- تأليف : فينيس هارينام و روب هيندرسون
- ترجمة : ليلى بنت إبراهيم العصيلي
يصعب أن يجادل أحد حول المتَع التي وفرتها لنا الحداثة: شرائح الخبز بالأفوكادو[1]، والألياف البصرية، ومكانس المنزل الروبوتية، إذ لا يملك المرء إلا أن يميل لها، كما أن الثورة التقنية وتحرير التجارة سهّلتا للناس سُبُل الرخاء والاستقرار، فتلاشت ظواهر كانت سائدة مثل الفقر والجوع، وارتفاع وفيّات الرضّع، وحلّ محلّها التنمية البشرية، وارتفاع متوسطات الأعمار، والإنتاج الضخم للأغذية، مما جعلنا نعيش عَيش الملوك مقارنة بمن سبقونا.
ولكن لابد من دفع ثمن لهذه الرفاهية، فكما أن المدنية والاستهلاك جعلتا الغرب مجتمعا ثريّا، فإنهما أنتجتا في المقابل ثقافة نرجسية ووهمًا بضيق الوقت، مما قلل مشاركة الفرد في الأنشطة المجتمعية، وقد أسهم الانشغال الزائد بالنفس وافتقاد وقت الفراغ في تقليل مشاركتنا في المنظّمات المدنية وارتباطنا ببعضنا، مما يبدد الثقة المجتمعية، ويعيق نمو الاهتمامات المشتركة مع الآخرين أو حتى الإحساس بوحدة الهوية معهم، مما يعيد المجتمع للثقافة القبليّة الغابرة التي تولي السمات البارزة أهمية تفوق القيَم العقَديّة.
(أنتم) متشابهون !
تخيّل أنك تُحادث شخصًا لم يسبق لك لقاءه، وبينكما ستارٌ سميك لا يمكنك تبيّن شكله من خلاله، وقد غُيّر صوته بتقنية ما بحيث يتعذّر عليك معرفة جنسه، وأول معلومة سمعتها منه هي أنه شخص ينتمي للحزب (الجمهوري)، برأيك: كيف سيبدو هذا الشخص؟ لن يطرأ ببالك غالبا أن يكون أسود أو امرأة أو شاذّا جنسيا أو ملحدا، ماذا لو قال بأنه (ديمقراطي)؟ هل ستتخيّله رجلا نصرانيا أبيض؟ غالبا لن يحدث هذا، إذ لابد -حتى مع وفرة الاحتمالات الممكنة- من وجود حدس مبدئي حول هوية من يؤيد أيًّا من الفريقين.[2]
هذا هو سر القبلية السياسية[3] الحديثة: إنها ضعيفة التأثر بالمعتقد أو السياسة، وتشير الأبحاث إلى أن الهويات السياسية لا يمكن من خلالها التنبؤ بدقة عن الخيارات السياسية للشخص، خاصة مع مبالغة الأمريكان في ربط الخيار السياسي بالهوية السياسية للجمهوريين والديمقراطيين.
وحقيقة الأمر أن القبلية السياسية تحوي ضِمنًا معاني القبلية التقليدية، إذ تحكمها الاختلافات في العرق والدين والانتماء الجغرافي والجنس والطبقة الاجتماعية، لكنها تُعبر عن هذه القبلية القديمة في شكل جديد هو المنافسة السياسية، وسبب ذلك هو أن هويات الأمريكيين الاجتماعية قد اندمجت عبر الاصطفاف السياسي الذي غدا دلالة واضحة على العرق والدين والجنس والهوية الجنسية.
ومما يزيد الأمر، أن جمهور الناخبين الأمريكيين قد انقسم إلى قبيلتين يتجانس أفراد كل واحدة منهما فيما بينهم، كما أشارت Lilliana Mason في كتابها Uncivil Agreement: “أصبح يُنظر للتحزب على أنه هوية كبرى”، فالهوية الكبرى للجمهوريين هي أنهم متدينون، بيض، ريفيون وينتمون للطبقة الوسطى، أما الهوية الكبرى للديمقراطيين فهي أنهم علمانيون، ملوّنون، مدنيّون، شاذون جنسيا وينتمون للطبقة العاملة، لكن هذا الفهم قد يتعارض مع الحقيقة.
