- هدى محمد الدهيشي
السلام الداخلي مصطلح يتردد كثيراً ويتناوله الكثيرون في وسائل التواصل، فهل له معنى محدد متّفقٌ عليه أم أن له معان متفاوتة؟ هل هو حالة من الرضا التام عن ﷲ والتسليم لأقداره؟ أو هو سلامة القلب من الأحقاد والكراهية، وراحته من الخصومات مع البشر؟ أو هو حالة من اطّراح الهموم وعدم التركيز على المنغّصات؟
هل هناك إشكال في هذه المعاني الجميلة؟ هل هناك معنى آخر مُشكِل للسلام الداخلي؟ هل هو حالة من الرضا التام عن النفس؟ هل السعي للسلام الداخلي مطلب سائغ شرعاً؟ وهل هناك فعلاً سلامٌ داخلي حقيقي؟ وهل الدنيا دار سلام وراحة؟
هل الأفضل للمؤمن أن تكون نفسه في سلام؟ أم أنها يفترض أن تكون نفساً لوّامة؟ ألا يُفترض أن يكون في داخل المؤمن (في قلبه ونفسه) صراع بين الحق والباطل، وتنازُع بين داعي الخير وداعي الشر؟ وتدافع بين لمّة الملَك ولمّة الشيطان؟ أليس هذا في الاضطراب والقلق والتنازع دليل على حياة القلب؟
في هذه المقالة سأتناول هذه الأسئلة التي تتردد في نفسي كلما مررت على مصطلح (السلام الداخلي).
لو حدّثك أحد المصريين عن “الجواز” وأهميته ومتطلباته والمزايا التي سيمنحها لك ثم اكتشفت أنه يقصد “الزواج” بينما أنت طوال الوقت تظن أنه يتكلم عن جواز السفر، فلاشك أن هذا الالتباس في فهم المراد من الكلمة سينتج عنه مفارقات طريفة!
يحدث ذلك كثيراً عند تناول موضوعات ثقافية وشرعية مختلفة. ولذلك فإن علماء الشريعة عندما يتناولون موضوعاً ما للنقاش يهتمون كثيراً بما يسمونه (تحرير المصطلح) بمعنى: تحديد المعنى المراد من المصطلح قبل الخوض في النقاش حوله، توفيراً للوقت والجهد وحتى لا يتيهون في دروب الاختلاف حول مصطلحٍ ما ثم يتبين أن كلاً منهم يقصد معنى مختلفاً يجادل بشأنه.
يستخدم بعض الناس مصطلح السلام الداخلي وهو يقصد حالة الرضا التام عن ﷲ جلّ جلاله، وعن أقداره والتسليم لحُكمه وحِكمته؛ فتجد صاحب هذه الحالة متقبلاً كل ما يجري عليه من أقدار، متصالحاً مع فكرة أنه بشرٌ خطّاء ضعيف يعتريه النقص والفشل، وهو لا يجلد ذاته على هذا الضعف والنقص، ولكنه في الوقت ذاته يدرك أن ﷲ كرّمه بالعقل والإرادة والهداية، فهو يجتهد في تقويم أخطائه وتدارُك نقصه، يلوم نفسه عندما يضعف ويخطئ ويحثّها على الاستدراك، مؤمناً أن له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، هذا المعنى للسلام الداخلي معنى جميل ومشروع، وإن كان الأوْلى أن نسميه باسمه الذي ورد في النصوص: (الرضا عن ﷲ): {رضيَ ﷲ عنهم ورضوا عنه}، “رضيتُ بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً …”، “فمن رضيَ فله الرضا”، فالألفاظ الشرعية أجدر بالاستعمال لأنها لا تلتبس على القاريء والسامع.
معنى آخر للسلام الداخلي هو: راحة البال من الهموم، وصفاء القلب وسلامته من الضغائن والأحقاد، وعدم استغراقه في المنغّصات والمكدّرات والهموم، ولعل هذا المعنى هو ما عبّرت عنه النصوص الشرعية بـ(صلاح البال): {سيهديهم ويُصلحُ بالهم}.
ويقصد بعضهم بالسلام الداخلي: حالة الثبات والتماسك ورباطة الجأش، وبالأخص عندما تحدث المكاره ويدلهمّ الخطب وتقع المصيبة، وهذا المعنى أقرب لما سمّاه الله سبحانه وتعالى في القرآن: (السكينة): {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكينَتهُ عَلىٰ رسولِه وعلَى المؤْمنين}
وكذلك (الطمأنينة): {ألا بذكر ﷲ تطمئن القلوب}.
نأتي الآن للمعنى الذي يستعمله مدربو الوعي والطاقة ورموز حركة العصر الجديد – للسلام الداخلي وهو -بحسب زعمهم- درجة من درجات الارتقاء الروحاني في سُلّم الوعي، وهي مرحلة تسبق الاستنارة التامة التي هي بدورها -كما يزعمون- درجة المعلمين الروحيين و’الأنبياء’!
هذا السلام (الذي يسبقه التسليم والقبول بكل شيء) هو حالة من الرضا التام عن النفس وقبولها على علّاتها، وعدم الحكم عليها بتاتاً، واعتبار ما يصدر عنها دائماً مقبولًا، كذلك عدم الحكم على الآخرين، وهذا مؤداه أن تلغي معايير الحق والباطل، والصواب والخطأ، والحلال والحرام، وأن تركن إلى نفسك وتصغي لقلبك فقط.
يسمّون ذلك تسامحاً أو تصالحاً مع الذات، ويريدون به نبذ أي لوم للنفس أو تأنيب الضمير، لأنهم يرون أن التأنيب هو مستوى منخفض من الوعي الروحاني، وهذا المعنى -في رأيي- أقرب للاستسلام الداخلي منه للسلام!
بئس السلام هذا الذي يجعل الحق والباطل عندك سيّان، الذي يجعلك مرتاحاً سعيداً سواءً أتيتَ الفضيلة أو الرذيلة! هذا السلام هو في حقيقته موت.. موت للقلب! أو انتكاسته: لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً.
ثم هم يسمّون هذه الحالة: (سلام داخلي) لا باعتبار أن محله داخل النفس، بل لأنه ينبع من داخلك وأنت تصنعه لنفسك بممارسات روحية معينة كالتأمل واليوجا.
وهذا المعنى ليس غريباً على منظومتهم الفكرية التي تنص أن الإنسان يشفي نفسه ويجذب قدره ويتلقى الحقائق من باطنه وأنّ قلبه يعلم كل شيء! (سأناقش هذا المعنى لاحقاً في المقالة).
أعود الآن للسؤال:
هل السعي للوصول لحالة السلام مشروعٌ في ديننا؟ هل الأصل في المؤمن أن تكون نفسه مطمئنة أو لوّامة؟ هل الخوف من ﷲ ولوم النفس على الخطأ والتقصير مدمّر لسكينة النفس وسلامها وسوائها (الصحة النفسية) كما يزعم أدعياء الوعي والتنوير؟
في القرآن ذُكرت النفس بثلاثة أوصاف: مطمئنّة، ولوّامة، وأمّارة بالسوء، والأمّارة بالسوء مذمومة، لا شك، ويجب مقاومتها ومجاهدتها، لكن السؤال: هل المؤمن يليق به أكثر أن تكون نفسه مطمئنّة أو لوّامة (تلومه على الذنب والتقصير)؟! ألا يُعدّ وصف (اللوّامة) مخلّاً بِـ (السلام الداخلي)؟
أقول وبالله التوفيق:
النفس المطمئنة غاية ومطلب للمؤمنين، لكن هذا الوصف لا يمكن أن يكون وصفاً دائماً ومستقراً، بل يعتري النفس ما يعتريها من عوارض وتقلبات ومخاوف وأحزان، ثم إن نفس المؤمن لا تظل على اطمئنانها عندما يذنب أو يخطئ، بل تضطرب وتنزعج وهذا دليل خيرية كامنةٍ فيها.
يقلق المؤمن إذا أذنبَ أو قصّر في حق ﷲ، ويشعر بمخافة ﷲ، وتزجره نفسه اللّوامة فيهرع إلى الاستغفار والتوبة والدعاء والصلاة بين يدَي ﷲ، وتجيش عَبْرته وتنسكب دموعه نادماً راجياً عفو ربه، لتغمر النفس بعدها سكينةٌ ولذّةٌ إيمانية لا تدانيها لذّة، ويغشاها سلامٌ ليس يشبهه سلام.
والمؤمن حتى وهو في معمعة مجاهدته لنفسه ومحاسبته لها، وفي ذروة معركته مع الشيطان ومكابدته، يشعر بحلاوة الإيمان، مدركاً أن هذه طبيعة الحياة وسنّة ﷲ في خلقه: أنه مبتلىٰ ومُختبَر؛ فهو مع لومه لِذاته وصراعه الداخلي مع نوازع الشر ووساوس الشيطان إلّا أنه يستلذّ بهذه المجاهدة لأنه يدرك أن ﷲ يحبها ويثيب عليها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚوَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
هذا المعنى المركّب من الخوف والاطمئنان، والقلق والراحة، والانزعاج والسلام، يستعصي فهمُه على من لم يذقه، وهو الذي يسمّيه المؤمنون: حلاوة الإيمان أو طعم الإيمان. إذن؛ سلامك الداخلي الحقيقي هو اضطراب قلبك الحي، مخافتك ﷲ التي ستوصلك إلى دار السلام {ولِمَن خاف مقام ربه جنّتان} وخلجات نفسك اللوامة التي ستوردك درب السلامة في الآخرة.
ألَسْنا نقول: من خاف سلِم؟
هل معنى هذا الكلام الطويل العريض أن السعي للشعور بالسلام والراحة النفسية مذمومٌ شرعاً؟ بالطبع لا، بل هو مما يُحمد، ولكن أحب أن أُسمّي الأمور بمُسمّياتها الصحيحة وأن أطلبها من مصادرها الصحيحة:
- المصطلحات الشرعية التي وردت للتعبير عن هذه الحالة الشعورية النفسية التي نسميها (السلام الداخلي):
١- الطمأنينة: ألا بذكر ﷲ تطمئن القلوب
٢- السكينة: هُوَ الذي أنْزلَ السكينةَ في قلوب المؤمنين
٣- الرضا: رضيَ ﷲ عنهم ورضوا عنه.
٤- صلاح البال: سيهديهم ويُصلِح بالَهم.
٥- حلاوة الإيمان.
على فرض أن السلام الداخلي الذي نتحدث عنه هو أحد المعاني السائغة شرعاً (الرضا، الطمأنينة، السكينة، وغيرها) فهل هو كسبيٌّ ذاتي يُكتسب أم وهبيٌّ من ﷲ فيُطلب؟ نصوص الوحي تشير بوضوح أنه منحة إلهية خالصة تنزل على العبد من ﷲ السلام: (اللهم أنت السلام ومنك السلام).
إن كان القصد من السلام ‘الداخلي’ أنه ينبع من داخل النفس، ومصدره ذاتي؛ فأنا أؤمن أن السلام منحة ربانية يُنزلها على من يشاء من عباده، ولو كان لبشرٍ أن ينبع سلامه من داخله لقوة روحانيته وارتفاع وعيه واستنارته لكان أولىٰ الناس بذلك هم رسل ﷲ عليهم صلوات ﷲ و(سلامه) عليهم. نعم، عليهم لا من داخلهم.
أنت لا تصنع سلامك الداخلي، أنت فقط تطلبه من ﷲ، وتتبع السبل الشرعية التى رتّب ﷲ على اتّباعها حصول الطمأنينة والسكينة والراحة النفسية: كالدعاء والذكر والصلاة والتحلل من مظالم العباد، وغيرها.
- أولى الناس بالطمأنينة
إن أَولىٰ الناس بحالة السلام والطمأنينة هم من يرددون كل يوم عدة مرات في صلواتهم: السلام علينا وعلى عباد ﷲ الصالحين -لو تدبروها- ويختمون صلاتهم بالدعاء بعد التسليم: اللهم أنت السلام ومنك السلام.
السلام ينزل علينا من ﷲ مولانا ومالك أمرنا لا من عند أنفسنا الضعيفة العاجزة.
- أنت لستَ موعوداً في الدنيا بالسلام والطمأنينة والسكينة بشكل دائم
قد ينعم ﷲ عليك بالسلام وراحة البال، ثم يعتريك خطْبٌ من الخطوب يقلب كيانك، وتضطرب له أركانك وتظل مضطرباً قلقاً فترة تطول أو تقصر، حتى يُنعم ﷲ عليك مرةً أخرى بالهدوء والسلام والتسليم لأمره وقدَره وحُكمه وحكمته
السلام المطلق والنعيم المطلق هناك في الجنة، دار السلام ودار النعيم المقيم. أما الدنيا فهي دار مجاهدة وتكليف واختبار، خُلق الإنسان فيها في كبَد، وكتِب عليه أنه كادحٌ إلى ربه كدحاً، وليس معنى ذلك أن المؤمن لا ينعم فيها بالطمأنينة والهناء، بل هو موعودٌ بالحياة الطيبة إن أدرك كُنْهها.
- سلام داخلي أم استسلام لعدوٍّ داخلي؟!
ماذا لو كان ما تظنُّه سلاماً داخلياً هو في حقيقته تبلُّد أحاسيس أو موت قلب أو استسلام لعدو داخلي: لنفسٍ أمّارةٍ أو شيطانٍ وسواس؟!
{إنّ الشيطان لكم عدوٌّ فاتّخذوهُ عدوّاً}
(إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)
الخلاصة:
لا يغشّك باعة الوهم وأدعياء الوعي بمصطلحاتهم الرنّانة، فهُم يُسمّون الأمور بغير أسمائها، ويُلبسون انحرافاتهم العقدية ثوباً غير ثوبها. أما أنا فلا أحب أن أستخدم مصطلح (السلام الداخلي) لما يعتريه من الالتباس والشبهة وقد أغناني ﷲ عنه بالمصطلحات الشرعية.
غير أني لا أسارع إلى تخطئة من يستخدمه، بل أستفسر عن قصده، وأبيّن له -إن دعت الحاجة- وجهة نظري، لأني أحب للمسلمين ما أحب لنفسي من وضوح التصور وسلامة المعتقد وحسن الظن بالله والبعد عن المزالق الفكرية والفلسفية.
والله ولي السداد والهداية.