عبدالرحمن بن عبدالله الصبيح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
أما بعد..
فقد كنت اسمع منذ سنوات ثناء كثيراً من الشيخ الدكتور بشار عواد معروف -حفظه الله- على كتاب «موقف علماء أهل السنة من السلطة السياسية في العصر العباسي الأول» لابنه الدكتور محمود بشار -حفظه الله-، لا سيما وأنه رسالة علمية، وفي كل مرة أُمَنِّي نفسي بقراءته ثم أُصرف عنه، حتى ثارت مسألة «الدوافع السياسية لفتنة خلق القرآن»، أو تجددت؛ لأن هذا الرأي معروف للدكتور من قديم، وكان يردده من سنوات طويلة ويشير فيها لهذا الكتاب، وأنه حرر المسألة وغيرها من المسائل المتعلقة، ثم كان أن كتب دكتور تعقيبا، وكرر الإشارة لهذا الكتاب، فطالعت الكتاب، وفي نيتي أن أمر عليه مرور الكرام، واطَّلِعَ على الموضع الذي خصه الدكتور بالذكر، فإذا بي أعكف على الكتاب، وانقطع له ليومين بقراءة فاحصة أكثر من مرة، ولا أكتفي بهذا، وإنما أمسك بالقلم لأكتب، وكانت النية أن يكون تعليقا مقتضبا، فإذا بي أسود الصفحات، وذلك أن الكتاب على اختصاره احتوى على جملة قضايا مركزية، بل كل قضايا الكتاب قضاياً تحتاج إلى نقاش طويل حولها.
وإنني في هذا «الحوار المنهجي» لن أخص تلك القضايا بالتحرير والتقرير، وكما لن أناقش القضية الأم التي قادت إلى هذا الكتاب -وهي فيه قضية فرعية-، وأعني بذلك الدوافع السياسية لفتنة خلق القرآن، وإنما سأناقش المنهجية التي قادت لهذا الرأي، وكيف قال الدكتور محمود بهذا القول وغيره من الأقوال التي حفل بها هذا الكتاب، ولقد تحيرت كيف أصوغ هذا التعليق وكيف أرتبه، ثم ارتأيت أن أتيح للقلم فرصة السياحة، وذلك لضيق الوقت وكثرة القضايا وتداخلها، إذ كل قضية منها قضية، ولكل قضية أبواب ومداخل، ولا حل مع تشابه الأبواب وتداخل المداخل إلا بتسوِّر الأبواب وقفز الستور، وإني أسرد هذه الملاحظات -أو المحاورات- المنهجية في نقاط.
- الوصف العام للكتاب: الكتاب عبارة عن آراء مسبقة للدكتور محمود ذهب يقيم عليها الشواهد، وليس بحثا علميا ينطلق من الشواهد ويبني عليها النتائج، ولهذا افتقد البحث لكثير من أدوات البحث العلمي، ويلقي نتائج وآراء دون أن يقيم عليها أي برهان، من ذلك مثلا عندما تحدث عن أهل الحديث [ص 74] ذكر من خصائصهم: العناية بالحديث، والابتعاد عن التقليد، ونبذ الرأي… الخ، ورغم أن هذه مسألة مشهورة مطروقة ليست مما ينازع فيه عموما، ومادتها موفورة، إلا أن د. محمود بشار لم يُحِلْ إحالة واحدة، ولم يستشهد لما قال بشاهد واحد.
كما ذكر أن الإمام أحمد لم يقصد أن يضع مذهبا فقهيا [ص 75]، ولم يُحِلْ، والسؤال: وهل قصد غيره أن يضعوا مذهبا فقهيا؟ وذكر أن الإمام أحمد كان ينهى عن كتب الشافعي ولم يبين سياق هذا الخبر، فضلا عن تحرير قول الإمام أحمد في هذه القضية.
- خلت مراجع الكتاب وحواشيه من ذكر كتب العقائد للسنة والمعتزلة، وكذلك خلت من أهم مصادر تلك الفترة وهي كتب العقائد المسندة، وهي تروي شهادة شهود العيان على هذه الأحداث، ساقوا خبرها، وحللوه، وتناظروا حوله، وذكر على استحياء أصول اللالكائي، وذم الكلام، ومقالات الإسلاميين، والفرق بين الفرق.
- يتميز الكتاب بذكر تراجم كثيرة، بل أغلب الهوامش هي الإحالة إلى تراجم الرجال، وربما تمر بك صفحات لا ترى إحالة غيرها، ولو قيل إن الرسالة عبارة عن رأي الدكتور مع ذكر إحالات التراجم ما كان بعيدا.
- استند الكتاب في كثير من تفاصيله وتحليلاته على كتب معاصرة، بل لعل عمدته كتابين، وسيأتي الحديث عنهما.
- خلت الرسالة من توثيق المعلومات والآراء، ومن تحرير المسائل العلمية، وهو عبارة عن رأي تبناه الباحث، فألقاه كما هو، دون أن يقيم عليه أي برهان، وكل ما يخالف النتيجة التي توصل إليها الدكتور يتم تأويلها، حتى وقفنا على قضايا ولوازم لا تخلو من طرافة وغرابة، وستأتي الإشارة إليها.
هذه بعض الملاحظات على الشكل العام للكتاب، أما عند الحديث عن مضمون الكتاب:
- الفكرة الأساسية للكتاب: عنوان الكتاب لا يكشف عن مضمونه، فالعنوان «موقف علماء أهل السنة من السلطة السياسية»، ولم يتحدث إلا عن المعارضة السياسية لعلماء أهل السنة، ومن ذكر أنه كان على تواصل مع السلطة، فإما أنه قدح فيه، أو تأول له، ولم يعتبره موقفا يعبر عن علماء أهل السنة، وكان الأولى أن يكون العنوان «المعارضة السياسية لعلماء أهل السنة للسلطة السياسية».