لنلقِ نظرة على دراسة حديثة، طلب فيها الباحثون من أشخاص أمريكيين أن يقدّروا نسبة المنتمين لكل حزب، فأفاد المشاركون بأنهم يعتقدون أن 31.7% من الديمقراطيين ينتمون لمجتمع الشواذ جنسيا (LGBT)، بينما تمثل النسبة الحقيقية : 6.3% ! كما أفاد المشاركون بأنهم يعتقدون أن 38.2% من الجمهوريين يفوق دخلهم ربع مليون دولار سنويا، بينما جاءت النسبة الحقيقية أقل بكثير: 2.2%!
يمكن تفسير الأمر جزئيا بما يسمى بتأثير (تجانس المجموعة من الخارج)[4]، فنحن ببساطة نعتقد أن أفراد المجموعة التي ننتمي نحن لها متميزون ومختلفون عن بعضهم البعض، بينما نعتقد أفراد المجموعات الأخرى متشابهون، نحن نميل للتعميم على الآخرين، واستخدام الصور النمطية لفهمهم، بل وتشويه سمعتهم أحيانا، لكن عندما يتعلق الأمر بالمجموعة التي ننتمي لها فإننا ننتبه للتفاصيل: الصفات المميزة لكل فرد، حالته العقلية، تناقضاته، وقد أشارت دراسة إلى أن الناس يحددون صفات ذهنية أقل لـ ” مجموعة من الناس” نسبة إلى ” أناس في مجموعة”، عندما نركز في انتماء الناس لمجموعة ما، فإننا نميل لتجريدهم من أفكارهم ومشاعرهم الخاصة، بإطلاق حكم عام عليهم يريحنا من عناء التفكير في التفاصيل والاختلافات بينهم كأفراد، وبهذا نتحيّز ولا نعود مُنصفين.
إن أفكارنا واعتقاداتنا، بعض النظر عن صوابها، تخدعنا عند رؤية الحقيقة، وفي هذه الحالة، فإن الأمريكان مقتنعون بأنهم عالقون في منافسة سياسية حاقدة ضد (قبيلة أخرى) يتشابه أفرادها.
ونتيجة لذلك، فإن امتناع الديمقراطيين والجمهوريين من التزاوج وعقد الصداقات والسكنى بجوار بعضهم البعض قد تزايد بمرور السنوات، ففي عام 1960 عبّر 5% من الجمهوريين و 4% من الديمقراطيين عن عدم موافقتهم على زواج أبنائهم من الحزب المنافس، وفي عام 2014 عبّر 30% من الجمهوريين و 23% من الديمقراطيين عن ذات الرأي، وبمقارنة ذلك مع التزاوج مع (عِرق) آخر -والذي كان من المحرمات تقريبا- فإن 87% من الأمريكان يرغبون في هذا النوع من الزواج مقارنة بـ 4% عام 1958.
كما أفاد 63% من الجمهوريين، و 49% من الديمقراطيين أنهم يختارون صداقاتهم وفقا للتوجه السياسي قبل أي أمر آخر! كما أشارت دراسة وطنية أخرى إلى أن 20% من الديمقراطيين و 15% من الجمهوريين يعتقدون أن بلادهم ستغدو مكانا أفضل للعيش إذا مات عدد كبير من المنتمين للحزب السياسي المعاكس، نحن نُقايض تعصّبا بآخر!
يعود بعض هذا التغيير لتراجع دور الهويات المشتركة بين أفراد الأحزاب المختلفة، مثل أن يشجع كل جمهور فريقَه المحلي، لكنهم يتحدون معا لتشجيع المنتخب الوطني الأولمبي.
يؤكد علماء السياسة أن الهويات المشتركة بين الناس تخفف حدة التحزب السياسي، إذ تمثل الروابط الاجتماعية المتبادلة أرضية مشتركة يمكن للمتنافسين سياسيا التعاون من خلالها، إذ يمكن لثري جمهوري أن يجد أرضية مشتركة للتفاهم مع ديمقراطي من الطبقة العاملة إذا كانا يرتادان الكنيسة نفسها.
لكن فصل الأمريكان لقبيلتين سياسيتين قلل روابط الاهتمامات المشتركة بين الأفراد من الحزبين، فعندما نعرّف أنفسنا عبر الانتماء السياسي، فإن الهويات الأخرى تتراجع، وبهذا تُهدَم جسور التواصل بين الناس، وتتبدد الثقة، وتشتد العداوة.
