- محمد الشامي
- اسم الكتاب: في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة
- اسم المؤلف: الطيب بوعزة
- الناشر: مركز نماء للبحوث والدراسات
- سنة النشر: 2021 (الطبعة الثانية)
- عدد الصفحات: 311
قراءة تاريخ الفكر الفلسفي باب معرفي خطير، ذلك أن طبيعة الفلسفة نفسها تقتضي مراعاة المسافة اللازمة لإقامة تصور نقدي، وتتأكد هذه الحاجة عندما تتباين المرجعيات الكبرى، فتصبح هذه الرؤية النقدية مسؤولية لا يسوغ إغفالها؛ ومما يزيد المهمة صعوبة أن النقد ذاته خطوة متوقفة على حسن الفهم وتمام الاستيعاب.
وهذا الكتاب الذي نتناوله “في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة” هو بمثابة المقدمة والتمهيد لسلسلة تتوخى ذلك المقصد في دراسة تاريخ الفكر الفلسفي الغربي، ثم له أهميته على الاستقلال كمدخل فريد للمهتم بالمطالعة في تاريخ الفلسفة بوجه عام.
(1)
ويحسن في هذه المراجعة التلخيصية البدء بما بدأ به المؤلف من إيضاح موقفه المعرفي في هذه الدراسة ككل مستندا إلى فرضيتين:
الفرضية الأولى تتعلق بصيرورة الفكر الفلسفي، في أنماط وعيه واشتغاله وتعالُقِه مع الوجود، حيث يرى أنها تتلخص في أنماط ثلاثة رئيسة، الأول يبدأ من العصر الإغريقي وينتهي بـ”ديكارت“، وهو نسق ينبني على مقصد فهم الوجود، فالعلاقة هنا إدراكية في المقام الأول؛ ثم النسق الثاني وهو العلاقة الحيازية، فـ“بدءًا من ديكارت انتظمت العلاقة الإدراكية وفق مقصد السيادة على الكون. وهنا لا بد من عدم الاقتصار في تحليل الفكر الديكارتي على مقولة الكوجيتو “أنا أفكر” حيث يجب إدراك حقيقة أخرى ثاوية في الفكر الديكارتي هي “أنا أقدر”… الحقيقة التي تبدو قبل الكانطية واضحة في “الأورغانون الجديد” لفرنسيس بيكون”… هذا ما يفسر تحول مطلب إدراك الوجود من إشباع معرفي إلى قراءة تقنية للوجود تسعى إلى ضبط قوانينه بهدف السيطرة عليه” (ص16-17). بعد هذا تأتي المرحلة الثالثة مع نقد أساس العلاقة الإدراكية والكشف عن حدودها، وبالتأكيد على أن القدرة المعرفية للعقل ليست مطلقة، تنقلب هذه “المراجعة النقدية” في ظل فلسفات ما بعد الحداثة إلى نزعة تشكيكية تتخطى مقصد الإدراك إلى علاقة إيروسية تتقصد “التوصية بالاكتفاء بالالتذاذ بالوجود، بعد أن عجز اللوغوس الفلسفي عن محاولة إدراكه وفهمه. ومن ثم فمدخل الإيروس ليس مدخلا إبستمولوجيا”(ص20).
وهذه المتتالية بالطبع ليست سوى “توصيفات عامة لمراحل الفكر” بعبارة المؤلف، فتحديد مرحلة ما بوصفٍ أغلبيٍ لا يمنع تضمنها لأكثر من تقليد فلسفي خاص مغاير للسمات العامة لهذا الوصف الإجمالي. بل لا يمتنع أن نجد تقلب هذه السمات كتحولات في مشروع فكري لفيلسوف واحد.
وأما الفرضية الثانية فمفادها أن ضمان المعنى والإمكان المعرفي لتأسيس الوعي الفلسفي مشروطٌ بالإحالة إلى العنصر الما ورائي، فلا يمكن للوجود أن يكتسب المعنى من كينونته منغلقا على ذاته، بل لا بد من إحالة ترنسندنتالية (متعالية أو متجاوزة للوجود المادي، والترنسندنتالي هو الشرط القَبلي لإمكان المعرفة عند كانط).
يقول المؤلف: “وهذه الإحالة في نظرنا هي جوهر وأساس الوعي الديني، كما أنها أساس إمكان قيام الوعي الفلسفي… ونقصد بالإمكان الأنطولوجي الاعتقاد بكينونة ما ورائية نفسر بالإحالة عليها. وبانهيار هذا الإمكان آل الفكر الفلسفي في سياق ما بعد الحداثة إلى العدمية”(ص22).
ويمكن القول بأن هذه الفرضية تواجه الأزمة الكبرى للفكر المادي –والتي يمكننا رصد تجلياتها في سائر فروع الدراسات الإنسانية، فلم تعد قاصرة على المقولات التحليلية الأساسية في العلوم الطبيعية– وهي حصر أفق الإدراك واختزالها إلى قوانين الوجود المادي/الطبيعي. وهي ملاحظة تأتي في مقدمة القضايا الجوهرية الكامنة في كثير من المشروعات النقدية للمنظور الغربي -باعتبار أبرز توجهاته- . ولا شك أن أزمة هذا المنظور تتخذ أكثر أشكالها تجريدا وأهمية في الفكر الفلسفي بطبيعة الحال.
