- تأليف : فريد أكوزال
- تحرير : ناريمان علاء الدين
- الإلحاد والدين
- العلمانية والدين
- تناقض قسمة العام والخاص كخصيصة في التفكير العلماني عندَ الصدام بالإسلام
- معضلة العلمانية مع الفرد، حاكماً ومحكوماً
- صور من التأسيس العربي للعلمانية
- نقض تشريع العلمانية من الإسلام
- إستحالة إيجاد ركن غير ديني للعلمانية
- العلمانية والإلحاد أو خطاب السلب؛ مع معنى السلب في المفهوم والخطاب
- تنصل العلمانية والإلحاد من المسؤولية
- الغلط الشائع في الحملات النقدية للعلمانية والإلحاد.
(1). لا حاجة لنا للبرهنة على العلاقة الكامنة بين الإلحاد والدين أو التديّن، وعلى وجه الخصوص الاعتقاد القلبي والذهني. بصور شتى، يتجلى الإلحاد كمحاولات لهدم الدّين، وتفكيك خيوطِه عن السلوك البشري. يظهر أحيانا كمقاوم من باب إعادة الإنسان لطبيعته، أي إلى طبيعةٍ تُنعت في مواضعَ أخرى بالبدائية، في حين يتأسس خطابه أحياناً أخرى كخطاب مُصحّح للتاريخ وحاملٍ على التقدم والحداثة.
(2). تماماً كمسعى العلمانية وبقية الخيوط الأخرى المشكّلة لشيءٍ من التنظيم الفكري المُعاصر. رغم الطابع السياسي للعلمانية، والطموح الأساسي الذي تسعى إليه من تجسيد واقع بتعدد ديني ووحدةٍ على أن لا دينَ يستطيعُ شغرَ موقع القيادة والسياسة، استطاعةَ أولوية أو استحقاقٍ كانت (أي لا وجودَ لدينَ يستحقّ أن يُقدَّم على آخر، سياسياً)، أو استطاعةً مطلقةً (أي لا دينَ يملكُ سياسةً أو يقدرُ ويقوى على التسييس)، لا يحيدُ الخطاب عن المسّ إما بقدرٍ خفيف أو كثيف بالعلاقة التي تصل المتديّن -سواء الأفراد ونظرتهم الخاصة أو الجماعات بمساعيهم في التأثير المجتمعي- بسدّة الحكم والقيادة، بل وكلّ ما لهُ طابع سياسي، بما في ذلك المسيّس كالمساحات العمومية باعتبارها أمكنة لا تجمعُ بين متديّنين بديانات مختلفة إلا بتخليصهم وسحبِهم مؤقتا من مظاهر تديّنهم دون الخفيّ والباطني منه.
(3). كانت مسارات هيمنةِ الإجراء العلماني مع صعوبةِ تنزيلها ووعورة استبطانها سهلةَ بقدرٍ ما في أقطابٍ دونَ أخرى. ومن الصواب للغاية وصل هذا الأخذ والرّد، من حيثُ اليسر والعسر، مع قصر أو طول زمن الكفاح من أجله أو الاستسلام لقبضته، بالاختلافات الجذرية المبثوثةِ في الأديانِ، على أن نُحاول محو أي آثار للفكرة الساذجة القاضية بالتساوي المتطابق بين كافة الأديان، في علاقتِها مع السياسة والحُكم. النموذج الأعلى لدرجةِ الصلابة في الشّق الأصولي والنظامي يُمكن العثور عليه في الإسلام كخاصية تمتازُ بها مجتمعات عالمية كثيرة ماتزالُ مُنفكّة عن التهام الشّق السياسي من دينها. ومن يلمح الأمرَ كمُجرّد تخلّف، يغفلُ عن الصلابة الكامنة هنالك. إن الإسلام يضعُ -من جهته، متميّزاً عن بقيّة الأنظمة النظرية الدينية- حاجزا أو حواجز تمنع السهولة المفروضة من محاولات التسيد على الدين وتقنين حدوده. فإذا أخذنا العلمانية باعتبار تفريقها