المشغول المتبجّح:
يمكن أن يكون المجتمع الحديث مجتمعا باردًا وعازِلا للإنسان، ومع الأهمية البالغة للصناعة والمدنيّة في تفوق جنسنا البشري، إلا أنهما غيرتا الروابط الإنسانية، فالتركيز على تكديس السلع شجع الفردانية واتخاذ القرار بناء على الهوى الشخصي، مما يضعف أثر القبيلة التقليدية في شؤون الإنسان اليومية، وهذا التغيير في العلاقات الإنسانية يؤثر على أمرين هامّين: القيم التي نتبناها، وإدراكنا للوقت، ومن ثم تتحلل الروابط القبلية.
إن الانتقال من الحياة الريفية للمدنية، قد غيّر القيم التي تتبناها الثقافة الغربية بحسب الطبيبة النفسية Patricia Greenfield، والتي استخدمت محلل غوغل ( Google’s Nagram Viewer ) للكلمات الأكثر شيوعا، ورصدت معدل استخدام الكلمات في الأدب الأمريكي والانجليزي بين عامي 1800 و 2000، فلاحظت تزايد استخدام كلمات مثل ” أخذ، أنا، ذات”، وتناقص معدل استخدام كلمات مثل “عطاء، طاعة، انتماء”، فيما يمثل انتصارا للفردانية على الإيمان والعائلة والمجتمع، ولكن المشكلة لا تتعلق بالفردانية بقدر تعلقها بالانشغال المَرَضي بالذات، ففي العقدين الأخيرين، تزايدت النرجسية بقوة في المجتمع.
وكمتخصّصَين في علم الاجتماع يشرح Jean Twenge& W.Keith Campbell في كتابهما “وباء الأنانية” أن المجتمع الأمريكي تحول للأنانية في الخمسين سنة الأخيرة، فالبيانات التي تم جمعها من 37 ألف طالب جامعي، بيّنت أن سمات الشخصية الأنانية قد تنامت بنفس السرعة التي تفاقمت فيها السمنة من 1980 وإلى اليوم، “بحلول 2006 فإن ثلثي طلاب الجامعة يسجلون رقما أعلى من معدل عام 1979-1985 ، بزيادة 30% في عقدين فقط” كما أثبتت دراسة ميلا ذا دلالة إحصائية نحو الأنانية في كلمات الأغاني أيضا، فقد لاحظ الباحثون فيها استبدالا تدريجيا لكلمات مثل “نحن” إلى “أنا” سواء بصيغة الفاعل أو المفعول.
ترتبط التنمية الاقتصادية وثقافة المجتمع برباط وثيق، إذ تؤثر الحالة الاقتصادية في ميل المجتمع للفردانية أو الجماعية، وهذا يؤثر في السمات الشخصية للفرد، فميل الأمريكيين للأنانية قد تزايد مع طفرة أواخر الستينات، ثم تسارع مع الرخاء الاقتصادي الذي عمّ أمريكا في الثمانينيات، وخلال تلك الفترة تزايد انتشار كل سمة لها علاقة بالأنانية، ومثلما أن الجماعية المتطرفة لها عواقب وخيمة، فإن التركيز المتطرف على تدليل الذات يسيء لثقافة المجتمع أيضا، حيث تقوم الأنانية مقام القيم الاجتماعية.
أما تأثير الحداثة على وقت الفراغ، فإنه رغم عدم تحقق نبوءة John Maynard Keynes’s وهي تقليص ساعات العمل في الأسبوع إلى 15 ساعة، إلا أنها كانت نبوءة في الاتجاه الصحيح، حيث زاد وقت الفراغ مع السنوات، فنحن نعمل لوقت أقل مما كان الناس عليه في الستينات أو زمن الاقتصاد الزراعي، فقد قلّت ساعات العمل للرجال 12 ساعة عما كان الحال عليه قبل أربعين عاما، بينما ارتفعت الأجور، لكن الرجال باتوا يقضون وقتا أقل في المساعدة في العمل المنزلي ورعاية الأطفال بمعدل 35%.