(2)
إذن هذه هي الفرضيات الأساسية باختصار شديد. أما موضوع البحث في هذا التمهيد فهو منقسم إلى قسمين، كما يتضح من العنوان، الأول في دلالة لفظ الفلسفة، والثاني في قضية نشأتها في السياق اليوناني.
يشير المؤلف إلى المفارقة الأولى التي تستقبل البحث في الدلالة، ذلك أن الفلسفة نفسها، أو في فرعها المنطقي بالتحديد، قد اعتزمت ضبط الحدود وتحملت مهمة بيان التعريفات الماهوية الضابطة لحقائق المعرفات وخواصها بما يضمن سلامة التصورات. ولكن عند التعرض لمفهوم الفلسفة ذاته، فـ“الحال أنه ليس ثمة تعريف، مقبول من قبل تيارات التفكير الفلسفي يسلم من النقض والمؤاخذة”(ص38).
ويتعدى هذا العجز عن التحديد (المتمثل في تباين التعريفات وتشتتها) إلى وصف ملامح “الفلسفة” الأساسية، كذلك تعريف الفيلسوف نفسه. لكن سؤال الدلالة، وعلى رغم هذا الإشكال الذي يواجهه، يظل “مقدمة ضرورية لفهم الصناعة الفلسفية” بعبارة المؤلف.
وبناءً على ذلك، يبدأ البحث من الدلالة اللفظية؛ فاللفظ المركب (فيلو-صوفيا) الذي هو الأصل اليوناني –مع ترجيح أن جزأه الثاني أجنبي، وتوجد بعض الآراء في إرجاعه إلى اللسان المصري القديم–، والذي ترجع إليه كلمة الفلسفة في كافة اللغات – عدا الهولندية – يفيد معنًى مركبًا كما هو معلوم: “محبة الحكمة”.
وهذا المفهوم له عدة دلالات تواردت عليها الشواهد النصية، منها أن امتلاك الحكمة خاصية إلهية وأن الإنسان مجرد طالب لها؛ ومنها تشبيه فيثاغور الفلاسفة بالمشاهدين في مهرجانات الألعاب، يعني أنهم لا يطلبون منفعة مادية أو تحقيق نصر في علاقتهم بالحياة وإنما يطلبون الحكمة لذاتها.
وكل هذا يحسن إدراكه على ضوء أن الحكمة تشمل القيمة العملية السلوكية، إننا نجد هذا أيضا لدى معنى “الحكمة” في المصطلح الإسلامي فيما بعد، حيث تقابل الفكر العقلي بزيادة هي الناحية العملية.
وبغض النظر عن “أنه لا يمكن الجزم في أصل تركيب اللفظ، سواء كان العزو إلى فيثاغور، أو كان إلى سقراط؛ ولذا يظل الأمر محل خلاف“(ص55) ينبه المؤلف على أن استخدام مصطلح الفلسفة في السياق الأفلاطوني أكد هذه الدلالة “محبة الحكمة”؛ حيث استثمر أفلاطون هذا المصطلح في نقده وجداله مع السوفسطائية، حيث عرض بزعمهم ملكية الحقيقة. ورغم المفارقة الصادرة عن كون السوفسطائية توجه لا أدريٌ/شكي في الأصل، إلا أن “ما يعنينا هو إمساك الوضعية الثقافية التي عاش فيها أفلاطون وأسس بالجدل مع تياراتها فلسفته ومفاهيمه”(ص56).
(3)
ويواصل المؤلف في المطلب الثاني من هذا الفصل مع “الدلالة اليونانية” للفلسفة؛ فيختصرها في خمسة تصورات رئيسة:
أولها التصور الأفلاطوني الذي يقابل نمط العيش الفلسفي بسائر أنماط العيش، فنرى مثاليته تظهر في اختصاص ذلك النمط بالسعي المجرد للمعرفة. هذا مع جعله “الانتقال من عالم الحس إلى عالم المُثُل، هو مقصد الوعي الفلسفي… وبهذا يتضح سبب اشتراط أفلاطون التمرن على الرياضيات قبل الخوض في الفلسفة؛ لأن العلم الرياضي علم يدرب التفكير على التجريد والتخلص من الانجذاب إلى عالم الكينونة الحسي. وهذا ما كان مختزلا في شعار مكتوب على باب أكاديميته “لا يدخل علينا من لم يكن رياضيًا””(ص60). إذن فالفلسفة عند أفلاطون أسلوب في العيش، وممارسة مفتاحها التجريد، أي النزوع بالفكر إلى عالم المُثُل.
ثم تصور إيزوقراط الذي يميل بها إلى المنزع الإجرائي، حيث تقترب جدا من الخطابة وطرائقها، فتوثقت عنده صلتها بالمسألة السياسية.
