل متساوٍ بين السكان-حيث جادل أن أكثر الأفراد شرفًا وضميرًا نادرون، لكنهم المسؤولون عن الإنجازات الإنسانية العظيمة، والمناقب الخالدة من الإبداع والفكر. وقد أكد يعقوب برونسكي قبل أكثر من قرن أن “الشخصية المبدعة هي التي تنظر للعالم على أنه قابل للتغيير، وترى ذاتها أداة للتغيير”.
وكتب إيمرسون:
“تصنع الطبيعة خمسين بطيخة فاسدة مقابل واحدة صالحة، وتهز شجرة مليئة بالثمرات المتغضنة المليئة بالدود، السيئة وغير الناضجة قبل أن تحصل على دزينة من التفاح الحلو…
وهي تعمل بجد، حيث إنها تستطيع إصابة بياض عين الثور مرة من بين مليون رمية. عندما يتعلق الأمر بالبشر، تصبح راضية إن حصلت على شهادة الماجستير مرة في القرن. فكلما صعب تكوين الرجال الجيدين، كلما ازداد استخدامهم منذ قدومهم.
كل تلك الإلهامات، سواء في مجال العلم الميكانيكي أو الفكري أو الأخلاقي، لم تأت للمجتمعات، إنما للأفراد. كل الأحداث البارزة في عصرنا، كل المدن، كل المستعمرات ربما يمكن تتبعها إلى مسقط رأسها في دماغ خاص. كل المناقب التي تصنع حضارتنا ماهي إلا نتاج أفكار بعض الرؤوس الجيدة”.
أملنا-بالطبع-هو أنه بعد قرن ونصف منذ وقت إيمرسون -الزمن الذي انتمت فيه “الرؤوس الجيدة” للرجال البيض وحسب- تمكنا، وعلينا الاستمرار بذلك، من إحداث المزيد من الفرص العظيمة لجميع الفئات السكانية، بحيث تأتي الثورات “الإلهامية” التي مدحها إيمرسون من مناظير متعددة، تنمو باتجاه إنسانية أكثر جمالًا وعدلًا. لكن مهمة كهذه، لن تنجح إلا بوجود ضروري للرفض من قبل العقلية الغوغاء، وبتفكيك الجماهير التي بلا هدف إلى أفراد مفكرين، وقد تبنى إيمرسون هذا الأمر بشكل جدي.
كتاب “مقالات ومحاضرات” لإيمرسون يحوي عددًا لا متناهيًا من الحكم المجزية في مجملها، والتي تحدثنا عن رؤيته الدائمة في الاعتماد على الذات وجوهر العبقرية، دعامتي الصداقة، حياة العقل، مفتاح نمو الذات، ماذا يعني الجمال حقًا، وكيف تعيش الحياة بأقصى قدر.
يمكنك استكمال هذا الجزء مع محاضرات الفنان بن شاهن الرائعة من جامعة هارفارد عن المنشق بوصفه محرك العظمة في المجتمع، والنتاجات الفلسفية الجميلة لتوف جانسون حكايات مومن الفلسفية المصورة عن سيكولوجية انضمامنا للمجموعات