أيوب الصابر
لطالما حيّرَ هذا السؤالُ عقولَ العديدِ من الباحثين، وطالما مثّلَ إشكالًا عصيًّا عن الحلِّ. وأنا أتفهّمُ طرحَ هذا السّؤالِ في أروقةِ الفكرِ الغربيِّ وفلسفاتِه، وأتفهّمُ كذلك تناولَ بعض الباحثينِ المسلمينِ لهذا الإشكالِ من جهةِ دراستِهم للفكرِ الغربيّ. لكن ما هو مرفوضٌ وغيرُ مقبولٍ سحبُ هذا الإشكالِ إلى مجالِ الفكرِ الإسلاميِّ، والتّعاطي معه بأدواتِ الفهمِ والتّحليلِ الإسلاميّةِ قصدَ تفكيكِ إلغازِه، ومحاولةِ الإجابةِ عنه إسلاميًّا.
وهذا الفعلُ مرفوضٌ من جهةِ إقحامِ إشكالاتٍ وافدةٍ غير أصيلةٍ، وما يتبعُها من استيرادِ مفاهيمٍ ومعانٍ دخيلةٍ تتناقضُ مع تصوّراتٍ أساسيّةٍ عندَ المسلمين، كما تُمثّلُ هذه التّصوّراتُ خطرًا على المفاهيمِ الإسلاميّةِ الأصيلةِ إمّا بتشويهِها أو التّشويشِ عليها. كما ينتهي بحثُ هذا الإشكالِ إسلاميًّا إلى مزيدٍ من الحيرةِ والإشكالاتِ، وقد ينتهي ببعض النّاسِ إلى الاعتقادِ بقصورِ الفكرِ الإسلاميِّ عن الإجابةِ على الأسئلةِ المهمّةِ.
بصفةٍ عامّةٍ، كثيرٌ من الإشكالاتِ الواردةِ الّتي يستعصي حلُّها إنّما هي إشكالاتٌ زائفةٌ، منشؤها من نمطٍ مسيطرٍ أو من مباينةِ جهةِ ورودِها. أمّا النّمطُ المسيطرُ فهو يتمثّلُ في عدمِ القدرةِ على التّفكيرِ خارجَ نمطٍ علميٍّ معينٍ وفي التّشبّثِ بتقسيماتٍ دراسيّةٍ مخطّئةٍ، غالبًا ما تكون ثنائيّةً، تحبسُ العقلَ وتحدُّه وتُنشئُ الأوهامَ في الذّهنِ، فالسّبيلُ للوعيّ بحقيقةِ تلك الإشكالاتِ هو تحريرُ العقلِ العلميِّ من أثرِ الأنماطِ والتّصوّراتِ والتّقسيماتِ الاصطلاحيّةِ المخطّئةِ. وأمّا التّباينُ مع جهةِ الورودِ، فهو أنّ الإشكالاتِ المطروحةِ أنتجتها سياقاتٌ اجتماعيّةٌ وثقافيّةٌ وتاريخيّةٌ دخيلةٌ علينا، ولم ترد علينا تلك الإشكالاتُ إلّا عن طريقِ تأثّرِنا بغيرنا، لذلك فإنّ معرفةَ جهةِ وُرودِها تُزِيلُ الإشكالِ من أصلِهِ، إذ تُجلّي للنّاظرِ المسلكَ الّذي يجبُ أن يتّخذَه والتّصوّراتِ الخفيّةَ الّتي أنتجت الإشكالَ والّتي غالبًا ما تكون مخالفةً لأساسِ تصوّراتِنَا.
وهذا السّؤالُ، أي سؤالُ التّفريقِ بين العلمِ الحقيقيِّ والزّائفِ، مثالٌ للنّوعينِ، فالسؤالُ من جهةٍ خاضعٌ لنمطٍ مسيطرٍ حيثُ أنّهُ قائمٌ على أساسِ تقسيمٍ ثُنائيٍّ لم يقع إثباتُ صحّتِه ابتداءً، هو من قبيلِ السؤالاتِ المتضمنّةِ لمغالطاتٍ منطقيّةٍ أو مفاهيمٍ غيرِ مسلّمٍ بها، والمتأمّلُ في التّراثِ الإسلاميِّ حينَ الحديثِ عن العلمِ يُلاحظُ أنّه لم يقع فيه هذا الأسرُ داخلَ قسمةٍ واحدةٍ، فتناول كثيرٌ من العلماءِ العلمَ من جهةِ تقسيماتٍ عديدةٍ لا من جهةِ تقسيمٍ واحدٍ، فهناك من اعتبرَ بالنّظرِ تقسيمَ الإلهيِّ والدّنيويِّ أو الطّبيعيِّ، أو تقسيمَ العقليِّ وحدَه والسّمعيِّ وحدَه والعقليِّ والسّمعيِّ معًا، أو تقسيمَ العلمِ النّافعِ وغيرِ النّافعِ. . .