بعد ذلك يأتي للتصور الأرسطي: والذي يعرفها بأنها نشاط فكري باحث عن العلل والمبادئ، وأن التراث العقلي السابق عليه كان بحثا في مفهوم العلة وعلاقته بالوجود. وهو يقرر ويستدل على أن التفلسف عملية ضرورية، وهو عين الاستدلال الذي سنجده في رسالة الكندي للمعتصم العباسي، ومفاده أن إثبات خصوم هذا الفن انتفاء الحاجة إليه متوقف على البرهان العقلي، وطلب البرهان ممارسة فلسفية.
كما “يشرط أرسطو الحياة التي تليق بالكائن الإنساني بممارسة التأمل الفلسفي … يرهن أرسطو حُسن استعمال الأداة بشرط المعرفة، جاعلا من الجسد وما يخدمه حسيا مندرجا تحت ما صدق الأدوات… وإذا كانت المعرفة ضرورية لكياننا، من حيث هو ذات فردية وجسد أداتي، فهي كذلك ضرورية على مستوى الكيان الجمعي… ومن ثم فالسياسة التي لا تقوم على معرفة فلسفية ليست سياسة صحيحة”(ص69-70).
ومن جملة الملاحظات أيضا أن أرسطو تابع لأفلاطون في تصوره النخبوي عن الفلسفة.
ثم يأتي الاتجاه التشكيكي الذي تزعمه بيرون ضد هذا الاتجاه الأفلاطوني-الأرسطي السائد، حيث يستبعد الإمكان المعرفي/الإبستمولوجي تماما .
وأخيرا يتناول التصور الأبيقوري والمدرسة الرواقية، فيقرر أنهما قد سلكا مسلكا متوسطا بين هذين التصورين السابقين، بالتأكيد على قيمة الحكمة العملية، أي الفلسفة كنمط عيش، مع القول بأنها لا تستلزم يقينية الفكرة، بل يمكن تأسيسها على ترجيحات ظنية.
(4)
ولا شك في أن هذه الحالة من الاختلاف والتضارب في التصورات لا تقتصر على الدلالة اليونانية، بل تستمر وتزداد اضطرابا مع فلسفات العصر الوسيط ثم الحداثة وما بعدها. وهنا يأتي السؤال الذي هو عنوان المطلب الثالث: “ما هي أسباب استشكال مفهوم الفلسفة؟“. وهذه إشكالية مركبة، تتطلب عدة عناصر في تفسيرها:
أول هذه العناصر الذي يتناولها المؤلف – إذا استثنينا كثرة التعريفات من دائرة الأسباب الحقيقية – هي الطابع الذاتي للإنتاج الفلسفي، ويوضحه إدموند هوسرل حيث يقول:
“إن الفلسفة هي على نحو ما عمل شخصي بالنسبة للفيلسوف… على الرغم من أنها تنزع نحو ما هو كوني، فإنها يجب أن تظل نتيجة لتحصيله الشخصي، وأن يكون بمقدوره تبريرها، من أولها وخلال كل مرحلة من مراحلها”(ص83) وبناء على هذا: “يمكن أن نقول إن الفلاسفة ما اختلفوا في تحديد الفلسفة إلا لأنهم ابتداء أنتجوا فلسفات مختلفة. ولعل كل واحد منهم عند تحديده للفلسفة كان ضمنًا أو صراحة يعرف فلسفته الخاصة”(ص84).
لكن الإشكال لا يمكن اختزاله إلى هذه التعددية فحسب، فالطابع الذاتي لا يقتصر على هذا المجال، بل نجده في مجالات أخرى لم تتسم بهذا القدر من صعوبة التحديد.
وهنا يضاف سبب آخر وهو صعوبة التحديد باعتبار الموضوع: “لأن مجال النظر الفلسفي يكشف خلال تاريخ ممارسته أن فعل التفكير الفلسفي اهتم بكل شيء، حيث يكاد لم يترك مجالا إلا وقاربه وبلور فيه أطروحات معرفية. أليس مبتدأ أحد تآليف ديموقريطس هو قوله “سأتكلم عن كل شئ”؟ “(ص87).
إن ظاهرة الموسوعية التي كانت صفة لا تتخلف عن معظم الفلاسفة والعلماء بداية من العصر الإغريقي ثم الإسلامي وحتى مطلع العصر الحديث لم تكن مجرد تنوع في الاهتمامات المعرفية، وإنما كانت إيمانا عمليا بوحدة تكاملية للعلوم والمعارف، فالفلسفة عند ديكارت: “شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزياء، وفروعها سائر العلوم”.
والمشكل أن أزمة التحديد الموضوعي لم تنته باستقلال العلوم الطبيعية بل العلوم الإنسانية بمناهج بحثها وقضاياها عن الدرس الفلسفي. فقد ظلت الفلسفة عصية على التحديد بالاعتبار الموضوعي رغم ذلك.
