الفلسفة

ما الجديد في فلسفة اللغة

  • ستيفن جيز*
  • ترجمة: زياد الحازمي
  • مراجعة: مصطفى هندي
  • تحرير: معاذ محمد إقبال

ابتداءً يمكننا أن ننظر إلى فلسفة اللغة من خلال سؤالين أساسيين:
(1) ما العلاقة بين اللغة والعالم؟
(2) ما العلاقة بين اللغة والعقل؟

بالنسبة للسؤال الأول، من الواضح أن هناك العديد من الروابط بين اللغة والعالم، فمثلاً يستخدم المتحدثون اللغة لوصف العالم من حولهم، واللغة ذاتها ومستخدموها أنفسهم أجزاءٌ من هذا العالم، عادة يُنظر إلى استخدام اللغة لوصف العالم على أن اللغة هي نوع من التمثيل، وأن الكلمات أو الجمل تُعزى إلى العالم (أو أجزاء منه)، فكلمة “كلب” على سبيل المثال يمكنها أن تمثّل مخلوقًا معينًا، وجملة: “هذا الكلب أجرب” يمكنها أن تمثل حقيقة أن المخلوق المَعْنيّ أجرب.

منذ التقاليد القديمة اعتُبرت الأسئلة حول التمثيل والإشارات نقطة انطلاق للأسئلة الفلسفية حول العلاقة بين اللغة والعالم، مثل: ما هو التمثيل اللغوي؟ كيف تشير الكلمات إلى الأشياء أساساً؟ أو بعبارات أكثر تبسيطا: ما الذي يُعطي الكلمات معانيها، وما المقصود بأن يكون للكلمة معنىً أصلاً؟

انتقالاً للعلاقة بين اللغة والعقل، سنجد أن هناك عدداً لا يُحصى من الروابط بين اللغة والقدرة العقلية، فالمتحدثون يستخدمون اللغة ليعبروا عما يفكرون فيه، فإذا كان “علي” يعتقد أن “زيداً” أحمق، فيمكنه أن يقول ذلك، وما يعتقده الناس يتأثر أيضا – من نواح مهمة – بما يمكنهم التعبير عنه بالكلمات، وفي النهاية حتى تكون قادرًا على التفكير مثلاً في أن (الكوآن) عند طائفة الزن البوذية هو موضوع قد بلغ من السمو منتهاه؛ فأنت بحاجة إلى إدراك مفاهيم مثل (السمو) و(طائفة الزن)، ووجود مثل هذه المفاهيم مرتبط بطريقة ما بالقدرة على استخدام كلمتي “الزن” و”السمو” بشكل صحيح، وبالتالي هناك روابط مهمة بين اللغة والعقلية.

إحدى الطرق لجلب هذه الروابط لانتباهنا هي طرح سؤال: هل للأفكار فضل على اللغة، أم أن للغة سلطة على الأفكار؟ بعبارة أخرى، هل ما يمكننا التفكير فيه يحدد ما يمكننا قوله، أم العكس؟ رأى الفلاسفة عبر التاريخ أن العقل له الفضل على اللغة، بقدر ما يُنظَر إلى معاني الكلمات على أنها مشتقة من الأفكار والمعتقدات والمفاهيم و/أو نوايا المتحدثين، ومن الواضح أن هناك شيئًا صحيحًا  في هذه الرؤية، ومع ذلك – كما هو الحال مع أي قضية فلسفية – هناك من يجادل بأن كل ما هو واضح ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً.

وبغض النظر عن قضية الأفضلية، إذا فسرنا العلاقة اللغوية العقلية بطريقة معينة، فيمكننا أن ننظر إلى العقل على أنه لغوي في طبيعته وبنيته، إذا كان الأمر كذلك فيبدو أن الكلمات والأفكار (أو الجمل والفكر) تعتبر تمثيلاً للعالم، ويمكن القول بأن هذا المفهوم الشائع للغة والعقل أصبح هو المعيار؛ فاعتُبِرت اللغة والعقل وجهين لنفس العملة التمثيلية.

