- وليم العوطة
تندرج معالجة دولوز لمقولة مجتمع التحكّم في سياق معالجته الفلسفية للتغيّرات الّتي طرأت على المكان والفضاء والزمن وعلاقاتها في المجتمع الاوروبي المعاصر. وتتصل هذه المعالجة بمجمل فلسفة دولوز السياسية الّتي يُلحَظ في بعض أقسامها أثر التدبّر الفوكوي لتاريخ المجتمعات من جانب الأصوات المكبوتة والمهمّشة والمُخضَعة. ويرى البعض أن دولوز، في قراءته لفوكو، يصحّ النظر إليه بوصفه مكمّلا لهذا الأخير الّذي يمكن وصفه بأنّه منظّر مجتمعات الانضباط، بالأخص في كتابه راقب وعاقب. وهكذا لا تنفصل الرؤية الدولوزية لمجتمعات التحكّم عن الرؤية الفوكوية لمجتمعات الانضباط وقبلها مجتمعات السيادة. ففي تكملة لعمل فوكو، يميّز دولوز بين ثلاثة أصناف متعاقبة من المجتمعات: مجتمعات السيادة، والمجتمعات الانضباطية ومجتمع التحكّم. ولكلّ مجتمعٍ منها تقنياته السلطوية الخاصة وأجاهيزه الّتي تتيح الاشتغال عبر تنظيم الفضاء بطريقةٍ محددة. في هذه المقالة، نستعرض مفهوم جيل دولوز لمجتمعات التحكّم الّتي تعمل في فضاءات مفتوحة وترتكز على دفوق الاتصالات واكسيوماتية الرأسمالية، في مقابل مجتمعات الانضباط الّتي أبرزها ميشيل فوكو في كتابه راقب وعاقب (أو المراقبة والعقاب). كما سننهي المقالة بسبل المقاومة الّتي نظّر لها دولوز في سياق الكلام عن مجابهة التحكّم.
مجتمع الانضباط
يعتقد فوكو أنّ المجتمعات الانضباطية تتميّز بذلك التطويق المشدود والمحكَم الغلق للحيّز المكانيّ، والّذي يسمح بتوزيع عقلاني للأفراد ويفترض أفهومًا لزمانية حيّزية. تكمن الميزة الأولى للانضباط في كونها لا تجري على أفعالٍ بقدر ما تتوجّه إلى تطويق الفرد وتوجيه قدراته وتحرّكاته: “نجد في خضم العصر الكلاسيكي اكتشافًا للجسد كموضوعٍ وهدفٍ للسلطة. ونجد، بكلّ سهولة، إشاراتٍ إلى هذا الانتباه العظيم الموجّه صوب الجسد، صوب ذاك الّذي نتلاعب به، ونشكّله، ونلبسه، والّذي يخضع، ويستجيب، ويصبحُ مؤهلاً أو حيث تتضاعف قوّته […] اللحظة التاريخية للانضباط هي تلك حين ظهر فنّ الجسد الإنساني الّذي لا يهدف فقط إلى تنمية مؤهلاّته، ولا إلى تثقيل تبعيته، ولكن إلى تشكيل علاقة، في الميكانيزم نفسه، لتجعله أكثر خضوعًا بقدر ما هو أكثر نفعًا، وبالعكس. تتشكّل إذن سياسةٌ لإكراهاتٍ هي نفسها الاشتغال على الجسد، والتلاعب المحسوب على عناصره، وعلى حركاته وعلى تصرّفاته” (Foucault, 1975, pp. 138-139).
إذن، ما يتصّل بهذه الميزة الأولى التي تخصّ السيطرة على الحيّز هو ما يسمّيه فوكو فن توزيع répartition الأفراد والأجساد في فضاءٍ مغلق، وهذا ما يقتضي استخدام السلطة لتقنياتٍ خاصّة، هي على التوالي:
- الإقفال clôture، حين يجري تحديدُ مكانٍ مغلق على الأمكنة الأخرى ويكون لامتجانسًا أو متنافرًا معها (كالثكنات والمصانع الكبرى)؛ وإن كان الإقفال لا يكفي في استمرارية أجهزة الانضباط، تجري الاستعانة بآليةٍ أخرى هي التطويق.
- وفي التطويق quadrillage، أو الموضعة العناصرية localisation élémentaire، يكون لكلّ فردٍ مكانه، وفي كلّ موضعٍ فردٌ، بحيث يجري تجنّب أيّ صيغةٍ من تجمّع الأفراد، وتقسيم التجمهرات والجماعات الخطرة على السلطة أو غير المجدية لها. أي بكلمة أخرى يتعلّق الأمر بـ” إجراءٍ من أجل المعرفة، والإدارة والاستخدام. وينظّم الانضباط فضاءً تحليليًا […] ويكون فضاء الانضباط ، دائمًا وفي عمقه، خلوي ascétisme”(Foucault، 1975، صفحة 145).
