- مصطفى هندي
- تحرير: غادة عبد الرحمن
قد يقول قائل : ألَّا سبيلَ إلى التلاعبِ والخطأ في العلم؛ لأن سياسةَ ومنهج العلم تعتمدُ على المراجعة والنقد الذاتيِّ. وبالتالي؛ فإن هذه الأخطاء لا تستمر ولا تدوم أبدًا. ويمكننا كشفها بسهولة على عكس مجالات العلوم الأخرى. فلو تلاعب أحدٌ بنتائج التجربة، أو أدخل معلومات خاطئة، فإنه سُرعان ما يُفتضح أمره.
” لا يوجدُ أي جانبٍ من جوانب الطب الحديث، أو العلوم التي سأعفيها من الفحص الصارم، ويمكنُني بسهولة تحديد مجموعة من المشاكل الخطيرة التي لا تزال بحاجة إلى إصلاح. من السهلِ القيام بذلك بالطبع؛ لأن مجالات الطب والعلوم تُطبِّق بالفعل التقييمات الذاتية الأكثر دقة وتشددًا. وسياسات المراجعة الذاتية المعروفة كلّها حتى الآن للمؤسسات الإنسانية، وهي تنشر بانتظامٍ نتائج اختباراتها. علاوةً على ذلك؛ فإن هذا النقد العقلاني المفتوح، من حيث إنه ناقص ومعيب، فإنه سرُّ النجاحِ المذهلِ لهذه المؤسسات البشرية، هناك تحسيناتٌ قابلة للقياس كل يوم “([1])
حسنًا، لنتجاوز مسألة “عصمة” المنتج العلمي؛ لأن المسألةَ أصبحتْ شبه مستقرةٍ عند من له صلة بالعلم. ولا يقول أحدٌ إنَّ المخرجاتِ العلمية معصومةٌ من التغيير والتعديل إلا جاهل. ولكن : ما مدى سرعة اكتشافِ هذه الأخطاء ؟.
إليك. قصةٌ قصيرةٌ ومعاصرة :
لطالما عُرف الرصاص بسُمِّيته الشديدة وتأثيره السلبي على صحة الإنسان حتى أن استخدامه بكثرة يُعد أحد أسباب انهيار الحضارة الرومانية. حيث يُعتقد أن التسمم بالرصاص كان سببًا رئيسًا في ذلك. فقد كانت المدُن الرومانيَّة تستقي مياهَهَا من عيون جبلية منقولة بسواقٍ وقنواتٍ مصنوعة من الرصاص. كذلك اعتمد أهل روما على استعمالِ محلولٍ سكريٍّ يحتوي على أملاح الرصاص لإضافته إلى النبيذ أو في صنع الحلوى. والذي بدورهِ يتحول إلى : (ملح خلات الرصاص السامة) . سبَّب هذا الاعتمادُ الواسع النطاق على عنصر الرصاص السام حالة تسمم متفشيةٍ لدى السكان آنذاك. ويعتقد أن انتشار حالة التسمم تلك بين صفوف الطبقة الحاكمة وأفراد الشعب على حدٍ سواء قد عجَّلتْ بسقوط الإمبراطورية الرومانية.
في بدايةِ القرنِ العشرين اعتُبر الرصاص مادة كيميائية شديدة السمية. مع اعتبارِ الطلاء الذي يحتوي على الرصاص له آثار مدمرة على الصحة. ولِتتخيَّلَ خطورةَ الأمر : إذا وصلتْ بعضُ رقائق الطلاءِ الجديد إلى فم الطفل؛ فإنها قد تُسبب غيبوبةً، ثم الموت. وإذا لم يمت الطفل، فقد يعاني من صعوباتٍ في التعلم و انحرافاتٍ في السلوك.
عام 1922: أُضيف الرصاص إلى البنزين لأول مرة. وذلك عندما اكتَشف توماس ميلجي -من شركة General Motors- أنَّه يمكنه بيعُ ستينَ مليون طنٍّ كل عام من الرصاصِ. وكان المُركَّبُ الذي أُضيف إلى البنزين – وهو رابع إيثيل الرصاص- كان الغرضُ منه زيادة رقم الأوكتان للبنزين. مما أدى إلى الحصول على الـ ” premium gas” للمحرِّكات عالية الأداء.
