- توم ماك-تاغ
- ترجمة: محمد علي راشد
- تحرير: محمود سيّد
توفي الروائي النمساوي العظيم جوزيف روث قبل أشهرٍ قليلةٍ من وقوع الكارثة الهتلرية التي تنبَّأ بها. حتى وفاته في عام 1939، عاش روث في المنفى في باريس، مُفلسًا ومُدمنًا على الكحول، ودمّره تفكّك أوروبا الوسطى في طفولته. وُلِد روث عام 1894 في مكانٍ يُدعى “برودي” وهي بلدةٌ صغيرةٌ فيما كان يُعرَف آنذاك بـ”الإمبراطورية النمساوية المجرية”، لكنها الآن “أوكرانيا”. اليوم تتعرّض بلدة طفولة روث الصغيرة للتهديد مرةً أخرى.
اشتُهِر روث بروايته “مارش رادتسكي” التي تؤرّخ لنهاية إمبراطورية هابسبورغ، وهي مأساة بالنسبة له. لكنّ “تمثال نصفي للإمبراطور” وهو أحد أعماله الحزينة، يبدو كنبوءة اليوم؛ حيث يزحف الجيش الروسي عبر “أوكرانيا”، في هذه الرواية يأخذ روث القارئ إلى أرض طفولته، قبل أن تجرفها موجات القومية الأوروبية والحرب والوحشية.
الشخصية الرئيسية في قصة روث هي الكونت مورستين الأرستقراطي، سليل عائلةٍ بولنديةٍ قديمةٍ من أصلٍ إيطاليٍّ، والذي لا يعتقد أنه ليس بولنديًّا ولا إيطاليًّا فحسبُ بل “خارج الجنسية”. كره مورستين -مثل روث- فكرة القومية ذاتها، التي اعتبرها مقصورةً صغيرةً رطبةً مقارنةً بـ”المنزل الكبير بأبوابٍ كثيرةٍ وغرفٍ كثيرةٍ لأنواعٍ مختلفةٍ من الناس” التي كانت ملكية هابسبورغ القديمة. في “تمثال نصفي للإمبراطور” يروي روث كيف يتعامل الكونت مورستين مع فقدان وطنه، لكن القصة -في الحقيقة- تدور حول خسارة أسلوب حياة، خسارة عصر، خسارة نظام. تمثّلت هذه الخسارة في جميع أنحاء الرواية من خلال “تمثال نصفي للإمبراطور” النمساوي المُسنّ فرانز جوزيف الذي يحتفظ به مورستين خارج منزله الريفي في قرية بالقرب من برودي.
اليوم -من برودي إلى خاركيف- نشهد مرةً أخرى انهيار عصرٍ، وربما نظامٍ معه. مثل الكونت مورستين، يجب علينا الآن أن نأخذ هذا التغيير في الحسبان. لطالما تجنّب الكثير منا القيام بالقفزة الخيالية المطلوبة للاعتقاد بأنّ زعيمًا سياسيًّا حديثًا يمكنه أن يأمر بغزو بلدٍ أوروبيٍّ. على الرغم من الأدلة المتزايدة على عكس ذلك، رفض العديد من الدبلوماسيين والمسؤولين والمحلّلين تصديق تحذيرات المخابرات الأمريكية والبريطانية حول اقتراب الهجوم. بالنسبة للكثيرين في الغرب -على ما يبدو- فإنّ الحروب العُدوانية هي أشياء تحدث للبلدان الفقيرة على مسافةٍ بعيدةٍ، هي تُشَنّ من قِبَلنا، هي لا تُشَنّ علينا، ومع ذلك فقد حدث هذا. الصور التي يتمّ ترشيحها للنشر على جداولنا الزمنية، لطائراتٍ روسيةٍ تحلّق فوق مدنٍ أوروبيةٍ؛ لا تبدو حقيقيةً إلا أنها كذلك، تبدو صور الأسلحة الروسية المنفجرة مُزعجةً لأنها التُقِطت في أماكن أوروبيةٍ بشكلٍ ملحوظٍ، في صورةٍ نشرتها إذاعة “أوروبا الحرة”، يَظهر دومينو خلف المذبحة.
