- حوار مع أ.د. سعد عبدالعزيز مصلوح أستاذ اللسانيات والنقد
لساني بارز، وشاعر، ومترجم حاصل على الدكتوراه من جامعة موسكو (عام 1975) في (الصوتيات المختبرية)، وحاصل على جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الترجمة (عام 2009)، عن كتاب: (في نظرية الترجمة، اتجاهات معاصرة)، لـ”أدوين غينستلر”.
عمل في جامعة القاهرة، وجامعة الملك عبدالعزيز، وفي معهد الخرطوم الدولي للغة العربية، وفي جامعة الكويت.
وله عديد من المؤلفات والبحوث، والمحاضرات العلمية، وتتوزع مساهماته بين فروع اللسانيات، والبلاغة، والنقد الأدبي، وعلوم القرآن الكريم، والترجمة، والدراسات البينية.
لتحميل الحوار
لمشاهدة سلسة اللقاء مرئياً
أستاذ الدكتور سعد مصلوح، أستاذ اللسانيات والنقد، نودُّ في البداية أن نشكركم على إتاحتكم هذه الفرصة لإجراء هذا الحوار معنا في موقع (أثارة من علم).
أ. د. سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أبدأ أولاً بشكرٍ واجب لهذه الاستضافة الكريمة، وأسأل الله أن يشرح لي صدري، وأن ييسر لي أمري، وأن يحلّ عقدة اللسان فأوفَّق لمناقشة ما أتوقع عرضه من أسئلة وإشكاليات دقيقة.
- المحور الأول: بين الدرس اللساني والدرس الأدبي
ما العلاقة بين اللسانيات والنقد؟ ومن أي وجه يتصل الدرس اللساني بالدرس الأدبي؟
أ.د. سعد: هذه المسألة لها وجهان: وجه عام، يتعلق بالجانب المعرفي (الإبستمولوجي)، أي: بالعلاقة بين العلوم؛ ووجه خاص، يتعلق بتطور موقفي الشخصي من النظر في هذا الموضوع. من حيث الوجه العام، يبدو لي أنّ الدراسات الأدبية ظلت حائرةً زمناً طويلاً إلى أن اهتدت إلى المُنطلق الطبيعي والمباشر والمُجدي في دراسة النص الأدبي، فمعظم الدراسات، بالنسبة للنص الأدبي، كانت تُعتبر دراسات خارجية وليست داخلية، يعني: دراسات عن النص، وليست في النص، وهذا فارق مهم. فنُظر إلى النص الأدبي من منظور التحليل النفسي: أي أن العمل الأدبي مرآةٌ لذات صاحبه، ونُظر إلى النص الأدبي من منظور اجتماعي: أي أن الأدب ثمرة العلاقات المجتمعية التي شكّلت الأديب ومن ثَمّ تُشكّل الناقد، ونُظر إلى الأدب على أنه وثيقة، سواء أكانت وثيقة اجتماعية، أم وثيقة نفسية، أم وثيقة تاريخية، كل هذه دراسات تُعتبر خارجية، بمعنى أنها دراسات عن النص الأدبي، وليست في النص الأدبي.
