- فاليريا باليكوف
- ترجمة: مناسك مأمون
- تحرير: أسامة بن خالد العمرات
هنالك أناس لا ينضب معين فكرهم، منهم من تكون أفكاره قوية لدرجة أنها تساعد في تشكل وتحول المجمتع الإنساني دائم التغير؛ إليكم سبعة فلاسفة ومفكرين وروّاد روس، احتلوا الصدارة.
بيوتر تشادييف 1794 – 1856
أمست حياة تشادييف كابوسًا بعد أول عمل نشر له “الرسالة الفلسفية الأولى” عام ١٨٦٣م.
صرّح القيصر نيكولاس الأول عن رسالة تشادييف: “بعد قراءتي المقال، وجدته خليطًا من هراء جريء يليق بمجنون فقط”.
وفقًا لأكسنندر هيرزن، كانت رسالة تشادييف كإطلاقِ النار في الظلام؛ لذلك كان نجاحها ضئيلًا، حيث وُضع تشادييف تحت الإقامة الجبريّة لمدة عام، وحُظِر من نشر أي حرف إلى الأبد، وأعلنت الحكومة أن صديق ألكسندر بوشكين مجنون بسبب كتاباته التي احتوت على نقدٍ حادٍّ لواقع الحياة الروسية من العبودية والاستبداد. كما كانت له آراء غير تقليدية البتة في مهمة روسيا ومستقبلها وهويتها الثقافية. اعتبر تشادييف أوروبا نموذجًا يُحتذى به، وقال إن روسيا بلد رجعي متخلف وعزا ذلك إلى الجمود والخمول والافتقار إلى الإبداع. ووصف الحياة الاجتماعية الروسية بأنها: “بائسة وكئيبة مسلوبة القوى والطاقة”.
نيوكلاي تشيرنيشفيسكي 1828 – 1889
تميّز تشيرنيشفيسكي بأنّه صحفي وكاتب وفيلسوف ومفكر وعالم ثوري ديموقراطي ومُنظّر ناقد لصالح اليوتوبيا الاشتراكية.
ترك المنظِّر متعدد المواهب أثرًا ملموسًا في تطوير الفلسفة الاجتماعية والنقد الأدبي والأدب الروسي، وأصبح تشيرنيشفيسكي المُلهم الأيدولوجي لمجموعة “الأرض والحرية” الثورية، التي اختلفت مع شروط تحرير العبيد التي وضعها ألكسندر الثاني عام ١٨٦١م على ضوء شكوك واهنة في وجود صلات بينهُ وبين الثورة، سُجن تشيرنيشفيسكي في قلعة “بيتر وبول” وهو سجن سياسي في سان بطرسبرج، وَوُسِمَ بـ “العدو الأول للإمبراطورية الروسية”، وجرى حوله تحقيق لأكثر من عام، خلال هذه الفترة، لم يضيَع تشيرنيشفيسكي أي وقت، وكتب روايته اليوتوبية الشهيرة “ما العمل؟” وأدّى نشرها إلى الحُكِم على تشيرنيشفيسكي بالسجن سبع سنوات مع العمل الشاق في سيبيريا، وأطلق سراحه عام ١٨٨٣م، حيث ألهم العديد من الأجيال الثورية، من ضمنهم فلاديمير لينن.
وكما قال القائد البلشفيّ: “أفضل مآثر تشيرنيشفيسكي ليس توضيحه أن على كل عاقل وقويم أن يصبح ثوريًا فقط، ولكن شيئًا آخر أهم من ذلك؛ ماذا يلزم لبناء الثوري، وماهيّة قواعد اللعبة، وكيف يمكن للواحد منا أن يحقق أهدافه”.
بيوتر كروبوتكن ١٨٤٢-١٩٢١
من الممكن تحويل حياة هذا الفيلسوف إلى فيلم سينمائي.
بعد الثورة البلشفية عاد الأمير كروبوتكن إلى روسيا، بعد غياب دام أكثر من أربعين سنة بسبب الاضطهاد، وعاش السنوات الأخيرة من حياته في “دميتروف” وهي بلدة صغيرة قرب موسكو.
التقى كروبوتكن بكلّ من ألكسندر كرنسكي وفلاديمير لينن، اللذَيْن يعدّا رمزًا روسيًا، والأب الروحي للثورة البلشفية.
أشهر أعمال كروبوتكن “البحث عن الرغيف”، وهي أساس الأدب الفوضوي وما زالت حتى الآن تؤثر في متبني هذه الفلسفة في أنحاء العالم شتى. حاول كروبوتكن أن يثبت قواعد الفوضوية والشيوعية معًا، وشرح أنّ الفوضوية بدون الشيوعية اعتباطيّة جامحة، والشيوعية بدون الفوضوية تصير المجتمع ثكنات عسكرية وتجرّده من هويته، ولذلك حاول أن يبني “شيوعية فوضويّة” علمية، حيث لم يحاول السير وراء السراب فقط، بل بحث عن أمثلة ونزعات لإدارات أفقية في الواقع والتاريخ، وحسب كروبوتكن فالثورة أتت يدًا بيد مع التطور والإبداع، فكان مناصرًا لمجمتع شيوعي لامركزيٍّ ينبثق من حكومة مركزية، وقائم على مجتمعات بحكومة ذاتية، سيَّرت كتابات كروبوتكن دربًا مباشرًا نحو نظام اجتماعي عادل وإنساني، يمكن للمجتمع من خلاله المضي قدمًا بدون “فترات انتقالية”. على الرغم من أنَ ما كتبه قبل مئة عام ما زال وثيق الصلة بالحاضر حتى الآن، فمن المرجّح أن أفكاره ستبقى أمنيات.
فلاديمير سولوفيف 1853 – 1900
كان هناك اعتقاد شائع أن شخصية إيفان كارارمازوف في “الإخوة كارامازوف” مستوحاة من سولوفيف.
وليس ذلك بغريب إذ أن دوستويفسكي -كاتب الرواية- كان صديقًا حميمًا له، حيث كان العام ١٨٨١م نقطة تحول للفيلسوف، إذ صدمت روسيا باغتيال الإمبراطور ألكسندر الثاني؛ وأدان سولوفيف “نارودنيا فوليا” المنظمة الإرهابية التي ارتكبت الاغتيال، ولكنه استسمح ورِيْث العرش الجديد أن يرحم القتلة ويعفو عنهم، وجاء هذا الفعل نتيجة ليقين سولوفيف وإيمانه الراسخ بالتسامح المسيحي المطلق.
وأساس مذهبه الفلسفي هذا، هو فكرة الإله الإنسان، حيث قُدّمت هذه في الفكرة لأول مرة عام ١٨٧٨م، وملخص رسالته الأساسية يتمثل في وحدانيّة الإله والإنسان. استخدم سولوفيف في تعاليمه مصطلحًا “صوفيًّا” أو “الحكمة” التي ستصبح روح الإيمان المتجدد.
وفقاً للفيلسوف؛ كنيسة مستحدثة ودين مستحدث فقط يمكنهما ملء الفراغ الأيدولوجي الذي تكوّن في نهاية القرن التاسع عشر، عندما نشأت العديد من الحركات والنظريات السياسية المتطرفة. إذ إنّ رحلة بحث روحيّة طويلة قادت سولوفيف في النهاية ليعتقد أنّ السبيل الوحيد لخلاص الإنسانية هو الإيمان بالرب.
فاسيلي روزانوف 1856 – 1919
بقدر ما ألهبت أفكار قسطنطين ستاينسلافسكي المسرح غيّر فكر روزانوف وجه الفلسفة ليخلق نشئًا جديدًا.
الأمر مستند على تجربة شخصية عفوية بدون تعديل أو اصطناع، هو انطباع ينسحب بخفة، مرّت دقيقة بين “أريد الجلوس” و “جلست”. من أين أتت كل هذه الأفكار الدخيلة؟!”. روزانوف وصف نفسه دائمًا بـ “رجل القبو” في روايات دوستويفيسكي، وفي الحقيقة، كان روزانوف مغرمًا بدوسويفيسكي لدرجة أنّه تزوج عشيقته “أبولينارا سوسلوفا” بالرغم من أنّه يصغرها بسبعة عشر عامًا!
بينما كان ليو تولستوي هو أول من أدخل عناصر “سيل الوعي” إلى كلاسيكياته، كتب فايسلي روزانوف ثلاثية فلسفية “الوحدة” وجزئين من “الأوراق الساقطة” مستخدمًا هذا الأسلوب السردي المبتكر، وحاول روزانوف في كتاباته أن يضع مشاعره وأفكاره عارية تمامًا خالية من أي قشور زينة أو زيف، وهذا الشكل الأدبي تمثّل في أبهى صورِه في رواية “عوليس” لجيمس جويس.
تتناقض آراء الفيلسوف في كثير من المسائل نسبة لكونها وليدة شغف اللحظة، وعلى سبيل المثال، قال روزانوف إنّ فشل الثورة في عام ١٩٠٥م قضى على الأخضر واليابس، لكنه من جهة أخرى اعتقد أن هذه الأحداث جلبت لروسيا مستقبلًا أكثر أمانًا.
اعتبر الفيلسوف غير التقليدي وصف الأشياء من زوايا مختلفة في أشكال مختلفة أمرًا ضروريًا: “يجب على الواحد منّا امتلاك ألف وجهة نظر عن الموضوع، فهي “إحداثيات الواقع” والواقع لا يمكن إدراكه إلا بهاته الزوايا الألف”.
نيكولاي بيردييف 1874 – 1948
فيلسوف دينيّ وسياسيّ وخبير نادر بالعقلية الروسيّة، رُشّح بيردييف لجائزة نوبل ما لا يقل عن سبع مرات!
كتب بيردييف:
“إن توق الروسي لصنع معنى لحياته هو موضوع عظيم في الأدب الروسي، وهذا البحث هو المغزى الحقيقي من وجود الذكاء البشري”.
اكتسب بيردييف اعتراف العالم بسبب كتابه المبتكر “العصور الوسطى الجديدة: نظرات في مصير روسيا وأوروبا”، الذي نشر في باريس حيث انتقل إليها عام ١٩٢٤م. لكنّ حياته في روسيا ما بعد الثورة كانت فوضويّة؛ “البلشفية عقلانية مجنونة، مهووسة بتنظيم أخيرٍ للحياة، ومستندة على قوة شعبية غير عقلانية”. وصل بردييف حد الغليان عندما اتّهم بالمؤامرة، واعتُقِل تباعًا وسُجن، تضيق المقالة بالأحداث التي يمر بها الفيلسوف في حياته، هكذا تذمر بيردييف مرة. “سجنت أربع مرات، مرتين في ظل النظام القديم ومرتين في الجديد، نُفيت إلى شمال البلاد لثلاث سنوات، وواجهت تهديدًا بنفيٍ أبديٍّ إلى سيبيريا، طُردت من بلدي الأم وفي الأغلب سأقضي حياتي هكذا في المنفى”. وللأسف فقد كان تكهّنه صحيحًا، كان بيردييف ممثلًا رئيسيًّا لمدرسة المسيحيّة الوجوديّة الفلسفيّة، والتي استكشفت بعمق النفسَ الإنسانيّة وحالة الكون داخل إطار مسيحيّ.
في أفضل أعماله “الفكرة الروسية” استنبط الفكرة الجوهرية التي سرت في جميع أعماله الإبداعية وحتى آخر أيام حياته، واعتقد الفيلسوف أنّه يمكن إيجاد نظام عادل في روسيا بعد السوفيتية، وأنّ ذلك سيتمّم مهمّة البلد الأساسيّة؛ أن تصبح روسيا وحدة بين (الشرق) المتديّن (والغرب) الإنسانوي، وبذلك تمثل جوهر التاريخ البشري.
قنسطنطين تسيولكوفسكي ١٨٥٧-١٩٣٥
تسيولكوفسكي أحد مؤسسي حركة فلسفية تدعى “الكونيّة” والتي تأثرت باللاهوت وعلوم الفيزياء، كما أخذت ملامحها من الفن الصوري الروسي وغيره.
ولد قسطنطين تسيولكوفسكي ورأسه للسماء، يحدّق في النجوم، وأصبح مؤسّس علم الكونيات الحديث، كتب تسيولكوفسكي في عام ١٨٨٧م قصة قصيرة بعنوان “على القمر” ووصف فيها إحساس شخص يجد نفسه على سطح قمر أرضيّ صناعيّ. ثبت في النهاية صحة جزء كبير من الافتراضات التي عبر عنها تسيولكوفسكي. منذ ١٩٠٣م كرّس تسيولكوفسكي نفسه تمامًا لاستكشاف الفضاء، وفي مقالة جت ديفيس “اسكتشاف عوالم الفضاء” هو أول من أكّد أنه يمكن استعمال الصاروخ كمركبة للرحلات الفضائية بنجاح، وطوّر العالِم أيضًا مفهوم محرك صاروخ يعمل بالوقود السائل، وعلى وجه الخصوص حدّد السرعة المطلوبة من المركبة الفضائية لتدخل نطاق المجموعة الشمسية (سرعة الإفلات الثانية). تعامل تسيولكوفسكي مع العديد من المشاكل التطبيقية للفضاء، والتي وضعت لاحقًا أُسس علم الصواريخ السوفيتي. هذا الرائد في علم الصواريخ صمم حلًّا يمكنه إيجاد خيارات لتوجيه القذائف، ونظام التبريد وتصميم فوهة المدفع وأنظمة توصيل الوقود، ألهمت أعماله الأب الروحي لعلم الكونيات التطبيقية “سيرجي كورليف” والذي نجم في النهاية عن تطوير نظام الفضاء السوفيتي.
الجدير بالذكر أنه أصيب في سن العاشرة تقريبًا بحمّى، وفقد على إثرها سمعه، وأُخرج من المدرسة، لكنّه استمر في الدراسة بنفسه في المنزل، وعندما لاحظ أهله اجتهاده وشغفه بالعلم؛ أرسلوه إلى موسكو للدراسة، فهل يصحّ أن نصفه في هذه الحالة بأنّه تعلم ذاتيًّا؟