وفوق ذلك، يعتبر المؤلف أن الانطلاق في مهمة التحديد من المنهج الفلسفي، أي الآلة المنطقية، ليس أحسن مآلا من الاعتماد على التعريف الحدي أو الموضوع، وهو لا يعني بذلك إنكار الشرط المنهجي للممارسة الفلسفية، بل مقصوده أن الفلاسفة مختلفون في المناهج كما اختلفوا من قبل في الموضوعات. وطالما أنه لا يسعنا إلا الاعتراف بالمواقف النقدية للمنطق الصوري مثل”السهروردي”، و”ابن تيمية” في التراث الإسلامي، فضلا عن الاتجاهات الثورية التجديدية مع ديكارت في الميتودولجيا/مناهج البحث الرياضية، وفرانسيس بيجون في “الأورجانون الجديد”: إذن يخيب الرجاء في أن ينهض عنصر “المنهج” بالمهمة، أي أن يكون مدخلا إلى التعريف .
أخيرًا يناقش المؤلف مسألة اللغة الفلسفية. ومشكلة اللغة بالنسبة للفلسفة كأي فرع علمي تكمن في ثرائها وغناها الدلالي، بما يتضمنه ذلك من فنون “التجوز في العبارة بالألفاظ” كما يقول الفارابي، يعني ضروب وطرائق المجاز، فهذه الموارد التي هي ينابيع تتفجر منها الحياة للأدب والبيان الممتاز في شعر ونثر، والتي بجفافها يذبل عوده ويذهب رونقه، هي ذاتها أحد أبرز العوائق من وجهة نظر العلم.
يقول: “والثراء الذي تتمتع به اللغة البشرية هو بالضبط مكمن نقصها وقصورها، من وجهة نظر العلم، الذي يستهدف الدقة في ملاحظة إبصار موضوعه، والدقة في نقله ووصفه لغويا… فإن الرؤية العلمية تتشوش وتضعف بسبب هذا التعدد والانزياح الدلاليين؛ ولهذا السبب نجدها تنزع نحو تقليل اللغة الطبيعية في خطابها”(ص99).
ثم يوضح كيف أن الحكماء والمتكلمين من القديم قد اشتدت حفاوتهم بـ”مشروع الضبط الدلالي للألفاظ” – باعتبار أن الفلسفة لا تقل منزلة عن سائر فروع المعرفة العلمية – بدءًا بـسقراط الذي وجه عنايته لضبط المفهوم بـ”الحد الماهوي”، وحتى جابر بن حيان من أعلام المشتغلين بالعلم الطبيعي، حيث يوجه بأن قراءة “كتاب الحدود” لا يجوز أن تكون كغيرها من القراءات، وأن حقه أن ينظر فيه كل ساعة. يزداد الأمر وضوحًا مع المتكلمين الذين مارسوا الطرق الجدلية فلاحظوا أن “التخاوض دون التوافق على حدودٍ معلومة لمقاصد العبارات” كما يقول الغزالي، هو منشأ الإشكال. وهذه بلا شك ملاحظة يدخل تحتها ما لا ينحصر من النزاعات الناتجة عن هذه الأزمة اللغوية.
“هذه العناية البالغة بضبط الدلالة استمرت حتى عصر الحداثة، بل سرعان ما تحولت في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة إلى (فوبيا لغوية)، أي خوف من اللغة الطبيعية؛ لذا نجد العديد من الفلاسفة مثل اسبينوزا، ولايبنز، وفتجنشطين، وبرتراند راسل.. يسكنهم حلم تأسيس لغة فلسفية دقيقة في مثل دقة اللغة الرياضية. لكن مشروعاتهم المعرفية… ظلت في حدود التمني والرغبة“(ص103).
ولكن يظل المفهوم الفلسفي، والعناية به، سمة مشتركة، وركنا أساسيا لجميع المشروعات الفكرية. والمفهوم نظام تجريدي، وفي البناء اللغوي العربي نجده يتخذ الصيغة الاسمية مستقرا له.
واستهداف المفاهيم الرئيسة في فلسفة ما، يعني الوقوف على مفاتيح هذه الفلسفة، وهذا –باختصار شديد– المقصود من “المقاربة المفاهيمية”: فهي عملية انتقاء للمفاهيم، ثم تحليل كلٍ في سياقه الذي هو بيئته الطبيعية، وبتبين الأواصر والوشائج التي تربطها ببعضها البعض، تنتج لدينا مقاربة عامة للفلسفة التي نبتغي فهمها.
الحاصل أن: “من بين ما تتمايز به مذاهب التفكير وأنساق التفلسف واتجاهاته اختلاف جهازها المفاهيمي، او بتعبير آخر اختلاف وتمايز الدلالات المعطاة لمكونات هذا الجهاز“(ص108).
ينتهي المؤلف بهذا إلى نتيجته الطبيعية، وهي نجاعة “المفهوم” كمدخل في تعريف كل فلسفة على حدة، لا “الفلسفة” بإطلاق، على أنه يقر الاختلاف والتعدد الذي تكشف عنه قضية “المفهوم” كونه: “يكشف من جهة عن ثراء الفكر الفلسفي، كما يكشف من جهة ثانية عن سفه تلك المحاولات التي تنظر إليه أو تسوقه بوصفه منضبطا في دلالات ألفاظه”(ص109).