بين المكان العمومي وما يُشكل مَواطن الخصوصية لدى كل فرد من المجتمع على حدة، لا نجد أي استلهام إسلامي يُمكّن من طريقٍ لفتح الباب أمام منع انتقال الدين وتنقّلِه من الحيّز الخاصّ إلى الفضاء العام، من الفرد إلى المُجتمع، من المُواطن إلى الدّولة. بل ثمةَ في المقابل تناقضاً مانعاً من المنع، وهو أن الانتقالَ لا يقعُ في الحيّز العامّ عارياً عن أيّ تعلّق خاصّ بفردٍ من الأفراد، أي أن مُزاولة الدّين في الحيّز العامّ إن كانَ ذا طبيعة عموميّة لجمعٍ كبيرٍ من الناس (المحكومون، في الغالب) فإنه في الحقيقةِ مُندرجٌ داخلَ الحيّز الخاصّ بالنسبة لفردٍ أو مجموعة أفرادٍ (من تولّو أمرَ العامّة، في الغالب). والمُطالبةُ بإقصاء ما يجري تصنيفُه في المُزاولةِ العامّة للدّين هو إقصاءُ ضرورةٍ لحقّ أشخاصٍ من مُمارسةِ علاقَتِهم بدينهم. فالتفكير حولَ ثُنائية “الخاص-العام” من تصوّر انتقال عرضي أو طولي من الخاصّ إلى العام، والعكسُ بالعكسِ، واعتبارُ هذين الحيّزين نُقطاً على مُستقيمٍ لا يبلغُ أحدُهما إلا بعدَ رفعِ القلمِ على الآخر تفكيرٌ يجهلُ كون المُرور من أحدِهما إلى الآخر وَارداً دُون أدنى مُقاطعةٍ للأوّل، وأن العلاقةَ علاقة تعاقبٍ مُستمرّ لا نهايةَ لها. الأمرُ الذي يُشكّل تناقضاً داخليا في البنية التصورية للعلمانية: أنه ينقُض طرفاً من الممارسة الخاصة لأفرادٍ، هم الحكّام. بحيثُ يصيرُ السّياسيّ خارجاً عن المجتمع، ومعزولا عن كونِه فرداً من أفراد المجتمع، وبالتالي حرمه من حقّ من حقوقِه. أو على العموم : أن أمر الفصل ليسَ مجرّد تفريق علوي بين العمومي والخاص، وإنما يتم إلزام الفرد بتغيير سلوكه الديني من العمومي والخاصّ، وبالتالي إجباره على التنازل عن حقّ، إلى جانِبِ تدخّل علويّ في السلوك الديني الخاصّ والفردي.
(4). ويتصل هذا التناقض الداخلي بمفارقة ذات أهمية، تظهرُ بشكلها السلبي في واقعنا المعاصر، كما ظهرت بصورةٍ إيجابية خلال التاريخ عموماً، والتاريخ الإسلامي بالخصوص، فالعقلية التي كان بها التحكيم من قِبَل حكامٍ خلال التاريخ الإسلامي، كان بعقلية تنظر إلى سدة الحكم لا كآلة تُنتِجَ ما من المفروض “عموميّته”، أو ما يضمن خاصية “احترام الخصوصية”، وإنما قبل أي شيءٍ كموضِع تحكيم يستسلمُ فيه الحاكِمُ أمامَ نواياه ورغائبِه لصالِح ما يقتضيه منه دينُه وخُلُقُه، تماماً كيوم كان محكوماً، وأن ليسَ ثمةَ ما يقضي عليه بتركِه لما كانَ يراهُ حقّا يومَ كان محكوماً، بلا مسؤولية ولا رعاية. والمفارقة اليومَ أن العقلية تقضي بتركِ الفرد متى وصلَ به الأمر إلى السياسة إلى تركِ قناعاتِه قبلُ، سواء أثناء تولّي الحكم أو في الطريق إليه، هذا مع ما يشيع من تهليل بكلمةِ المحكومين وعلو رأيهم وكلمتهم. فإذا أخذنا على سبيل المثال موقف أبي بكر الصّديق -رضي الله عنه- من مانعي الزكاة، كحدث من بين الأحداث الأبرز خطورة أثناء خلافتِه، لا تتأتى أي إشارة