هذا من جهةِ النّمطِ أمّا جهةُ الورودِ فعلى المرءِ أن يتأمّلَ في تاريخِ هذا السّؤالِ وأسبابِ نشأتِهِ. انتشرَ هذا السؤالُ في الغربِ عن طريقِ فلاسفةِ المدرسةِ الوضعيّةِ “حلقة فيينا”، والتّي ساهمت أفكارُها في تعزيزِ ضرورةِ حلِّ هذا الإشكالِ، وكانت هناك محاولاتٌ عديدةٌ أشهرُها اثنتان، قابليّةُ الدّحضِ الّتي طرحَها كارل بوبر، و”تحوّلُ البرادايم” وفكُّ الإلغازِ الّتي طرحَها توماس كون، هذه المحاولاتُ كانت تكتسبُ أهميّةَ كُبرى داخلَ الفكرِ العلميِّ والفلسفيِّ الغربيِّ، وذلك لأنّها فترةُ انتقالِ المرجعيّةِ والمركزيّةِ إلى العلمِ، وتملّكِه للقيمةِ والتّقييمِ الباتِّ، وتحوّلُ العلمِ إلى إلهٍ يُقدّمُ جميعَ الإجاباتِ عن الحياةِ والكونِ. ..
لذلك شكلَّ هذا السؤالُ أهميّةً كُبرى، لأنّ وجودَ ما يُسمّونه علمًا زائفًا يُمثّلُ ضربًا كبيرًا لمعتقداتِهم، حيثُ لا يُوجدُ ما يُمكنُ بواسطتِهِ التعرّفُ على علميّةِ العلمِ، والّذي يُعتبرُ إشكالا كبيرًا لأيِّ مرجعيّةِ، لأنّها غيرُ مُحدّدةٍ يُمكنُ دخولُ غيرِها فيها، كما أنّها عاجزةٌ عن تعريفِ نفسِها. هذا باختصارٍ شديدٍ ما يُمكنُ قولُه عن جهةِ الورودِ.
أمّا في تُراثِنا الإسلاميِّ فالأمورُ مختلفةٌ فالعلمُ عندنا له معانٍ أخرى تمامًا، ففضلًا عن تباينِ الاشتقاقِ اللّغويِّ للعلمِ في لسانِنا عن الأعجميّةِ، فالمفهومُ الاصطلاحيُّ كذلك متباينٌ مع نظيرِه الغربيِّ، كان من دُعائه صلّى اللّهُ عليه وسلّمَ: “اللّهمَّ إنّي أعوذُ بكَ من علمٍ لا ينفعُ“، فهذا علمٌ ويُسمّى كذلك ومع ذلكَ يُستعاذُ منه، ولم يزل أهلُ الإسلامِ يُسمّون ما يحرّمون ويستقبحون علمًا، ولا يجدونُ في ذلك حرجًا، فهم يسمّونَ السّحرَ علمًا ويُحرّمونه، ويسّمونَ الكهانةَ والتّنجيمَ علمًا ويُحرّمونه ويعتقدّون بُطلانَه، فوجودُ رسمِ العلمِ في العلمِ عندهم لا يمنعُ من تسميّتِه كما لا يمنعُ من بُطلانِ مُخرجاتِه، فعلميّةُ العلمِ عندهم لا تُحمّلُه قيمةً، وإنّما يحملُ العلمُ القيمةَ بأثرهِ ونفعهِ، والنّفعُ هنا ليس على مفهومِ النّفعيّةِ الغربيّةِ، بل النّفعُ هنا يتجاذبُهُ طرفان، الدّنيَا والآخرةِ، والنّفعُ الأُخرويُّ أقوَى، هذا لأنّ المركزيّةَ والمرجعيّةَ في الإسلامِ واضحةٌ ثابتَةٌ وهي الوحيُّ بشقيْهِ القرآنِ والسّنّةِ.