- أمّا التقنية الثالثة فهي الاستحكامات الوظيفية emplacements fonctionnels، حيث يجري استثمار أماكنَ لا تستجيب فقط إلى المراقبة والعقاب وفصل الروابط والتواصلات الخطرة، بل تخلق فضاءاتٍ نافعة لاستخدامات متنوّعة، كما في المستشفيات حيث تتمفصل الفضاءات الإدارية والسياسية في الفضاء العلاجي لتجري فردنة الأجساد والأمراض والأعراض كما الحياة والموت؛ وحيث تتشكّل لوحة من الفرادات المتجاورة والمتمايزة(Foucault، 1975، صفحة 146).
- أمّا التقنية الرابعة فهي الّتي تقوم على تعريفِ وتحديد العناصر الموزّعة، والّتي تكون في حالة من الاستبدال في ما بينها، بالفضاء أو المكان الّذي تشغله والّذي يفصلها عن غيرها، كما بالفاصل أو الانزياح écart الّذي يفصلها عن العناصر الأخرى. ووحدة القياس هنا ليست الأرض أو المكان بل المرتبة rangأي مكانها في نظام التصنيف classement، ذلك لأنّ الانضباط هو “فن المرتبة وتقنية من أجل تحويل الترتيبات. وهو يفردن الأجساد عبر الموضعة الّتي لا تعيد غرسها، ولكن توزّعها وتقوم بتسييرها في شبكة من العلاقات […] وبتنظيمه الخلايا، الأماكن والمراتب، يصنع الانضباط الفضاءات المعقّدة، الهندسية والوظيفية والتراتبية في الآن عينه. وهي فضاءات تؤمّن الثبات وتسمع بالتداول؛ فهي تقطّع القِطَع الفردية وتؤسس الصلات التشغيلية، وتوسم الأماكن وتعيّن القيَم، ولا تكفل فقط خضوع الأفراد بل اقتصادًا أفضل للوقت والحركات”(Foucault، 1975، الصفحات 147-149).
مجتمع التحكّم
يقول دولوز :”لا شكّ أننا دخلنا في مجتمعات التحكّم الّتي ليست بالتحديد انضباطية. غالبًا ما نُظِر إلى فوكو بوصفه مفكّر مجتمعات الانضباط وتقنيتها الرئيسية أي الانغلاق (ليس فقط في المستشفى والسجن، بل في المدرسة، والمصنع والثكنة). بالفعل، كان من أوائل من قالوا إنّ المجتمعات الانضباطية هي تلك الّتي في طريقنا إلى تركها، والّتي ليست بعد كائنة. نحنُ ندخل في مجتمعات التحكّم الّتي تعمل، ليس عبر الانغلاق، بل عبر التحكّم المستمر والتراسل الفوري. بالطبع لم نكفّ عن التحدث عن السجن والمدرسة والمستشفى، [إلاّ] أنّ هذه المؤسسات تعيش أزمة، وهي وإن كانت كذلك فبالتحديد بسبب صراعات متأخرة” (Deleuze, 1990, p. 236).
هذه الأزمة الّتي يشير إليها دولوز هي أزمةٌ معممةٌ وتطال كافة الأماكن المغلقة “الداخلية” الّتي كانت تجري فيها تقنيات الانضباط، والّتي حللّ فوكو مشروعها المثاليّ بشكلٍ جيّد. ولكنّ فوكو قد عرف أيضًا موجزية هذا النموذج: فهو لاحقٌ لمجتمعات السيادة حيث كانت الغاية كما الوظائف مختلفة (الانتزاع بدل تنظيم الانتاج، تقرير الموت وليس بالأحرى إدارة الحياة)؛ ولقد جرى الانتقال بشكلٍ تدريجيّ […] وعرف الانضباط بدوره الأزمة، لصالح قوى جديدة” (Deleuze، 1990، صفحة 240).
وبالرغم من محاولات الإصلاح الّتي حصلت في بديات القرن العشرين (إصلاح التعليم والصناعة والسجون..الخ)، إلاّ أنّ الجميع – على حد تعبير دولوز – يعلم أنّ هذه المؤسسات “قد انتهت، آجلاً أم عاجلاً. [ وتكمن المسألة] فقط في معالجة الآلام الّتي تسببت بها […] إلى أن يجري تثبيت قوى جديدة […] فهي مجتمعات التحكّم الّتي في طريقها للحلول محل المجتمعات الانضباطية” (Deleuze، 1990، صفحة 242).
