- هيثم بن سليمان الأحمدي
قد تسنَحُ للمرء مرحلة ذهبيَّة، يتميَّز فيها، فيسطَعُ نجمه ويتفوَّق على أقرانه، ولكنَّها-بطبيعة الحال- مرحلةٌ مؤقَّتة ستمرُّ، فدوام الحال من المُحال، والظُّروف تتبدَّل، {وَتِلْكَ الأيَّام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
فلاعب الكرة -مثلاً- يتنعَّم في عزِّ عطائه بالنُّجوميَّة والجماهيريَّة، ولكنه سيفقدها في آخر أيامه مهما بلغ من المهارة، ومن تتبَّع أولئك النُّجوم الذين ملؤوا الدُّنيا وشغلوا النَّاس كـ(مارادونا – رونالدينيو – ميسي) سيجد أنَّهم صاروا عبئًا على أنديتهم ومنتخباتهم بسبب ضعف عطائهم، ففقدوا النُّجوميَّة في تلك المرحلة، ولم تعُدِ الجماهير تهتِفُ لهم كما كانت، أو تتوقُ إلى مشاركتهم، وإنْ بقي التَّاريخ يحفظ لهم ما سطَّروه سابقًا، إلا أنَّه لا يحفظ النُّجوميَّة للجميع، فكلَّما طال زمان التَّدهور نقص من النُّجُوميَّة.
وكذلك الحال داخل الأسرة، يحظى بعض الأولاد بعناية وحفاوة فريدة؛ لصغر سنه، أو للطافته، فما يلبَثُ أن تكبَرَ سِنُّه، أو يأتيَ خَلْفَه مَنْ يمحو ذلك التميُّز عنه.
وفي العلاقات؛ يتميز بعض الناس بالقبول والمحبة العميقة بين أصدقائه، فإليه تَهْوِي الأفئدة، وعنده تنتهي المَوْجَدة، ولكنَّها حالٌ لا تدوم، فربَّما تبدَّلت القلوب، وغارتِ الطِّباع، أو ربَّما تناءَتِ المسافاتُ وتبدَّلتِ العلاقاتُ، فتنتهي مرحلة تميُّزه، وينقلب فردًا.
وهذا القانون يجري على الأمم والدُّوَل، والتَّاريخ يشهَدُ أنَّ كثيرًا من الدُّوَل نَعِمَتْ دهرًا في سُلطانها ثمَّ ذاقَتْ بَعْدَ كأسِ النَّعِيم كؤوسًا من عَلْقَمٍ، وقد قصَّ الله -جلَّ وعلا- أخبار كثير من تلك الأمم، التي عاشت مراحلَ تميُّزٍ وازدهار، كعادٍ وثمودَ وسَبَأ، ولكنَّها لم تلبث أنْ تَغيَّرَ أمرُها وأفَلَ بدرُها كأنْ لم تَغْنَ بالأمس، ولم تزَلْ هذه السُّنَّةُ جاريةً في الدُّوَل، وما نبأ الأندلس عنَّا ببعيد، فبَعْدَ أنْ بَلَغَتْ ما بَلَغَتْ تحضُّرًا وازدهارًا، وتقدَّم أهلُها في سلطان الدُّنْيا، حتَّى ظنُّوا أنَّهم قادِرونَ عليها؛ أُخذَتْ منهم وصارتْ كأمسِ الذَّاهب، وانقلبتْ مَشاعِرُ الفَرَحِ والفَخْرِ بأرضِهم إلى مشاعر ألمٍ وأسفٍ وحسرةٍ، وصارتْ ذكرى مؤلمةً بعد أن كانت صُورةً مُلْهِمةً!