(5)
بناءً على كل ما سبق يتم الانتقال “من تعريف الفلسفة إلى تعريف التفلسف“، فبدلا من محاولة صياغة تعريف غاية شأنه أنه لا يسلم من اختزال وقصور، يجدر بنا فهم دلالة الفعل “التفلسف” من خلال مجموع خصائصه الكبرى.
وأول خصائص هذه الممارسة: الحس النقدي، فالعملية النقدية لا تنفك عنها إطلاقا، والنقد كأول خصائص الفلسفة لا يتوجه إلى المعتقدات والأفكار الشائعة فحسب، بل يتوجه إلى الفكر الفلسفي نفسه، وهنا تكون المفارقة أن النقد يضمن استمرار الممارسة الفلسفية من جهة ويهدم محصولها من جهة ثانية.
أيضا ينبه المؤلف على اختلاف الفلاسفة في إعمالهم مبدأ النقد، فنجد المجالات الخاضعة له متفاوتة بينهم، كما ينبه على أن أصالة المكوِن النقدي لا تعني أن الفلسفة لا تنتج اليقينيات، صحيح أنها تمارس الفكر متسلحة بالحس النقدي، بيد أنها تنزع إلى تثبيت نتائج هذا النقد في إطار يقرب من الوثوقية.
الأمر ثاني من الخصائص: الرؤية المنهجية، ويعني به النظام والترابط المنطقي الذي تلزم فيه المقدمات عن النتائج، وبها يتميز التفكير الفلسفي عن التفكير العامي؛ على أن في النصوص التي تعد من المتن الفلسفي ما يقترب كثيرا من تمثل الثوب الأدبي.
ثالث الخصائص هي النظرة الكلية، أي العناية بالدلالات والرؤى الكلية للوجود. ويلفت المؤلف إلى أن هذه الطبيعة للفلسفة وإن صاحبتها منذ مهدها إلا أنها لا تصدق على وضعية الفلسفة المعاصرة.
وهذه الملاحظة ربما يُعترض عليها بأن النزوع الكلي للفلسفة لا يزال مشاهدا في أي مجال تدرسه، ولا أدَل على ذلك من أننا لا نضيف لفظ فلسفة إلى موضوع معين إلا ونحن نعني به كليات ومقاصد ذلك الموضوع، والحق أن هذا الاعتراض لا يلزمه حيث إنه قد حدد ملاحظته بالرؤية الكلية لـ”الوجود”، وليس مجرد إرجاع الكثرة إلى الوحدة.
ومن الجدير بالملاحظة أن ادعاء تهميش شأن هذه الرؤية الكونية أو استهجانها لا يستلزم عدمها حقا.
وآخر الخصائص الكبرى: غياب التراكم التجاوزي. وهي ظاهرة عامة في كافة فروع العلوم الإنسانية، بخلاف العلوم الطبيعية: “إذ يتقدم التفكير العلمي على نحو يتجاوز فيه اللاحق سابقه؛ بينما التفكير الفلسفي لا يثمر بآلية التراكم التجاوزي، بل تتراكم فيه نصوص أفلاطون مع نصوص هيدغر… فإذا كان (تاريخ العلم تاريخ أخطاء العلم) حسب تعبير باشلار، باعتبار أن العلم وحده الذي يشهد تقدما يحقق معنى اشتغال آلية التراكم التجاوزي أو القطائعي، في صيرورة المعرفة العلمية، فيتم نفي تاريخ العلم من حاضره، فإن تاريخ الفلسفة يشكل دائما جزءا من حاضرها، بل يمثل فيه على نحو حاضر ومؤثر”(ص125).
الملحظ الرئيس هنا هو أن هذه الخصائص الإجرائية ليست وقفا على الفلسفة، بل هي مشتركة بينها وبين غيرها من المجالات العلمية، بيد أن طبيعة تركيبها وتألفها في الفعل الفلسفي هي التي تميزه وتتيح لنا التعرف عليه.
“التعرف” بدلا من “التعريف”؛ هذه هي خلاصة بحث الدلالة عند المؤلف، فجملة خصائص التفلسف، إضافة إلى ما سبق من أمر اللغة والمنهج والموضوع قد تشكل – إذا نظرنا إليها على حدة – عقبات تحول بيننا وبين مطلب التعريف، بيد أنها في الوقت نفسه تتآزر وتتكامل في مجموعها كي تيسر لنا الشروع في مطلب التعرف على الفلسفة. فالمسألة إذن تكمن في تحديد الوجهة. ففهم الدلالة عنده لا ينبغي أن يستقل عن إدراكها متجسدة في الممارسة.
إذن يرى المؤلف أن قيمة هذا التحول من التعريف إلى التعرف في أنه: “يسمح لنا بالانفتاح على تاريخ الفكر الفلسفي بكل وساعته وثرائه وتعدده، وذلك على عكس الامتثال لتعريف فيلسوف ما حيث سنكون وقتها خاضعين لمنظاره الضيق”(ص138).