إلى كون إعلان الحرب والعداء على مانعي الزكاة نابعا بالأساس من إجراء عموميّ تستدعيه الحاجة المالية أو الضرورة السياسية (بمعنيهما العلماني). كان ليكون الموقف النابع من زاوية “العام والخاص” يقضي إمّا باعتبار إجراء الزكاة مُجرّد قوامٍ سياسي تمّ رفض إسقاطه لدوافع منفصلةٍ عن التديّن الفرديّ لمتّخذيه كأن يكون لمجرّد تثقيل شرعية المؤسّسة الحاكمة، خاصة مع حداثة عهدها بالخلافة، أو كان ليكون على وجهٍ سلميّ بالعفو على المنكرين من باب جمع كلمة المنكرين مع الموافقين مع اختلاف التديّن ودرجةِ الإسهام في بيت المال، وهو ما كان ليفضله القائلون بعراء موقف أبي بكرٍ من أي موقف ديني شخصيّ على مستوى القرار. أمّا من نظرَ كما نرى إلى طابع الشخصية والفرديّة البائنة في القرار، فقد يذهبُ إن هو أخذ بالسياسية عن طريق الخاص والعام كما أشرنا إليه ووصفناه خلاف تيّار الأخبار التاريخية الواضحة غاية الصراحة، فلا يبقى إلا منحى واحد هو : الاعتراف ليسَ فقط بما في الحدث من عدمِ فصلٍ بين الخاصّ والعامّ، ولكن أيضاً بتجسّد الخاصّ في العامّ، أي أن موقفَ أبي بكر -رضي الله عنه- غيرَ محكومٍ يتجسّدُ حينَ القيادةِ وهو حاكِمٌ. ولا شفاعة في الأخبار التاريخية، التي تروي لنا كيفَ كان موقف أبي بكر موقفاً ينطلق من تديّنه الفردي أوّلا قبلَ كل شيءٍ، وما يراه في عاتقه من المسؤولية والثقل والأمانة، فحفظ لنفسِه ما كان يحفظُه قبلُ، أيامَ كان محكوماً. شيءٌ واحد تغيّر، أن انتقل الحكم من نفسِه وأهله إلى شريحة كبرى من الناس. أمّا إذا تغلل التفكير في تفريق القبعة العامة عن الخاصة، لا يجد الحاكم أي حرج في اعتباره أن حكمَه مجرّد مُمَكّنٍ تحتِ نظامٍ مؤسّساتي أكبر منه، ويصير كل خطابِه الدال على العقلية الخفيّة منزوياً في تعالي مؤسسات الحكم، بشكل يضعه بعيدا عن المسؤوليات الخاصة والخصوصية في المجتمع باعتبار المسافة الفاصلة بين خطابه وخطاب أفراد الشعب. ومحلّ الشاهد في هذا أن العلمانية إن كانَت تصنَع خصوصيّة وعمومية في عقل الأفراد، وهو ما أظهرنا تناقُضه، فإنها تحشو عقل الحاكِم بتضارُبٍ وفصامٍ يُفقدُه توازنَه.
(5). ما يُقترح كحلّ لإزاحة هذا الثقل الإسلامي : كهذا المضمون الذي لا يُخيِّر في تغيير القبعة حينَ سياسَةِ الناس، فيجعلُها في موضِعِ سياسةِ النفسِ بحيث يكون الحاكِمُ إذا ورَدَ حُكمُه ذا قيمةٍ وقهرٍ، في كلا الحالين، بلا تفاوت… الحلّ أمامَ هذا، إما دعوى فصلٍ مبثوثٍ من الشرعِ ذاتِه، بتقرير ورود تفريق داخليّ فيه يقضي بمراعاة سياق الأمر والنهي حسبَ الموطن العام والمكان الخاص؛ لنكون بهذا أمام علمانية ذات شرعيّة من الدينِ ذاتِه، وإما بعيداً من الدين بادعاء تعالٍ فوقيّ يكون حاكماً على تديّن الأفراد في الشق العام، وعلى تديّن الحكّام باعتبارهم مُصدْري أحكام، لنكون هذه المرّة في علمنة مطلقة ومتحررة عن أية قيود دينيّة، بمختلف أنواعها وأشكالها.