عام 1924: تُوفِّي خمسةُ عمال في مصنع نيوجيرسي المنتج لهذا المُركب. أربعة منهم عانوا حالات من “الهلع” قبل وفاتهم وغطَّتْ صحيفة نيويورك تايمز القصة. وفي ثلاثينيات القرن العشرين رفضت الصناعات الأدلةَ العلمية. مدعيةً أنه لم يكن هناك دليل على سُميَّة مُركَّبات الرصاص وحاولتْ إلقاء اللوم على الأطفال والأسر باعتبارهم مسؤولين عن السماح للأطفال بتناول رقائق الطلاء. مُدَّعين أن معدلات الرصاص “دون المستوى الضار”. كما عملتْ شركاتُ الطلاء على استئجار شركات (الدِّعاية والإعلان) للتسويق لمنتجاتها وإقناع الجمهور بأن الرصاص آمنٌ على الصحة العامة. بالمثلِ قامت الشركات القائمة على صناعة البنزين والتي تتكسَّبُ من تسويقِ (رابع إيثيل الرصاص) باستخدام العِلم للدعاية فقام كيميائيٌّ يُدعى (روبرت كيهو) بتقديمِ أبحاث علمية تؤكد ألَّا خطرَ من نسب الرصاص للعامَّة. أما عن العمال في المناجم فإن هناك بعضُ المخاطر المهنية البسيطة التي يمكن تجنبها بتنظيم العمل وتوزيعه، وقال إن معدلات الرصاص طبيعية جدًا.
عام 1947: طُلب من الكيميائي البيولوجي (كلير باترسون) من جرينلاند القيام بحساب كمية الرصاص في عينات مأخوذة من نيزك زيركون، كان الأمر سهلًا : فإذا عرفنا كمية اليورانيوم في الصخور والتي تحولت إلى رصاص على مر الزمن فإننا نستطيع تحديد عمر النيزك وبالتالي عمر الأرض. فإذا عُرفت كمية الرصاص الموجودة في العينة حاليًا ومع المعرفة السابقة بالفترة التي يستغرقها اليورانيوم ليتحول إلى رصاص فبكُلِّ سهولةٍ يمكنك تحديد عمر النيزك. في نفسِ الوقت الذي كان يقوم فيه باترسون بقياس كمية الرصاص كان (جورج تلتون) يقيسُ كمية اليورانيوم في نفس العيِّنة. من المفترض أن تكون النتائج متناسقة لأن العينتين أُخذتا من نفس النيزك. لكن الذي حدث هو أن تلتون أنهى عمله سريعًا مكررًا القياسات عشرات المرات وفي كل مرةٍ تخرجُ النتائج نفسها. على العكس من باترسون الذي كانت نتائجه خارجةً عن المألوف تمامًا لدرجة لا تُصدق، فقد أظهرت نتائجه كميات من الرصاص أعلى 100 مرة من المفترض.
تنبأ باترسون بأن معمَله ملوثٌ بكميات رصاص من تجارِب سابقة أو أن معدلاتِ الرصاص في الجو المحيط تتلاعب بنتائج بحثه. فعمِل قدر الاستطاعة على تعقيم الأدوات والعينات ولكن : بلا فائدة. بعدَ عامين انتقل باترسون إلى معهد كاليفورنيا في باسدينا وأُتيح له بناء معمله من جديد بعيدًا عن تلوث الرصاص وباستخدام أدق مطياف كمي موجود في ذلك الوقت استطاع باترسون الوصول إلى نتائج معقولة واستغرق الأمر ست سنوات قبل أن يحدد عمر الأرض بأربعة ونصف مليار سنة تزيد أو تقل بمقدار عشرين مليون، وهي نتائج دقيقة جدًا صمدت خمسين عامًا أخرى.
خبرةُ باترسون الكبيرة في قياس كميات الرصاص الضئيلة جعلته يتتبع دورة الرصاص في الطبيعة، وكما كان سائدًا في وقته : اعتبَر أن كميات الرصاص الموجودة كانت هي الطبيعية، لكن الأمر المفاجئ هو أنه عند قياس كميات الرصاص على سطح وعمق المحيط كانت النتائج صادمة، فقد ظهر أن تركيزات الرصاص في المياه السطحية أكبر بمئات المرات من تلك التي في المياه العميقة، فمن أين جاء هذا الرصاص ؟
رأى باترسون من خلال جمعِ البيانات عن تركيزات الرصاص في مختلف أنحاء الأرض أن تركيز الرصاص الحالي أكثر بمئة مرة مما كان في الماضي قبل الثورة الصناعيَّة. بينما كان المتعارف عليه مما نشره روبرت كيهو أنها معدلات طبيعية وآمنة جدًا. قاد باترسون على الفور حملة على البنزين المخلوط بالرصاص ونشر ورقة علمية في مجلة (Nature) تُندِّد بصناعة الكيماويات القائمة على الرصاص ومنبهًا على المخاطر الوخيمة لمركبات الرصاص الذي لطالما عرف العالم قبل كيهو آثاره السامة، الأدهى في مركب (رابع إيثيل الرصاص) أنه يذوب في المحلول الدهني فنصف كوبٍ منه على بشرتك يمكنه قتلك في دقائق. والمفارقةُ أن تلك الصناعات هي التي كانت تمول أبحاث باترسون وعلى الفور سحبوا تمويلهم بمجرد أن نُشرت ورقته التي تهدد ثروتهم.
من سيضحي بمليارات الدولارات التي تتدفق عليه سنويًا من أجل ورقة علمية تافهة ! فليذهب العلم إلى الجحيم! ومع ذلك استمر الأمر عشرين عامًا أخرى قبل أن ينجح باترسون في حملته.
1984: نظر (مجلس الشيوخ الأمريكي) في حظر استخدام الرصاص في البنزين، وأفاد (فيرنون هوك). مدير مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في مركز الصحة البيئية، أنه “إذا لم يُسمح باستخدام الرصاص في البنزين منذ عام 1977 ، لتمكنَّا من إنقاذ حوالي 80 في المئة من الأطفال المصابين بتسمم الرصاص”
1985: ناقشت (وكالة حماية البيئة) فرضَ حظر تام على البنزين المحتوي على الرصاص بحلول عام 1988. عام 1990 في التعديلات على قانون الهواء النظيف، حُظِر استخدام الرصاص من البنزين، ولم تدخل هذه التدابير حيز التنفيذ إلا عام 1995، مما يمنح شركات البنزين خمس سنوات أخرى للتخلص التدريجي التام من الرصاص.([2])
عندما يتعلَّقُ الأمر بسلامة البشرية والصحة العامة فإننا نتوقع أن تكون الإجراءات العلميَّة أكثر صرامة وقوة وحذرًا، بالتأكيد هذا لم يحدث. إذا كنت ترى أن مئة عام من انبعاثات (رابع إيثيل) الرصاص -الذي يصنف كسلاحٍ كيميائيٍّ- تعني أن العلم في مأمنٍ من التلاعب أو أن الآليات التي يعتمدها تساعدنا في كشف الزيف سريعًا .. فراجع نفسك.
يتعاملُ البعض مع هذه الأحداث المأساويَّةُ في تاريخ العلمِ على أنها أمور عارضة تحدث مرة كل مئات السنين، أو أنها أمور لا تبعث على القلق فقد انكشفَ الأمر في النهاية -ولو بعد مئة عام!- لماذا العلم مغفورٌ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ سيقول آخرون : إنَّ الميادين الأخرى غير العلم (ويحبون أن يذكروا الأديان تحديدًا في هذه المرحلة) لها أخطاؤها الكارثية أيضًا ولها من يتعصب لها .. إلخ.
الخطأ يُقدر بقدره ويوضع في موضعه، وبياننا لشيءٍ من التلاعب والكوارث التي تُرتكب باسم العلم؛ لا يعني أنَّا ندعو إلى رفضهِ بالكليةِ وإلغاء كل فضيلةٍ له، إنما المقصودُ فقط : نزعُ هالة القداسة الغريبَّة التي تُخلع على العلم والمؤسسات العلمية لدرجة تجعلها لا تخطئ أبدًا، بمعنًى آخر : أنه إذا لم تدفعك هذه الأخطاء -التي عادةً ما تكون فادحة- إلى سحب رخصة القبول من العلم بالكلية، فبنفس المنطق : يجبُ أن تتعامل مع الأخطاء الأخرى.
[1] -دانييل دينيت، فيلسوف ملحد في مقاله “شكرًا للخير” الذي كتبه بعد خروجه من جراحة خطيرة في الشريان التاجي وهو منشور على الشبكة تحت عنوان (thank goodness) .
[2] Doubt is Their Product: How Industry’s Assault on Science Threatens Your Health is a 2008 book by David Michaels, Assistant Secretary of Labor for Occupational Safety and Health under U.S. President Obama.
جميع ما ذكرت هي قضايا سياسية اجتماعية استعملت مفاهيم علمية و تكنولوجية. لم يكن المثال موفقا للحديث عن أخطاء العلم. هناك أمثلة لأخطاء هيكلية في البنية العلمية ذاتها و ليس في نواتجها الاجتماعية مثل كارثة عدم التكرار أو ماهية المادة المظلمة. الحديث عن اخطاء العلم يقود مباشرة للحديث عن نظرية البارادايم لتوماس كون. فالأخطاء الهيكلية و النظرية يمكن أن تحدد بداية نظرة جديدة.