ويصف دولوز التحكّم بـ”الوحش الجديد”، وبـ”المستقبل القريب” على حد قول فوكو. وهو وحشٌ لا يكفّ عن السيطرة بسرعةٍ فائقة على كلّ الهواء الطلق. ولن يجري استخدام كلّ انواع التلاعب الجيني والصناعات النووية والانتاجات الصيدلانية إلاّ لخدمة سيرورة التحكّم حيث لا مجال للتكلّم عن الخوف أو عن الأمل، لأن التحرير والعبودية تجري في دماء هذه السيرورة، بل سيتعلّق الأمر فقط بالبحث “عن أسلحة جديدة”.
بين التحكّم والانضباط
يقتضي منطق مجتمعات التحكّم مقارنة بينها وبين الانضباط، وهذا ما يقوم به دولوز، إذ يلاحظ ان الأماكن المغلقة الّتي يمرّ بها الناس هي متغيّرات مستقلة، ولكلّ منها لغتها الخاصة ولكنها لغة تماثلية analogique، في حين أنّ مختلف التحكّمات ليست سوى متغيّرات غير منفصلة عن بعضها البعض، وتكوّن سيستامًا من هندسةٍ متغيّرة، وحيث اللّغة رقمية :”إنّ المغلقات enfermements قوالب moules، وقولبة moulage متمايزة، ولكنّ التحكّمات تعديلاتٌ modulation، مثل قالبٍ ذاتي التشكّل يتغيّر باستمرار، من لحظة إلى أخرى، أو مثل منخلٍ تتغيّر أسلاكه من نقطة إلى أخرى” (Deleuze، 1990، صفحة 242).
وتبدو مسألة الاجور مثلاً ملائمًا في هذه الحالة، اذ في حين كان المصنع جسدًا يحمل قواه الداخلية عند نقطة توازنٍ يصل بها الإنتاج إلى حده الأقصى بينما كانت الاجور عند حدّها الأدنى، فإنّ ما حصل حين جرى الانتقال إلى مجتمع التحكّم هو أنّ المؤسسة استبدلت المصنع وأصبحت بمثابة الروح أو “الغاز” على حد تعبير دولوز، بحيث أجرت تغييرات على مستوى الأجور، ولم تكفّ عن إدخال منافسةٍ بين العمّال عن طريق التمايزات في الأجور المتغيّرة الّتي توزّعت بحسب الكفاءة ونظام الحوافز، بدل أن تبقى ثابتة وترتبط حصرًا بمصلحة صاحب العمل. وهي منافسةٌ أعاقت فيها كلّ محاولة للمقاومة كانت تقوم بها النقابات سابقًا بمواجهة الرقابة الدائمة لربّ العمل. ذلك لأنّ نظام المنافسة والحوافز الكثيرة هذا قد أثار انقسامًا بين العمّال لا بل حتّى عند العامل نفسه. ويرى دولوز أنّ التحوّل هذا لم يقف عند حدود المصنع بل امتد إلى نظام التعليم حيث ستُستبدَل المدرسة المغلقة بالتأهيل المستمر للطلاب، وسيحلّ التحكّم محلّ الاختبارات، بوصف ذلك الطريق الأضمن لوضع المدرسة بيد المؤسسة.
الفضاء المغلق والفضاء المفتوح
يجري التحكّم فوق فضاءٍ مفتوح، وعلى سكّان يتحرّكون ويتنقلون، اي على ديناميةٍ ما. هذا في حين أنّ المجتمعات الانضباطية (بصورها النموذجية في المدرسة والثكنات والمصانع) تفرض من الخارج شكلاً أو نموذجاً متماثلاً ومغلقًا يخضع له الأفراد ويصبحون تحت سطوته.
ويرى دولوز أنّ شكلاً جديدًا من العقوبات وأنماط التربية والعناية احتلّ حيّز العقوبات الّتي كانت تميّز مجتمعات الانضباط والمراقبة من قبل. ولم تعد المستشفيات مغلقةً، وأصبحت النظافة العامة شرطًا لا بد منه وبديهيًا، كما توسعّت المساحة في أماكن التعليم المدرسي وتميّزت عن أماكن العمل. ولكن وبالرغم من هذا الانفتاح على العالم الخارجي وفضائه، إلّا أنّ الرعب ظلّ تشكيلةً دائمة، وهو رعب التحكّم الّذي يعبر كلّ الفضاءات المفتوحة (Deleuze، 1990، صفحة 237).
من ناحية أخرى، وإذ تتميّز مجتمعات الانضباط بشكلٍ من أشكال العود على بدء، حيث نبدأ من المدرسة ومن ثم إلى الثكنة، ومن الثكنة إلى المصنع، فإنّه وفي مجتمعات التحكّم المعاصرة “لا ننتهي أبدًا مع شيءٍ ما […] حيث أنّ المؤسسة، والتأهيل والخدمة [المدنية] هي حالات ذات استقرارٍ دائم التبدّل ومتعايشة وفق التقلّب عينه، المسخ الكلّي” (Deleuze، 1990، صفحة 242).