(6). إن كلّ علمانية تبحث عن احتماءٍ بالدّين من السّهلِ للغايةِ نقضُ احتمائها به، بل ومن وجوه كثيرة. لكن، فليُعلم أن أصلَ تفكيرها من الأساس أصلٌ مخرومٌ لا أساسَ له ولا قوام. فلنبدأ بالفرضية التالية : كلّ دينٍ في معناه الأصلي المتجذّر = يتضمّنُ نزوعاً إلى العَلنْ، بما في ذلك الظهور العموميّ، والتحرّك السياسي. وهذه فرضية نابعة من التفكير العلماني نفسِه، حيثُ لو لم يكُن الأمر كذلك، لما كانَ من حاجة للعلمانية أصلا، فلا محيد عن الاقرار بأصالة الفكرة في التصوّر العلماني بامتياز. والغريب أن أوّل تناقض ومفارقة يكمُن في هذه الفرضيّة الأصليّة البدهيّة. ذلك أنه في حين تزعُم الأطروحات هذه أن الإسلام يدعو إلى العلمانية، نجدُ في نفسِ النطاق والآن أن نفسَ العلمانية تفهمُ الإسلام كتدخّل في الحكم. قد يكون الخروج من هذا المأزق بإجراء بسيط مفادُه أن للإسلام صورةً خاصةً من التديّن تختلفُ عن نطاقاتِ الدين التي نشأت فيها العلمانية. لكن هذا غيرُ صحيح من الجهة التاريخية، إذ لا شيء يمنعُ من القولِ بتجذّر العلمانية كنظام من التفكير والاحتجاج في ردّ الدين تماما كما كان يَرد ذلك على مرّ التاريخ على مستوى الأفراد، فقد كان الأمر كذلك، بلا خفاء، في المجال العمومي والسياسي، بلا فرق.
أمّا المخرج الآخر إلى الهاويّة، فالتناقض ضعفين : ليسَ فقط أن تفهمَ من الإسلام، نقيضَ ما تفهمُه العلمانيّة التي تدعو إليها بالدّين ! ولكن أن تزيدَ على هذا إشكالية أخرى : بجعلِ نفسِ الدّين الذي يدعو إلى العلمانية، متّحدثاً للسياسة ومخاطباً لها، دونَ أي إرادة مسّ أو تغيير أو فاعليّةٍ فيها. ومفادُ هذا الطرح لمن يُحاول إيجاد شرعية للعملنةِ عن طريقه، أن الدين الذي يُحتمى بقوامِه : جاهل بنفسِه، ومتردّد، بل ومازح. واحتراماً، أو تفادياً لهذه الهاوية، نجدُ استراتيجية أخرى : يتمّ فيها إنكار توجّه مضمونٍ شرعيّ إسلاميّ للسياسة من الأصل، فيزعم أن لا طلبَ فيه صادر لأغراض التدبير العمومي، وإن كان هذا المسار يقوى على الأقل من الفرار من التناقض الظاهريّ، إلا أنه بحاجة إلى إثبات نصّي وتاريخي، وكثير من الاعتداء على النصوص، والمسح، والنسخ، والمسخ. وهو في آخر المطاف يحتاج إلى فكرةٍ مُحوريّة، هي أساس الحجة على فرض عدمِ وجود ما يتوجّه إلى السياسي : أن إنعدام التوجه إلى السياسي، كان لمقصدٍ علماني. وما لم تُثبت هذه الفكرة تبقى النظرة عاريّة عن أي تصوّر، ويكون من المعيب للغاية إدعاء أي نسبة إلى العلمانية. وليسَ يكون ذلك بمُجرّد المحاولات المتكلفة لإثبات فرضية عدمِ توجّه أي حكم شرعي إلى الممارسة العموميّة، لأنه من المعروف عدمُ توجّه الأحكام الشرعية لمناطق حياتيّة أخرى، غير السياسة، وغيرَ الظهور العموميّ، فلم يحصُل قطّ أن فهم من ذلك أحدٌ كونَ عدمِ التوجّه أو السكوت دليلاً على أن ثمةَ خلفيّة مُعلّمةٌ للسكوت. على هذا الأساس لطالما كانت الفكرة التي تدور في خلدي مع غرابتها ،أن لو كان الإسلام علمانيّة، لكانت العلمانية بجلب دين آخر إلى السياسة، فلم يؤتى لي فهم وجهها إلا بعدَ أن ضربتُ فهمَ العلمانية للدين بفهم الدين لنفسه، تماماً على ما درجنا هاهنا.