- من أصعب ما واجهني محاولة فهم ما الذي يريده الباحث، وما هي فكرته المركزية، وأُكْبر أن أقول إنه لم يفهم ما الذي يريده، أو لأقل: الذي بدى لي أن الكتاب يقوم على فكرة -أو أفكار- مرتجلة مرتبكة، ولأدع الباحث يحدثنا بنفسه، يقول [ص 13]: «فإن صراعا خفيا في أكثر الأحيان، ومعلنا في بعض الأحايين، نشب على الزعامة الدينية بين السلطة الحاكمة والزعماء الدينيين تجاه عامة الناس»، ثم ذكر أن كلا الطرفين اتخذ وسائل دينية لتثبيت سلطته! وهذا يعني بشكل واضح وصريح أن السلطة الحاكمة كانت تسعى للسيطرة على الزعامة الدينية وليس السياسية، وما سعيها للزعامة السياسية إلا من أجل السيطرة على الزعامة الدينية!
ولكنه يعود في [ص 15] ليقول عن أهل الحديث: «ودخلوا في نزاع مع السلطة السياسية في مسألة التأثير على الجماهير وقيادتها»، ويفهم من هذا أن أهل الحديث والسلطة السياسية دخلت في تنافس على قيادة الجماهير، وأن السلطة السياسية غير معنية بالزعامة الدينية.
أما الدكتور محمد سليم العوا -وقد قدم للكتاب وأثنى عليه- فقد عبَّر عن الكتاب أنه [ص 9]: «بيان حقيقة العلاقة بين السلطة السياسية في العصر العباسي الأولى وبين العلماء ذوي المكانة الدينية الشعبية، وانها علاقة حاولت فيها السلطة السياسية استثمار النفوذ الديني -المستحق- لهؤلاء العلماء في تثبيت شرعية الدولة/الحكومة في نفوس الناس. وأن هذه المحاولة لم تنجح إلا بعد القضاء مقامة رؤوس مدرستين كبيرتين في الفقه الإسلامي… الخ».
أما رأيي كقارئ للكتاب فإن الكتاب مضطرب في فكرته، ولكنها لا تخرج عن العمل السياسي لعلماء أهل السنة في مناهضة الحكم الجائر.
- ظهرت في الكتاب آراء مسبقة للباحث لا يتزحزح عنها، ويراها من المسلمات التي لا يتنازع حولها، ولا يرى نفسه مضطرا لمناقشتها، منها: أن الحكم الأموي والعباسي حكم جور، وبالتالي فإن الأئمة أئمة جور، وأن الواجب على العلماء مناهضة هذا الحكم، وأن العلماء كانوا يعملون عملا سياسيا معارضا لنظام الحكم، وأن العلماء والحكام كانوا يستغلون الدين لأغراض سياسية، وهذه المسائل عنده مسائل محسومة لا نزاع فيها.
- أغفل الباحث الحديث عن جملة من المسائل لا يستقيم البحث إلا بها، منها: من هم أئمة الجور؟ ولماذا أصبحوا كذلك؟ وما حكم أخذ أعطياتهم والعمل معهم، وما هو الإرجاء، وما هو إرجاء الفقهاء، وما الفرق بينهما -باستثناء ما ذكره في هامش [ص 38] وهو غير كاف-، ولم يحقق القول في إرجاء أبي حنيفة -رحمه الله-، ولا فيما نسب إليه من أنه يرى السيف أو الخروج، وأهم هذه القضايا: مسألة القول بخلق القرآن، وحكم القول والقائل، ثم لو سلمنا أنها مسألة سياسية ما أثر ذلك على الاعتقاد، بمعنى لو قال إنسان سياسة: إن القرآن مخلوق، ما حكم هذا؟ ولم يتعرض للمعتزلة، المسألة الوحيدة التي خصها بمبحث، مسألة الخروج على ولي الأمر، فعقد فصلا بعنوان [ص 183]: «موقف أهل السنة من الخروج على السلطة الجائرة»، وقرر فيه اختلاف العلماء في هذه المسألة من دون ذكرٍ لأي نص عقدي أو دليل أو برهان، أو حتى قائل لهذا القول، وخلط بين الموقف من الفتن عموما [ص 185]، والموقف من السلطة الجائرة [189]، فجعلهما شيئا واحدا، وكأن الخلاف في الأولى خلاف ثانية.
وعقد فصلا عن أهل السنة [ص 33]، ابتدأه بالحديث عن السنة، ولم يبين المراد بالسنة وما حدودها، وهل تقرير النبي e وخُلقه وخِلقته e من السنة أم لا، وكذلك لم يبين المراد بأهل السنة، أما الجماعة فلم يذكرها أصلا.
- المصادر العمدة! يظهر لي أن الباحث اعتمد على مصدرين أساسين، أما الأول فهو كتاب المحنة لفهمي جدعان، وخاصة فيما يتعلق بالمحنة وذكر الباحث أنه استفاد «من الدراسة الجادة التي قام بها الأستاذ فهمي جدعان… لا سيما في معالجتي للأبعاد السياسية للمحنة… الخ» [ص 29]، ووصفها بالمتميزة [ص 235]، والتشابه بين الكتابين كبير خاصة فيما يتعلق بالمحنة وإن اختلفت المعالجة، فعلى سبيل المثال ذكر فهمي جدعان [ص 131] خبر براءة المأمون من معاوية رضي الله عنه، وذكره كما هو د. محمود [ص 238]، والفرق بينهما أن المسعودي عند فهمي جدعان ذكر اختلاف الناس وتحيرهم في الأسباب التي دعت المأمون لهذا الفعل، بينما الذي لا يعرف الأسباب الداعية لهذا الفعل عند الباحث هو الباحث نفسه.