وعليه فإنَّ محاولةَ الإجابةِ عن إشكالِ التّفريقِ بين العلمِ الحقيقيِّ والعلمِ الزّائفِ هي خلطٌ للمرجعيّاتِ وانتقالٌ بين المركزيّاتِ، وهو سؤالٌ مُغالطٌ لا يُمكنُ الإجابةُ عنهُ ليس لقصورِ التّصوّراتِ والأدواتِ الإسلاميّةِ عن ذلكِ، ولكن لأنّهُ نتاجُ ثقافةٍ ومجتمعٍ وتصوّراتٍ أخرى مباينةٍ، هذا السّؤالُ لا ينشأُ داخلَ عقلِ المسلمِ لأنّ تّصوّراتِه وثقافتِه ولسانِه لا يخرجُ منها هذا الإشكالُ، وبالتّالي الفكرُ الإسلاميُّ غيرُ مطالبٍ بحلِّ إشكالاتٍ لم يُنتجها عقلهُ أو ثقافتُه.
هل العلمُ حالةٌ عقليّةٌ محضةٌ؟
إذا كانَ العلمُ حالةً عقليّةً محضةً فلماذا يتناقضُ الإنسانُ؟
لا يمكنُ لسؤال التّناقضِ أن ينشأَ إلّا باختزالِ الإنسانِ داخلَ عقلِه، ولا شكَّ أنّ هذا الاختزالَ مخلٌّ، فالإنسانُ كائنٌ مركّبٌ، وكما أنّه كائنٌ عقليٌّ فهو كذلك كائنٌ نفسيٌّ، لذلك فإنّ شأنَ التّناقضِ في الإنسانِ محسومٌ قدرًا.
فإنّ تفعلاتِ النّفسِ لها اتّصالُها المباشِرُ بالعقلِ والعلمِ ولها أثرُها المُشاهدُ.
ولكنّ الحريّ بنا قلبُ السؤالِ، من سؤالِ أسبابِ التّناقضِ إلى سؤالِ أساليب إصلاحه أو طرق الاتّساقِ.لأنّ السؤالَ الأوّلَ سؤالُ الجدلِ، في حين أنّ السؤالَ الثّاني سؤالُ العملِ.
حتّى يُفضي بنا الأمرُ إلى فهمِ أنّ سؤالَ الاتّساقِ هو سؤالُ الهدايةِ.
.“ “وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
العلمُ حالةُ عقلٍ وهو كذلك حالةُ نفسٍ، وقوّةُ العلمِ في الاستدلالِ.
وليسَ الدّليلُ شيئًا عقليًّا محضًا ولا الاستدلالُ فعلًا عقليًّا مجرّدًا، فإنّ المرءَ يكونُ لهُ كثيرٌ من الدّلائلِ على مسألةٍ، وهي في ميزانِ العقلِ عندهُ على مراتبٍ، قد يستدلُّ بأقوَاها فلا يُسلّمُ له المُخالفُ، ثُمّ يُفاجأُ بتسليمهِ بأضعفِ الأدلّةِ في حسابِه، أو بشيءٍ لا يرتقي أصلًا عندهُ لمرتبةِ الدّليلِ.
هذا لأنّ عملِيّتَيْ الاستدلالِ والتّسليمِ عمليّةٌ نفسيّةٌ كذلك، بل لعلّها بالأساسِ كذلكَ، عندمَا يُسلّمُ المخالفُ لك بأضعفِ الأدلّةِ في حسابِك العقليِّ فاعلم أنّها لامست نفسَهُ وأنّها الأقوى في حسابِه، ليس حسابَهُ العقليَّ ضرورةً ولكن حسابُه النّفسيُّ.
ذلكَ أنّ التّفريقَ بينَ العقلِ والنّفسِ هو تمحيضٌ عقليٌّ وتجريدٌ للأشياءِ في عالمِ الذّهنِ، هو تقسيمٌ دراسيٌّ لا أكثر، أي أنّ الوجودَ الخارجيَّ لا توجدُ فيه الأشياءُ المجرّدةُ والمتمحّضةُ إلّا مختلطَةً ببعضها، الوجودُ الخارجيّ أساسهُ التّركّيبُ والاتّصالُ والتّداخلُ. . .