إذا اعتمدنا مثل هذا التمثيل الذي يأخذ اللغة والعقل بالحسبان معاً، فإن السؤالين الأساسيين حول الروابط بين اللغة والعالم؛ واللغة والعقل؛ يتفرع عنهما سؤال ثالث مهم: ما العلاقة بين العقل والعالم؟ في الواقع، على امتداد فلسفة اللغة في القرن العشرين كان الارتباط القوي بين اللغة والعقل مقبولا إلى حد كبير بما يكفي للانعكاس الفلسفي حول اللغة لمساعدتنا على فهم العلاقة بين العقل والعالم.

وعلى ضوء ذلك يُنظر غالباً إلى فلاسفة اللغة – ويرون ذلك في أنفسهم – على أنهم معنيون بمجال جوهري في البحث الفلسفي، حيث عُوملت الأسئلة المتعلقة باللغة -على الأقل في الفلسفة التحليلية وما يسمى بفلسفة “ما بعد التحليلية”- على أنها تمهيدٌ لأسئلة أكثر عمقًا حول الميتافيزيقا والعقل: أسئلة حول طبيعة الواقع ذاته وكيف تصل عقولنا إلى هذه الطبيعة.

وفيما يلي سأنسج طريقي أولاً عبر التراث المركزي للفلسفة التحليلية للغة: الصدام بين النظريات الوصفية والنظريات السببية للإسنادات، بعد رسم السمات الرئيسية لذلك النقاش، سأقوم بمسح موجز للمشهد الحالي وأعرض بعض التطورات الأخيرة المثيرة للجدل.


النظريات الوصفية للمرجعية:

يرجع الفضل إلى عالم المنطق والرياضيات الألماني جوتلوب فريجه (1848-1925) في التفريق بين “المرجعية” و”الدلالة”، فمرجع التعبير هو ما يختاره التعبير؛ أو ما يشير إليه، أما دلالة التعبير فتعريفها أصعب قليلاً، لكن يمكن تعريفها إلى حد ما بأنها الطريقة التي يختار بها التعبير اللغوي إسناده.

لنأخذ مثالاً على ذلك، يشير اسم (آبي هوفمان) إلى الشخص اللاسلطوي الشهير من حركة الثقافة المضادة في الستينيات في الولايات المتحدة، ولو قلنا: (مؤلف كتاب “اسرق هذا الكتاب”) فإننا نشير إلى نفس الشخص أيضا، بالتالي فإن اسم (آبي هوفمان) وعبارة (مؤلف كتاب “اسرق هذا الكتاب”) لهما نفس المرجع، لكن يتم اختيار الشخص المرجُوع إليه بطرق مختلفة، يمكن لشخص ما أن يعرف (آبي هوفمان) بالاسم؛ ويفهم أيضًا دلالة عبارة (مؤلف كتاب “اسرق هذا الكتاب”) دون معرفة أن اسم (آبي هوفمان) وعبارة (مؤلف كتاب “اسرق هذا الكتاب”) لهما نفس المرجع؛ والسبب في ذلك أن التعبيرين لهما دلالتان مختلفتان، فمن الصعب أن نشرح بالتحديد ما تُبنى عليه الدلالات، ولكن يمكننا على الأقل فهم جوهر التمييز الدلالي/المرجعي عن طريق مثل هذه العبارات التي تشترك في المرجع ولكنها تختلف في وضوح الدلالة.

يمكن اعتبار حديثنا المعتاد حول معنى كلمة أو عبارة أو جملة طمساً لهذا التمييز الدلالي/المرجعي، فمعنى التعبير يتضمن كلاً من الدلالة والمرجع لهذا التعبير في الحالات ذات الصيغة الحرفية المشتركة على الأقل، لكن فهم الفرق يُمهد سبيلاً إلى نقاش رئيسي بين الاتجاه الوصفي والسببي في النظريات المرجعية.