أظهر الأوروبيون -على وجه الخصوص- استجابةً عاطفيةً غير عاديةٍ لصدمة غزو بوتين. نشر قائد الجيش الألماني ألفونس ميس تقييمًا وحشيًّا بشكلٍ مُفاجئٍ للوضع على صفحته على موقع “لينكد إن” مُعلنًا أنّ الجيش الألماني قد تُرِكَ “فارغًا” (على الأرجح بسبب سنوات من الركوب المجاني على ذيل الحامي الأمريكي)، وخياراته لدعم التحالف الغربي محدودةٌ. وكتب: “لقد رأينا جميعًا أنّ ذلك قادمٌ، ولم نتمكّن من اختراق حُجَجنا لاستخلاص وتنفيذ استنتاجات ضمّ شبه جزيرة القرم”. انضمّت وزيرة الدفاع الألمانية السابقة، أنغريت كرامب-كارينباور إلى لائحة اتهامات الذات، وكتبت أنها “غاضبةٌ من أنفسنا لفشلنا التاريخي” في التصرّف، بعد تدخّلات بوتين في جورجيا وشبه جزيرة القرم ودونباس بطريقةٍ كان من الممكن أن تُثني الزعيم الروسي. من الصعب عند قراءة هذا الرثاء تجنّب الاستنتاج بأنّ الخجل والإحراج يغذّيها.
في “تمثال نصفي للإمبراطور” يعيش الكونت مورستين في سويسرا لفترة بعد انهيار إمبراطورية هابسبورغ ويُحاول نسيان رحيل عالمه القديم، لكنه في إحدى الليالي واجهَ واقع العالم الجديد في حانةٍ أمريكيةٍ في زيورخ، إنه يُشاهد مجموعةً من الروس وهم يَعرِضون بسخريةٍ ما يعتقدون أنه تاج النظام الملكي الذي كان يحترمه بشدةٍ، فجأةً يغضب “كان الأمر كما لو -في نفس اللحظة التي تغيّر فيها هو نفسه- أدرك أنّ العالم قد تغيّر قبله بوقتٍ طويلٍ، كان الأمر كما لو أنه تعلّم الآن أنّ تحوّله الخاص كان نتيجةً لتحوّلٍ أوسع فحسبُ”.
في مُواجهة واقع الحياة، يخجل الكونت مورستين من سذاجته الماضية. يكتب روث: “عندما يرى اللؤم؛ فإنّ الرجل الحسّاس يشعر بالحرج المزدوج: أولًا لمجرّد حقيقة وجوده، وثانيًا لأنه يفهم على الفور أنه قد تمّ خداعه”. هذا فيما يبدو لي، هو سبب غضبنا هنا في أوروبا وفي الولايات المتحدة، لقد أخذَنا رجلٌ إلى الخارج لتدمير عالمنا، نحن نخجل من سذاجتنا، ومن عار غبائنا وغرورنا.
لا يوجد بلدٌ في الغرب في مأمنٍ من هذا العار. بعد عام 2016 أصبح عار أمريكا واضحًا، لكن الشعور ليس أقلّ وضوحًا في أوروبا. في بريطانيا، نشعر بالعار من قيام الأوليغارشية الروسية بشراء منازلنا وصحفنا، وحتى إيجاد طريقهم إلى برلماننا. في فرنسا، بعد فترةٍ طويلةٍ من وضوح الطبيعة المروّعة لنظام بوتين، أقنعَ قادة الدولة أنفسهم بشكلٍ مُخجلٍ بأنهم يستطيعون التحدّث معه. في الواقع، كان إيمانويل ماكرون سعيدًا بحضور نهائي كأس العالم في موسكو مع بوتين بعد أشهرٍ فقط من أمر الزعيم الروسي باستخدام سلاحٍ كيميائيٍّ في بريطانيا.