﴿وعِظْهم وقُلْ لَهم في أنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾
وكذا كلُّ قولٍ بليغٍ، ينتهِي إلى نفسِ السّامعِ، فليسَ مِن فقهِ الاستدلالِ أنّ مراتبَ الدّليلِ في النّفسِ هيَ هيَ مراتبُ الدّليلِ في العلمِ من جهةِ العقلِ، فقد يكونُ الدّليلُ في حسابِ العلمِ والعقلِ أقوَاهَا، ولا يكونُ كذلكِ في حسابِ النّفسِ، فلا يُتقوَّى به، وقد يكونُ لأسماءٍ سطوةٌ في النّفسِ عظيمةٌ، واسطةُ الاستدلالِ بها أبلغُ، فالمستدِلُّ لا يُجزئهُ علمُ الدّليلِ دونَ علمِ نفسِ الدّليلِ، وكُلّما عُلمَ من نفسِ السّامعِ شيءٌ كان أعنَى، وأقربَ وسيلةً للبلاغِ.
فإنّ مُعالجةَ هوَى النّفسِ آكدُ من معالجةِ الظّنِّ، وأدقُّ وأصعبُ، فقد يُزيلُ الدّليلُ كلَّ ظنٍّ أو شبهةٍ، ولا يكونُ شأنُهُ كذلكَ مع الهوَى، وليسَ يُضلُّ النّاسَ مثل الهوَى، “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ“.
العودةُ إلى خطابِ القرآنِ شرطُ الفاعليّةِ.
الخطابُ العلميُّ إذا اختُزلَ في العقلِ، فإنّه لا يُراعِي حركاتِ النّفوسِ ولا يعتبرُها، فأيُّ حظٍّ للإيمانِ فيه! والخطابُ الوعظيُّ الّذي لا التزامَ فيه بقواعدِ العلمِ ومسلّماتِ العقولِ، أيُّ حظٍّ فيه للعلمِ!
الخطابُ أيًّا كانَ لا تُثمرُ فاعليّتَهُ إلَّا إذا اتّصلَ بخطابِ القرآنِ، وليسَ المقصودُ صلةَ الاستدلالِ بالآياتِ، ولكن كذلك صلةُ نوعِ الخطابِ في اجتماعِ المعانِي العلميّةِ والإيمانيّةِ، العقليّةِ والنفسيّةِ في البناءِ الواحدِ والتّركيبِ الواحدِ.
هذا ولم يقع في خطابٍ واحدٍ تعدّدُ جهاتِ المعانِي واجتماعُها كما في القرآنِ، كما أنّها لا تنفدُ.
وقد كان في كلامِ الصّحابةِ والتّابعين والقرونِ المفضّلةِ اتّصالٌ بهذا الخطابِ فكان أكثرَ فاعليّةً، ومن تبعَهم نالَه على قدرِ اتّباعِه.
فأنتَ تقعُ على كلامِهم فتجدُ فيه من احتمالِ المعانِي الكثيرةِ المختلفةِ المتّسقةِ حتّى تُدهشَ، وكلُّ من جرّبَ الكتابةَ يعرفُ قيمةَ هذا، إذ يعرفُ أنّ سبكَ عديدِ المعانِي في الكلمةِ الواحدةِ عملٌ شاقٌّ صعبٌ.وهم على ذكائِهم وعقلِهم بلغوا من جمعِ المعانِي ما لا تبلُغُه الملكاتُ، وما ذاك إلّا من زكائِهم، لمّا اعتادُوا القرآنَ عادَ عليهم ببركتِه وشيءٍ من معنَاه، فكانوا يجتهدون في الكلامِ فيصيبون بعضَ المعانِي من غيرِ قصدٍ توفيقًا من اللّهِ، فمن وصلَ القرآنَ وصلَه اللّهُ به، ومن أدامَ عليه مدَّهُ اللّهُ. . .
العلمُ والعقلُ والإيمانُ.
العقلُ ليسَ غايةً لأنّه أداةُ العبورِ إلى الإيمانِ، لذلك فالإنسانُ الّذي يستخدمُ عقلَهُ ليتخطاه بمعرفةِ حدودِه إلى حقائقِ الإيمانِ هو الإنسانُ العاقلُ الذّكيُّ.