كانت الوصفية هي لب المناقشات في فلسفة اللغة في بواكير القرن العشرين، وهي نظرية تدعي أن أنواعًا معينة من الكلمات أو التعبيرات تشير إلى مراجعها عبر أوصاف معقدة من نوع ما، ولفهم الوصفية يحتاج المرء إلى فهم التمييز الدلالي/ المرجعي، حيث يهدف الوصف إلى إظهار كيفية ربط مصطلحات معينة بمراجعها في العالم، يحتاج المرء أيضًا إلى فهم أنواع الأوصاف التي تثيرها النظريات الوصفية المرجعية، ولتوضيح ذلك سأستعرض بإيجاز وصف برتراند راسل المؤثر للأوصاف ونظريتها الوصفية المرجعية المصاحبة (فيما يلي سأقدم نظرية راسل بعبارات مختلفة قليلاً عن عباراته؛ لا شيء جوهري سينتج بسبب هذه الاختلافات التفسيرية).

في الثلث الأول من القرن العشرين قدم الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني والرجل الاجتماعي بيرتراند راسل عرضًا لأوصاف محددة – مُعرّفة -، كما في جملة: (التوفو مفزع)، وجادل راسل بأن الأوصاف المحددة ليست تعابير إحالة عادية؛ فهي ليست عبارات تشير بطريقة بسيطة ومباشرة إلى مرجعها أياً كان، بدلاً عن ذلك يرى راسل أن الأوصاف المحددة لها هيكل منطقي معقد، مما يسمح لها بالارتباط مع العالم بشكل غير مباشر فقط.

تأمل جملة: (الفيلسوفة التي قُتلت على يد حشد في الإسكندرية عام 415 ق.م كانت تتبع المدرسة الأفلاطونية الحديثة)؛ تجد أنها تحتوي على وصف محدد هو “الفيلسوفة التي قُتلت على يد عصابة في الإسكندرية عام 415 ق.م” (وصف محدد طويل  ولكنه من النوع المٌعرّف)، تصادف أن التي ينطبق عليها هذا التعبير هي هيباتيا (فيلسوفة)، راسل هنا يجادل في أن الوصف المحدد لا يشير إليها ببساطة؛ كالطريقة التي يبدو أن اسم “هيباتيا” يشير إليها، بدلاً عن ذلك يقول راسل إن الجملة التي تحتوي على الوصف المحدد “الفيلسوفة التي قتلت على يد حشد في الإسكندرية عام 415 ق.م. كانت تتبع المدرسة الأفلاطونية الحديثة “يجب تحليلها على النحو التالي:

1- هناك على الأقل فيلسوفة واحدة قتلت على يد عصابة في الإسكندرية عام 415 ق.م. (ادعاء وجود).

2- هناك على الأكثر فيلسوفة واحدة قتلت على يد عصابة في الإسكندرية عام 415 م (ادعاء تفرّد).

3- هذا الشخص أياً كان يتبع المدرسة الأفلاطونية الحديثة (إرجاع).

وبالمثل، يتم تحليل أي جملة تحتوي على وصف محدد للنموذج (أ هو ب) على النحو التالي:

1- هناك شيء واحد على الأقل كان (أ).

2- هناك شيء واحد على الأكثر كان (أ).

3- ذاك الشيء هو (ب).

الخلاصة أن راسل يتعامل مع الجمل التي تشتمل على أوصاف محددة؛ على أنها ترتكز على بنية منطقية أكثر تعقيدًا من هيكلها النحوي الظاهري (وهي خطوة تشبه إلى حد ما تلك التي قام بها تشومسكي في سياق مختلف)، في حين أن الجملة التي تحتوي على وصف محدد من النموذج “الشيء الفلاني هو (ب)” تبدو وكأنها جملة بسيطة ذات موضوع ومرجع، وهي ليست كذلك في الحقيقة، عوضاً عن ذلك فإن الجمل التي تحتوي على أوصاف محددة تختار الأفراد/ الأشياء بشكل غير مباشر؛ مثل تلك التي تستوفي التحليل الثلاثي المركّب السابق.