ويُقدر دلالة المنطوق اللغوي للفظ الفلسفة -يعني محبة الحكمة- بأنها أثمن ما يمكن أن نخرج به من بحث الدلالة ككل. مؤكدا ضلالة الزعم بأن نسقا فلسفيا واحدا بمقدوره تحصيل الحكمة بمعنى الحيازة التامة، أو الوصول بالمعرفة الفلسفية إلى حد الكمال كما كان يتمنى (هيجل).
(6)
يتناول الفصل الثاني من الكتاب قضية نشأة الفلسفة في اليونان. وهذه قضية اختلفت فيها الأقلام إلى مذهبين:
- مذهب الفصل: أي أن ظهور الفلسفة حينئذ ميلاد غير مسبوق، وقد عد مذهب جمهور مؤرخي الفلسفة حتى وقت قريب.
- مذهب الوصل: ويرى أن نشأتها في اليونان نشأة مستأنفة، حيث تعود أصولها إلى تراث الشرق القديم.
والمؤلف إذ يتبنى فرضية الوصل فإنه يؤسس لذلك من مجموعة منطلقات، أهمها الأسبقية الزمنية لحضارات الشرق القديم إذا انضم إليها طبيعة الجغرافيا اليونانية التي سمحت بالانفتاح والتواصل الطبيعي للحضارات وفُهم ذلك على ضوء قانون التطور الحضاري من أن البناء الحضاري بناء تراكمي بالضرورة. وبالإضافة إلى ذلك، تحظى هذه الفرضية بتأييد مستجدات البحث المعاصر في تاريخ الحضارات الشرقية.
وبالمقابل، يبني رفضه لأطروحة الفصل على فقدانها للمسوغ المعرفي رغم ذيوعها وشهرتها.
فالدافع الأصلي وراء القول بأن نشأة الفلسفة في اليونان ميلاد غير مستأنف هو عقيدة المركزية الأوروبية، أي التمركز حول الذات. ذلك أن الفلسفة الأوروبية الحديثة تدعي لنفسها نسبا شرعيا غير مشوب إلى فكر اليونان.
وعلى أنه من السائغ مساءلة هذه النسبة التي تصور الفلسفة اليونانية امتدادا رجعيا للفلسفة الغربية الحديثة؛ لكن المؤلف ينتهج نقد فرضية الفصل دون انشغال بالنزاع في هذا، وهو على كل يقرر أن هذا العقل الاستعلائي النرجسي لا يستنكر منه تأسيس قراءة تاريخية تنسجم مع رؤيته الكونية.
إذن أطروحة الفصل تتفق ورؤيةَ المركزية الأوروبية المتمسكة بأفضلية العرق الآري؛ ويمكننا أن نلحظ اشتراك كل التوجهات الحلولية التي تقول بمركزية الشعب أو العرق في محاولتها تأويل صيرورة الوقائع التاريخية لصالحها، بغض النظر عن طبيعة السردية المُتخَذة في ذلك.
يقول المؤلف: ” وهنا نجد أنفسنا أمام عملية تزييف كبرى بدأت منذ القرن الثامن عشر في رسم التاريخ العام لأوروبا، على نحو يقدمه بوصفه صادرا فجأة من رحم الأسطورة والفلسفة الإغريقية” ويفسر هذا بأن “نظام اشتغال العقل الكامن داخل نزعة المركزية الأوروبية، يستثقل وصل أوروبا بالسياق التاريخي والجغرافي الشرقي “ (ص159).
ويضيف بأن فكرة “المعجزة” – ويقصد بها العبارة المشتهرة عند القائلين بأطروحة الفصل وهي أن الفلسفة معجزة اليونان – وهي توسل باللا معقول: ما كانت لتظهر لولا أنها المخرج الوحيد من الثغرات والإشكالات الواردة على أطروحة الفصل.
وربما ينبغي التأكيد على ليس أنه القصد من كون مقولة المعجزة توسلا باللا معقول أن فيها مناقضة مباشرة لمقررات العقل، بل غاية الأمر أنها خارجة عن نطاق اشتغاله وإن أقر بجنسها، وإن كان ثمة مناقضة لمبادئ المعقول فهي اللجوء للتفسير فوق الطبيعي مع انتفاء الدواعي الموضوعية لذلك، بل مع توفر الأدلة على تفسير طبيعي للظاهرة، ثم أن يكون هذا واقعا في سياق الكلام عن نشأة الفكر العقلي ذاته.
ويلاحظ المؤلف اتجاهين رئيسيين داخل نزعة المركزية الأوروبية:
الأول: الاستعلاء العرقي الكامن، ويعتبر هيجل أبرز ممثلي هذا النموذج حيث يقرر في محاضراته أن : “ما هو شرقي يجب استبعاده من تاريخ الفلسفة”، ومرورا بنيتشه وهيدغر وراسل يستمر هذا الاتجاه.
الثاني: الاستعلاء العرقي الصريح، وهو النموذج الذي يرسخ أن التفكير العقلاني الفلسفي لا يقدر على إنتاجه إلا العرق الآري.
