- بيتر ورسلي
- ترجمة: زينب محمد
- تحرير: لطيفة الخريف
في عام 1946م،[1] وجدت دوريات الحكومة الأسترالية الوافدة إلى المرتفعات الوسطى بغينيا الجديدة -التي خرجت عن نطاق السيطرة- أن السكان قد انجرفوا في موجة ثورية دينية قائمة على نبوءة مفادها أن وصول البيض علامة على اقتراب نهاية العالم.
حيث شرع السكان في ذبح جميع الخنازير، والتي لم تكن مصدرًا رئيسيًا للعيش فحسب، بل ترمز إلى المركز الاجتماعي والطقوس الدينية أيضًا في ثقافتهم. لقد قتلوا هذه الحيوانات القيّمة، تعبيرًا عن اعتقادهم بأنه بعد ثلاثة أيام من الظلام، ستسطع” الخنازير العظيمة” في السماء. وكان لابد من تخزين الغذاء والحطب وغيرها من الأساسيات، استعدادًا لوصول الخنازير العظيمة، وأُنشِئت هوائيات من الخيزران والحبال كي يستقبل الميلانيزيون الأخبار أولًا بأول.
اعتقد كثيرون أن هذا الحدث العظيم سيغيّر جلودهم السوداء لأخرى بيضاء.
هذا الحدث الغريب ليس حدثًا فريدًا من نوعه أبدًا في التاريخ الغامض لتصادم الحضارة الأوروبية مع الثقافات الأصلية في جنوب غرب المحيط الهادئ. لأكثر من 100 عام، كان التجار والمبشرون يبلغون عن اضطرابات مماثلة بين شعوب ميلانيزيا ومجموعة الجزر المأهولة بالسكان الزنوج (بما في ذلك غينيا الجديدة وفيجي وسولومون ونيو هبريدس) الواقعة بين أستراليا والمحيط الهادئ المفتوح. ومع أن تقنياتهم كانت تعتمد على الحجر والخشب إلى حدٍ كبير، إلا أن هذه الشعوب كانت تتمتع بثقافات متطورة إلى حدّ كبير أيضًا، وفقًا لمعايير البراعة البحرية والزراعية، ومدى تعقيد تنظيماتهم الاجتماعية المختلفة، وتطور المعتقدات والطقوس الدينية.
ومع ذلك، لم يكونوا مستعدين لصدمة اللقاء مع البيض، وهم شعب مختلف عنهم تمامًا، ويتمتعون بقوة لا حدود لها. لم يكن الانتقال المفاجئ من شعائر مجتمع الفأس الحجري إلى مجتمع السفن الشراعية والطائرات حاليًّا، أمرًا سهلًا.
بعد أربعة قرون من التوسع الغربي، تظل المرتفعات الوسطى المكتظة بالسكان في غينيا الجديدة واحدة من المناطق القليلة التي لا يزال الناس فيها يمارسون حياتهم البدائية في استقلال تام عن العالم الخارجي. وأدى توغل وكلاء الحكومة الأسترالية في الوديان الجبلية النائية إلى فساد الغابات الخلفية؛ نتيجة الاصطدام بأفكار وأفعال الحضارة الأوروبية. فيما يخص “الكارجو”، تدفقت لغة بيجين الإنجليزية للسلع التجارية منذ فترة طويلة على طول قنوات الاتصال المحلية من ساحل البحر إلى البرية. وسافرت معها المعرفة المخيفة للقوة السحرية للرجل الأبيض. لا يوجد بصيص أمل ولو بسيط بسحر الرجل الأبيض في الرسالة التي يبعثها المبشّرون إلى الخارج، بأن مسيحًا سيأتي ونظام العالم الحالي سينتهي.
إن سكان المرتفعات الوسطى في غينيا الجديدة ليسوا سوى آخر من وقع في خضم الهيجان الديني المتكرر لـ “طوائف الكارجو”. وبرغم تنميقها بصورة مختلفة بتفاصيل من الأسطورة المحلية والمعتقدات المسيحية، فإن هذه الطوائف جميعها تقدم نفس الفكرة الرئيسية، وهي أن العالم على وشك الانتهاء في كارثة مروعة. بعد ذلك سيظهر الإله، والأسلاف أو بطل شعبي ويدشنون فردوسًا مبهجًا على الأرض. سيندثر الموت والشيخوخة والمرض والشر وستعود ثروات الرجل الأبيض إلى الميلانيزيين.