الآن ما علاقة هذا بالسؤال العام حول ارتباط اللغة بالعالم؟ في حين أن تحليل راسل للأوصاف المحددة ينطبق بشكل واضح على الأوصاف المحددة نفسها، جادل راسل بأن لها أيضًا آثارًا أوسع بكثير، ولمعرفة السبب نحتاج إلى خلفية أعمق بقليل.

يبدو أن تحليل راسل يُقارن الأوصاف المحددة بالأسماء الأصلية العادية، مثل “هيباتيا” أو “بالتيمور”، فمثل هذه الأسماء تبدو مجرد تسميات عادية، وتبدو أنها “تتّصل” وتشير إلى الأشياء مباشرة، في حين أن الأوصاف المحددة كما يحللها راسل؛ تقوم فقط باختيار الأشياء في العالم بشكل غير مباشر، وبالتالي يبدو أن تحليل راسل للأوصاف المحددة ينطوي على تباين كامل بين الأوصاف المحددة من ناحية؛ والأسماء الأصلية العادية من ناحية أخرى.

حسناً ليس الأمر بهذه السرعة، إذ جادل راسل بأن معظم الأسماء الصحيحة العادية ليست في الحقيقة تعبيرات إحالة بسيطة أيضًا، بل بالأحرى اعتقد راسل أن هذه الأسماء الأصلية العادية كانت في حد ذاتها أوصافًا محددة “متخفية”، وبالتالي فإن اسمًا مثل “هيباتيا” ليس تسمية بسيطة تشير مباشرة إلى المرأة التي يطلق عليها اسمها، بل (وفقًا لمبدأ راسل الوصفي) هو وصف محدد مختصر تماماً مثل: “الفيلسوفة التي قُتلت على يد حشد في الإسكندرية عام 415 ق.م.”، وعلى هذا النحو يتم تحليل الجمل التي تحتوي على أسماء صحيحة عادية بنفس الطريقة ثلاثية الجوانب كالجمل التي تحتوي على أوصاف محددة.

اعتقد راسل أن هناك عددًا قليلًا من الأسماء التي كانت أسماء أصلية منطقياً حقًا، أي الأسماء التي تمت الإشارة إليها مباشرةً والتي لم تكن أوصافًا متخفّية، ومع ذلك جادل بأن هذه الأسماء الأصلية منطقيًا (على عكس الأسماء الأصلية العادية) كانت الاستثناء وليس القاعدة (في الواقع اقتصرت أمثلته لهذه الأسماء الأصلية منطقيًا على أسماء إشارة مثل “هذا” و “ذلك”).

وبالتالي وفقًا لنظرية الأوصاف المرجعية فإن الأسماء الأصلية العادية قصيرة حقًا لتكون أوصافاً محددة، كما أن لديها بنية منطقية معقدة إلى حد ما؛ لا يتم اتصالها ببساطة مع مرجعها بأي طريقة مباشرة، بل ترتبط بشكل غير مباشر مع مرجعها عبر الأوصاف، وفقًا لمثل هذا الرأي فإن معنى اسمٍ ما في الحقيقة هو أكثر تعقيدًا مما يبدو.