وذكر فهمي جدعان امتحان القواد وإجابتهم [ص 136]، وذكر ذلك الباحث [ص 239]، والتشابه في الأسماء والمواقف والأخبار واضح بلا عناء المقارنة.
كما استفاد كثيرا من سعد خلف الحنيطي في كتابه «الفقيه والسلطان»، إلا أنه مأكول مذموم، فرغم استفادته الكبيرة ووقوفه على بعض النصوص من خلاله، كالنص الجاحظ الذي أورده [ص 144] وهو بنصه في كتاب [الفقيه والسلطان ص 152]، ونص الجاحظ هذا ليس مما يمكن أن يتوافق عليه الباحثان قدرا، كما انتقده بنفس طريقته المرتجلة، فقال [ص 28]: «وفي الدراسة خلط بيّن بين الفقهاء والمحدثين، بل إنه قسم المدارس الفقهية في العراق إلى مدرستين، هما: مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، وهو تقسيم يدل على سوء فهم لطبيعة فقهاء العراق، إذ لم يعرف العراق مدرسة فقهية حديثية، أما الإمام أحمد فهو من أهل الحديث، وهو لا يعتد بالفقه ولا يحبذ التمذهب الفقهي، وهكذا جعل الباحث المحدثين: فقهاء!»، وعلامة التعجب منه لا مني، كذا قال والله! فبقلم مرتجل قام بإلغاء مدرسة أهل الأثر، وبذات القلم جعل المذاهب ثلاثة، وبذات القلم أخرج الإمام أحمد من جملة الفقهاء! وقد كرر ودندن على هذه الفكرة في الرسالة في غير هذا الموضع.
ومن دلائل تأثره واعتماده عليه: أنه ذكر [ص 141] سبب قبول طلاب أبي حنيفة للقضاء في حين يرفضه إمامهم، فذكر قول (بعضهم) -هكذا- أن مرد ذلك إلى عقيدة الإرجاء التي يدينون بها! ورغم أنه رد هذا التحليل الغريب، النشاز، إلا أنه رد بجواب ضعيف غير ملائم لهذه الشبهة، فالحنيطي يتحدث عن الأحناف تلاميذ أبي حنيفة، والدكتور يقول: إن كثيرا ممن تولى القضاء ليسوا من المرجئة، وليسوا من الأحناف، وهذا ليس بجواب على هذه الشبهة العجيبة، إذ محل البحث: لماذا قبل أبو يوسف القضاء في حين رفضه شيخه؟ هل بسبب الإرجاء كما يزعم الحنيطي؟ وعندي أن هذا التأويل أقل من أن يذكر، وهو من الإغارة على تاريخنا وسير علمائنا بلا بيان أو برهان، والدعاوى إذا يقيموا عليها بينات فأصحابها أدعياء. وللأسف أن هذا التأويل الغريب جاء في رسالة علمية، والناقل له نقله في رسالة علمية كذلك! ومن أوجه التشابه أنه وصف [ص 141] نص يحيى بن معين في يونس بن بكير بأنه «يتيم»، وهو ذاته وصف الحنيطي [ص 156].
- قصور آلة التحليل السياسي: وبيان ذلك أن أي شيء تريد دراسته أو تحليله تحليلا سياسيا أو تاريخيا أو اقتصاديا أو غيره، يجب أولا حصر أركان القضية المنظور إليها، ثم النظر في سياقاتها، وإن كان للمسألة المنظورة مسائل تحتاج إلى تحرير علمي فيجب أن تحرر، وهذا ما لم يقع في هذا البحث، حيث اقتصر على بعض الحوادث والزوايا، ونتيجة لذلك لا يمكن توقع نتيجة موضوعية، وعدم استكمال آلة التحليل يشير إلى أن الباحث الكريم ارتجل آراءه دون منهج علمي، والإشكال ليس في الخروج بنتيجة خاطئة، خاصة إن كانت مما يسع فيه الاجتهاد، وإنما في سلوك منهج خاطئ، والتعامل مع القضايا الكبار بطرف القلم، ومن الأمثلة على هذا:- لما جرى الحديث عن نشأة الدولة العباسية محل الدولة الأموية وأبي جعفر المنصور ومعارضة بعض العلماء له؛ كأبي حنيفة ومالك، تحدث عن بعض المظالم التي صاحبت قيام الدولة فقال [ص 103]: «كل هذه الأمور جعلت عددا غير قليل من كبار العلماء يتخذون موقفا مناوئا أو سلبيا في الأقل تجاه السلطة الجديد، وإن لم يظهر على بعضهم هذا الأمر في أول قيام الدولة… »، ولكنه نسي أن في أعناق الناس يومئذ بيعة لبني أمية، أو أن آثارها ما زالت باقية، وهذا الموضوع رغم أنه مركزي، ولا يستقيم الخبر إلا به، إلا أنه لم يتطرق له البتة في دراسته، وبدلا من هذا قال [ص 209]: «لقد أدى إخفاق جميع الثورات في أوائل العصر العباسي، والقسوة التي ووجهت بها، وثبات كيان الدولة والتخلص من أعدائها الواحد بعد الآخر… لقد تعلمت السلطة العباسية درسا حين استعملت الشدة فقط في معاملة أهل العلم المناوئين»، وكان من نتيجة هذا المنهج اتهام الإمام مالك بالخروج مالك [ص 108] على الدولة العباسية.
- أركان فتنة خلق القرآن: السلطة السياسية، العلماء، المعتزلة، وهو لم يأت على ذكر المعتزلة البتة، فكيف يريد أن يتحدث عن الفتنة فضلا عن تحليل أحداثها دون أن يتحدث عن ابن أبي دؤاد خاصة والمعتزلة عامة.
