أحمد الحمدي
فكرة التخطيط في حد ذاتها ليست مرفوضة بل هي علاج للفوضوية الشخصية والمؤسسية، وكثيرًا ما تكون مطلبًا في تحديد الاتجاه، ورسم المسار والوجهة والقبلة وفقه الإستراتيجية= فبدون البوصلة تفقد السفن المسار ويضطرب المسير، ويطول الطريق.
أصبح الحديث عن مفهوم التخطيط على المستوى الشخصي حديثًا متكررًا في مطلعِ كل عام هجري أو ميلادي، فما إنْ ينتهي العام إلا وتنهال عليك الوصفات التخطيطية لعامك الجديد عبر وسائل الإعلام الجديدة.
إنّ الإنسان مفطورٌ على مقاومة المجهول، لذا تجده دومًا مستوفِزًا بالتفتيش والبحث عن كل أداة أو فكرة تجعل منه كائنًا مسيطرًا على تفاصيل الحاضر، وراغبًا في السيطرة على مآلات المستقبل وغموضه= من هنا تجد وَصَفَات التخطيط مدخلًا لها بالقبول عند كثيرين بل والتلهف عند آخرين.
لكن فــقه الاتــزان يقتضي أنْ نتعامل مع فكرة التخطيط على المستوى الشخصي وعلى المستوى المؤسسي بشيء من الرشد والحكمة= فالإنسان كائن متغير الرغبات، متقلب الأمزجة، وكذلك المؤسسات، والإنسان هو فوق كل ذلك روحٌ وإرادة، وليس آلة صماء، أو روبوت مادي، يتم تحديد كل حركاته وسكناته بخوارزميات رياضية مخطط لها مسبقًا.
جاء في الخبر المروي عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- «إذا تـمنَّى أحدُكم فلينظُر ما يتمناه، فإنه لا يدري ما يُكتَب له من أُمْنِيَتِه([1])».
يقول بعض شُرَّاح الخبر([2]) “(إذا تمنى أحدكم) أي اشتهى حصول أمر مرغوب فيه، والتمني إرادة تتعلق بالمستقبل= فإن كان في خير فمحبوب وإلا فمذموم وقيل حديث النفس بما يكون وما لا يكون، (فلينظر) أي يتأمل ويتدبر في (ما يتمنى) أي فيما يريد أنْ يتمناه، فإنْ كان خيرًا تمناه وإلا كفّ عنه (فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته) أي ما يقدر له منها وتكون أمنيته لسبب حصول ما تمناه”.
إذن فــكرة الـ تمنِّي فكرة مرنة مُتسقة مع طبيعة الكائن الإنساني ورغائبه، لذلك يحسن بالإنسان المعاصر استحضارها أثناء التخطيط ورسم الإستراتيجية والتفكير في الإنتاجية الشخصية والمؤسسية.
المجتمعات التي أنتجت فكرة التخطيط الحديثة = هي ذاتها اليوم تقوم بعملية مراجعة ونقد لمفهوم التخطيط الصلب أو صنم التخطيط!
يصف كتاب (REWORK([3])) التخطيط بـ أنه “مجرد تــَخمِيـَـنات” تعوق روح الارتجال والإبداع، فمن المستحيل أنْ تعرف المستقبل، ولهذا فإنّ التخطيط طويل المدى للمشروعات مجرد خرافة، ووضع خطة قد يشعرك بأنك تستطيع السيطرة على أشياء لا يمكنك في الواقع السيطرة عليها”.
إنّ القاعدة البديلة لصنم التخطيط هي أنْ تقوم بتحديد قائمة الأولويات، وأنْ تقرر بحسم ما تريد القيام به في هذه الآونة، وأنْ تُحدِّد الشيء المهم التالي وتفعله، بدلًا من السَّفَر في تفاصيل خطط المستقبل، التي يعرف الجميع أنها كثيرًا ما تبقى في الورق ولا تخرج إلى العالَم المنظور.
“ربما يبدو العمل دون خطة مُـخيفًا، غير أنّ الاتباع الأعمى لخطة ليست لها علاقة بالواقع أمر أكثر خوفًا([4])”.
([1]) رواه أحمد، وأبو يعلى، والبيهقي فى شعب الإيمان، “وإسناد أحمد رجاله رجال الصحيح”. الهيثمي، «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» (10/ 151).
([2]) المناوي في «فيض القدير شرح الجامع الصغير» (1/ 319) باختصار.
([3]) «إعادة تصميم العمل»، جاستون فرايد وديفيد هاستون، ط،1، مكتبة جرير، السعودية، 2017م. (ص19) بتصرف.