يمكن توسيع نظرية الأوصاف المرجعية بسهولة لتشمل أنواعًا أخرى من الكلمات مثل المصطلحات الطبيعية (“الماء” أو “الكلب” أو “الكوكب”)، هذه الكلمات نفسها ستُعتبر أوصافا متخفّية، وبهذا تدعي النظرية الوصفية للمصطلحات الطبيعية كـ “الماء” أنها تختار الأشياء التي تشير إليها عبر بعض الأوصاف، يمكن أن يكون الوصف المذكور عبارة عن “الأشياء عديمة اللون والرائحة التي تُعبَّأ في زجاجات بلاستيكية باهظة الثمن تحمل اسمًا فرنسيًا”، وترى النظرية الوصفية للمصطلحات الطبيعية أن مرجعها غير مباشر، عبر الأوصاف المضمَّنة في معانيها؛ والمنظمة منطقيًا؛ والمحملة بالمعلومات.

قام جون سيرل وآخرون بتوسيع النظرية الوصفية عبر تطوير نظرية الكتلة المرجعية (Cluster Theory)، ووفقًا لهذه النظرية فإن الأسماء الصحيحة والمصطلحات الطبيعية ترتبط بمرجعها ليس من خلال الأوصاف الفردية، بل عبر مجموعة/كتلة من الأوصاف، والتفاصيل في هذه المسألة معقدة للغاية، لكن الفكرة العامة هي أن نظريات الكتلة هي إصدارات غير مقيدة وأكثر تعمقًا من نظريات الأوصاف المرجعية لراسل.

بغض النظر عن صفتها المميزة والدقيقة؛ تُفسر الوصفية اتصال اللغة بالعالم (وبشكل اشتقاقي اتصال العقل بالعالم) على أنه ينطوي على معلومات تُنْقل عبر الأوصاف الضمنية التي تحدد البنية المنطقية الحقيقية للكلمات العادية، فمضمون الكلام أن الوصفية تعامل المصطلحات الرئيسية في اللغة على أنها ترتبط بالعالم عبر أدوات معقدة، يقول “الوصفيّون” إن كلمة “بالتيمور” على سبيل المثال؛ تشير إلى الجزء الذي تصفه من العالم من خلال وصف (أو أوصاف) ضمنية ومركبة منطقيًا مثل: “المدينة الوحيدة بالحجم الفلاني في ولاية ماريلاند الواقعة شمالًا شرق واشنطن العاصمة”.

إذا كانت الوصفية صحيحة فإننا يمكن أن نتوقع (نظريًا على الأقل) أن المتحدثين يمكنهم أن يعرفوا بالضبط ما يشيرون إليه إن وُجد، عندما نستخدم كلمة (يونيكورن) على سبيل المثال؛ نعلم أن هذه المخلوقات أحادية القرن – إن كانت موجودة أصلاً- هي مخلوقات تشبه حصانا ذا قرن واحد، بالطبع لا وجود لأحادي القرن؛ لكننا نعرف ما نحاول الإشارة إليه؛ تشير كلمة (يونيكورن) إلى ما تشير إليه من خلال الوصف الضمني الذي اختُصِرت لأجله.

تتمثل إحدى نتائج الوصفية في أنه لا يجب أن يكون هناك في العالم أي شيء يفسر الكلمات ذات المعنى في لغتنا، الأسماء والمصطلحات التصنيفية تعني ما تعنيه، سواء كان هناك شيء “في الوجود الخارجي المتجرد” يُرجعون إليه أم لا، وتُحدَّد معانيها من خلال الأوصاف التي اختُصِرت لأجلها، وبالتالي فإن الوصفية من عدة نواحٍ قابلة للرؤية المتشككة و / أو للميتافيزيقية المضادة للواقع، بعكس النظريات السببية المرجعية، قد يبدو مثل هذا الاحتمال إما مُحرِّراً أو مزعجًا، اعتمادًا على الميول الفلسفية.