- وفي الفتنة كذلك: لم يتطرق لأهم المعارك العقدية لأهم المعارك -أو الآراء- العقدية التي تفرعت عن فتنة خلق القرآن، وهذا من الغفلة عن السياق؛ كمسألة اللفظية، والواقفة، وما فيها من أحداث ورجال وامتحانات، خاصة وأنها استمرت بعد انتهاء الفتنة وانسحاب السلطان عنها، وامتحن البخاري وغيره بسببها.
- المعارض سفيان الثوري: ومن غفلته عن السياقات وقصور آلة التحليل لدى الباحث زعمه أن سفيان الثوري كان من المناوئين، يقول [ص 105]: «فقد ذُكر أنه كان مناوئا لحكم العباسيين»، فمن الذي زعم هذا الزعم غيره؟ ومعلوم أن لسفيان مذهبا خاصا في التعامل مع الولاة ومع الدنيا كلها ولكن لا علاقة له بالمعارضة، بل إنه يقول كما يروي عطاء بن مسلم: «لا تسبّوا الأمراء فإني قسمت الساعة شيئا بين أهلي ففضلت بعضهم على بعض، فوالله ما رضي على الذي فضلته ولا سلمت ممن فضلت عليه.» [أنساب الأشراف (11/ 315)]
 
- تكلف التأويل: لا يخلو الكتاب من تأويلات عجيبة لا زمام لها ولا خطام، من ذلك زعمه أن أبا جعفر المنصور يرى أن حكمهم (حق إلهي)، وساق خطبة ومراسلات لأبي جعفر تؤكد هذا، يقول [ص 97]: «ونتيجة لذلك اتجه العباسيون إلى الحكم المطلق الذي لا ينازعون في شيء منه، فقد أعلن أبو جعفر المنصور صراحة حقهم الإلهي في هذا الحكم نتيجة الوراثة النبوية حينما قال في خطبة له … » وساق خطبة استخدم فيها كلمات كانت شائعة في ذلك العصر، مضمونها أنه ينوب عن الله في تطبيق شرعه، وتقسيم فيئة، وخطب العرب وكلامهم يجب أن يفهم بلسان العرب وسياقهم، أما ترتيب مذهب عقدي وحركة سياسية على أمثال هذه العبارات فبعيد عن المنهج العلمي الصحيح. ولم ينفرد أبو جعفر المنصور بهذا المصطلح، بل استخدمه الولاة والعلماء بعده، ولم يفهموا منه هذا الفهم العجيب، ورغم أن هذا انحراف من أبي جعفر المنصور عما كان عليه بنوا أمية -كما يقول الباحث- إلا أنه لم يعقب عليه أحد، بل لم يذكر أحد ممن عاصر تلك الفترة هذه المسألة لا تأييدا ولا رفضا، ثم أين (المعارضة السياسية!) عن استغلال هذا الانحراف للقدح في شرعية الحكم؟، وقلتُ: إن هذا المصطلح شائع ومتداول في الكتب والخطابات، ومن أبعد الناس عن المعنى الذي فهمه الدكتور؛ تقي الدين ابن تيمية، فها هو يستخدم هذا التعبير، فيقول عن بني أمية وليس بنو العباس: «وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة الله على الأرض – قد وكل أعوانا يمنعون الداخل من تقبيل الأرض ويؤدبهم إذا قبل أحد الأرض.» [مجموع الفتاوى (27/ 93)]، وقال في موضع آخر عن الخليفة والسلطان: «إذ هو ظل الله» [مجموع الفتاوى (35/ 46)]، وأنكر المعنى الفاسد الذي أشار الدكتور، فقال: «وقد ظن بعض القائلين الغالطين – كابن عربي – أن “الخليفة” هو الخليفة عن الله مثل نائب الله» [مجموع الفتاوى (35/ 44)]. وقال: «والله لا يجوز له خليفة؛ ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله قال: لست بخليفة الله؛ ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي ذلك» [مجموع الفتاوى (35/ 45)]، وأشار لمعنى دقيق ينفي حَرْفية الفهم والتكلف في التأويل، فقال: «بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا»» [مجموع الفتاوى (35/ 45)].- ومن ذلك لما تحدث عن نعيم بن حماد [ص 254] الذي يعده من رؤوس المعارضة، يقول عن كتابه الفتن [ص 27]: «فهو ينبئ عن توجه المؤلف وموقفه من الدولة العباسية التي حملها كل ظلم وجور وسفك للدماء…»، فهو يعتبر هذه المرويات آراء سياسية! وغفل عن أنه عقد فصلا قبله عن بني أمية، كما أن في هذا تعسف في فهم طريقة العلماء في التصنيف.
- ومن ذلك أنه يؤول كل رفض للأعطيات أو الرواتب معارضة لنظام الحكم، وبهذا استطاع حشر جملة من الأسماء عدها معارضة أو خارجة على السلطة.
 
- أراء غريبة بلا شاهد أو زمام: وقد سبق ذكر شيء منها، كرأيه في الخلافتين الأموية والعباسية، وأمراء تلك الدول، وحكم القرب منهم بعمل أو تأييد أو أخذ هبات أو حتى رواتب، وهذا بعضها الآخر على سبيل المثال لا الحصر:- يعتبر الباحث السلطتين؛ الأموية والعباسية، سلطتي جور وأئمتها أئمة جور، كذا بإطلاق! فهو لم يستثن أحدا، ولو قال عن أحدهم هذا لكان هذا مفهوما، لكن كأنه استعار هذا المصطلح الذي تقول به الإمامية والخوارج وغيرهم، فالإشكال لديهم ليس في صلاح وفساد الحاكم، وإنما لأن الولاية لا يصح أن تكون له، وللتأكيد والتوضيح: لا أقول إن الدكتور يقول بهذا، ولكنك تشمه من كلامه، وتحسه من خطابه، فاعتراضه على كلا السلطتين، وكل ما تفعله هذه السلطة -التي يراها جائرة- هو جور، أو فعل سياسة لا قصدا، إذ الخير لا يصدر منها، وهذا انحراف خطير، وأثر هذه الفكرة واضح وظاهر في حكمه على الأحداث والعلماء والسلاطين. وهذه الفكرة إما مستوردة من الكتابات الاستشراقية -وهو ما أظنه-، أو أنه تأثر بما يطرحه الإمامية والخوارج وأشباههم.
- من ذلك زعمه أن هناك تنظيمات سرية منظمة لمناوئة السلطة، وينسب هذه التنظيمات لأئمة أهل السنة، ولم يذكر من يقود هذه التنظيمات، ولا ما الذي تريده هذه التنظيمات، هل هي معارضة سياسية، أم منافسة على السلطة، أم هي حركات إصلاحية لمقاومة الظلم دون المنافسة على السلطة.
- ومنها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلطة سياسية لا يراد منها حصول المعروف أو الانتهاء عن المنكر، وإنما هي نوع من النشاط السياسي الذي تتنافس فيه السلطة السياسية مع السلطة الدينية [ص 223]، والأخطر من هذا ليس هذا الرأي، وإنما ربط فكرة الخروج على السلطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [ص223]، كما أنه يقرر أن من لوازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على الحاكم!
- ولم يتبين موقفه من هؤلاء العلماء، هل هم زعماء سياسيون إصلاحيون، أم هم متشددون حيث وصفهم أكثر من مرة بذلك [ص 221]، وإذا كانوا متشددين فهل الدولة تمثل الوسطية مع أنه وصفها بالجور؟
- زعم أن تلاميذ أبي حنيفة وسمى أبا يوسف ومحمد بن الحسن من أشد المتحمسين في دعوة الخروج على ولي الأمر [ص 212]، ثم رصد تخليهم عن هذا الرأي وميلهم للخليفة. وكل هذا بلا دليل.
- ويزعم أن تقريب الخلفاء للعلماء لما لهم من تأثير على الناس فقط [ص 116].
- ومن آرائه قوله [ص 152]: «ويجد الباحث بين من عين للقضاء من كان ضعيفا في الحديث، ومعلوم أن الأحكام القضائية إنما تعتمد على الكتاب والسنة بالدرجة الأولى، فالضعف عندئذ يعد منقصة في القاضي».
- ويقول د. محمود بشار [ص 124]: «إن أخذ العطايا من الخلفاء أو الأمراء لم يكن مشتهرا ولا محمودا من علماء أهل السنة، ومعظم الذين يستجيزون مثل هذه العطايا كانوا إما ضعفاء من الناحية العلمية [هكذا!]، أو أنها حالات فردية لا تمثل التوجه العام لأهل العلم في الابتعاد عن السلطان … الخ»، من أين أتت هذه القسمة الضيزى؟
 
- تحليل سياسي أم قول بالنِيَّات؟ الملاحظ أن ما أسماه الدكتور محمود تحليلا سياسي إنما قول بالنيات، وهي أمور لا يمكن الاطلاع عليها، وفي الكتاب دقائق من الحكم على النيات شيء قد لا تطلع عليه الملائكة([1])، فمن أنبأه بهذا؟ لا بأس أن تتخذ بعض القرائن شواهد لبعض الحوادث، ولكن ما نحن فيه شيء مغاير، فمنه أمر لا يمكن الاطلاع عليه البتة، كشعور المنصوح عند سماع الموعظة، فهذا عمل قبلي محض، فكيف اطلع عليه؟ ومن التحليل السياسي ما يمكن التنبؤ له ببعض الشواهد والشهود، بل وربما ذات الرجال يخبرون عن أنفسهم، ولكن الدكتور يلقي كل ذلك ويحكم بنفسه، وإليكم بعض الأمثلة:- قال [ص 111]: «وفي عهد المهدي شنت حملة واسعة على الزنادقة كجزء من الدعاية الدينية السياسية التي قام بها المهدي، والتي شارك فيها بعض الناس لتصفية خصومهم».
- وقال [ص 112]: «ونجد في كتب التراث الكثير من الحكايات والأخبار التي تشير إلى عناية الخلفاء بالاستماع إلى النصائح التي يقدمها العلماء والوعاظ على الرغم مما كان فيها -في بعض الأحيان- من فجاجة سكت الخلفاء عنها، وهذا فيما أرى جزء من السياسة العامة لأكثر الخلفاء بمحاولة استرضاء أمثال هؤلاء، لما لهم من منزلة عند عوام الناس»، وذكر في [ص 114] انهم قبلوا هذه المواعظ مع تبرم في الواقع منها! والسؤال: من أنبأك هذا؟ كيف علمت تبرمهم وقد ذكر هو بعض الروايات التي ترد هذا.
- ويقول عن المتوكل [ص 273]: «ولا شك أن الدوافع التي حدت بالمتوكل إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة هي دوافع سياسية بحتة، إذ وجد أن من مصلحة الدولة التصالح من تيار أهل السنة الديني، وهو تيار قوي له تأثيره الكبير في العامة، وكسبه إلى جانبه».
- ومن أمثلة تحليله السياسي قوله [ص 108]: «وخرج العديد من علماء الحجاز مع محمد النفس الزكية… مما يشير إلى استياء عام من الحكم العباسي».
- وقال [ص 239]: «وأرى أن هؤلاء أدركوا أن المسألة سياسية أكثر منها عقائدية، فاستعملوا التقية في هذا الأمر وأجابوا».
 
- التجافي العلمي! للأسف أن علاقة الدكتور بتحقيق المسائل العلمية سيئة جدا، بل المسائل العلمية غريبة عنه وهو غريب عنها، وهو لم يحقق مسألة علمية واحدة، حتى المسائل والحوادث التاريخية لم يحققها، من ذلك:- لما تحدث عن نعيم بن حماد [ص 27]، [ص 254] كما سبقت الإشارة إليه، زعم مرتجلا: أنه شحن كتابه بالأحاديث المكذوبة والموضوعة والضعيفة نصرة لمذهبه السياسي، وكرر هذه الفكرة مرات دون أن يسوق إسنادا واحدا! وهذا الزعم لو زعمه أحمد أو البخاري وهما إماما الدنيا في الحديث والفقه، لطولبا بالدليل، فضلا عن أنه لا يفرق بين الأحاديث والآثار، فكلها مرويات وكلها آثار وكلها أحاديث!
- قال في مسألة إعادة الإمام أحمد صلاة الجمعة خلف الواثق [ص 249]: «وهو أمر يدل على اضطراب في الموقف المعلن الذي كان يجاهر به علماء آخرون مثل نعيم بن حماد وأحمد بن نصر الخزاعي وغيرهما»، والمسألة مشهورة مبسوطة في كتب الحنابلة، بل لا يكاد يخلو منها مصنف، ولكنه لم يكلف نفسه الرجوع إليها. ثم أين هو موقف نعيم بن حماد وأحمد بن نصر؟ والأهم من ذلك ما دخل الإمام أحمد فيهما؟ أم أنه خالف تعليمات زعيم الحزب؟ حقيقة لا أعلم كيف يتعامل الدكتور مع هؤلاء الأعلام، لكن إذا علمنا أنه ألغى الجانب التعبدي -تماما- من حياة أولئك الأعلام تبين الأمر، وزال اللبس.
- وفي [ص 248] يقول بلا مبالاة: «وقد بالغ الحنابلة فيما بعد في دوره وجهاده في المحنة!» ويعني الإمام أحمد! ولا أدري لماذا يتحسس الدكتور من تحقيق أي مسألة علمية؟ ألم ير كيف يرتبون الكفر على هذه المقالة؟ والمشكلة برأيي أعمق هذا، فالذي يظهر أن الدكتور غير مقتنع بها، ويرى أنها أعطيت أكبر من حجمها، وهذا صرح به كثيرون. ثم هو يقول إن الحنابلة بالغوا في دور أحمد، وساق خبرا عن علي بن المديني، فهل ابن المديني حنبلي؟ ثم ذكر خبرا آخر عن البخاري، فهل هو حنبلي كذلك؟ لو كتب الدكتور من وسط القلم لا من طرفه ما ظهرت لنا هذه الآراء، لو يتعب قليلا.. قليلا فقط!
 
- معايير خاصة وقدح في الأعلام: لعل هذا الفصل من أكثر فصول الكتاب إيلاما، لأن قلم الدكتور سخي جدا في تجريح الأعلام، ولا أظنه قصد هذا، ولعله إن قرأ هذه الورقة سيتفاجأ بهذا الكلام، ويتهمني بإساءة فهمه، ولكن حسبكم كلامه، وبادئ ذي بدء، حدد الدكتور معيارا للعلم، ويفهم منه الفضل كذلك، يقول [ص 124]: «معظم الذين يستجيزون مثل هذه العطايا كانوا إما ضعفاء من الناحية العلمية [هكذا!]، أو أنها حالات فردية لا تمثل التوجه العام لأهل العلم في الابتعاد عن السلطان … الخ»، فإذا المعيار عنده هو: قبول المحدثين لرواية العالم، وبالتالي فالصدوق وضعيف الحفظ عنده ضعفاء علميا، وربما أقل شرفا ومروءة، ودينٌ كذلك! والغريب أن العلماء حكموا على نعيم بن حماد أنه «صدوق» وهو قال إنه ملأ كتابه بالمكذوبات، ومع هذا لم يجرحه، ويلمزه بضعفه! أو يرجع معارضته المزعومة لضعفه العلمي، والسؤال: من أين له بهذا الضابط؟ ومن أين أتى بهذا الحكم؟ ولنرى كيف تعامل مع من نحسبهم من خيرة الناس:- لما ذكر قرب حجاج بن أرطاة من أبي جعفر والمهدي، ذكر أن الذي دفعه إلى ذلك حب الشرف كما يروى عنه، ثم علل بقوله [ص 116]: «ومع ذلك فالرجل لم يكن من الثقات المحدثين، فقد كان صدوقا لكنه يدلس ويروي عن الضعفاء».
- وذكر قرب المحدث أبو بكر الهذلي، ثم قال [117]: «لكن علماء الجرح والتعديل ضعفوه».
- وذكر تقريب المهدي لأبي معشر، ثم قال [ص 118]: «أجمع علماء الحديث على تضعيفه!».
- وذكر تقريب المهدي للإمام الزاهد الواعظ صالح بن بشير المري، ثم قال [ص 118]: «وكان صالح من القصاص المتمكنين (الوعاظ)، ولعل المهدي استقدمه من أجل ذلك، إذ لم يكن في الحديث بشيء، كما عبَّر علماء الجرح والتعديل». قارن هذا بما قاله الذهبي عنه [سير أعلام النبلاء (8/ 46)]: «الزاهد، الخاشع، واعظ أهل البصرة»، ونقل عن ابن الأعرابي قوله [سير أعلام النبلاء (8/ 47)]: «كان الغالب على صالح كثرة الذكر، والقراءة بالتحزين، ويقال: هو أول من قرأ بالبصرة بالتحزين، ويقال: مات جماعة سمعوا قراءته»، ولما سمعه سفيان الثوري -وهو مضرب مثل عند الدكتور- قال [سير أعلام النبلاء (8/ 47)]: «ما هذا قاص، هذا نذير.» ، ولم يُلمح سفيان بما لمح به الدكتور، هذا مع اتفاقهم على ضعفه، ولكنهم لم يروا في ذلك مذمة له، غاية ما يقال: لا يقبل حديثه، أما التصريح -وليس التلميح- بأنهم قبلوا ما قبلوا من الأعطيات والتقرب من الولاة بسبب دنو منزلتهم في الفضل أو العلم، فهذا لم يقل به أحد، وهو تجنٍّ سافر على هؤلاء الأعلام، في مسألة غير محررة.
- ولمز شريكا القاضي، لأنه تولى القضاء، وهو فخر قضاة الإسلام ورمزهم، بسبب أنه أكره على القضاء ثم قبل به، وخرج يتلقى الخيزران، وقيلت فيه أبيات، وأضيف إلى ما ذكره الدكتور ولعله مما فاته: أن شريكا -كما حكى سليمان بن أبي الشيخ- «قال لبعض إخوانه: أكرهت على القضاء، فقيل له: فأكرهت على أخذ الرزق!» [تاريخ الإسلام ١١/59، عيون الاخبار ١/١١٠]، وأقول: في خبر شريك ما كان يمكن للدكتور أن يستثمره في تحليله السياسي، من ذلك أنه هرب من قضاء الأهواز، وكان يمكن أن يقال: لما رأى الفساد والجور … الخ، ولكن حال الدكتور كحال «الحَسَن بْن عمارة حين بلغه أن شريكًا هرب من قضاء الأهواز فَقالَ: الخبيث استصغر قضاء الأهواز». [أخبار القضاء 3/١٦٣] لا يمكن أن يرضيهم شيء، ولو لم يكن من فضائل شريك إلا أنه لم يُحسب عليه تجافي عن حق أو قول بباطل أو نصرة ظالم، وحَبس وجوه الناس وقال كلمةً مشهورة: «حتى لا يمشوا برسالة ظالم» [أخبار القضاة 1/171]لكفاه.
 
والسؤال بعد هذا، أبمثل هذه الطريقة يعامل هؤلاء الأعلام، ويحكم عليهم بطرف القلم؟ أما لهم وقار وحشمة؟
- هَبْ أنَّ فتنة خلق القرآن سياسية! ولنقل بقول دون أن نغلق الباب ونتعصب للآراء، وهذا الفصل لا يخلو من طرافة، فلنسلم له أنها سياسية ولنقل كما قال [ص 18]: «المحنة ذات أبعاد سياسية صرفة، وأن السياسة كانت المحرك الرئيس لها… لكنهم هدفوا جميعا -أي العلماء- إلى غاية واحدة هي: مناهضة السلطة السياسية التي حاولت جاهدة سلب نفوذهم الديني، مع ظلمها وجورها ومخالفتها بعض ثوبت أهل السنة»، والملاحظ هنا أن كل الأطراف، السلطة والعلماء يعلمون أن القضية سياسية، ولكنهم يتخذونها ذريعة لمعركة سياسية بينهما، ولذلك يقول [ص 239]: «وأرى أن هؤلاء أدركوا أن المسألة سياسية أكثر منها عقائدية، فاستعملوا التقية في هذا الأمر وأجابوا»، وبكل حال لنقل أننا نسلم أنها سياسية، فلنقرأ المشهد بهذا المعطى:
يمتحن الإمام أبو مسهر الشامي، حتى يعرض على السيف، فيقر فرقا من السيف بأن القرآن مخلوق [ص 241]، والملاحظ هنا أن المسألة تطورت تطورا كبيرا حتى عرض على السيف، أي أن الروح كادت تذهب، بل ذهبت لولا لطف الله، ومع هذا الضغط الرهيب لم يخلص أبا مسهر نفسه بتسوية سياسية، خاصة وأن ذات مسألة خلق القرآن غير مرادة، فلم لم يتحدث عن أصل القضية، وإلى متى يتم الاحتفاظ بهذا السر؟ وكثيرون الذين عرضوا على السيف وسجنوا وضربوا، ومات بعضهم، ومع هذا لم يفاوض واحد منهم السلطة، والسلطة كذلك لم تفاوض واحد منهم.
وأكثر المشاهد هزلا وعبثية مشهد مناظرة الإمام أحمد، وقد ذكرها الدكتور مختصرة [ص 246]: أن الإمام نوظر لمدة ثلاثة أيام في المسألة، نعم ثلاثة أيام، ولم يذكر الدكتور تفاصيل هذه المناظرة وهي مشهورة مذكورة في المصادر، وفيها مطالبة الإمام لمن يناظره بدليل من الكتاب أو السنة، حتى ضجروا منه وقالوا: ليس عندك إلا الكتاب والسنة! لأن المعتزلة أهل الكلام، والمقصود ثلاثة أيام وهم يتصنعون هذه المناظرة، واللافت للنظر إتقان كل منهم لدورة، الخليفة المعتصم الذي يصيح: شد قطع الله يدك! والوزراء، والجلادين الذين يجلدون الإمام، والإمام الذي يغمى عليه من التعب، والجميع يعلم أن هذه المسألة ما هي إلا ستارا لتنافس -أو صراع سياسي- بين الطرفين! بالله عليكم، أيصح في الأذهان شيء كهذا؟ أما حانت في كل تلك السنوات والدماء والضراء، أما حانت في تلك النفوس التي تلفت وأعيت، أما حانت ساعة يصيح فيها صائح: دعونا يا قوم نتحدث بصراحة! والأغرب من هذا تواطؤ الجميع، الجميع! الخلفاء والوزراء والجلادون والعلماء، وشهود العيان، والمؤرخون، والشعراء… الخ، على حفظ هذا السر، بل يسجلون في مدوناتهم العلمية ومروياتهم خلافه زيادة في التعمية، حتى اكتشفه فهمي جدعان والدكتور محمود!