(7). في المقابل، دفعت الهشاشة التي تحوم بالبحث عن الشرعية الدينية الإسلامية للعلمنةِ آخرين، على المستوى العربي، إلى الفرار من كافّةِ هذه الإشكاليات والأوهام ومناطق الشك والريبة، إلى دعوى استقلالية أساسية للعلمانية باعتبار جميع الأديان، بما في ذلك الإسلام. الفكرةُ ببساطة أن هذا يضعُنا في نطاقٍ يُنعت بالفكري المحض، ويكون محرّرا لنا للتفلسفِ بأريحية أكبر وسياسةٍ في المفهوم الصحيح الذي ينبغي أن نفهمَ أنه عليه تأسّس أو به يتأسس كيان التفكير العلماني. بل هو أيضاً نوعُ استعادةٍ لمسار العلمنة على صورتِه الشهيرة في صراعه مع المسيحية، خلال عصر الأنوار.
لكن إليك ما تحملُه العلمانية في طيّاتِها : تظاهر بالجهل، مع أن الباطن محشو بمضمرات التقارير. فكيف يمكن حياد الدولة أمام الدين إن لم تكن عالمة به. سؤال بسيط. قد لا يكون أصلا محرجا. لكن كيف يمكن للدولة أن تتنبأ بأن كل قراراتها خارجة عن لائحة الدين الموجود ؟ يلزم إذن أن تعرفه، فلا تطبقه، بل تحيد عنه إلى غيره. في هذا النطاق، يقع الفخ. وهو محلّ مركز تفكيرنا : أن العلمانية إن لم تكُن في أعلى مراتبها موقفاً دينياً، فإنها في أدنى درجاتها لا تكون إلا بموقِفٍ من الدّين. هذا هو المبدأ الذي لا علمانية من دونِه. كأننا بهذا نصلُ إجراء الاستعلاء عن الدّين بالدّين من جديد، بل نصلُه لدرجة القولِ بكمونِ طرفٍ منه، وهو أقصى درجاتِه، وانطباقِه مع السعي للشرعية العلمانية من الدّين، فإن كان من الإسلام، كانَ ردّه كردّ العلمانية المقيّدة بما في الفقرة السابقة، فلا يبقى لنا إلا مقاربة العلمنة عندما لا تكون إلا في صورةِ الموقف من الدّين. والمغزى من هذا، وإظهار هذا المخفي معناه أن العلمانية لا تبدأ عمَلها إلا بنقيضِ تفكيرها، ذلك أن إقصاء الرجوع إلى الدّين، بل مُجرّد مطابقة تحكيمٍ لهُ (حتى من باب الصدفة) يلزمُ منه محوُه على المستوى العموميّ، فلا يتأتى ذلك إلا بنوع موقفٍ من الدّين، من جهةِ كونِه غير صالِحٍ للتدبير العموميّ، وهذا الحُكم بالذات يعيدُنا دائماً إلى محلّ النزاع الأوّل والأخير : بأي حجةٍ يكونُ غيرُ الدّين أصلح وأقوم ؟ فيعودُ النقاش إلى سذاجتِه المبدئيّة، فتظهر العصبيّة في أعلى مراتِبها، وينتفي أي زعمِ تفلسفٍ أو تفكير.