النظريات السببية المرجعية:

لا يمكن رؤية الأهمية الحقيقية للنظريات الوصفية إلا بمقارنتها بنقيضها الرئيسي: النظريات السببية، هذه النظريات التي تطورت بطرق مختلفة من قبل شاول كريبك وغاريث إيفانز وهيلاري بوتنام في أوائل السبعينيات؛ تنفي أن الأسماء العادية والمصطلحات الطبيعية تشير إلى مسمياتها عبر الأوصاف، بل هي تعتبر المرجع ذا علاقة سببية مع اسمه، فاسم (هيباتيا) على سبيل المثال ليس وصفًا محددًا متخفّياً، بل يصر المُنظرون السببيون على أن ما يجعل كلمة (هيباتيا) تشير إلى الشخص هيباتيا (بدلاً من شيء آخر أو لا شيء على الإطلاق)؛ هو أن هناك سلسلة سببية ملائمة تقود من الشخص الذي هو هيباتيا إلى أي تعبير منطوق ذي معنى لهذا الاسم.

على سبيل المثال قد يقول بات: “هيباتيا التي تتبع المدرسة الأفلاطونية الحديثة  هي المفضلة لدي”؛ فإنه باستخدام كلمة “هيباتيا” يشير بنجاح إلى هيباتيا، وتكون الرابطة المرجعية بين اسم “هيباتيا” ومرجعها (أي هيباتيا نفسها) في سلسلة سببية ملائمة، ربما تعلَّم بات المصطلح من فرانسيس، وتعلم فرانسيس المصطلح من بوبي، وتعلمه بوبي من ….، وفي كل مرة يتعلم فيها شخص مَّا المصطلح من شخص آخر؛ يصبح مرتبطًا بشكل سببي باستخدام هذا الشخص للمصطلح، وإذا قمنا بتتبع السلسلة إلى الوراء بما فيه الكفاية سنجد شخصًا – ربما أم هيباتيا- استخدم الاسم لأول مرة، كان هذا الشخص على اتصال سببي مباشر مع مرجع المصطلح (كأن يمكنه الاقتراب من هيباتيا وقرصها مثلا!) كما تقول كريبك، إذ قامت والدة هيباتيا بمصفوفة لغوية من خلال تسمية الطفل (الذي كانت على اتصال سببي مباشر به) بـ “هيباتيا”، بقيامها بذلك فإنها أعطت اسم “هيباتيا” كمرجع لها، أي شخص عبر التاريخ مرتبط بشكل ملائم بهذا المصفوفة اللغوية الأولية سيكون قادرًا أيضًا على استخدام اسم “هيباتيا” للإشارة إلى هيباتيا.

وفقًا للنظريات السببية، لا يتم إرجاع الاسم الصحيح من خلال وصف ضمني كامن محمّل بالمعلومات، بدلاً عن ذلك فإن الإرجاع هنا علاقة أكثر مباشرة، حيث يتكون من اتصال سببي خاص بين المرجع والكلمة تم إنشاؤه ابتداءً من خلال حدث التعميد اللغوي، ثم امتد عبر الزمان والمكان بالروابط السببية بين المتحدثين، إذاً من المهم أن ما يتم تمريره من خلال الروابط في السلسلة السببية ليس وصفًا محددًا ضمنيًا؛ بل هي السلسلة السببية المرجعية التأسيسية نفسها، وكما هو الحال في الوصفية، يمكن بسهولة توسيع النظرية السببية المرجعية للأسماء لتشمل المصطلحات الطبيعية، لذا فإن النظريات السببية المرجعية تُقدم جواباً على السؤال المتمحور حول علاقة العالم باللغة؛ فهناك فئة كبيرة ومُهمة من الكلمات تشير إلى العالم عند نطقها لارتباطها به بروابط سببية، ووفقًا لهذه النظرية فإن المرجوع إليه هنا نوع خاص من الروابط السببية.