وتتوارد الإشكالات على مثل هذا الوهم، فأبرزها أن “إيونيا” المهد الأول للفلسفة كانت نموذجا لخليط ما لا يقل عن عشرة أعراق كما يقرر هيرودوت بنفسه، بينما “إسبرطة” خير ممثل للنقاء العرقي الآري لم تعرف منذ سنة 500ق.م فيلسوفا واحدا، وليس الحال أفضل مع “أثينا” التي لم تكن قط أرضا للفلسفة لولا هجرة الفلاسفة إليها؛ وقد ظهر فيها التفلسف بفارق قرنين عن ظهوره في إيونيا(انظر ص184-189).
فبينما تحمل نظرية التفوق العرقي مِعول هدمها بنفسها، حيث إن كافة الشواهد التاريخية تقلب عليها القصة، وهو ما يؤول إلى خروج فرضية الفصل إلى طريق مقفلة، نجد وفرة في الشهادات الناطقة بتدعيم “النشأة المستأنفة” للفلسفة في اليونان بدءًا من شهادات الفلاسفة الأوائل أنفسهم، مرورا بالشواهد المتفرقة على الأثر المصري القديم، ثم الفينيقي، كذلك التأثير المتبادل مع الفلسفة الهندية التي تزامنت نشأتها مع النشأة اليونانية.. وهو ما توسع المؤلف فيه في المبحث الثالث من هذا الفصل.
(7)
لكن موضوع النشأة المستأنفة يمثل جانبا واحدا من قضية النشأة اليونانية، ذلك أنه يتوجه النظر من خلاله إلى العوامل الخارجية، بينما السياق الداخلي لهذه النشأة لا يقل عنه أهمية.
فـ”مهما كانت وفرة وقيمة العامل الخارجي، فإنه في نظرنا لا يكفي وحده لتعليل قيام نمط معرفي جديد داخل مجتمع ما، ما لم تكن ثمة دوافع داخلية ساعدت من جهة على استقبال الوافد الثقافي الخارجي، وأملت من جهة ثانية على النخبة الفكرية لذلك المجتمع وجوب تفاعل من نوع خاص مع ذلك الوافد.. إنما نقصد بالعوامل الداخلية حاجات سوسيو-ثقافية تساندت فيما بينها” (ص220).
وتستدعي قضية العوامل الداخلية أولا ما يتعلق بجغرافية اليونان، التي امتازت بعدة خصائص، أولها أن اليونان أقرب مناطق أوروبا إلى الشرق الأدنى. ثانيا: طبيعتها التضاريسية التي شكلتها كمنطقة جُزر مخترقة بسلسلة حواجز جبلية، حيث بلغ عدد جزر بحر اجه 483، وغرب اليونان حوال 116 جزيرة. فيما تشكل السهول حوالي 20% من مساحة الأرض وهو ما أدى إلى ارتفاع مكانة التجارة الخارجية وتقدمها على سائر الأنشطة الاقتصادية.
الملمح الثالث الذي يستحضره المؤلف هو أن هذه الطبيعة الجغرافية التي فصلت بين المدن كانت عاملا رئيسا في تفسير ظاهرة المدينة/الدولة التي عرفتها اليونان، فهذه الظاهرة من الحكم الذاتي ستكون نموذجا محوريا في النظم السياسية.
والعامل السياسي هو المسألة الثانية في بحث العوامل الداخلية، وإن كان المقصود هنا هو ذلك النظام الشهير بالديمقراطية المباشرة فعلى أنه لا ينبغي إغفال سائر الأطوار التي مر بها التاريخ الإغريقي، والتي عبرت عن نظم سياسية مغايرة، وقد اعتنى المؤلف ببيان طرف من ذلك.
لأنه من المهم إدراك أن تطور نظام الحكم كان مسبوقا بتحولات قانونية جذرية في ظل أنظمة سابقة: “يمكن استنتاج أن لفظتي إيزونوميا ثم إيزوكراسيا كانتا عند الإغريق المهاد النظري للتطور نحو فكرة الحكم الديموقراطي. فالإيزونوميا رفض للتفاضل الفردي/الفئوي أمام القضاء، وتوكيد لمعنى التساوي أمام القانون. والانتقال من الإيزونوميا إلى الإيزوكراسيا لحظة فارقة في تطور الوعي السياسي اليوناني؛ لأنها نقلة مهدت للتساوي ليس فقط أمام القانون، بل المساواة في استحقاق السلطة السياسية ذاتها “(ص246-247).
ثم يوضح دلالة أصل اصطلاح الديمقراطية من حيث اللفظ وكيف جاء مصداقه محدودا كما نرى في السياق اليوناني حيث كانت الحقوق السياسية حصرية للذكور الأحرار البالغين.
بيد أنها ظلت نقلة فريدة على الرغم من ذلك. وهنا يعود العامل الجغرافي ليقع موقعه في التفسير المتداول، وهو أن استقلالية الحكم في المدينة، ثم محدودية مساحتها الجغرافية، وانخفاض الكثافة السكانية، وفرت التسهيلات اللازمة لمناقشة الشأن العام في حالة نموذجية من الديمقراطية المباشرة.