(8). عُملة العلمانيّة التي يُحتمى بها إظهاراً للسلامة من أيّ عيب -من تلك العيوب التي غالباً ما تُنسب إلى الإسلام على وجه التحديد، كخاصيّة العنف أو الطائفية أو التّعصّب أو الخرافة … إلى غير ذلك = من الضروريّ وضعُها على الطاولة. وهذا يُعيدنا أيضاً إلى الإلحاد كخطابٍ يُروّجُ له بنفسِ المنطق وعلى نفس الأساس. فلطالما كان تملصّ العلمانيّة والإلحاد من العيوب بسلاسةٍ غريبةٍ محلّ ريبة، وتفسير ذلك بسطحيّة يكون من المتعصّبين بالتسليم بالسلامة من العيوب، تماماً كما يظهرُ ذلك على السطح، ويكون أحيانا أخرى من المخالفين ومحاولي الرّد بتعداد ما فُعل وما يُفعل من سوء في ظلّ العلمانية والإلحاد، لكن غالباً ما يكونُ التكذيب سهلاً بين الطرفين، بحيثُ يكون الصراع صراعاً لا يوحي بأي مضمون.
والخفيّ في ذلك والجوابُ الذي نقترحُه بياناً لهذا الغموض بملاحظة بسيطة : أن العلمانية والإلحاد مفهومان يستطيعان الانفكاكَ بسهولةٍ عن التاريخ والطفح على السطح دون أدنى مبرّر أو مجهود. نعني بهذا أن المتكلّمين في الشؤون المعنيّة بواسطة استعمال هذين المفهومَين يملكون على الدوام قدرةً وشرعيّة، بعد كلّ اتهام بواقِعٍ سيّء يُدّعى أنه ناتجٌ من المفهومَين- استعادة المعنى المرتبط أصالةً باللفظِ، واعتبارِ مجرّد التذكير بالمعنى الأصليّ وعدمِ تضمّنِه لأي معنى يستلزم أو يقتضي معنى الشر الحاصل = كافيّاً للخروج من المناظرة بالانتصار. لا مزيدَ عندَ مستخدمي المفهومين من الذاكرة الأصليّة لما اصطلح عليه بادئ الأمر، أو ما يُروّج كتعريفٍ عامّ ومشتهر لبيانِ عراءِ أي نسبةِ شرّ للمفهومين.
وهذا بدوره يحتاج إلى تفسير، وتفسيرُه في اعتقادنا يكمُن في طبيعةِ المفهومَين الذي يظهرُ في خطابيهما : لا نجدُ في خطابِ العلمانية ثم خطابِ الإلحادِ بدرجةٍ أوضح أي هويّة استثنائيّة مُنفكّة عن المقابلة بمفاهيم أخرى لا ترضاها. فالإلحاد بصراحةٍ ليسَ إلا نفياً للدّين، بل لطالما تفاخر البعضُ بأنه مجرّد مفهومٍ مقابِلٍ، لولا الدّين لما كانَت الحاجة لصكّه. أمّا العلمانيّة، فلم تكُن لتعرفَ الوجود لولاَ الدّين، بل لا تعرفُ نفسها إلا بالدّين. وهاهنا محلّ التفسير : أن المفهومين ليسا فقط (أ) مقابلةً لمفهوم الدّين، بل ثمةَ مزيدٌ في : (ب) حضورهما بهويّة لا تُقابلُ إلا الدّين، كمركز وقبلةٍ في تفكيرهما، إلى درجةِ (ج) أن تنفي الدّين وتُنكِرَه. وهو ما يُمكن تسميتُه بخطابِ السّلب، حيثُ لا يكتفي أن يضعَ نفسَهُ مكانَ مُقابِله، وإنما سلبُهُ، بالحلول فيه أوّل الأمر، ثمّ إنكاره في نهاية المطاف.
(9). ما يحصُل من هذا الفراغ : إشكالات عديدة، لكن أبرَزَها أنّه يمنحُ نوعَ استعداد وقُدرةٍ على “التملّص من المحاسبة”، إذ يُمكّن تبني هذا الخطاب لأصحابه الفرار والتملص من أيّ سوءة حاصلةٍ في تحركّاتهم وسلوكاتهم بفعل أن الخطابَ السالب الذي ينتمون إليه من العسير أن يُنسبَ إليه “دعوة” إلى سلوكٍ ما. فالطلب والدعوة لا تكون إلا إيجابية، وبهذا يكون من السهلِ للغايةِ حينَ تمكّن أصحابِ هذا الخطابِ من التسيير خلال حقبةٍ ما نسبة كلّ شرّ إلى بقايا الخطابات الإيجابية المقابلة، وعلى رأسها الدّين بطبيعة الحال. لكن في المقابل، بكلّ تناقُضٍ وحزمٍ، إذا حصل ما حصلَ من الخير والنفع، تكون مسارعتُهم إلى نسبتِه إلى خطابِهم السالب في لمح البصر.
هكذا تتغذى العلمانية والإلحاد من وهمٍ متجذّر في طبيعتِها، بل قد يكون مانعاً حتى لأصحابها من ممارسة قدرٍ من النقد الذاتي بفعل الإنغلاق السلبي للمفهومين. فيكفي أنّ الصراع على سبيل المثال في أي مجتمع كان لا يمكن أن تُرى بوادرُه ولا تحصُل نشأته وفِعليّتُه إلا بفعل إيجابيات، هي الوحيدة القادرة على الاحتدام وخلق شرارة الصراع. على هذا، يُستطاع القول أن انعدامَ الصراع وغيابَه = غيابٌ ضرورةً لدواعيه، وبالتالي ممارسة كلّ ما يسلُب هذه الأخيرة وينفيها، كالعلمانية والإلحاد. لوْ كان السّلم مجرّد صمتٍ أو غيابٍ للصراع، لكان الأمر صواباً نوعاً ما. لكن الأمر خلاف ذلك تماماً، ومقاربة السلمية بهذا النسق إسقاطٌ لأبرز الشروط التي دونها تختفي مظاهره بل وقابليّتُه من الأساس.
(10). إن الذي حصل خلال حملات الأخذ والرّد بخصوص جميع خطابات السلب، على رأسها العلمانية والإلحاد، أن الخطاب الذي تم إنتاجه قصد الرد والدفاع من الجهة الإسلامية بقيَ حبيسَ تدوير مفاهيم تؤول بخطابات السلب إلى الإيجاب، تماماً كما كانت هذه الخطابات تحاول محاربة الإسلام في الجهة العربية بمحاورة الإسلام كخطاب إيجابٍ وأمر، الشيء الذي لا يُنكر، بل وأصابوا من خلالِه، فالإسلام يوجب، ويُنتِجُ، ويعرفُ نفسَه بنفسِه، بتاريخ يُروى قبلَ أن يُصنَع. والخواء لا يُقدح بالمضمون كما هو معلوم، كذلك أي خطاب نفيٍ أو سلبٍ، إنما يُنتقد بمفاهيمَ تحاول الإقصاء والدفع باعتبارِه خالياً، لا يساوي في شيءٍ غيرَه العامر (ولا نقول “النقد” بمعناه الدارج الذي صار غلطاً يَفترض المضمون في كلّ حين).
فمن يظنّ بلغة الإشارة محاورة الأعمى!. وخطاب السلب أعمى إلا أن يضع نظارات خطاب إيجابي ما : لذلك نقول أن العلمانية عمياء اللهم بالدين، كما أنه لولا الدين، لما وُجد الإلحاد أو عُرف.