وكما هو الحال مع أي اعتبار فلسفي فإن التفاصيل مخبّأة بين السطور، وقد كُتب الكثير عن كيفية صياغة النظريات السببية المرجعية، وبدون الخوض في هذه التفاصيل يمكننا أن نرى اختلافاً مهمًا بين النظريات الوصفية والسببية المرجعية؛ فالنظرية الوصفية لا تتطلب وجود مرجع بأكثر من مصطلح معنوي (وبالتالي يمكن أن يكون قابلاً للتشكيك و/أو النظرة الميتافزيقية)؛ بينما النظريات السببية تتطلب وجود شيء متحقق في العالم الواقعي يُشار إليه بأكثر من مصطلح تعبيري، فبما أن “الماء” كلمة ذات معنى فإنه يجب أن يكون هناك ماء “في العالم المتحقق” بالخارج، وهذا الماء هو أي شيء حقيقي ميتافيزيقي متواجد في نهاية السلاسل السببية الملائمة التي تنبثق من تعبيراتنا عن كلمة “الماء”، ولهذا فقد استعملت النظريات السببية المرجعية لدعم العديد من المواقف الميتافزيقية الواقعية.

الاختلاف الرئيسي الثاني بين الوصفية والنظريات السببية هو أن الاعتبارات السببية لا تسمح – بشكل عام – للمتحدثين بالحصول على نفس النوع من صلاحيات الوصول إلى الحقائق المتعلقة بالمرجعية كما تفعل الاعتبارات الوصفية، فإذا كان استخدامي لكلمة “ماء” يشير إلى ما هو متواجد في نهاية السلسلة السببية الملائمة فمن المحتمل – بل من المرجح-  أنني أشير إلى شيء لا أعرفه عند استخدامي لكلمة “ماء” بشكل مقصود.


المشهد الحالي

تسلُّحاً ببعض المعرفة عن النقاش الوصفي/ السببي والقليل من الجرأة؛ يمكن للمرء أن يجد طريقه في أهم المناقشات الحالية في فلسفة اللغة، وفيما تبقّى سأرسم الوضع الحالي لفلسفة اللغة باختصار شديد.

انخرط كثير من الأعمال الحديثة بشكل فعّال مع إرث نظريات نعوم تشومسكي في علم اللغات، وقد تنوعت الروابط التشومسكية بيد أنَّ اتجاه الانخراط النشط مع اللغويات يُظهر تأثيرَ ويلارد كواين داخل إطار فلسفة اللغة الذي أيّد معاملة الفلسفة باعتبارها متشابكة جوهرياً مع العلوم التجريبية، هذه النزعة نحو المذهب الطبيعي تشكّل فرعاً مؤثراً – وربما مهيمناً – داخل فلسفة اللغة الحالية، فهي تُعامل التساؤل الفلسفي الشرعي عن اللغة من حيث كونه جزءاً؛ أو مقيداً بالأبحاث الحالية؛ و/أو المبادئ في المجال العلمي للغويات.

هناك أيضاً روابط بين فلسفة اللغة وفلسفة العقل، وفقًا لإحدى الآراء الشائعة فإن الطريقة التي تشير بها اللغة إلى العالم مشتقة أساساً من الطريقة التي يستعرض بها عقلنا العالم داخلياً، إن كان الأمر كذلك فإن أي اعتبار شامل للارتباط بين العالم واللغة يعتمد على اعتبار ارتباط العالم بالعقل، وهكذا فإن الأسئلة حول الإرجاع اللغوي تعتبر متشابكة مع النظريات الحديثة للمحتوى أو التمثيل العقلي، ففي فلسفة العقل تهدف نظريات المحتوى “الطبيعية” عادةً إلى إظهار كيفية إمكاننا تفسيرَ التمثيل العقلي – وبالتالي التمثيل اللغوي – بمصطلحات مادية، والأدب في هذا المجال زاخر جداً ابتداءً من فرضية جيري فودر “لغة الفكر” التشومسكية التأثر (التي تعامل العقل بجلاءٍ على أنه يتكون من تمثيلات متعلقة باللغة)؛ إلى النماذج ”الارتباطية” للعقل التي لا علاقة لها باللغة بأي شكل – والتي قد تستحق حتى أن يتم وصفها بأنها غير تمثيلية بالرغم من أن هذا قد نوقش بشكل واسع -، فالتوجه العام هو أن نرى الارتباط بين اللغة والعالم على أنه يعتمد على طبيعة العقل، وبالتالي فإن النقاش الوصفي/السببي داخل فلسفة اللغة مصحوبٌ بنقاش موازٍ في فلسفة العقل.