أخيراً، ومع تداول المدارس، فَطِن الناس إلى أنّ الأولى بالدرس الأدبي -لكي يكون له قوامه الخاص، ومنظوره الخاص- أن ينطلق من النص، وأنه -كما يقول المثل العربي القديم-: “كل الصيد في جوف الفَرَا”، لا شيء يقع خارج النص، وأي حكم نحكم به على النص، استحساناً أو استهجاناً، انبساطاً إليه أو نفوراً منه، إنما توجد مؤثراته ومحفزاته في داخل التكوين اللغوي للنص. من هنا، بدأت العقول تتجه إلى أقرب العلوم عطاءً، وأقرب العلوم رَحِماً بالأدب، وهو علم اللسانيات. بالتأكيد: علم النفس له صلة، علم الاجتماع له صلة، التاريخ له صلة، علم البيئة له صلة، لأن النص الأدبي نتاج معقّد مركّب، لكن أقرب هذه العلوم رَحِماً بالنص هو اللسانيات. هذا من الوجهة العامة. وقد فَطِنتُ إلى هذه الفكرة منذ زمنٍ طويل، ربما من بواكير عمري، لكن كان من حُسن حظي، ومن سَوالِف الأقضية -كما يقولون- أنّي حين تخرجت في (دار العلوم) عُيّنتُ -غيرَ مُرَحِّبٍ على الإطلاق- في قسم علم اللغة (أو: اللسانيات)، وأُجبِرتُ -غير مُرَحِّبٍ وفي غير ما هشاشة ولا بشاشة- على أن أتخصص في الصوتيات، بعد أن كان اتجاهي كله إلى الأدب والنقد الأدبي، لكنّي قبِلتُ التحدي، وأحببت التخصص فعلاً. ثم شاءت لي المقادير أن أعود مرة أخرى إلى النص الأدبي، لكن من طريق اللسانيات. فأظن أنني لو تخصصتُ مباشرةً في النقد الأدبي يمكن أن يكون إسهامي عادي، كعشرات الإسهامات الشائعة أو الدارجة، ولو تخصصت في اللسانيات وقبَعتُ في جُحرها دون أن أمدّ عيني إلى النص الأدبي، لكنتُ أيضاً سأكون أحد المشتغلين المحدودين بهذا العلم، لكن هذه التحويلةَ من تصاريف القدر، وهو قدر حبيبٌ إليّ جداً، ولو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرت ما غيرتُ الطريق.
كيف أثّر تخصصكم في اللسانيات على دراستكم للأدب؟
أ.د. سعد: أنا طريقي إلى الأدب طريقان، الأول: بدأته بـ(الأسلوبية الإحصائية)، وأول عملٍ خرج لي في هذا المجال كان عام 1980. والحقيقة أنني أردتُ أن أُحدِثَ شيئاً من الصدمة في السياق المعرفي الموجود، فالغالب على كثيرٍ مما كُتب هو الأحكام الانطباعية غير المؤسَّسة، التي لا يشهدُ لها دليلٌ أو قرينةٌ من البنية اللغوية للنص. وهذه الأحكام الانطباعية يمكن أن تكون صادقة، لكن كونُها غيرَ قائمةٍ على نوع من التأسيس العلمي يُدخل الضّيمَ عليها ويعيبُها. لذلك، رأيتُ أن أسير إلى نهاية الطريق المعاكس، وهو: أن أدخل إلى النص الأدبي من باب الإحصاء، وقد كان هذا صدمةً لكثيرٍ من المشتغلين بالنقد الأدبي، وكانت حُججهم أن اللجوء إلى المعادلات الرياضية فيه من الجفاف ما يُنافي طبيعة النص الأدبي، الذي يفترض أنه نص يشع بالجمال ويشع بالعواطف والمشاعر والأحاسيس. لكن ذلك كان هدفي فعلاً؛ إذ كنتُ أريد أن أقول إن أي حكم انطباعي يصدر عن ذوقٍ مُختص وذوقٍ مُدَرَّب لابد أن يكون شاهده موجوداً في النص، ولابد أن يكون ثمّة طريقٌ للعثور عليه داخل التكوين اللغوي للنص، من طريق الإحصاء. وقد كان لي ما أردت في عملين أراهما مهمين هما أول الأعمال التي كُتبت في هذا الباب في اللغة العربية على الإطلاق، وأظن أنني كنتُ وسيطاً مَعْرِفياً لا بأس به في هذا الباب.
الثاني: هو أنني مُنذ ابتداء خطواتي الأولى في طريق اللسانيات، كان تخصصي الصوتيات، وكانت رسالتي في الدكتوراه بحثاً في (الأسس الفيزيائية للتقفية في الشعر العربي)؛ وبذلك، جاءت هذه الدراسة من حيث المادة أدبية، ومن حيث التقنية والمنهج والاختبار صوتيةً مُختبرية. وهذا ذهب بي إلى البحث عن الخصائص الصوتية، أو التماس التأسيس الموضوعي للمشكلات الصوتية في النص الأدبي، فحكّمتُ المُختبر الصوتي في قضايا القافية الشعرية.
هل لك أن تعرف القارئ بـ(الأسلوبية الإحصائية)؟
- المحور الثاني: الدرس اللغوي وعلوم الشريعة
ما الصلة بين الدرس اللساني وعلم (أصول الفقه).
أ.د. سعد: أنا أظن، وهذه عقيدتي، وهذه عبقرية اللغة العربية، وعبقرية الثقافة الإسلامية بوجه عام، أن اللغة العربية بجميع فروعها اللغوية والأدبية هي -في رأيي- كتابٌ واحد يخدم بعضه بعضاً، وفي قلب هذه المجرّة التي تدور فيها الأقمار، يأتي القرآن الكريم. القرآن الكريم هو الكتاب المُلهِم، والأصل والمصدر لجميع علوم اللغة العربية على اختلافها. وهذا أيضا أحدُ تجليات عقيدة التوحيد، فكما أنّ التوحيد هو عقيدة المسلم، فوِحدة النص القرآني، وقداسته، وهيمنته، ووقوعه في موقع الجاذبية بالنسبة لجميع هذه العلوم يُعطيه هذا المكان المتفرّد.
فبالنسبة إلى علم (أصول الفقه): فجوهر مهمة الفقيه الأصولي هو استنباط الحُكم من الدليل، والدليل إذا كان دليلاً قولياً فاستنباط الحكم منه يحتاج إلى القدرة على التعامل مع النص اللغوي، هذا التعامل يمكن أن يكون بطريقة تقليدية، عن طريق التحليل النحوي، والصرفي، ويمكن أن يكون من أفق لساني واسع يستوعب كل توجهات النص. ومن هنا، كل علوم الشريعة وجدَت لها مجازاً يعبُر بها إلى علوم اللسانيات، وإلى الآداب كذلك. فمَبحث الإعجاز كان هو المَعبر بين علوم الشريعة وعلوم البلاغة العربية، فقد اختصت البلاغة بمَبحث الإعجاز، ثم عبرَت من مَعبر الإعجاز القرآني إلى الكشف عن جماليات النص الأدبي، وأخذت تدرُس النصوص البشرية بوجهٍ عام. فهناك عبور سلس بين علوم الشريعة بوجهٍ عام وبين علوم اللغة، لأن اللغة هي المادة التي يستنبِط منها الفقيه حكمه الشرعي.
من هنا، فَطِن كثير من الزملاء، والأبناء، في الجيل السابق لي، والجيل الذي أتى بعدي، إلى أنّ علم (أصول الفقه) ينطوي على مباحث دلالية عميقة، من حيث: دلالات اللفظ، دلالات العموم، دلالات الخصوص، التقييد، الإطلاق، اعتبار المجاز في النص، مفهوم المخالفة ومفهوم الموافقة وغيرها. وكل هذه قوانين جادَ بها علم أصول الفقه على المَبحث الدلالي. ومن هنا، ما دام القرآن جاء معجِزاً لكل متكلم بالعربية فإنه لابد لأيّ علم، يعالج هذا الكتاب العظيم، أن يكون له مدخلٌ إلى الدراسات اللغوية عامة، ثم الدراسات اللغوية من هذا الجانب أيضاً.
هلا حدثتنا عن تجربتكم في إعراب القرآن في موسوعة: (التفصيل في إعراب آي التنزيل)؟.
أ.د. سعد: أنا ما كنت لأفكر فيها لأنه عمل شاق جداً، وعمل مُضنٍ إلى أبعد الحدود، يتطلب كثيراً من الجهد والدقة والدأب، ومحاولة الإحاطة بالتفاسير، وبكتب الإعراب -وما أكثرها في اللغة العربية-. لكنّ الفضل فيه يرجع إلى أخي وصديق العمر المعرفي، الدكتور عبداللطيف الخطيب -رضي الله عنه-، فهو الذي زيّن لي هذا العمل، وأخذ يُحسّنه لي ويحرّضني عليه، إلى أن دخلنا في الموضوع فلم نخرج منه إلا بعد ستة عشر عاما. قمنا بتوزيع أجزاء القرآن فيما بيننا، وكانت غايتنا من هذا هي أن نؤلف كتاباً في إعراب القرآن يُحيط بكل الوجوه التي ذُكرت في الموضع الواحد، وأن نجمع كل ما كتبه المتقدمون في مسألة الإعراب في الموضع الواحد، بقدر الطاقة الممكنة والاستيعاب. وكانت هذه هي الاستراتيجية، وزدنا على ذلك: التنبيهَ إلى مواضع الإعراب في المصادر المختلفة، مع ذكر الأماكن والإحالات التي تُحيل إلى المكتبة القرآنية بوجهٍ عام، سواء أكانت مكتبة تفسير أم مكتبة إعراب. ثم زدنا على الزيادة: ترتيبَ الآراء في الموضِع الواحد بحسب الأرجحية، وتقديم ما هو أرجح على ما هو مرجوح، وكان لنا تدخّلات اقتضتها المواضِع نفسها، مثلاً: إذا كان هناك رأي يمكن أن يقال لكن لم نجده عند المتقدمين.
كذلك، كانت هناك عناية خاصة، أيضا، بإعراب الجمل، لأن إعراب الجمل لم يلقَ عنايةً كبيرة في كثير من كتب التفاسير. أيضاً، حاولنا أن نبسّط لغة الإعراب بحيث تكون سهلةَ المتناوَل لقارئ اليوم، فحاولنا أن نقدّم خدمة فيها شيءٌ من الشمول للنص القرآني، لنقرّب الفجوة بين قارئ اليوم وقارئ الأمس. وانتهينا بحمد الله من هذا المشروع كما ذكرت في ستة عشر عاماً، وما كنت أعتقد أنه سيأتي اليوم الذي سيكون فيه مطبوعاً وماثِلاً بين أيدي الدارسين، لكن الله يسّر لنا ذلك، أو يسّرَنا لذلك، والحمد لله على ذلك حمدا كثيراً طيباً.
إلى أي حد تعددت وجوه الإعراب في الآية الواحدة أو في الموضع الواحد، في تجربتكم في إعراب القرآن؟
أ.د. سعد: قليلاً ما يمرّ موضِع لا نجد فيه أكثرَ من وجه، وتغيّر الأوجه يُعطي احتمالات كثيرة للمعنى. وقد تبلُغ الوجوه الإعرابية في الموضع الواحد، أحياناً، خمسة أوجه، أو عشرة أوجه، وقد تبلغ عشرين أوما فوق العشرين. وفي كل ذلك تجد تبدلاتٍ وظلالاً للمعنى مختلفة. وأتذكر أنه في بعض المواضع زادت الأوجه على العشرين. والغريب أن قارئ الآية لا يُحِسّ عند قراءتها بأي عُسرٍ أو جَفوة، لكن الإعراب يفتّق المعنى كما تتفتق الزهور من أكمامها، هذه خدمة النحو للقرآن وخدمة القرآن للسان العربي.
والقضية المرتبطة بتعدد الأوجه -وقد لفتُّ الأنظار إليها كثيراً-: أنّ الذين ترجموا معاني القرآن إلى ألسنة أخرى، كانت أمامهم هذه المشكلة، لأنه يَعسُر أن يجد في اللغة التي يُترجِم إليها تركيباً يكون حَمّالاً للأوجه، وحمّالاً للتعدد بنفس الطريقة التي نجدها في النص العربي. ومن هنا، سنجد المترجِم في أغلب الأحيان يأخذ وجهاً واحداً يقتنع به ويجعله مُعتَمَدَهُ في عملية الترجمة، ويظل الأصل غنياً بالأوجه الأخرى، لا يمسها المترجِم من قريب ولا من بعيد. هذا وجهٌ آخر من أوجه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، وأعتقد أنه، أيضاً، مجال ينبغي أن يهتم به الدارسون: فأيُّ المعنين يُترجِم المُترجِم، إذا تعددت معاني اللفظ أو التركيب في الآية القرآنية؟ سيختار المترجم، في الغالب، المعنى المتبادِر، ويترك المعنى الآخر، ويظل الأصل حاملاً لهذا التعدد الجميل، الذي لا يستقل بنقله لسانٌ غير العربية.
يٌقال: كانت العربية، وحينما نزل القرآن جعل منها لغةً مقدسة، وقد كان هناك الأدب، أو ما يسمى الأدب الجاهلي قبل القرآن، لكن حين جاء القرآن يبدو أنّ ثورةً قد حصلت في العربية، فما الذي أحدثه القرآن في اللغة؟
أ. د. سعد: هذا صحيحٌ تماماً؛ لأن القرآن ليس ثورةً على مستوى العقيدة فقط، ولا على مستوى النظم الاجتماعية، فقط ولا على مستوى البِنية الاقتصادية للجزيرة، هو كل هذا؛ لكن القرآن إعجازُه الحقّ في أنّه كان مِساكاً وعَموداً فِقريا للغة تعيش به إلى غير المنظور من السنين. وعلى ذلك، كلٌّ يَطرَب للقرآن على طريقته: العامل البسيط ذو الحظ الضئيل جداً من اللغة ينعطف للقرآن، والعالم اللغوي يجد بُغيته في القرآن، والعالم الفقيه والعالم المتكلم. “كلُّ الصيد في جوف الفرا”، بين هاتين الدفتين. وحسبك بالثورة اللغوية التي أحدثها القرآن أعطى نموذجاً يظل النجم الذي تهتدي به العصور والأجيال المتعاقبة، (وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون)، والنجم الذي يحفظ هذه اللغة، ويجعل منها ظاهرةً فذّةً وشاذّةً في تاريخ اللغات. لم يحدث أن تجد إنسان القرن الحادي والعشرين يقرأ نصاً في سنة ثلاثمئة ميلادية ويجد هذه الصلة القريبة به، هذا ظاهرة في تاريخ اللغات لم تتكرر ولا أظنها تتكرر.
التغيّر مطلوب، والتطور مطلوب، لكن التطور الذي لا يمسكه لجام جَموح وقاطعٌ لأول الأمر عن آخره. اللغة العربية فقط، وبفضل القرآن، قدّمت ظاهرةً مختلفةً كلّ الاختلاف في تاريخ اللغات، أي لغة حديثة الآن تمتد لبضع مئات من السنين، وتاريخها القديم مُنقطعٌ عن تاريخها الحديث، لا يدركه ولا يعرفه إلا العلماء الدارسون المختصون؛ والأمر على عكس ذلك تماما في اللغة العربية، فحسبك بهذه النعمة التي نحن فيها والتي يعني يجسّد القرآن ثمرتها وفضلها على اللغة وعلى المتكلمين بهذه اللغة.
في القرن في أوائل القرن العشرين جاءت دعوة في مصر إلى ترجمة القرآن للعامية، وكان صاحب هذه الدعوة مستشرق إنجليزي كان قيّماً على دار الكتب المصرية، ودخل إليها بمدخل أننا نريد أن نيسر للفلاحين لأن يفهموا معاني القرآن، ماذا يفهم الفلاح عندما تقول له: (وآتوا النساء صَدُقاتهنّ نِحلة) ما معنى: صَدُقاتهنّ؟ وما معنى: نِحلة؟ لابد أن نترجم له الآية، لكي يفهمهما، إلى لغته اليومية التي يتعامل بها مع زوجه وأولاده وبني قريته. فهذا -كما ترى- نوعٌ من تزيين الشيطان، أصحاب الكتب السماوية الأخرى عندما ترجموها من اللاتينية إلى اللغات المعاصرة خدموا المتدينين وأتاحوا للمتدينين أن يفهموا النص المقدس بعيداً عن سطوة الكهنوت، استُجيب لهم في ذلك وأصبحت الترجمة إلى اللهجات: الفرنسية كانت لهجة، والإنجليزية كانت لهجة، والإيطالية كانت لهجة. أصبحت الترجمة إلى اللهجات تعبُّد، عبادة لأنها تٌتيح النص المقدس لمن لا يفهمونه. وهم كانوا يريدون أن يكرروا هذه التجربة مع القرآن، لكن هذا الأمر لم يحدث في اللغة العربية، وتأبّى القرآن على كثير من القواعد التي أقرها النحو، القديم، وتأبّى القرآن على الترجمة، وتأبّى القرآن على كل المحاولات التي أرادت أن تجعله نصاً تابعاً وخادماً للنظريات المستوردة . هنا تكمن المعجزة. ولذلك ما دام هناك قرآنٌ يُتلى فهناك العربية. ويزيد الأمر جلاءً ووضوحاً أن كل وسائل الاتصالات الحديثة هي الآن في خدمة القرآن؛ تسجيلاً، وإذاعةً، ونشراً. فكل الوسائل التي لم يبتكرها المسلمون، وابتكرها غيرهم، جعلها الله في خدمة القرآن.