الأمر الغريب في الموضوع هو أننا لا نشعر بأننا نعمل لوقت أقل مما مضى! ووفقا لمؤسسة Gallup لاستطلاعات الرأي، فإن 28% من الأمريكان يشعرون بأنهم لا يملكون الوقت الكافي لإنجاز مهامّهم، وفي دراسة مشابهة شملت 2000 عامل بريطاني، بيّن 70% من المشاركين فيها أنهم يشعرون بأنهم “مشغولون جدا”، لقد تشوّه إدراكنا للوقت، لكن ما السبب؟
عندما ينمو الاقتصاد وتتزايد الأجور، يصبح للوقت قيمة أكبر، وفي الثقافات الفردية التي تفضّل تكديس الماديات على الشعور بالانتماء، تزدهر عقلية: (الوقت هو المال)، فنحن نريد الاستفادة من كل لحظة، وكما أشارت مجلة The Economist : ” عندما يرى الناس وقتهم بمنظور مالي، فإنهم يبخلون بالوقت لتنمية المال”.
وفي تجربة أجراها عالمَي إدارة هما Sanford DeVoe & Julian House، طُلب من مجموعتين من المشاركين الاستماع لأول 86 ثانية من مقطوعة الأوبرا الثنائية The Flower Duet، وكان الباحثون قد طلبوا من المجموعة الأولى التفكير في أجورهم التي يتقاضونها في الساعة أثناء الاستماع، فكان أفراد هذه المجموعة أقل صبرا واسترخاءً أثناء الاستماع من المجموعة التي لم يطلب منها التفكير في المال، وبحسب د. DeVoe ، فإنهم “يرغبون في الوصول لنهاية التجربة من أجل عمل شيء مربح”.
وبينما رفع التطور الاقتصادي معايير الحياة، فإنه خلق نوعا من الوهم بشحّ الوقت، ويطلق Daniel Hamermesh مصطلح “Yuppie Kvetch” على ظاهرة شعور الأثرياء ماديّا بالفقر في الوقت.
بالإضافة لذلك، فالتكنولوجيا أيضا غيرت حياتنا، فبحسب الطبيب النفسي Aoife McLoughlin فإن التفاعل المستمر مع التقنية قد عطّل قدرتنا الفطرية على الشعور بالوقت: “إن الأشخاص الذين يديمون الاتصال بالانترنت أو الجلوس أمام شاشة الحاسوب أو الهواتف الذكية يبالغون في الشعور بضيق الوقت مقارنة بالأشخاص الذين يندر استخدامهم للتقنية” ومما يزيد الأمر سوءا أن 60% من الذين يستخدمون الهواتف الذكية يكونون على اتصال بالعمل لمدة 13 ساعة ونصف يوميا! نحن نتصل بالانترنت لمدة أطول دون أن نشعر بمرور الوقت.
وتحت سيطرة الأنانية والشعور بشح الوقت، فإن روابطنا الاجتماعية تتداعى، فنحن مشغولون جدا، ونتمحور حول ذواتنا بشكل يصعّب ميلنا للآخرين، ويقول الصحفي وصانع الأفلام الوثائقية Sebastian Junger إن الأمر بسيط: فالفقراء يجدون أنفسهم مجبرين على مشاركة وقتهم ومواردهم مع الآخرين بينما لا يحدث ذلك للأغنياء، إن تحديات الفقر تتطلب التعاون والاعتماد المتبادل بين الناس، أما الأغنياء فليس بينهم معاناة مشتركة، فالاستقلال المالي يحرر المرء من القبيلة.
لكننا بدون القبيلة مهددون بخطر العزلة وخسارة الذات، وكما كتب عالم الاجتماع E.O. Wilson: “إن العزلة تعني الألم، فانتماء الإنسان لمجوعته -قبيلته- يشكل جزءا كبيرا من هويته”.
وطبقا لمسح Cigna الذي شمل أكثر من 20 ألف أمريكي، فإن 54% من المستجيبين يشعرون دائما أو في بعض الأحيان بأنه لا يوجد من يفهمهم ويعرفهم جيدا، كما أن 56 % يشعرون بأن من حولهم “ليسوا بالضرورة معهم”، ويذكر العلماء نسبة مقاربة في بريطانيا، وقد أعلن الصليب الأحمر عام 2018 أن العزلة غدت ” وباءً خفيًّا” و أبلغ 9 ملايين بريطاني بأنهم يشعرون دائما أو غالبا بالوحدة، وقد بلغت حدّة العزلة الاجتماعية أن بريطانيا أنشأت “وزارة الوحدة”، فالحداثة رغم ملذاتها قد أضعفت الروابط الاجتماعية.