ومع أن أخبار هذه الحركة بهذه المنطقة قد ألهمت كثيرًا من الحركات المماثلة في مناطق أخرى، إلا أن الأدلة تشير إلى أن هذه الطوائف نشَأت نشأةً مستقلة كاستجابات متزامنة مع نفس الضغط والتوتر الاجتماعي الهائل الذي تتعرض له هذه الحركة. ومن أكثر الحركات شهرة لطلاب ميلانيزيا، “طائفة تارو” بغينيا الجديدة، و ” غضب فايلالا” في بابوا، و “طائفة العراة” بإسبيريتو سانتو، و “حركة جون فروم” في نيو هبريدس و” طائفة توكا” بجزر فيجي.
في بعض الأحيان، كانت الطوائف منظمة تنظيمًا جيدًا للغاية، ومستمرة بتعصب لدرجة أنها أوقفت عمل الحكومة. تفاجأت السلطات من انتشار هذه الحركات وتصدت لها تصدّيًا مروع. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، أثار القرويون بالقرب من ويواك بغينيا الجديدة سلسلة من حركات “الملك الأسود”، حيث أعلن الأنبياء أن الأوروبيين سيغادرون الجزيرة قريبًا تاركين ممتلكاتهم للسكان الأصليين، وحثوا أتباعهم على التوقف عن دفع الضرائب، وهذا أدى إلى زلزلة السلطات الحاكمة بالمنطقة وشعورهم بالذعر مما دفعهم إلى اعتقال أربعة من الأنبياء ونفي ثلاثة آخرين. ونشأت حركة أخرى معارضة لرسالة المسيحية، واتخذ زعيم الطائفة الشيطان إلهًا له.
وجدت القوات من كلا الجانبين في الحرب العالمية الثانية أن وصولهم إلى ميلانيزيا كان بمثابة علامة على نهاية العالم، حيث وجد الجنود الذين هبطوا في نيو هبريدس، استعدادًا للقتال الدموي في جوادالكانال، أن السكان الأصليين منهمكين في العمل لتجهيز المطارات والطرق والأرصفة للسفن والطائرات السحرية التي اعتقدوا أنها قادمة من “روسيفيل” (روزفلت)، ملك أمريكا الحليف.
تناوش اليابانيون أيضًا مع الحالمين الميلانيزيين خلال مسيرتهم جنوبًا إلى جوادالكانال، حيث وقعت واحدة من أغرب العمليات العسكرية المصغرة في الحرب العالمية الثانية في غينيا الجديدة الهولندية، عندما تحتم على القوات اليابانية أن تنقلب ضد سكان بابوا المحليين في منطقة خليج جيلفينك. اُستقبِل اليابانيون في البداية بفرح كبير، ليس لأن دعاية “منطقة شرق آسيا الكبرى التعاونية” ما كان لها أي تأثير يُذكر على سكان بابوا، ولكن نظرًا لأن السكان الأصليين اعتبروهم نذيرًا للعالم الجديد الذي بدأ بزوغ فجره مع الهولنديين اليمينيين. سيعود الآن مانسرين، خالق الجزر وشعوبها، جالباً معه الأسلاف الموتى. أعلن قادة الطوائف أن كل هذا كان معروفًا للهولنديين المخادعين، الذين مزقوا الصفحة الأولى من الكتاب المقدس حيث نوُقشت هذه الحقائق. سينقلب النظام العالمي الحالي بالكامل عند عودة مانسرين، وسيتحول الرجال البيض إلى اللون الأسود مثل سكان بابوا، بينما يتحول سكان بابوا إلى البيض، ستنمو المحاصيل الجذرية في الأشجار، وسينمو جوز الهند والفواكه مثل الدرنات. بدأ بعض سكان الجزر الآن في التجمع في “مدن” كبيرة، أخذ آخرون أسماء توراتية مثل “أريحا” و “الجليل” لقراهم. سرعان ما ارتدوا الزي العسكري وبدأوا التدريب. حاول اليابانيون، الذين لم يحظوا بشعبية كبيرة الآن، نزع سلاح البابويين وتفريقهم، لكن المقاومة كانت مطورة للغاية. وجاءت ذروة هذه المأساة عندما أبحرت زوارق كثيرة للمتعصبين لمهاجمة السفن الحربية اليابانية، معتقدين أنهم غير معرضين للخطر بسبب المياه المقدسة التي رشوا بها أنفسهم، لكن رصاصات اليابانيين لم تتحول إلى الماء، وأبيد المهاجمون بنيران المدافع الرشاشة.