كان هناك أيضًا اهتمام حديث بأسئلةٍ حول البراغماتية واستخدام اللغة، يُظهر هذا العمل تأثير منظّري نظرية الأفعال اللغوية في الخمسينيات والستينيات (أبرزهم جين أوستن) على الرغم من أنه يتم إعمالها غالباً مقابل ستار نظري مناقض للكثير من اهتماماتهم الرئيسية، الأعمال الأخيرة المتعلقة بالبراغماتية لا تعطي لاستخدام اللغة الأهمية المركزية  كالتي أُعطيت من قبل أوستن (وكذلك من قبل لودفيج فيتجنشتاين، جيلبرت رايل، و بيتر ستراوسن بطرق وسياقات مختلفة)، وكون هذا الأمر جيداً أم لا ما زال محلًا للنقاش.

انخرط عمل نسوي مثير للاهتمام في تقاليد الفلسفة التحليلية للغة، فالعديد من الكتّاب يدّعون أن التركيز الناقد المتزايد على نوع الجنس (بالإضافة إلى العرق ، والطبقة ، والتوجه الجنسي ، وما إلى ذلك) يمكن أن يثري تفكيرنا الفلسفي حول اللغة، أغلب هذا العمل يختبر الطرق التي تم من خلالها تجاهل علاقات قوية من قِبَل المنظّرين السابقين من خلال إثارة مثل هذه القضايا، ويُظهر مثل هذا العمل النسوي أوجه الارتباط بنظرية الأفعال اللغوية التحليلية وبكثير من فروع الفلسفة القارّية، وإحدى المجموعات الجيدة من الأعمال الحديثة هي “وجهات النظر النسوية حول اللغة والمعرفة والواقع” لسالي هاسلانغر.

أخيرًا هناك عمل هام لروبرت براندوم في جامعة بيتسبرغ، حيث طور براندوم نظرية منهجية تسمى “الاستدلالية”؛ والتي قلبت المنظور المعياري لفلسفة اللغة رأساً على عقب من نواحٍ عدّة، إذ اعتمد بوعي ذاتي في نظريته على عدد من الفلاسفة المهمّشين في إطار فلسفة اللغة (أبرزهم هيجل وويلفريد سيلارس)، وبدلاً من محاولة فهم اللغة (والعقل) من حيث مفاهيم التمثيل والمرجعية (كما كانت سمة المناقشة النظرية الوصفية/ السببية)؛ يأخذ براندوم مفهوم “التعبير” باعتباره أساسيًا، وبالتالي يهز الافتراضات المعيارية في إطار فلسفة اللغة (وغيرها من المجالات الفرعية الفلسفية).

في الختام يجب أن نتذكر أن فلسفة اللغة متشابكة مع مجالات أخرى في البحث الفلسفي، والأسئلة المعرفية والميتافيزيقية (خاصة حول طبيعة الحقيقة والكيفية – موضوعان مهملان في هذه النظرة العامة)؛ لا يمكن فصلها عن أي بحث قيّم حول اللغة، وأكثر الأعمال المثيرة للاهتمام في إطار فلسفة اللغة تُظهر سبب كون الفوارق بينها وبين الفروع الفلسفية الأخرى مبتذلة ومصطنعة.


  • ستيفن جيز أستاذ زائر للفلسفة في كلية كينيون في جامبير، أوهايو.
المصدر
philosophynow

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى