- أنس بن إبراهيم جبلي
السؤال دليلُ هُوية السائل وعقله ونفْسه وعلمه ومسارب تفكيره، الأسئلة تضج بدوافع السائل النفسية (البراءة، المكر، الاهتمام، الحسد، الرحمة..)، الأسئلة الصحيحة تُقرّب من الإجابات الصحيحة ثم تأخذ بأيدينا نحو القرارات الصحيحة، قيمة بعض المصادر وإضافتها تكمُن في الأسئلة الجادَّة التي تثيرها عند المتلقي، الأسئلة قوادح ناعمة لإنهاء حالات الخمول والتكلّس العابرة، في الأسئلة إثارةٌ للروح المعرفية ونموٌّ لمَلَكات النقد والتحليل وتقوية للحُجَّة والبيان والثَّقة بالنفس، الأسئلة توجه العقول والقرارات والشكوك والتطمينات، مَن يطرح الأسئلة يقود ويسيطر، الأسئلة تُقيّم السائل والمسؤول معًا وتكشف عن إلمامهما وعُمقهما وحقيقة وحجم مداركهما، الأسئلة الفطيرة ليست كالخميرة فالوصول إلى جوابٍ أكمل وأمنع هو نتيجة نضوج الأسئلة فالأسئلة المُثلى صَنعة تراكميّة، تخرج الاتهامات -أحيانًا- في صورة أسئلةٍ تُحرج المسؤول وتُربكهُ ولا تدين السائل، الأسئلة هي قلب البحوث الإنسانية والطبيعية النابض، حتى أسئلة الأطفال مع ما يعلوها من طرافة -أحيانًا- إلا أنها دليل على عقولهم وظروفهم وبيئاتهم، لا تسمح الأسئلة لمن لا يُحسن التعامل معها بالعبث بها فسرعان ما تُبعده عن التزيّن بها وتُحرجه، الأسئلة مسؤولة فمنها ما يختلف الحال قبل طرحه عن الحال بعد ذلك.
نقل عبدالله الهدلق (ميراث الصمت والملكوت) عن الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله أنه قال: زُرتُ مع بعض الرفاق أحد علماء الشناقطة في المدينة، فلما دخلنا عليه وجدناه مُضطجعًا وقد جعلَ وجهه للجدار، وكنا نسألهُ ويُجيبنا وهو على هذه الحالة، فلما طال بنا المجلس التفتَ إلينا وقال لي: “أسئلتك هذه أسئلة رجل من أهل العلم”.
لا تخلو نفسٌ من الأسئلة الوجودية الكُبرى، وغالبًا ما تثور هذه الأسئلة وتهدأ حسب الحالة النفسيّة: (وزُلزِلوا؛ حَتَّى يَقُولَ الرَسُول والذينَ آمَنوا مَعه: مَتَى نَصرُ الله؟)، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ، قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِن؟! قَال: بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبي)، وهي طريق إلى برد اليقين متى كان التعامل معها محكومًا بالحكمة.
كان حضور الأسئلة واضحًا في صياغة حالة ابن عباس العلمية، فعن مغيرة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما: كيف أصبتَ هذا العلم؟ قال: “لسانًا سؤولًا، وقلبًا عقولًا”، كما كانت واضحة عند من شهد بداية رحلته العلمية منذ كان غضًا طريًا، فقد كان عمر رضي الله عنه إذا ذكر ابن عباس قال: “ذلك فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول!”.. آلت الأسئلة الصحيحة إلى ظاهرة علميّة متفردة حتى قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: “ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس، ولو أن هذا الغلام أدرك ما أدركنا، ما تعلقنا معه بشيء”، وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: “ما رأيت أحدًا أحضرَ فهمًا، ولا ألبَّ لبًا، ولا أكثرَ علمًا، ولا أوسعَ حلمًا من ابن عباس!”، وفي خارطة طريق تعلّمه، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: “لما توفي رسول الله قلت لرجل من الأنصار: هلمَّ نسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير..” لقد كان حضور الأسئلة صريحًا مُبينًا، ومقدمة رئيسة للنتيجة المشهودة والتي عُرِفت في المدونة الإسلامية بحبر الأمة وفقيهها، ولسان العشيرة ومنطيقها، محنك بريق النبوة، ومدعو له بلسان الرسالة، فقهٌ في الدين، وعلم التأويل، ترجمان القرآن.
قال سعيد بن جبير: “كان ناس من المهاجرين قد وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم، وكان يسأله، فقال عمر: أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون فضله، فسألهم عن هذه السورة: (إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، فقال بعضهم: أمر الله نبيه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجًا أن يحمده ويستغفره، فقال عمر: يا ابن عباس! تكلم، فقال: أعلمهُ متى يموت، أي: فهي آيتك من الموت: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًۢا).
يرى محمد بن شهابٍ الزهريِّ أنَّ: “العلمُ خزائنُ، ومفاتيحُها السؤالُ”، وعن وَهْبٍ بن منبِّه قال: “حُسْنُ المسألة نصفُ العلم”، وعن الخليل بن أحمد الفراهيدي أنه قال: “العلومُ أَقْفال، والسؤالات مفاتيحُها”.