وهذا الحادث وُثق منذ زمن بعيد، حيث سجل 1857 مبشرًا في منطقة خليج جيلفينك قصة مانسرين. إنه نموذج للعديد من الأساطير الميلانيزية التي اختلطت مع العقيدة المسيحية لتشكل الأساس الأيديولوجي للحركات. تروي الأسطورة أنه منذ زمن بعيد عاش هناك رجلٌ يدعى ماناماكيري، كان مُصابًا بالحكة وجسده مغطى بالقروح. كان ماناماكيري مغرمًا جدًا بنبيذ النخيل، وكان يتسلق شجرة ضخمة كل يوم لاستخراج السائل من الأزهار. سرعان ما اكتشف أن شخصًا ما كان يصل إلى هناك قبله ويزيل السائل. في النهاية حاصر اللص الذي تبين أنه ليس سوى نجمة الصباح. أعطت النجمة للرجل العجوز صولجانًا ينتج كثيرًا من الأسماك كما يشاء، وشجرة وعصا سحريتين في مقابل حريته. إذا رسم في الرمال ودق بقدمه، سيصبح الرسم حقيقيًا. ماناماكيري، الرجل البالغ من العمر أرذله، تزوج بكرًا وحملت منه؛ وكان هذا الطفل معجزة حيث تحدث بمجرد ولادته. لكن والديّ الزوجة أصيبا بالرعب، ونفوها هي وطفلها وزوجها المسن. أبحر الثلاثي في زورق صنعه مانسرين (“الرب”)، كما أصبح الرجل العجوز معروفًا الآن. في هذه الرحلة، جدد مانسرين نشاطه عن طريق الدخول في النار وتقشير جلده الحرشفي الذي تحول إلى أشياء ثمينة. ثم أبحر حول خليج جيلفينك، وأنشأ جزرًا حيث توقف وسكانها مع أسلاف البابويين الحاليين.
من الواضح أن أسطورة مانسرين ما هي إلا الجزء الثاني لأسطورة فو الصينية والتي تدور حول الأفكار الرمزية المتعلقة بالإخصاب والبعث. تؤكد الأدلة المقارنة، لاسيما التخلص من جلده الحرشفي، الشكوك في أن الرجل العجوز هو أفعى على هيئة بشر. يجادل كتاب التحليل النفسي بأن الثعبان يحتل مثل هذا الجزء البارز في الأساطير في جميع أنحاء العالم، لأنه يمثل القضيب، الرمز الآخر للخصوبة.
قد يبدو الأمر ظاهرياً هكذا، لكن المعنى الكامن وراء هذه الرموز أكبر بكثير. إنها “ولادة جديدة” للبطل، سواء أكان مانسرين أم الأفعى، الذي سيسلب عقول البشر حول العالم بسحره.
اعتقد المبشرون في القرن التاسع عشر أن قصة مانسرين ستُيسر إدخال المسيحية، لأن مفهوم “القيامة”، ناهيك عن مفهوم “الولادة من عذراء” و”المجيء الثاني”، كان موجودًا بالفعل. وبحلول عام 1867م، أُبلغ عن أول عبادة نُظمت حول أسطورة مانسرين.
ومع انتشار مثل هذه الأساطير في ميلانيزيا، التي ربما أثارت حركات متفرقة في حقبة ما قبل الأبيض، فقد اكتسبت أهمية جديدة في أواخر القرن التاسع عشر، بمجرد أن انتهت القوى الأوروبية من تقسيم منطقة ميلانيزيا فيما بينها. في كثير من المناطق الساحلية، كان التاريخ الطويل لـ “بلاك بيردينغ” هو الاستيلاء على سكان الجزر للعمل في مزارع أستراليا. ولقد استعدت فيجي لمقاومة الأوروبيين بالعتاد، بينما تقبلت مناطق أخرى قدوم البيض، بل رحبت به؛ لأنهم ظنوا أن هذا يعني الحصول على لحوم الأبقار والسجائر والقمصان ومصابيح البارافين والويسكي والدراجات. وكان يعني أيضًا الوصول إلى المعرفة الكامنة وراء هذه السلع المادية التي جلبها الأوروبيون معهم، إضافةً إلى البعثات والمدارس.
عمليًّا، كان التعليم الوحيد الذي تلقاه السكان الأصليون عن الحياة الأوروبية من البعثات، التي أكدت على الأهمية المركزية للدين في المجتمع الأوروبي. اعتقد الميلانيزيون بالفعل أن أنشطة الإنسان، سواء كانت البستنة أو الإبحار بالزوارق أو حمل الأطفال، تحتاج إلى مساعدة سحرية. لم تكن الطقوس بدون جهد بشري كافية ولم يكن هناك جهد بشري فردي، بل عُززت وجهة النظر هذه من خلال تعليم الرسالة.
سرعان ما انطفئت شرارة الحماس للحكم الأوروبي. أدى النمو السريع للاقتصاد الزراعي إلى الاستحواذ على الجزء الأكبر من الرجال القرويين شديدي البنية، تاركين النساء والأطفال والمسنين من الرجال لمواصلة العمل بأفضل ما في وسعهم. واتضح أن المساواة بين جميع المسيحيين كانت عبارة عن زيفًا دينيًا وحلمًا ورديًا لمنافسة البعثات المسيحية المتواترة، والظلم الجليّ من كثيرٍ من البيض.
وقد تقبل السكان الأصليون البعثة الأوروبية لفترة طويلة، باعتبارهم وسيلةً لتوفير “البضائع” لهم. لكنهم وجدوا أن قبول المسيحية لا يحقق غايتهم في الحصول على البضائع. ورأى (Astor) [إله الرعد] أن البيض ليسوا هم من يصنعون السلع، بل أسلافهم الموتى. كان هذا منطقيًا للأشخاص الجاهلين تمامًا بعملية الإنتاج. لم يقم الرجال البيض بعملية التصنيع، بل كتبوا فقط إشارات سرية على قصاصات من الورق، لإعطاء أوامر بشحن السلع. من ناحية أخرى، عمل الميلانيزيون أسبوعًا بعد أسبوع مقابل أجور هزيلة. من الواضح أن البضائع يجب أن تُصنع للميلانيزيين في مكان ما، ربما في أرض الموتى.
كان البيض، مالكي سر الشحن، يعترضون القوافل المُرسلة إلى سكان الجزيرة. في منطقة مادانغ في غينيا الجديدة، بعد حوالي 40 عامًا من المعاناة من البعثات، ذهب السكان الأصليون كرجل واحد بعريضة تطالب بالكشف عن سر الشحن لهم الآن، لأن صبرهم قد نفد.
كان هناك اعتقاد قوي للغاية بوجود “سر” لدرجة أن طوائف الكارجو تأثروا بها في طقوسهم الدينية التي أشارت إلى أن هناك قوة غير عادية للرجل الأبيض على البضائع والرجال. يجلس المؤمنون حول الطاولات مع زجاجات من الزهور أمامهم، مرتدين ملابس أوروبية في انتظار ظهور سفينة الشحن أو الطائرة. وتصورهم طوائف أخرى بقطع سحرية من الورق والكتابة الكابالية. يتعمد كثير منهم إدارة ظهورهم للماضي عن طريق تدمير طقوس سرية، أو عرضها لشباب ونساء جاهلين (كانوا يعتقدون سابقًا أن النظر إلى الأشياء المقدسة تستوجب توقيع أشد العقوبات التي تصل إلى الموت). ترسخ إيمانهم بأنهم هم الشعب المختار من خلال قراءتهم للكتاب المقدس، لأن حياة الناس وعاداتهم في العهد القديم تشبه حياتهم المعاصرة وليس حياة الأوروبيين. أما في العهد الجديد فيجدون أن صراع الفناء مع نبوءاته عن الهلاك والقيامة، أمرًا جذابًا بصورة خاصة.
غالبًا ما تُتهم البعثات التي تؤكد على اقتراب المجيء الثاني، مثل طائفة السبتيين، بإثارة طوائف الميلانيزيين الموجودين ضمن سكان الجزر. ومع ذلك، فإن الطوائف الأصغر حجمًا يعيدون صياغة المذاهب. يعلمهم المبشرون، ويختارون من الكتاب المقدس ما يلائم هواهم. حدثت مثل هذه الحركات في مناطق كانت فيها البعثات المختلفة من الروم الكاثوليك إلى السبتيين سائدة. بطبيعة الحال، تعتمد أسباب ظهور هذه الطوائف على طبيعة حياة الناس.
اقتصاد معظم الجزر متدنٍّ للغاية. تصدر الزراعة المحلية القليل للسوق العالمية، وحتى المزارع والمناجم الأوروبية لا تصدر سوى عدد قليل من المنتجات الأولية والمواد الخام: لب جوز الهند والمطاط والذهب. سكان ميلانيزيا غير قادرين على فهم سبب جلب لب جوز الهند -على سبيل المثال- 30 جنيهًا إسترلينيًا للطن في شهر واحد، ثم 5 جنيهات إسترلينية بعد بضعة أشهر. مع عدم وجود فكرة عن طريقة عمل أسواق السلع العالمية، لا يرى السكان الأصليون سوى الإغلاق المفاجئ للمزارع، وانخفاض الأجور والبطالة، ويميلون إلى عزو انعدام الأمن لديهم إلى أهواء وشر المزارعين الفرديين.
لم تقتصر هذه الصدمات على النظام الاقتصادي فحسب، بل أدت أيضًا إلى تغير الحكومات، خاصةً خلال الحربين العالميتين: انهارت الإدارات الألمانية والهولندية والبريطانية والفرنسية بين عشية وضحاها. ثم جاء اليابانيون، ليطردوا من قبل الأمريكيين غير المعروفين سابقًا. ومن بين هؤلاء الأمريكيين، رأى الميلانيزيون الزنوج مثلهم يعيشون حياة الرفاهية والمساواة مع البيض. بدا مشهد هؤلاء الزنوج بمثابة تحقيق للنبوءات القديمة للعديد من قادة طائفة الكارجو. ولا يجب أن ننسى الحجم الهائل لـهذا الغزو. مر حوالي مليون جندي أمريكي عبر جزر الأميرالية، وهذا أدى إلى إغراق السكان بالكامل. لقد كان عالمًا من التغييرات الفوضوية التي لا معنى لها، حيث كان كل شيء ممكنًا. استُورِدت أفكار جديدة وحُوِّرت محليًّا. وهكذا توقع الناس في الجزر الحليفة أن يجلب الحزب الشيوعي الفرنسي الألفية المنتظرة. ومع ذلك، لا يوجد دليل حقيقي على أي تأثير شيوعي في هذه الحركات، على رغم الاعتقاد الهستيري بين مزارعي جزر سليمان بأن اسم حركة “قاعدة ماسينغا” المحلية مشتق من كلمة “ماركسية”، فإن الاسم في الواقع آتٍ من لسان جزيرة سليمان، وتعني “الأخوة”.
عادةً ما يكون الأوروبيون، الذين شهدوا فاشيات مستوحاة من طوائف الكارجو، في حيرة من أمرهم لفهم ما يرونه. يتخلص سكان الجزر من أموالهم، ويكسرون مقدساتهم، ويتركون حدائقهم ويدمرون ماشيتهم النفيسة؛ ينغمسون في شهواتهم الجنسية أو يفصلون الرجال بشكل صارم عن النساء للمشاركة في تشكيلات مجتمعية خطيرة. أحيانًا يقضون أيامًا جالسين في الأفق لإلقاء نظرة على السفينة أو الطائرة التي طال انتظارها؛ في بعض الأحيان يرقصون ويصلون ويغنون في تجمعات، ويهدؤون ويثرثرون.
