أحمد بن محمد الحمزاوي
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد سألني تلميذي البارُّ الشيخ محمد الشيخ – وفقه الله – عن هامش من هوامش العلامة محمود شاكر – رحمه الله – على تفسير الإمام أبي جعفر الطبري –رحمه الله – فأجبتُه بما علَّمني الله – تعالى – فالتمسَ نشر الجواب؛ لتعميم الفائدة، فأجبتُه إلى ما طلب، وهذا تلخيصٌ لما دارَ بينَنا في قرابة ثلاث ساعات.
قال الإمام الطبري في تفسير قول الله – تعالى -: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة : 145]:
«وأُجِيبَت “لئن” بالماضي من الفعل، وحُكمها الجوابُ بالمستقبل؛ تشبيهًا لها بـ”لو”، فأُجِيبَت بما تُجاب به “لو” لتقارُب معنيَيهِما.
وقد مضى البيانُ عن نَظير ذلك فيما مضى، وأُجِيبَت “لو” بجَواب الأَيمان. ولا تفعل العربُ ذلكَ إلا في الجزاءِ خاصَّة؛ لأنَّ الجَزاء مُشابِهُ اليَمين: في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما لا يتمُّ أوَّلُه إلَّا بآخرِه، ولا يتمُّ وحدَه، ولا يصحُّ إلَّا بما يؤكَّد به بعدَه. فلمَّا بدأ باليمين فأُدخِلَت على الجزاء، صَارَت “اللام” الأولى بمنزلة يَمين، والثانية بمنزلة جَواب لها، كما قيل: “لعَمرُك لتقومَنَّ”؛ إذ كثُرت “اللام” من “لعَمرُك”، حتى صارت كحرفٍ من حروفه، فأُجيب بما يُجاب به الأيمان، إذ كانت “اللام” تنوبُ في الأَيمان عن الأيمان، دونَ سائر الحروف، غيرها التي هي أجوبة الأيمان. فتدلُّ على الأيمان وتعمل عملَ الأجوبة، ولا تدلُّ سائر أجوبة الأَيمان لنا على الأَيمان. فشُبِّهَت “اللام” التي في جواب الأَيمان بالأَيمان، لما وصفنا، فأُجِيبَت بأجوبَتها».
قال المحقِّق العلامة محمود شاكر – رحمه الله – معلِّقًا: «قوله: “أجوبة الأيمان لنا على الأيمان” هذه عبارةٌ غامضة، لم أظفَر لها بوجهٍ أرتضِيه، وأنا لا أشكُّ في تحريفِها أو نقصِها».
فهذه هي الحاشية المسؤول عنها، وقد سلَّم بعضُهم للمحقِّق كلامَه، فراحَ يبحث في كتب التفاسير، ومعاني القرآن، لعلَّه يجد صوابَ العبارة، فشرَّق وغرَّب، وخلصَ من رحلته إلى الرِّضى من الغنيمة بالإياب، واكتفَى بشرفِ المحاولة.
قلت: العبارة فيها شيء مما نعدُّه في عصرنا غموضًا؛ لأسباب معروفة، ككثير من كلام الإمام أبي جعفر، وسيبويه، والفرَّاء، وأضرابِهم، وعند إنعامِ النظر فيه يتَّضِح أنه كلام في غايةِ الصحَّة، ومنه عبارة أبي جعفر هذه.
ومن أسباب غُموض بعضِ عبارات المتقدِّمين: أنهم يَبنُون كلامَهم على أصول وقواعدَ مع عدم التنصيصِ علَيها صراحةً في العبارة؛ لكونِها معلومةً في أثناء الكلام، فإذا لم يستحضِرها قارئُ كلامِهم غمُضَت عليه العبارةُ واستغلَقَت، حتى إذا استحضرَها ظهرَ له أنَّ الكلام في غاية الوضوح والظُّهور.
فكلام الإمام الطبريِّ يتعلَّق بالحروف التي تُتلقَّى بها الأَيمان؛ أي: يُجاب بها القَسَم، والموازنةِ بينها قوَّةً واختصاصًا باليمين؛ فإنَّ القَسَمَ يُجاب – كما قال الفرَّاء في معانى القرآن [1/ 61]:
«إمَّا بـ”لامٍ”، وإمَّا بـ “لا” وإما بـ “إنَّ” وإمّا بـ “ما”؛ فتقول في “ما”: لئن أتيتَني ما ذلك لكَ بضائع، وفى “إنَّ”: لئن أتيتني إنَّ ذلك لمشكورٌ لك … وفى “لا”: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}، وفى “اللام”: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ}».