الرحيل الغريب لرأس المال الاجتماعي:
في كتابه Bowling Alone يقول عالم السياسة Robert Putnam أن عضويات الانضمام للمنظمات الخيرية تضاءلت بشدة في الخمسين عاما الأخيرة، وهذا لا يعود لانسحاب الأعضاء القدامى، بل لقلة تسجيل الأعضاء الجدد.
في عام 1975، حضر الرجال والنساء من الأمريكان 12 اجتماعا لنواديهم في عام واحد، ثم تقلص عدد هذه الاجتماعات لخمسة في عام 1999، وعند قياس الساعات التي يقضيها الأمريكان شهريا في هذه المنظمات فإن عددها تناقص من 3,7 في عام 1965 إلى 2,3 عام 1995، وقد تسارع تدهور هذه النسبة بعد عام 1985، حيث قلّت نسبة العضويات الفاعلة في المنظمات الاجتماعية بنسبة 45%، وبذلك يمكن القول بأن نصف البنية التحتية للمجتمع المدني في أمريكا قد طُمس في غضون عقد من الزمان!
وطبقا لـ Putnam ، فإن هذا التناقص في المشاركة المدنية قد سبب تمزقا في الحياة الاجتماعية في أمريكا، مما جعل رأس المال الاجتماعي ينهار، “يشير رأس المال الاجتماعي للروابط بين الأفراد، الشبكات الاجتماعية، ومعايير التبادل والثقة بين الناس” وبصورة عامة، فإن رأس المال الاجتماعي هو فضيلة مدنية تعتمد على الثقة بالآخرين وحسن النية والتعاطف والمصاحبة، هذه هي الممتلكات الحقيقية في رأس المال الاجتماعي.
يرى Putnam أن المنظمات المجتمعية توفر رأس المال الاجتماعي، فهي تربط الأفراد ببعضهم وتوجد الثقة بينهم، وبهذا فهي تشجّع نمطا صحيا من القبلية يعتمد على التجمع الطوعي، فالعضوية فيها لا تعتمد على الملامح الجسدية بل الاهتمامات الشخصية، الأمر الأهم هو أن هذه المؤسسات المدنية تخلق نوعا من الهوية المشتركة بين الأحزاب المختلفة، حيث يمكن لشخصين من مجموعتين متناحرتين فيما مضى أن يتحدا معا باعتبارهما عضوَين في مؤسسة تطوعية واحدة.
وزيادة على هذا، يؤكد Putnam أنه يمكن تفسير تدني رأس المال الاجتماعي بأربعة عوامل محتملة: ضغط الوقت والمال، النزوح من المدن إلى الضواحي، وسائل الترفيه الالكترونية، تحوّل الأجيال، ومع أن كل عامل من هذه الأربعة قائم لوحده، إلا أن ثمة مشترك بينها: كلها من منتجات الحداثة!
إن عوامل Putnam الأربعة مرتبطة إلى حد كبير بالقضيتين اللتين ناقشناهما هنا، فالعوامل الثلاثة الأولى: ضغط الوقت والمال، والنزوح إلى الضواحي، ووسائل الترفيه الالكترونية ترتبط بما تناولناه عن النمو الاقتصادي الذي غيّر إدراكنا للوقت، أما العامل الرابع وهو تحوّل الأجيال فيعني تغيّر القيَم، فأفراد الجيل الشاب يركزون على ذواتهم واهتمامهم بمؤسسات المجتمع المدني أقل من الجيل السابق.
نحن نعتقد أننا أهم وأكثر انشغالا من أن نحضر المناسبات الدينية، أو نتطوع، أو نشارك في المنظمات المجتمعية، ونتيجة لذلك تتلاشى الهوية المشتركة بين الأحزاب المختلفة، فبدون الانخراط في الأنشطة المدنية تضمر الهويات والاهتمامات المشتركة أو تفشل في النمو، وبهذا نضل الطريق لتوحيد أفراد المجتمع.
هناك انخفاض حاد في الأشكال المختلفة للمشاركة الاجتماعية غير الرسمية خلال الخمسين سنة الأخيرة، وطبقا لـ Putnam فإن أنشطة اجتماعية مثل: تبادل الزيارات مع الأصدقاء، وتناول الوجبات مع العائلة، والاجتماع في النوادي الليلية قد تقلصت بنسبة 35%، 43%، 45% على التوالي، نحن نكبر بشعور ألفة أقل مع من حولنا، وطبقا لبحث Pew فإن 57% من الأمريكان يعرفون أسماء (بعض) جيرانهم أو يجهلونها تماما.
في مثل هذه الظروف، تتبدد الثقة، وبذلك نتعامل مع من لا نعرفهم بناء على تحيزاتنا وأحكامنا المسبقة، فنعاملهم بالشك وفي بعض الأحيان بالحقد، وقد بيّنت نتائج تصويت أجرته وكالة Associated Press عام 2013 أن واحدا فقط من كل ثلاثة أمريكيين يتفق مع العبارة القائلة: “إن معظم الناس يستحقون الثقة” وأبعد من ذلك، فقد وجد عالم الاجتماع Josh Morgan أن “نسبة المستجيبين الذين يرون أن معظم الناس يستحقون الثقة قد هبطت من 46% عام 1972 إلى 32% عام 2012”.
الثقة مطلوب أساسي للتعايش، و يعد إيجاد الهوية المشتركة بين الأحزاب المختلفة أمرا أساسيا لهذا، وبدون هذا، سنبحث عن مقاييس أخرى للثقة، ومن المحتمل أن تعود القبلية بمفهومها القديم.
الردّة نحو القبليّة:
إن قلة الارتباط بالأنشطة المدنية لا تقلل القبلية، بل تعيد توجيهها، فالقبلية أمر حتمي، وانهيار رأس المال الاجتماعي يحرض الاندفاع للتعويض ويوجه طاقتنا الاجتماعية إلى ناحية أخرى، فالثقة والترابط يمضيان جنبا إلى جنب، نحن نرتبط بمن نثق بهم، ونثق بمن نرتبط بهم، ولكن بغياب المنظمات المدنية، نتخذ أساليب جديدة لمنح الثقة للغرباء.
فبدون الروابط التطوعية، نميل لاختزال الغرباء في مجموعة من السمات البارزة، فليس لدينا الوقت أو الشغف الكافيَين لنتعرف على بعضنا، ولذلك نلجأ للطرق السهلة لتحديد الهوية، وبذلك نخضع لتحيزاتنا في العرق والجنس والدين والميول الجنسية، إنها حسبة سهلة لكنها سيئة: ” أنا أثق في هذا الشخص لأنه يشبهني أو يفكر مثلي”.
ويقودنا الأمر غالبا إلى أن نختار العيش بجانب من يشبهوننا في الشكل أو في طريقة التفكير، وبذلك يمكن تأمّل التحول الجغرافي في أمريكا بعد انهيار رأس المال الاجتماعي، وطبقا لعالمَي السياسة Andrew Garner & Harvey Palmer ، فإن الأحياء السكنية أصبحت مقسمة بحسب “الاتجاهات السياسية و العرق ومستوى التعليم والدخل”.
هذا الميل ليكون المرء بين “ناسِه” مدعوم بالأدب البحثي، حيث تشير الأبحاث إلى أننا حين نقابل شخصا لأول مرة، فإننا ننتبه تلقائيا لثلاثة أمور: عمره وجنسه وعرقه، الأول والثاني يمكن تفسيرهما بنظرية النشوء والارتقاء، حيث كان أسلافنا يميّزون بين الصغير والكبير والذكر والأنثى، لأمور تتعلق بالمكانة الاجتماعية والتكاثر والقرابة، لكن مسألة العرق مختلفة، فأسلافنا كانوا يتنقلون مشيا على الأقدام، ولم يتمكنوا على الأغلب من قطع مسافة تمكّنهم من مقابلة شخص ذي عرق مختلف.
ومع ذلك، فإن Robert Kurzban وزملاؤه يرون أن العرق مهم لكونه مؤشرا للانتماء لمجموعة، فنحن نستخدم المؤشرات الجسدية لتحديد قبيلة الشخص، ففي مجتمعات الصيد مثلا، يمكن أن يشمل ذلك: تسريحة الشعر، ثقوب الجسد وأساليب الزينة الأخرى، والعرق ملمح واضح، فهو يشير للانتماء القبلي بطريقة مشابهة لما تفعله القمصان الرياضية من تمييز للفريق المنافس.