ربما يكون العار أكثر وضوحًا في ألمانيا، لا تستطيع القوة الرائدة في أوروبا أن تجد القوة للقيادة، ولا تستطيع تمويل جيشها بشكلٍ صحيحٍ، وهي الآن لا تجد إلا الشجاعة لفصل مصالحها الاقتصادية عن مسؤولياتها تجاه التحالف الغربي الذي يضمن أمنها. لكن في جميع أنحاء أوروبا يمكن رؤية القصة نفسها: في سياسيٍّ إيطاليٍّ يرتدي قميص بوتين، وسياسيةٍ نمساويةٍ ترقص مع الزعيم الروسي في حفل زفافها، رئيس الوزراء المجري يتملّقه في موسكو. يعلم الجميع كم هو مُخزٍ هذا السلوك، لكننا حتى الآن نُكافح للتصالح مع لؤمنا ونبحث عن طرقٍ لتجنّب الألم الحتميّ الذي سيأتي مع عقوباتٍ كبيرةٍ ضدّ الدولة الروسية.
لقد تمّ تحذيرنا قبل 21 عامًا منذ أن أعلن الرئيس جورج دبليو بوش أنّ بوتين رجلٌ يمكن الوثوق به، بعد أن نظر -على ما يبدو- إلى روحه، غزا الرئيسُ الروسيُّ جورجيا، وتدخّل في الانتخابات الأمريكية، وضمّ شبه جزيرة القرم، ودعم الانفصاليين المسلحين في أوكرانيا (الذي أسقطوا لاحقًا طائرةً هولنديةً)، واغتالَ أعداء في بريطانيا وألمانيا، وشنّ أخيرًا غزوًا واسع النطاق لدولة أوروبية ذات سيادة. ومع ذلك؛ فإنّ الزعماء في جميع أنحاء الغرب، بين اليمين الشعبويّ واليسار الشعبويّ، من دونالد ترامب في الولايات المتحدة إلى تحالف “أوقفوا الحرب في بريطانيا”، يُدافعون عن بوتين أو يبرّرون له أو يَعذرونه أو حتى يمدحونه.
في مُواجهة الواقع الوحشيّ لعالمٍ جديدٍ، من الطبيعي أن تتفاعل إمّا بالغضب أو الإنكار. في “تمثال نصفي للإمبراطور” اختار الكونت مورستين الإنكار وهو عائد من سويسرا إلى قريته خارج برودي ليعيش كما لو أنّ إمبراطورية هابسبورغ لم تمت قطّ. يسترجع الكونت “تمثال نصفي للإمبراطور”، والذي كان قد احتفظ به في قبو منزله، ويُعيده للعرض أمام منزله، حتى أنه بدأ في ارتداء زيّه القديم الخاص بالفرسان النمساويين. لقد نجحت لفترة من الوقت، ويُحيّيه الفلّاحون المحليون، لكنه يعلم أنه لا يمكن أن يستمرّ “مثل أي شخص كان يتمتع بالسلطة في يوم من الأيام، بدا الآن أنه أقل من ضعيف القوة: في نظر المسؤولين، كان سخيفًا”. الفلاحون الذين كانوا يُحيّونه كانوا يُحيّون الماضي الضائع في النهاية كان يعلم أنّ اللعبة قد انتهت، وأنّ الوقت قد حانَ لدفن العالم القديم؛ وهكذا استدعى القرويين ودفنوا معًا “التمثال النصفي للإمبراطور” كما لو كان فرانز جوزيف نفسه.
أخشى أنّ هذا هو مصيرنا في الغرب، لم يعد هناك أيّ جدوى من ارتداء زيّ العالم القديم، والتظاهر بأنه لم يتمّ تدميره، لم تعد الطرق القديمة للتعامل مع روسيا (وربما الصين) ساريةً. كان الاعتقاد بأنّ الأنظمة الأوتوقراطية سوف تتحوّل إلى الديمقراطية وتتحرّر، بينما تخضع لنظامنا القائم على القواعد ساذجًا. الغرب ليس على وشك الانهيار مثل إمبراطورية هابسبورغ، لكن الافتراضات الغربية حول القوة والتفوّق لم تعُدْ كافيةً. أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالديمقراطية يجب أن يدفنوا الغطرسة التي أدّت إلى فشل العالم القديم، إذا كان علينا القيام بذلك بشكلٍ احتفاليٍّ، فنجرف الأوساخ في الأعلى مثل “تمثالٍ نصفيٍّ” قديمٍ من برودي، فليكُنْ، لكن دعونا نواصل الأمر قبل أن تجعلنا نبدو أكثر سخافةً.