وهذه الحروف الأربعة ليست سواءً في القوَّة والاختصاص بالقَسَم؛ فاللام ألصقُ بالقَسَم، وأخصُّ بالأيمان؛ ولهذا فصَّل الإمام أبو جعفر الطبري الكلامَ فيها، وبيَّن أنها أخصُّ بالقَسَم من سائر الحروف التي يُتلَقَّى بها القَسَم، ومُرادُه بسائر الحروف: “لا”، و”إنَّ”، و”ما”، ولم ينصَّ علَيها؛ للعلم بها، وأوضحَ – رحمه الله – وجهَ الفَرقِ بين اللام، وبقيَّة الحروف، بأنَّ “اللام” تقعُ في جواب القَسَمِ كسائر حروف الجواب، وتنفرِدُ “اللام” بأنها تقع في موضع القَسَم، ومثَّلَ لذلك بقولهم: (لعَمرُك لأفعلنَّ)، فـ”اللام” في قولك: “لأفعلنَّ” جوابٌ للقَسَم، ويُشارِكُها في ذلك سائرُ الحروف، فتقول: لعَمرُ اللهِ إنَّك لكريم، أو: ما أنتَ ببخيل، أو: لا أُنكِر ذلك، أمَّا اللام في “لعَمرُك” فتدلُّ على القَسَم، ولا يُشارِكُها في ذلك غيرُها من الحروف التي تقعُ في جواب القَسَم، وهذا معنى قولِه: «إذ كانت “اللام” تنوبُ في الأَيمان عن الأَيمان، دونَ سائرِ الحُروف»، وقد علِمتَ أنَّ مُرادَه بسائر الحروفِ، بقيةُ الحُروف التي يُتلقَّى بها القَسَم، وقد تقدَّمت؛ ولأجل هذا فإنَّ “اللام” تدلُّ على القَسَم، وإن لم يُوجَد في اللفظ، فإذا قِيل: (لأفعلَنَّ) عُلِمَ أن في الكلام قَسَمًا محذوفًا دلَّت عليه اللام، وإذا قِيلَ ابتداءً: (إنَّك لكريم)، أو: (ما أنتَ ببخيل)، أو: (لا أُنكِر ذلك) – لم يدلَّ على القَسَم شيءٌ من هذه الثلاثةِ التي تأتي أجوبةً للقَسَم.
فتبيَّن بجَلاء أنَّ “اللام” تدلُّ على القَسَم، وعلى جواب القَسَم، وأنَّ بقيَّة الحروف التي يُجاب بها القَسَم – وهي: “لا”، و”إنَّ”، و”ما” – تدلُّ على جَواب القَسَم، ولا تدلُّ على القَسَم، وهذا معنى كلامِ الإمام الطبريِّ الذي عدَّه المحقِّق غامضًا: «فتدلُّ على الأَيمان وتعمل عَمَلَ الأجوبةِ، ولا تدلُّ سائرُ أجوبةِ الأَيمانِ لنا على الأَيمان»، ففاعلُ قولِه: «فتدلُّ» ضمير “اللام”، أي: فتدلُّ “اللام”، والجارُّ والمجرور «على الأيمان» الثاني متعلِّق بـ «ولا تدلُّ»، ومعنى قولِه: «سائرُ أجوبة» بقيَّةُ حروفِ الجواب، وهي: “لا”، و”إنَّ”، و”ما”.
فظهرَ أنَّ عبارةَ الطبريِّ صحيحةٌ لا غموض فيها، وأنها مبنيَّة على قاعدة مشهورة. نعم كلمة “لنا” لا معنى لها، والصوابُ حذفُها، كما في نُسَخٍ أخرى من “جامع البيان”.
وقد وقعَ في نصِّ الطبريِّ السابق، في نسخةِ الشيخ محمود شاكر، ما هو أحقُّ بالتوقُّف عندَه؛ والتعليقِ عليه، وهو قولُه: «إذ كانت “اللام” تنوبُ في الأَيمان عن الأَيمان، دونَ سائر الحروف، غير التي هي أحقُّ به الأيمان»، فانظُر – رحمك الله – ما معنى «غير التي هي أحقُّ به الأيمان»؟
وإنما هو تصحيف، وصوابه: «غيرِها التي هي أجوبةُ الأَيمان»، فالضمير في «غيرِها» يعودُ على “اللام”، وقوله «التي هي أجوبةُ الأَيمان» صفةٌ للحروف، والمعنى: دونَ بقيَّةِ الحروف التي هي أجوبةُ الأيمان غير “اللام”، وكم في هذه النسخة من مثل هذا.
وهذه المسألة – أعني مسألةَ حروفِ جوابِ القَسَم – ذكرَها الرُّمَّانيُّ في شرح كتاب سيبويه [1069]، فقال:
«وجواب القَسَم في الأصلِ على أربعةِ أوجُه: “إنَّ”، و”ما”، و”اللام”، و”لا”؛ فثلاثةٌ منها موضوعةٌ لمعنى غيرِ معنى القَسَم، وهي: “ما” موضوعةٌ للنفي، وتصلحُ للجَواب، و”إن” موضوعةٌ على نقيضِ “ما” في الخبر، و”لا” لنفي المستقبل.
فأمَّا الحرفُ الذي هو أخصُّ بالقَسَم، فـ “اللام” التي تلزمُها النون في المضارع من قولِك: والله لتفعلَنَّ.
وأمَّا “لام الابتداء” فموضوعةٌ ليقطَعَ العاملُ الذي قبلَها عمَّا بعدَها، وتصلح للقَسَم، فهي نظيرةُ “إنَّ”.
وقد علِمنا أنَّ جواب القَسَم يقتضي وضعَ حرفٍ هو أخصُّ به، كما يقتضي الابتداءُ وضعَ حرفٍ هو أخصُّ به؛ فاللام التي تصحبُها النون أحقُّ بالقَسَم؛ لأنها لا تمنَع العامل، ولامُ الابتداء تمنعُ العامل؛ فلذلك انفصلَ حكمُهما، وصارَ قولُك: “لَزيدٌ خيرٌ منك” لا يدلُّ على قَسَم محذوف، كما لا يدلُّ: “إنَّ زيدًا خيرٌ منك”، ويدلُّ: “ليفعلن”، على قَسَمٍ محذوف».
والله – تعالى – أعلم.