نُلاحظ مثلاً ان الأشكال القانونية في مجتمعات الانضباط تحكمها التبرئة العلنية أو العفو الواضح بين فضاءٍ مغلق وآخر، بينما يبدو تأجيل الحكم بمظهره اللامحدود هو ما يميّز تلك الأشكال في مجتمع التحكّم. ففي المجتمعات الانضباطية نجد قطبين هما التوقيع signature الّذي يشير إلى الفرد، ورقم القيد numéro matricule الّذي يشير إلى موقعه في جمهورٍ ما، وهما قطبان لم ينظر الانضباط إليهما من حيث هما غير متساوقين أو متنافرين، بل عملت سلطة الانضباط دائمًا على الجمهرة وصياغة فردانية كلّ عضو في الجسد الاجتماعي الّذي اقامته عبر تحديد مكان إقامته ورقمه في بطاقة الهوية الوطنية وغيرها من “إحداثياتٍ” مكانية وترقيمية وتحديدية.
أمّا في مجتمع التحكّم، وعلى العكس من ذلك، “ليس الأساسيّ هو التوقيع كما ليس هو العدد بل الشِفرة chiffre: الشيفرة هي كلمة مرور، في حين أنّ كلمات النظام تضبط المجتمعات الانضباطية […] تتكون اللغة الرقمية من شِفرات تحدد الولوج إلى المعلومات أو رفضها. لم نعد أمام الزوج جمهور-فرد، [بل] أصبح الأفراد تقسيمات dividuels، والجماهير عيّنات échantillons، معطيات، أسواق أو بنوك. ربما هو المال الّذي يعبّر بأفضل الأشكال عن التمايز بين المجتمعين” (Deleuze، 1990، صفحة 243). ذلك أنّ المال في المجتمع الانضباطي يظهر على شكل نقودٍ مصاغة ومنغلقة على الذهب كعددٍ معياريّ، بينما نجد في مجتمع التحكّم تبادلات عائمة، وتقلّبات تتدخل على شكل شِفرة مئويةً لمختلف عيّنات النقود، “وقد كان الخُلد النقدي القديم هو حيوان أماكن الانغلاق، ولكنّ الأفعى هي حيوان مجتمعات التحكّم. لقد عبرنا من حيوانٍ إلى آخر، من الخُلد إلى الأفعى، في النظام حيث نعيش، ولكن أيضًا في أنماط حياتنا وعلاقاتنا مع الآخر.إنسان الانضباط هو المنتِج المتواصل للطاقة، ولكنّ إنسان التحكّم هو بالأحرى تموّجي ondulatoire، معلّق في مدار، على حُزمةٍ مستمرة” (Deleuze، 1990، صفحة 244).
آلات التحكّم
يعتقد دولوز أنّ لكلّ شكلٍ من المجتمع نمطه الخاص من الآلات machines من دون أن تكون هذه الآلات هي المحدِّدة لتلك الأشكال، بل بالأحرى تعكس أشكالاً اجتماعية تولّدها ومن ثمّ تخدمها.
في مجتمعات السيادة القديمة نجد الآلات البسيطة على شكل رافعات، وبكرات وساعات ضخمة، بينما نجد الآلات الطاقوية لمجتمعات الانضباط، مع ما تنتجه من خطرٍ منفعل passif للقصور الحراري، أو الخطر الفاعل للتخريب. والآلات السيبرنية cybernétiques والحاسوبات ordinateurs هي الّتي تميّز مجتمعات التحكّم، مع خطرها التشويشي أو الانحرافي المنفعل، والفاعل في القرصنة وإدخال الفيروسات الالكترونية.
ويعود السبب في تغيّر أشكال الآلات إلى التبدّل العميق في الرأسمالية ذاتها، ذلك أنّ الآلات ولأنها “لا تشرح شيئًا”، يلزم لفهمها اللجوء إلى تحليل الارتصافات agencements الجماعية الّتي تكون الآلات جزءًا منها. وهذا ما يتبيّن في عوالم الاتصالات المفتوحة في عصر الرأسمالية الّتي ارتكزت في القرن التاسع عشر على الإنتاج والملكية، حين كان الرأسمالي آنذاك مالكًا لوسائل الإنتاج، ولكن أيضًا وعند الضرورة كانت الأماكن الأخرى كبيوت العمال والمدارس بحوزته، هذا في وقت احتلّ السوقَ الاختصاصُ وتقسيم العمل حينًا، والاستعمارُ حينًا آخر، أو خضعت لتخفيض في كلفة الإنتاج.
ويرتبط مفهوم مجتمع التحكّم بالاكسيوماتية الرأسمالية axiomatique وبقدرتها على تأسيس علاقات وروابط بين الدفوق الّتي تفككت شيفراتها codes والّتي تكون في حالةٍ متعذرة القياس ولا متعلّقة، وعلى إلحاق هذه الدفوق بنوعٍ من التماثلية isomorphie المعمّمة، كأن تُنتِج كلّ الذوات من أجل السوق.
ولقد قاد مفهوم دولوز للأكسيوماتية إلى طرح رؤيةٍ جديدة لآلةِ استعبادٍ تتجاوز الأقاليم والسيادة والشرعية، والّتي لا تفيد في دولتها صورةً متعالية لإمبراطورٍ ما أو حاكمٍ أعلى كما في المجتمعات السابقة على الرأسمالية، بل تُفصِح عن قساوةٍ أكبر عبر مجهوليتها impersonnalité بالتحديد. ففي السطح الثالث عشر من كتابه ألف سطح، يعود دولوز إلى دومزيل ويعتبر أنّ لسيادة الدولة السياسية في الأنظمة السابقة على الرأسمالية رأسين هما الامبراطور المرعب والساحر من جهة، أي مَن يعمل عبر الاستيلاء على الأجساد والإنتاج، والربط بينها، مستعينًا بالعُقد وشبكات القرابة والمصاهرات؛ ومن جهة أخرى، الملك الكاهن ورجل القانون الذي يدّعي الحكم عبر العقود والاتفاقات (Deleuze & Guattari, 1973, p. 528).
أمّا الرأسمالية، وبفضل نمط اشتغالها الّذي يمكنه أن يتجاوز كلّ القناعات الفردية أو كلّ السلوكيات البشرية المشفّرة أي المستولى عليها والمرمَّزة، فإنَ أكسيوميتها تجرّنا من مجتمعٍ يقوم على الانضباط والتشفير إلى مجتمع التحكّم، حيث تفعل السلطة فعلها مباشرةً على الدفوق الفردية المفككة الشيفرات décodées، فلا تشفّرها بل تستثمرها كما في منزوعة التشفير والترميز في آلتها الكبرى للإنتاج والتوزيع المتدفقين.
ومن ثمّ، لم تعد الرأسمالية إلى جانب الإنتاج الّذي تمت إحالته إلى بلدان الاطراف في العالم الثالث تحت أشكال معقدة من المعادن المصنّعة والمنسوجات والنفط، بل تحوّلت هذه الرأسمالية إلى رأسمالية إنتاجٍ فائض surproduction ولم تعد تشتري موادًا أولية ولا تبيع منتجاتٍ تامة، بل تشتري منتجاتٍ تامة، أو تنجزُ قطِعًا منتزعة. وما تبيعه هذه الرأسمالية هو الخدمات، وما تريد شرائه هو الأعمال. وبالمثل، لم تعد المدارس، والمصانع، والثكنات والمستشفيات تلك الأماكن المتمايزة تناظريًا والّتي تتمركز بين يديْ رأسماليّ متملّك، لا بل انفلت الفن من الأماكن المنغلقة كي يدخل إلى الدائرة المفتوحة للبنوك والأسواق. وفي السياق عينه، اكتسب الفساد سلطةً جديدة، وأصبحت خدمة البيع قلب كلّ مؤسسة، وأصبح التسويق “مكَنة التحكّم الاجتماعي، مشكّلاً عرقًا صفيقًا لأسيادنا. وهنا، يجري التحكّم على المدى القصير وفق دورانٍ سريع، ولكن أيضًا مستمر ولامحدود، بينما كان الانضباط يجري على المدى الطويل، بشكلٍ لامتناهٍ ومتقطّع. لم يعد الإنسان محجوزًا بل أصبح مديونًا. وإن كان من الصحيح أنّ الرأسمالية حافظت على ثبات البؤس الأقصى لثلاثة أرباع الإنسانية، المفقرون جدًا لأجل الديون، والكثيرون جدًا من أجل الإغلاق، فإنّ التحكّم ليس عليه فقط أن يجابه تبدد الحدود، بل [أيضًا] انفجارات الضواحي والغيتوات” (Deleuze، 1990، صفحة 246).
وفي مجتمعٍ يتحرّك في فضاءٍ مفتوح لم تعد للحواجز والحدود أية قيمة، وعلى عكس مجتمعات الانضباط، فإنّ الحدود بين الداخل والخارج أصبحت ضبابية ومخفية، وأمسى على كلّ المؤسسات الّتي كانت مغلقة أن تفتح أبوابها أمام التعليم المستمر، والمرضى الخارجيين، كما أمام تصوّرات جديدة للأمن وأشكالٍ جديدة للإنتاج. وفي مجتمع التحكّم، اُدخِلَت العائلة لتشتغل في هذا الترتيب الجديد للخارج وللداخل، واُجبِرت المصانع على إدخال الطلب والمستهلكين في الإنتاج مباشرةً، بشرط أن يكون الطلب مضبوطًا. كما تحوّل التعليم إلى تعلّمٍ من أجل التعلّم بشرط ملاحظة الفرق بين التعليم الجيّد والسيئ. وتحوّلت السجون إلى سيستام من العواقب، والمستشفيات إلى مستشفيات مفتوحة تؤمّن الرعاية للمرضى الخارجيين.