وقد باح لنا المعتمِدُ بنُ عَبَّاد الأندلسي بتلك المشاعر التي يمتلئ بها قلبُ كلِّ أندلسي وكل محبٍّ للأندلس، وصوَّر لنا سُنَّة التَّحوُّل وأفول التَّميُّز، في أبيات قالها وهو يشاهد حال بناته المتبدِّلة:
فيما مضى كنتَ بالأعيادِ مَسْـرُورًا
وكانَ عِيـدُكَ باللَّـذَّاتِ مَعْمُـورَا
وكنتَ تحسَبُ أنَّ العِيـدَ مَسْعَـدةٌ
فساءَكَ العِيدُ في (أَغْمَـاتَ) مَأْسُـورَا
ترى بناتِكَ فـي الأطْمَـارِ جائعـةً
في لُبْسِهنَّ رأيتَ الفَقْرَ مَسْطُـورَا
معاشُهـنَّ بعيـدُ العِـزِّ ممتَـهَـنٌ
يَغْزِلْنَ للنَّـاسِ لا يَمْلِكْـنَ قِطْمِيـرَا
برَزْنَ نحـوَكَ للتَّسْلِيـمِ خاشِعـةً
عيونُهُنَّ فعـادَ القَلْـبُ مَوْتُـورَا
قد أُغمِضَتْ بَعْدَ أَنْ كانتْ مُفتَّـرَةً
أبصارُهُـنَّ حَسيـراتٍ مَكاسِيـرَا
يَطَأْنَ في الطِّينِ والأقـدامُ حافيـةٌ
تشكو فِراقَ حِذاءٍ كـان مَوْفُـورَا
قَدْ لُوِّثتْ بيَدِ الأقـذاءِ واتَّسَخَـتْ
كأنَّها لَـمْ تَطَـأْ مِسْكًا وكافـورَا
***
والخطِرُ في هذا الأمر: أنّ كثيرًا ممَّنْ يعيش مرحلة التميُّز هذه، يتعرَّض إلى حالة من الاغتراب والوَحْشة بعد أفول زمانه، فلا يحتمل تبدُّل الحالِ، وفيه يقال: «ارحموا عزيزَ قوم ذَلَّ»، فالذِّلَّةُ بعد العِزَّة، والتَّنائي بعد التَّداني، والكراهية بعد المودة كلُّها آلامٌ لا تُحْتَمل.. يقول الباروديُّ:
أدهى المصائب غَدْرٌ قَبْلَه ثِقَةٌ
وأعظَمُ الظُّلْمِ صَدٌّ بعد إقبالِ
ولعلَّ مِنْ أسرار هذه الوحشة -إضافة إلى ثقل غُرْمها طبيعةً- أنَّ بعضَ أصحابِ التميُّز يخسرون مَنْ حولهم، ويتعالَوْن عليهم، غرورًا وانتشاءً بالغَلَبة، فإذا سقطَ كثُرَتْ سكاكينُه، وكثُر الشَّامِتُون به، ولسانُ حالهم فيه:
فَقُلْ للشَّامِتِينَ بنا أفِيقُوا
سَيَلْقَى الشَّامِتُون كما لَقِينَا
فالفَطِن مَنْ تميَّز وأخذ مِنْ مرحلة تميُّزه لأيَّام أفولِ زمانِه وتراجُع شأنه، وعامَلَ الناس وهو في أوجِ التَّقدُّم كما يحبُّ أن يعاملوه وهو في حضيضِ التأخُّر، فذلك أحرى بحفظ المودَّة وتخفيف الوَحْشة، والنَّاسُ تميلُ طبيعةً إلى القوِيِّ، وتنفر مِنْ الضَّعيفِ، كما قيل:
رأيتُ النَّاسَ قَدْ مالوا
إلى مَنْ عنده مالُ
ومَنْ لا عِنْدَهُ مالُ
فعنه النَّاس قد مالوا
فإنْ جَمَع إلى ضَعْفه سابقةَ إساءةٍ إليهم؛ فقد استحقَّ العَداوةَ مِنْ جهتين.