يُمكنُ للعقلِ أن يكونَ عائِقًا أمامَ الإيمانِ إذا اختزلَ الإنسانُ نفسَهُ فيه أو اختزل الوجودَ في المعقولِ دون وعيّ بما هو خارجٌ عن سلطانِه، كما أنّه يُمكنُ أن يكونَ مُعبّرًا عظيمًا عن الإيمانِ للّذين يُدركونِ أنّ في الوجودِ ما يتجاوزُ عقولَهم.
إذا توقّفَ العلمُ عند حدودِ العقلِ فإنّه لا يُمكنُه أن يفهمَ شيئًا عن الإيمانِ، إذا لم يُرافق العقلَ إيمانٌ حيٌّ فإنّهُ لا يعدُو أن يكونَ ملكةَ تصويرٍ ذهنيٍّ قاصرةٍ، والخطرُ يكمنُ في أنّ العقلَ يمنحُ العلمَ قُدرةَ تصويريّةً فائقةً تسحرُ النّاسَ، وهذه القوّةُ في أيدي القاصرينِ خطرةٌ، لكنّها مُفيدةٌ في أيدي المؤمنينِ.
إنّ الإيمانَ هو الّذي يجعلُ الإنسانَ العاقلَ حكيمًا.الحكمةُ عقلٌ مُزكّى.
“رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ“.
عندما يرتقي الإنسانُ إلى عالمِ الإيمانِ، وينظرُ إلى الكونِ والأحداثِ من خلالِه، فإنّه لا يجبُ عليه الاعتمادُ على أدواتِ التّحليلِ الّتي اعتادَها في عالمِ الشّهادةِ، لأنّ عالمَ الغيبِ لا يخضعُ لنفسِ القوانينِ فمحاولةُ تفسيرِه أو إخضاعهِ بتلك الأدواتِ لا معنى لها. ولكن بإمكانِ العقلِ أن يشعرُ بالفرقِ، بإمكان العقلِ أن يُحسَّ أنَّ شيئًا ما يحصلُ من وراءِ هذا ولكنّهُ يتخطّى حدودُ معرفتِه، وإذا شعر العقلُ بذلك فقد حقّق الكثيرِ.وبإمكانه كذلك أن يرفضَ ذلك الإحساسِ، وهذا ما يُحدّد إن كنّا متحلّين بالإيمانِ أم لا، والعقلُ الممدوح في القرآنِ هو ذلك العقلُ المرتبطُ المتّصلُ بالإيمانِ، أمّا العقلُ الّذي هو صحّةُ التّصوّرِ الذّهنيِّ الّذي لا يشعرُ إلّا بما يُحسنُ تفسيرَه وبما هو تحتَ سُلطانِه، ولا يرى وجودًا لأيِّ شيءٍ خارج حدودِ التّعقلُ، فهو قاصرٌ لا يُمدحُ، فالعقلُ في لسانِنَا هو الرّبطُ، وعقلُ الأشياءِ أي ربطُها بمعانِيها الصحيحةِ من جهةٍ، وهو كذلكِ ربطُ هذهِ الملكةِ والغريزةِ داخلَ حدودِها فتعرفَ ما هو خارجهُ. ربطانِ داخليٌّ وخارجيٌّ. و”العقلانيّ” الّذي لا يستطيعُ النّظرَ لأيِّ ظاهرِةٍ من بُعدٍ آخرٍ، خاصّةً إذا دُرّبَ على التّفكيرِ بطريقةٍ منطقيّةٍ، لن يسمحَ لنفسِهِ بقبولِ الحقائقِ الإيمانيّةِ، وفي أحسنِ الأحوالِ يقبلُ الحقائقَ الإيمانيّةِ في عالمِ المُثُلِ، أو على الصّورة التّاريخيّةِ الأولى، فهو يُقرّ بالقيّمِ الإيمانيّةِ إمّا مجرّدةً وإمّا مرتبطةً بالنّبيِّ والصّحابةِ، أمّا قبولُها في الواقعِ خارجَ المِثالِ فأمرٌ غيرُ مسموحٍ بهِ، بل هو أمرٌ غيرُ عقلانيٍّ. وبهذا تكونُ التّصوّراتُ العقليّةُ المنطقيّةُ منغلقةً ضمن حدودِ أدواتِ تحليلِه، فلا يُمكنَها أن تنفذَ إلى الإيمانِ.