وبكلمة واحدة، يحدثُ زوال للتمايز بين الخارج والداخل، وبين المؤسسة وما هو خارجها، ذلك لأنّ الفضاء خسر أقفاله في الوقت عينه الّذي نمت فيه تقنيات التنظيم في الأمكنة الّتي يقضي فيها الناس معظم حياتهم. لا بل أصبحت الحواسيب الالكترونية ووسائط التواصل هي الّتي تعيّن موقع المباح والممنوع، والّتي تشكّل التبدّل الشامل وترسم ملامحه.
وحتّى وإن جرى الاحتفاظ ببعض ملامح مجتمعات الانضباط، فإنّ ذلك لا يجري من دون تكييفها وتوظيفها في التحكّم، كما لا تعني الإصلاحات في المؤسسات التربوية والمستشفيات والمصانع سوى تأسيس نظامٍ جديدٍ من الهيمنة يُواجه به أزمات المؤسسات الّتي يخلقها مجتمع التحكّم، كما كلّ حركة لمقاومة هذا الشكل من المجتمعات.
وكما يرى أنطونيو نيغري* Negri ومايكل هاردت** Hardt في كتابهما الإمبراطورية فإن الانتقال إلى مجتمع التحكّم لا يعني نهاية الانضباط بقدر ما يضمر توسّع الممارسات المحايِثة و”الملموسة” لمنطقٍ انضباطي مستدخلٍ في الذوات. ولكن الّذي تغيّر إلى جانب سقوط المؤسسات هو أنّ المؤسسات الانضباطية وسّعت حدودها وفضاءها في الحقل الاجتماعي. وإذ تهاوت العناصر المتعالية(عيون الحاكم الّتي تراقب من فوق ومن بعيد) للمجتمع الانضباطي، فإن مظاهرها المحايِثة قد تعممت وتوضّحت (Negri & Hardt, 2001, p. 331).
كما يتضمّن الانتقال إلى مجتمع التحكم انتقالاً إلى إنتاجٍ هجينٍ للذات Sujet-Self. وإذ ساهم إنتاج الذاتية في مجتمع الانضباط بتوسّع رأس المال، فإنّ الهويات الاجتماعية الّتي خلقتها المؤسسات كانت أكثر دينامية ومرونة من الصور الذاتية لمجتمعات السيادة، بالرغم من أنّ المؤسسات كانت أشبه بمكَنة قياس ونمذجة أنتجت هذه الهويات وأدوارها ومواقعها في عملية إنتاج وتوسّع رأس المال. أمّا في مجتمعات التحكّم فلم يجرِ إنتاج ذوات لها هويات ثابتة، بل بالأحرى مهجّنة ومتبدلة، وهي ذوات تميل دومًا إلى خسارة تعريفها وتحديدها ضمن هويات منمذجة. ومع ذلك فإنّ هذه الهوية المهجنة تشكّلت بفعل المنطق عينه الذي شكّل الذوات في المجتمع الانضباطي (Negri و Hardt، 2001، صفحة 332).
أمّا القدرة الّتي يملكها مجتمع التحكّم في الهيمنة على الناس في فضاءٍ مفتوح فتطرح إشكاليةً –من بين إشكاليات أخرى – تتعلّق بآلية المقاومة الّتي في الحالة النقابية مثلاً قد درجت على الكفاح في فضاءٍ مغلق ميّز المجتمعات الانضباطية. ولذلك يتساءل دولوز عن مدى استطاعة النقابات والأحزاب التقليدية وما يشبهها أن تتكيّف في فضاءٍ مفتوح وتبتكر أشكالاً جديدةً للمقاومة، كما عن إمكانية الشباب والجماعات في مجابهة التسويق و”أفراحه”. وفي مجمل الأحوال يبقى فعل اكتشاف وابتكار سيرورات مقاومة مهمّةَ من يمتلك المصلحة في ذلك، إذا افترضنا أن ” حلقات الأفعى ما زالت أكثر تعقيدًا من حجر الخُلد” (Negri و Hardt، 2001، صفحة 247).