لم يتردد المراقبون في استخدام كلمات مثل “الجنون” و”الهوس” و”اللاعقلانية” لوصف الطوائف. لكن الطوائف تعكس محاولات منطقية وعقلانية لفهم نظام اجتماعي يبدو فوضويًّا وبلا معنى. بالنظر إلى جهل الميلانيزيين بالمجتمع الأوروبي الأوسع من حيث نظامهم الاقتصادي وتقنياتهم المتطورة للغاية، تشكل ردود أفعالهم نمطًا متسقًا ومفهومًا. يختتمون كل شوقهم وأملهم في مزيج يجمع بين الهداية التي يمكن أن يجدوها في المسيحية ومعتقدهم الأصلي. إذا كان العالم على وشك الانتهاء قريبًا، فلا داعي للبستنة أو صيد الأسماك، سيتوفر كل شيء. إذا كان على الميلانيزيين أن يكونوا جزءًا من نظام أوسع بكثير، فيجب الآن رفع أو كسر المقدسات التي ترمز إلى سلوكهم الاجتماعي المعاصر.
البضائع لن تأتي أبدًا، ومع ذلك تمضي الطوائف قدُمًا في حياتها. إذا لم تصل الألفية في الموعد المحدد، فربما يكون هناك بعض الإخفاق في السحر، وبعض الأخطاء في الطقوس. وستنظم مجموعات منشقة جديدة إيمانًا وطقوسًا “أنقى”. نادرًا ما تختفي العبادة، طالما استمرت الحالة الاجتماعية التي تخلقها.
في هذه المرحلة، يجب ملاحظة أن الطوائف من هذا النوع العام ليست خاصة بميلانيزيا. كان الرجال الذين يشعرون بأنهم مضطهدون ومخدوعون دائمًا مستعدين لصب آمالهم ومخاوفهم وتطلعاتهم وإحباطاتهم في أحلام الألفية القادمة أو العصر الذهبي للعودة. كان لدى جميع العالم وجهات نظر من طوائف الكارجو، من رقصة الأشباح الهندية الأمريكية إلى “عهد القديسين” الشيوعي الألفي في مونستر أثناء الإصلاح، من العبادات الأوروبية المروعة في العصور الوسطى إلى حركات “البحث عن السحرة” الأفريقية والبدع البوذية الصينية. في بعض الحالات، كان الرجال يكتفون بالانتظار والصلاة، بينما سعى الآخرون إلى تسريع اليوم باستخدام أذرعهم اليمنى القوية لأداء عمل الرب. ودائمًا ما تعمل الطوائف على الجمع بين المجموعات المتفرقة، ولا سيما الفلاحون والعامة في المناطق الحضرية في المجتمعات الزراعية والمجتمعات “عديمة الجنسية” لتوحيد العبادة (وغالبًا ما تكون معادية) بين القرى والعشائر والقبائل في وحدة سياسية دينية أوسع.
لكن بمجرد أن يبدأ الناس في تطوير التنظيمات السياسية العلمانية، تميل الطوائف إلى فقدان أهميتها بوصفها وسيلة للاحتجاج. يبدؤون في إبعاد المجيء الثاني إلى المستقبل البعيد أو إلى العالم التالي. في ميلانيزيا أصبحت الهيئات السياسية العادية والنقابات والمجالس المحلية هي وسائل الإعلام العادية من خلالها يعبّر سكان الجزر عن تطلعاتهم. في السنوات الأخيرة، أدى الازدهار الاقتصادي المستمر والاستقرار السياسي إلى تخفيف حدة يأسهم. من غير المحتمل الآن أن تتكرر أي حركة كبيرة مشابهة لطوائف الكارجو في المناطق التي انتقلت إلى السياسة العلمانية، حتى لو عاد انعدام الأمن كما كان في أوقات ما قبل الحرب. أتوقع أن القومية البدائية، التي تمثلها طوائف الكارجو، من المرجح أن تتخذ في المستقبل أشكالًا مألوفة في تاريخ البلدان الأخرى التي انتقلت من زراعة الكفاف إلى المشاركة في الاقتصاد العالمي.
[1] – هذا المقال، المنشور بمجلة (Science American) في مايو 1959، هو تكملة لعمود 50 و100 و150 سنة الماضية المنشور في عدد مايو 2009.