على أن هذه الجُملة فيها نظر. لأن المعطيات الأركيولوجية والتاريخية ستواجهنا ببعض العوائق التي سيترجح معها القول بأن “هذه الصورة التي يقدمها هيجل وفرنان وغيرهما، لا تقوم على مرتكز واقعي. إنما هي أقرب ما تكون إلى صورة شعرية جميلة جدا لكنها مجرد خيال يعوزه القوام الواقعي” (ص252).
وينتهي المؤلف في قضية العامل السياسي إلى اعتباره بشرط عدم جعله عاملا حاسما في سؤال النشأة، خصوصا وأن نظام المدينة/الدولة لم يكن خاصا بالتاريخ اليوناني.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى تأثير العامل الديني في نشأة الفلسفة، معارضا بذلك الفهم القطائعي الذي ينظر به إلى هذه العلاقة، فهو يرى أن هذا الفصل يشكل عائقا في فهم سياق نشأة اللوغوس.
ولربما شاع القول بغياب سلطة الدين في هذه الفترة إلى حد كبير، إلا أن المستند الوحيد لهذا التقرير هو أن اليونان لم تعرف ظاهرة كهنوتية آنذاك، بيد أن هذا لا يكفي في محاولة تغييب سلطة العقائد الدينية بالكامل.
والمؤلف إذ يقرر ذلك فهو لا يشكك في أن: “الفكر الفلسفي حقق نقلة تجاوزية من الأسطورة إلى اللوجوس لكن هنا أيضاً يحصل في البحث التاريخي الفلسفي اختلال كبير… إذ ينزع إلى بلورة قراءة يتم فيها تجاوز بنية الميثوس والأخذ باللوغوس وحده وكأنه ولد من فراغ، دون فهم صلات التجادل والتثاقف الواصلة بينهما”(ص257). سيتضح ذلك أكثر مع إدراك طبيعة المعتقد الديني في اليونان وأن طبيعته ليست بالدوغمائية المغلقة.
“فالتجاوز التاريخي يدل على انتقال من لحظة سابقة إلى لحظة تالية، لكن التجاوز في التأريخ ينتهي إلى حصر النظر في اللحظة التالية على نحو مفصول عن سابقتها”(ص258).
ثم يقرر أن النقلة من الميثوس/النمط الأسطوري، إلى اللوغوس يمكن النظر إليها باعتبارها تأسيسا للإصلاح الديني ونقدا لجل المعتقدات الوثنية السائدة. وعلى أي حال فليس المقام يسمح بعرض جانب من معالجته لموضوع صيرورة المعتقد الديني اليوناني، بيد أنه جانب وجب التنبيه إليه.
(8)
إن ما سبق من العوامل –وإن تكامل وتضافر– لا ينهض بحل لغز النشأة تماما، صحيح أنه قدم مقاربة مرضية إلى حد كبير، لكنه ثمة سؤال لا يزال يطرح نفسه: لماذا لاحت إرهاصات هذا النمط الجديد من الفكر في القرن السادس ق.م. بالتحديد؟ أليست الدهشة التي توصف بأنها محرك للعقل الفلسفي هي نفسها الدهشة التي أنتجت الأسطورة وباتت هذه الأخيرة نتيجة مرضية ردحا من الزمن؟
الإجابة هنا تتضمن عنصرين من الحاجات التي استجدت بما استدعى هذا التغيير، الأول هو الحاجة إلى تنظيم الرؤية الكونية، والثاني هو الحاجة إلى تغيير نظام المدينة، كيف برزت هاتين الحاجتين؟ هذا ما يوضحه المؤلف: “وهنا، فالأطروحة التي سنتبناها تقوم على اقتران التحول السياسي بتحول الرؤية إلى الوجود”(ص286) ويتناول ذلك من خلال عدة مؤثرات متداخلة متزامنة.
آخر ما أود الإشارة إليه مما تناوله المؤلف هو تعليله لمكانة التراث العقلي اليوناني وتقدمه على سائر الحضارات القديمة، فطالما أننا قررنا رفض مقولة المعجزة السابق ذكرها، إذن لا مرية في أن يصبح هذا التعليل من الأهمية بمكان.
يتضمن هذا التعليل شِقًا ذاتيًا وشقًا خارجيًا، أما الذاتي فخلاصته أن نتاج اليونان الفلسفي لم يرتبط بمؤسسة كهنوتية كما كان في غالب الحضارات، فلم يكن حكرا على المعبد، ولم يُشرط به وجودا وعدما. وأما الخارجي فيتمثل في حداثة الحضارة اليونانية زمنيا بالنسبة إلى غيرها من الحضارات القديمة، ويشمل ذلك ما تيسر لها من تراكم الرافد المعرفي الذي قامت بتطويره وتنميته. ثم ما تلا من عناية بهذا الإرث اليوناني ونقله والتفاعل معه بمختلف الصور في ظل الحضارة الإسلامية العربية.