مقاومة التحكّم
في مواجهة الآلات الخاصة بكل شكلٍ اجتماعي تقف أشكالٌ من الانتهاكات والانشقاقات أو من ناحية أخرى أشكالٌ من المقاومة التي تلائم كل آلة اجتماعية قمعية. فإذا كنّا نتكلّم عن حركة تخريب وتحطيم الآلات بوصفها خرقًا وانتهاكًا يخص مجتمعات الانضباط، والاضرابات العمّالية كشكل مقاومة لهذه المجتمعات، فإنّ القرصنة الالكترونية والفيروسات الالكترونية هي الانتهاك الّذي يواجه الآلة السيببرنية التحكمّية، بينما ستشكّل الأقليات الثورية الفُصامية شكلاً من أشكال المقاومة لهذه الآلة الأخيرة.
ويرى دولوز أنّ المقاومة في مجتمعات التحكّم لم تكن يومًا غائبة، مثلها مثل أشكال المقاومة في المجتمعات السابقة، وقد يُنظَر إلى هذه المقاومة وكأنها “تقدّم من جديد فرصًا لشيوعيةٍ يُنظُر إليها وكأنها تنظيمٌ أفقيّ لأفرادٍ أحرار”، بينما الأمر هو بالأحرى مختلفٌ عن ذلك بحسب دولوز الّذي يرى أنّ من اللزوم حصول نوعٍ من سرقة أو اختلاسٍ للخطاب أو للّغة كي يكون الابتكار شيئًا مختلفًا كلّيًا عن مجتمعات التحكّم والاتصالات التي أفقرت كلّ خطابٍ وكلامٍ والتي اخترقها المال بسبب طبيعة الرأسمالية. فالمهم هو “أن نخلق تجاويف من اللا-اتصالات، ومحوّلات كهربائية interrupteur، كي نفرّ من التحكّم” (Deleuze، Pourparles، 1990، صفحة 238).
وفي كلّ الأحوال فإنّ ما تمنحه المقاومة هو فرص جديدة للحياة، إذ يتعلق الأمر برسمِ وتعقّب خطوط ومساحات مبيانٍ diagramme لقوى داخلنا وخارجنا، ولعلاقة بين نقطةٍ وأخرى، كما هو عبارة عن تراكبٍ لخرائط فكريةٍ وجسديةٍ. وفي كل مبيان نجد بالإضافة إلى نقاطه الثابتة، تلك النقاط المنفلتة والمتحررة، أي نقاط الإبداع والمقاومة والتغيير والانحراف، وهي النقاط التي نستطيع من خلالها أن نفهم المجموعة كلّها.
وانطلاقًا من نضالات كل عصرٍ، ومن أنماط وأشكال النضال بإمكاننا فهم تعاقب الخرائط والمبيانات أو انفصالاتها وانقطاعها عن بعضها البعض. فلكلِّ نمطٍ أو شكلٍ خطَّ الخارج ligne de dehors الّذي يخصّه، وهو خطٌ بلا بداية أو نهاية، خطٌ محيطيّ يمرّ في كل نقاط المقاومة، ويصطدم بكل المبيانات، وينحرف وينعطف كما حصل في حدث أيار\مايو 68 الفرنسيّ، إذ تحوّلت الكتابة إلى ما يجب أن تكون عليه في تعريفٍ مثلثّ:”أن نكتب أي أن نناضل، أن نقاوم، الكتابة هي الصيرورة؛ أن نكتب أي أن نرسم خرائط” (Deleuze, 2004, p. 51).
هكذا، تبدأ المقاومة أولاً من الممارسة الفكرية. ففي كلّ نشاطٍ للفكر تنشأ مجابهةٌ بين نوعين من القوى أو بين قطبين، أوّلهما يفيد قوّة عامودية ومتمركزة، وهرميّة تسعى إلى تأسيس علاقات ثابتة وإلى تمثيل العالم وفقًا لهذه العلاقات. أمّا ثانيهما فهو من طبيعة غير هرمية وقسرية، وله شكلٌ غير متمركز لتنظيمٍ يمكن أن نجده في الطبيعة، والفن والممارسات الاجتماعية. هذا التقابل بين القطبين هو التقابل بين السلطة المتحكمة للآلات الاجتماعية والإنتاجية اللامتمركزة للآلات الراغبة. كما هو تقابلٌ بين قوى النظام وقوى الزعزعة في داخل كل ممارسات وخيوط الفكر (Deleuze، 2004، صفحة 129).
وفي سياق المقاومة عينها يتحدّث دولوز عمّا يسمّيه بخطوط الهروب. ولكنّ خطوط الهروب هذه الّتي قد تبدو فرارًا من الحياة أو استسلامًا لقدرٍ غامضٍ لا تفيد الهروب الاستسلاميّ واللامباليّ، بل هي إنتاجٌ للواقع، وإبداعٌ للحياة وتوفّرٌ على سلاحٍ ما للمواجهة. كما ليس الهروب نقدًا رومانسيًا، وسوداويًا، ومجرّدًا للحياة سواء كان أيديولوجيًا أم أدبيًا، بل على العكس من ذلك هو حبٌ للحياة (على طريقة نيتشه أو سبينوزا أو الأدب الأميركي عامةً..)، واقترانٌ بدفوق رغبةٍ وصيروراتٍ تتنقل بين التحطيم والإبداع. ويكون خط الهروب مبدعًا لهذه الصيرورات التي تنفلت عبرها الحياة من “حقد” الأشخاص والتاريخ والهيمنات السياسية.