كما أن هناك دراسة لعالم نفس هو David Kelly حول تمييز العِرق عند الأطفال الذين يبلغون ثلاثة أشهر من العمر، حيث كتب Paul Bloom عن نتائج هذه الدراسة: “يفضل الأطفال الإثيوبيين رؤية وجوه إثيوبية أكثر من القوقازية، ويفضل الأطفال الصينيون رؤية وجوه صينية أكثر من الوجوه القوقازية أو الأفريقية” فنحن إذن -في عمر مبكر- نقدّر ما نألفه، لدينا ميل متجذّر لما يمكننا التعرف عليه بسهولة.
إن الهويات الكبرى للجمهوريين والديمقراطيين هي نتيجة لعودتنا للقبلية القديمة التي تعطي أولوية للملامح البارزة على حساب القيم السياسية والمدنية، ويشير المراقبون السياسيون لهذه الحالة بوصفها “سياسات الهوية” وهي تبدو ظاهرة جديدة، لكنها ليست كذلك في الحقيقة، إذ يؤكد Jonah Goldberg أن مصطلح سياسيات الهوية وإن كان حديثا، إلا أن الفكرة ذاتها قديمة، ولا يمثل تبنّيها خطوة تقدمية، بل رجوعا إلى الوراء.
إن تخطي الملامح المرئية ومعاملة الآخرين كأفراد هي الفكرة الحديثة، لكننا غالبا ما نفشل في تطبيقها، فنحن نجمع الأفراد بناء على سماتهم السطحية، وهذا أمر سهل، ولأن أمرا ما يتميز بالسهولة فإننا سنجد جميع الأسباب التي تبرهن صحته.
إننا الآن في وضعية خطرة للارتداد للوراء باتجاه هذه العقلية، حيث نصنّف الناس إلى فئات، لأننا نريد أن نميز بسهولة بين حلفائنا وأعدائنا، هذه الرغبة في تصنيف الغرباء عنا موجودة دائما، وأسهل طريقة للتعبير عنها في عالم اليوم هي الأحزاب السياسية، والتي تظهر وسيطا للهويات الاجتماعية الأخرى، ولسوء الحظ، فإن أحد أشد الوسائل ضمانا لحصول الفرد على مكانة في مجموعته هي تشويهه لسمعة المجموعة الأخرى!
بيدنا الخيار إذا: نستطيع إصلاح بلدنا بمشاركة من نختلف معهم سياسيا، أو تدمير خصومنا السياسيين لتعزيز مكانتنا الاجتماعية و دفع الثمن عبر تدمير بلدنا.
إن سهولة القيام بأمر ما لا تجعله أمرا صائبا، يجب علينا أحيانا أن نسلك الطريق الصعب، هناك وسائل أخرى لتقليل نسبة المخالفين لنا: لنجعلهم حلفاء بالعثور على القيم المشتركة بيننا وبينهم، وبإيجاد روابط تخترق الأحزاب السياسية.
- فينيس هارينام: مستشار قانوني وباحث مشارك في معهد اندبندنس ومرشح لنيل الدكتوراه من جامعة كامبردج، وقد نال درجتَي الماجستير والدكتوراه من جامعة تورنتو.
- روب هيندرسون: باحث وطالب دكتوراه في جامعة كامبردج، نال البكالوريوس في علم النفس من جامعة ييل، وهو محارب مخضرم في سلاح الجو الأمريكي.
[1] مع ثورة الميل للطعام الصحي في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، انتشر استخدام شرائح التوست المدهونة بالأفوكادو المهروس بديلا عن المايونيز (المترجِمة).
[2] من أهم الفروق بين الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) في الولايات المتحدة الأمريكية هي أن الأول حزب محافظ يميل للقوة ويقف بجانب الأقوياء، والثاني حزب يؤمن بالتعددية الثقافية والحريات وحقوق الأقليات (المترجِمة).
[3] مصطلح (القبلية السياسية Political Tribalism) لا يقصد به القبلية التقليدية القائمة على مفهوم النسب، بل القبلية الناتجة عن الانتماء لحزب سياسي معين، وهي تنتج عصبية شبيهة بما تنتجها القبلية التقليدية (المترجِمة).
[4] Out-group homogeneity effect مصطلح يُقصد به أننا نركز على أوجه الشبه بين أفراد المجموعات التي لا ننتمي لها، وأوجه الاختلاف بين أفراد المجموعات التي ننتمي لها، وبالتالي فإننا نعتقد أن الآخرين متشابهين ونحن مختلفون (المترجِمة).
المصدر: Blame Modern Life for Political Strife