***
وإذا التفتْنا التفاتةً مهمَّةً إلى مَنْ يُحرِّضُ النَّشْءَ على التميُّز، ويحضُّهم على التفوُّق، مِنْ المربِّين والمنظِّرين، فإنَّنا ندعوهم –مع حضِّهم- إلى إتمام عملهم، وغرس جملة من الأصول المهمَّة النافعة لمرحلة التميّز، يحتمي بها النَّشْءُ مِنْ لَظَى التَّميُّز، ويأمَنُ مِنْ لَأْوائه، وهي أصول تكشف حقيقة التميّز ومرحلته، وتهدي إلى السَّبيل القويم في التَّعامُل معه، ونذكرها في نقاط متعاقبة على النَّحو التَّالي:
أوَّلًا: التأكيد على أنَّ التميُّز ليس أمرًا يُطلَبُ القصدُ إليه، وإنَّما هو ثمرة يجنيها المجتهد في طريقه، فإذا غُرِسَ هذا المعنى، أَمِنَ المتميِّز من انحرافات التميّز، مِنْ الكِبْر والغُرور ونحوها.
ثانيًا: فقهُ مرحلة التميُّز، وأنَّها مرحلةٌ عارِضةٌ لا تدومُ لأحدٍ، وأنَّ التميُّز سلاحٌ ذو حدَّين، فإمَّا أنْ يزولَ ويُبْقِيَ لصاحبه أثرًا محمودًا، وإما أن يُبْقيَ له بُغضًا وعداوةً.
ثالثًا: التَّحذيرُ مِنْ الاغترار بمكاسب مَرْحلة التميُّز، فالمكاسب فيها كثيرًا ما تكونُ مقرونةً بحال التميُّز، أي أنَّها مؤقَّتة وعُرضةٌ للزَّوال بزوال أسبابها، ولا سيَّما في جانب العلاقات؛ فالدَّوَافع التي تجمع النَّاس حول المتميِّز يشوبُها كثير مِنْ حظوظِ النُّفوس، فضلًا عَنْ أنَّ التميّز جاذبٌ بذاته، فإذا زال السَّببُ ذهبتْ العلاقاتُ، ولذا ينبغي للمتميّز أن يتهيَّبَ مِنْ حالِه بقدر ما يفرح بها أو أكثر مِنْ فرحه بها.
رابعًا: التَّمهيد لمرحلة أفول التميّز، والاستعداد لها، بأنْ يَفْقَهَ المتربِّي أنَّ المنافسين كثيرٌ، وأنَّ الميدان رَحْبٌ، وأنَّ المتقدِّمَ اليوم يتأخَّر غدًا، والملاحَظ أنَّ التَّنظير خالٍ من هذا المعنى، فكثيرًا ما نردِّدُ عباراتِ التَّحفيز نحوَ النَّصر، ولكنَّنا لا نُهَيِّئ النُّفوسَ لتقبُّل الهزيمة، على أنَّ خطر الهزيمة بعد النَّصر أشَدُّ.
خامسًا: أنْ يفقَهَ المتربِّي أنَّ التَّميُّزَ ابتلاءٌ مِنْ جنس بلاء النِّعَم؛ لِينظُرَ اللهُ كيف يكونُ حالُ العبد في تميُّزه: هل يكون شاكرًا؛ فيستعمل تميُّزه فيما يريد الله؟ أم يكون كافراً؛ فيستعمله في حظ نفسه؟
وقد فقِهَ سليمانُ -عليه السَّلام- هذا الأمرَ، فقال لمَّا رأى عَرْشَ بَلْقيس مُسْتَقِرًّا عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}.
وهذا المعنى مِنْ أهمِّ ما ينبغي التَّنبيه إليه، والعنايةُ به، ومِنْ الله يُستمدُّ التَّوفيق، وبفضله تُستبقى النِّعَمُ والمَحامدُ.
مقال رائع جدا جزاكم الله خيرا