ولنسلم مرة أخرى أنها سياسية، أي أن هناك ثمرة سياسية مرادة من كل هذا، والسؤال: لِمَ لمْ يعقد العلماء -الذين وصفهم الدكتور أكثر من مرة بأنهم التيار المتشدد- صفقة من بلاط الخلافة، يربح فيه الجميع؟ وهل أخطأوا بذلك؟ وهب أن هؤلاء (دراويش) لا يفهمون في السياسة، مع أن الواقع -كما يذكر الدكتور- ليس كذلك، فهم أصحاب تنظيمات وأحزاب، ونضال سياسي ممتد لعقود من الزمان، وتتابعت عليه أجيال، أقول: هب أنهم لا يفهمون في السياسة، أما كان ينبغي للسلطة السياسية أن تبرم صفقة معهم، وتربح منها؟ ثم أليس من الغباء -وهو أمر لا يليق بأهل السياسة- أن تلجأ السلطة لاستخدام مسألة كالقول بخلق القرآن لخوض معركتها السياسية معهم، مع ما يذكره العلماء من الإجماع على إكفار هذا القول، خاصة وأن الباحث ذكر حرص السلطة العباسية على استخدام الدين والمتاجرة به، فكيف تستخدم الدين وتتاجر وفي نفس الوقت تتبنى قولا كفريا ترغم الناس عليه؟
- فرضية المشروع السياسي لأهل الحديث: يقوم البحث على أن لأهل الحديث (المتشددين) مشروعا سياسيا، وتنظيمات، وأنهم أصحاب نضال سياسي… الخ، والسؤال هنا: ما هو هذا المشروع؟ وما الذي يريدونه؟ وهل ذكر أحد منهم هذا؟ وما تقييمه لهذه المشاريع والحركات المناهضة؟
ومشكلة الدكتور أنه يسقط واقعنا الحالي ومفاهمينا السياسية على واقعهم، ففي واقعنا يمكن أن يكون المرء معارضا سياسيا، أو مناضلا، وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وهذا (الترف السياسي) لم يحظ به الأولون، فالمعارض عندهم يحمل سلاحه ويخرج، وهو يا قاتل يا مقتول!
ولم يذكر الدكتور من هم رواد هذه المناهضة السياسية، نعم، قد ذكر الأئمة الأربعة وسفيان ونعيم وغيرهم، بل ذكر جملة كبيرة من الأسماء، وأنت ناظر إليها تظن أن الخروج هو الأصل، ولكنه لم يذكر من يحرك هذه الأحزاب وهؤلاء الرجال، وهل هي جماعة أم جماعات؟ أسئلة كثيرة جدا بقيت بلا جواب.. ولا سؤال حتى!
- الخلاصة: ولا أقصد تهذيب ما سبق أو ذكر نتائجه.- آسف أن أقول إن هذه الرسالة تمثل رأي الباحث في تاريخه، ورأيه في أمته، ورأيه في سلفه، ورأيه في المدونات التاريخية والحديثية، ولا علاقة لها بالتاريخ ولا التحليل السياسي.
- وآسف أن أقول إن هذه الرسالة التي أشار لها د. بشار عواد -حفظه الله- جناية على تاريخنا وسلفنا وهويتنا، بل وديننا، وهي حلقة صغيرة من منهج كامل شامل بهدف التشويه والإساءة، ويكفي اعتمادها على ما كتبه فهمي جدعان ومحمد عابد الجابري وغيرهم، وإضفاء بعض اللمسات الحديثية في نقد الرجال لا تخرج الرسالة من أنها خرجت من ذات المشكاة، مشكاة المستشرقين ومن ركب ركبهم.
- ومن عجيب ما تلتقطه الأنظار في ملحمة التشويه هذه، أن ذات الرجال -الأئمة الأربعة وأئمة السلف عموما ومدونات الفقه- متهمة بأنها مطواعة بيد السلاطين، وأن فقهنا وحديثنا صنع بأثر منهم، ونفس هؤلاء الأئمة متهمون اليوم بأنهم معارضون سياسيون!
- لا يمكن أن يهمل أثر الدين والعبودية لله عند هؤلاء الأئمة أي منصف موضوعي، مسلما كان أم غير مسلم، والعجب من كتاب مسلمين، محسوبين على أهل العلم والدعوة، ومع هذا يهملون هذا الجانب، وهؤلاء الأئمة كتبهم ومدوناتهم وسيرهم طافحة بالعبودية لله، ولهم دقائق عجيبة في رعاية هذا الأمر، فكيف يهمل باحث هذا الأمر؟ أليست هذه الأمور من أهم مقومات شخصياتهم؟ هذه والله جناية على العلم والموضوعية وعقوق لهؤلاء الأعلام، ولو صدر هذا من غير د. محمود بشار لكان مفهوما، ولكن أن يصدر من د. محمود وهو من قضى شطرا من عمره يقلب في تراجم هؤلاء الرجال، فهنا تكون المصيبة ويعظم الأسف.
- ختاما، كلمة يجب أن تقال: يواجه تاريخنا اليوم حملة تشويه كبيرة، وليست كلها صادرة عن نواياً سيئة، ولكنهم القصاص الذين وجدوا التاريخ مادة خصبة وافرة، فعدوا على تاريخنا وسلفنا..
 
التاريخ ليس قصة تروى..
وإنما هوية أمة مضت.. وما زالت باقية..
فصونوا ماضيكم.. يسلم لكم مستقبلكم…
([1]) اختلف العلماء، هل تطلع الملائكة على نية العامل، أم تسجل العمل، ومن يحكم على نية العامل هو الله سبحانه، وهذا مما ذكر عند قوله تعالى في الحديث القدسي: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي بي».
 
 