ولكن بإمكانِ العقلِ أن يكونَ منفتِحًا، إذا أدركَ حدودَه، وأدركَ أنّه يوجدُ خارجِها أشياءٌ كثيرةٌ، آنذاكِ يكونُ العقلُ أداةً للإيمانٍ منفتحًا، عندها يُؤمنُ العقلُ.
“بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ“
الفصلُ بين الأخلاقيِّ الإيمانيِّ والذّهنيِّ العلميِّ مسلكٌ باطلٌ، وهو نوعُ علمنةٍ خفيّةٍ للعلمِ الشّرعيِّ، ففيه فصلٌ للعلمِ عن الحياةِ، بِواسطةِ فصلِه عن أثرِه في حامليه وعملِهم بمُقتضَاه، وهو كذلك تغييرٌ لمفهومِ العلمِ في الإسلامِ وسحبِه إلى دائرةِ المفاهيمِ الغربيّةِ للعلمِ، فالعلمُ من المنظورِ الإسلاميِ لا يحملُ قيمةً في ذاتِه لأنّه وسيلةٌ للعملِ والغايةُ هي الحركةُ والتمثّلُ به قدرَ المُستطاعِ، إنّما العلمُ أثرهُ ونفعُه. ذُكرَ معروف الكرخيّ في مجلسِ الإمامِ أحمد فقالَ بعضُ من حضرَ :”هو قصيرُ العلمِ.”، فقالَ له الإمامُ أحمد : “أمسك عافاك اللّهُ، وهل يُرادَ من العلمِ إلّا ما وصلَ إليه معروف “
وعليه فبعضُ المعايبِ الأخلاقيّةِ والإيمانيّةِ، تُعدُّ كذلك منقصةً علميّةً، تجعلُ من صاحبِها غير مؤهّلٍ للحديثِ عن العلمِ أو التّصدّرِ، قال الإمامُ مالك : “لا يؤخذُ العلمُ عن أربعةٍ ويؤخذُ عمّن سواهُم، لا يؤخذُ عن معلنٍ بالسّفهِ، ولا عمّن جُرّبَ عليه الكذبُ، ولا عن صاحبِ هوًى يدعُو النّاسِ إلى هوَاه، ولا عن شيخٍ له فضلٌ وعبادةٌ إذا كانَ لا يعرفُ ما يحدّثُ به. “
والشّاهدُ هنا قولُ الإمامِ مالك: “لا يؤخذُ عن معلنٍ بالسّفهِ، ولا عمّن جُرّبَ عليه الكذبُ.”، فالسّفهُ منقصةٌ إيمانيّةٌ وكذلك الكذبُ منقصةٌ إيمانيّةٌ وسوءةٌ أخلاقيّةٌ كبيرةٌ، تمنعُ من تلبّسَ بها أن يرتفعَ إلى مقامِ العالمِ المتّبَعِ أو المتصدّرِ للحديثِ. . .
“الحكمةُ ضالّةُ المؤمن“، قد يُتوّهمُ على وفقِ هذا نقيضُ ما ذكرت، ولكنّهُ ليسَ كذلكَ، فتصدّرُ من ليسَ أهلًا للتّصدّرِ سواءً من جهةِ المعايبِ العلميّةِ أو المعايبِ الإيمانيّةِ قدرٌ موجودٌ مُشاهدٌ، فلا إشكالَ إن وقعَ من مثلِ هؤلاءِ نفعٌ أن يُنتفعَ بِه، بل قد يُنتفعُ بمن ليسَ من أهلِ الإسلامِ، لكنَّ هذا الانتفاعَ حالَ وُقوعهِ، لا يجبُ أن يتحوّلَ إلى حالةِ إقرارٍ لأصحابِ المعايبِ على تصدّرِهم، فضلًا عن رفعِهم إلى مرتبةِ العلماءِ أو العلّامةِ!
تخيّل أنّ لسانَ حالِ من يرفعُ هؤلاءِ يقولُ: “أفادنِي العلّامةُ الكذّابُ الفائدةَ كذا وكذا. . . “
بلعام بن باعوراء ذُكرَ مع المنسلخين لا مع العلماءِ، لأنّه لم يعمل بما علمَ، وإبليسُ -لعنّه اللهُ- من أعلمِ أهلِ الأرضِ!