ويخلص دولوز إلى القول إنّ الكتابة أو الصيرورة- كتابةً هي شكلٌ من أشكال حبّ الحياة هذا لأنّه “ينبغي أن تكون الكتابة، بما هي وسيلة، من أجل تفوّق الحياة الشخصية، عوض أن تصبح الحياة سرًّا بائسًا من أجل كتابةٍ قد لا يكون من هدفٍ لها سوى نفسها[…]إنه بؤس المخيالي والرمزي ما دام الواقع يؤجَّل دومًا الى الغد” (Deleuze، 2004، صفحة 68).
وهكذا، ليس الهروب فرارًا من أرضِ معركةٍ أو من سجنٍ، أو تملّصًا من العائلة أو المدرسة، أي ليس قطيعةً أو تمزّقًا على شكلِ طلاقٍ زوجيّ. وإذ نكوّن في أنفسنا وخارجها أجاهيز للسلطة وللاستلاب، قد يكون الهروب ساكنًا، في المكان عينه، ولكن من حيث هو قلب للعلاقات، وهدم لأجهزة سلطوية في داخلنا، واستبعاد للأدوار الإلزامية المطلوبة منّا ورفضًا للخضوع.
وليس الهروب هروبًا من آخر، بل إنتاج علاقة جديدة معه. إنّ الهروب بما هو فعل مقاومة هو تلك السيرورة التي تفتح المجال أمام الفاعلين السياسيين بأن يتحرروا من كل التمثيلات السياسية السائدة في الخطابات السلطوية والإعلامية والتسويقية، ومن أنماط الوجود المُراد إخضاعهم لها، وذلك عبر خلق بدائل حياتية، يومية وعينية وراهنة. ولا تحمل هذه المقاومة إلاّ معنى التغيير، أي ألاّ نركن إلى حالة الأشياء كما هي، أو أن نشعر ونفكر بها كما هي وبالطريقة عينها، وألاّ نقوم بالتقييمات السائدة نفسها. يتعلّق التغيير بما هو معاش، بمعنى أنّ كلّ معطيات الحياة الأكثر ألفةً سندخلها في فعل المقاومة بطريقة مختلفة من حيث العلاقات مع العناصر المعتادة لنمط وجودنا سواء أكانوا بشرًا آخرين أم حيوانات أم موضوعات طبيعية أو غير ذلك.
ولكن يبقى أن هناك أجهزة سلطوية علينا الفرار منها فعلاً حين تحاول تصفيتنا، ولكن هناك أجاهيز بنيناها بأيدينا … علاقات يتوجب علينا قلبها وتحطيمها من أجل تأسيس علاقاتٍ جديدة مع الذات ومع الآخرين، من أجل تكوين أنماط وجود مختلفة. ولا تتقدم خطوط الهروب أي المقاومة إلاّ من خلال هذه التجارب كلّها.
* أنطونيو نيغري Antonio Negri (1933-…) ناشط سياسيّ وفيلسوف إيطالي نيو-ماركسي وأحدّ المنظّرين الرئيسيين لحركة التسيير الذاتي “Operaismo” الايطالية العمّالية. في منفاه الفرنسي، كان نيغري على صلة بدولوز وغاتاري فوكو ومجمل التيار السياسي ما بعد-الحداثي. وضع مع صديقه الاميركي مايكل هاردت كتاب “الامبراطورية” الّذي وُصِف بأنه البيان الشيوعي للقرن الحادي والعشرين.
** مايكل هاردت Michael Hardt (1960_…) ناقد أدبي ومنظّر سياسيّ أميركي، من المتأثّرين بفلسفة جيل دولوز، وقد ذاع صيت هاردت بعد اشتراكه مع أنطونيو نيغري في تأليف كتاب “الامبراطورية” ولاحقًا كتاب “الحشد: الحرب والديموقراطية في عصر الامبراطورية”.
Works Cited
Deleuze, G. (2004). Foucault. Paris: Mnuit
Deleuze, G. (1990). Pourparles. Paris: Minuit
Deleuze, G., & Guattari, F. (1973). Capitalisme et schizophrénie1-L’Anti-Oedipe. Paris: Minuit
Foucault, M. (1975). surveiller et punir. Paris: Gallimard
Negri, A., & Hardt, M. (2001). Empire. London: Harverd University Press