بينما غاية اللغة هي تحصيل المعنى إلا أنّ العربية يبدو أنها توسّع المبنى فيتسع المعنى.
أ.د. سعد: نعم، من الأفكار العبقرية التي جاء بها تشومسكي: فكرة الفرق بين يسمونه المعنى (السطحي) surface structure والمعنى (العميق) deep structure (أنا لا أحب هذا المصطلح، أنا أقول: المعنى (الظاهر) والمعنى (الباطن)، توظيفاً للمصطلح الأصيل).
ولا تنهض لغة بواجباتها ولا تعطيك آثارها لغة كاللغة العربية، مثلاً: في آية سورة الدخان نجد قوله تعالى: (أمراً من عندنا إنّا كنا مرسلِين رحمةً من ربك): فالنصب في (رحمةً) قد يكون على المفعولية: (مرسلين رحمةً) ، وقد يكون على أنه مفعولٌ مطلق مؤكِّد، وقد يكون حالاً: مرسلين راحمين، وقد يكون مفعولا لأجله: من أجل الرحمة، كل هذه احتمالات واردة. وهنا الإتاء أو الثروة لا تأتي من المعجم، لأن الكلام هو الكلام، إنما الإتاء والثروة من احتمالات تأويل المبنى، تأويل بنية الجملة. وقِس على ذلك كثيرا جداً في القرآن كله، طولاً وعرضاً. ومن هنا، أنا عشت زماناً حائراً جداً أمام قوله تعالى: (ولو أنّما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدُّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله). كلمات الله محصورةٌ بين جلدتين، تبدأ بسورة الحمد وتنتهي بسورة الناس، كيف لا تنفد؟ هذا هو مظهر من مظاهر عدم نفاد كلمات الله: تَقرأ الآية الواحدة، فسواء قرأتها على قراءةٍ واحدة، أو بتعدد القراءات، أنت في بحرٍ ممتدٍ من احتمالات المعنى التي يَصعُب أن تجعل لها حدوداً.
إذن نقول: اتسعت الرؤية وضاقت العبارة؟
أ.د. سعد: نعم، فعلاً، وهذا فيه حلّ لمشكلة النّفّري. هنا: اتسعت الرؤية وثبتت العبارة، لا أقول: ضاقت، ولكن ثبتت. العبارة كما هي، لكن الرؤية لا متناهية؛ فبأي الأمرين أخذت: بقراءةٍ واحدة، أو بتعدد القراءات، مع ثبات البنية الظاهرة، تجد أن البنية العميقة تضعك أمام احتمالاتٍ للمعنى لا تكاد تُحيط بها. هم يقولون إنّ النص الديني بوجه عام هكذا، لكن النصوص الدينية الأخرى ليس لها هذه المَيزة من جهة اللغة، قد يأتيها هذا الأمر من جهة الحكايات، ومن جهة الأساطير، إنما من جهة اللغة في ذاتها بنيةً واحتمالاً، لا تجد هذا إلا في العربية.
- المحور الثالث: بين اللسانيات الحديثة واللغة العربية
هل هناك هيمنة غربية على اللسانيات الحديثة، وما أثر ذلك على اللسانيات العربية برأيكم؟
أ.د. سعد: أما الهيمنة، فهذا واقع بكل تأكيد. لأن الرؤى والنظريات الحديثة في مجال اللسانيات هبّت علينا من العُدوة القصوى؛ من الغرب. وقد كان لاتصالنا بها فوائد جمّة، ولاتزال هذه الفوائد والعوائد لها أثرها في السياق المعرفي المعاصر. وربما كانت القضية في اللسانيات أهونَ منها في موضات نظريات النقد الأدبي، لأننا نلاحظ في النقد الأدبي أن هناك سباقاً لاهثاً وراء كل ما ينشأ في الغرب من نظرية، واستجلاباً لهذه النظرية، وقَسراً لها على أن تلتبس بواقع النص العربي عَنوة واقتداراً.
والحق أن اللسانيات قد تكمن مشكلتها الأساسية في أن منزلتها من العلوم الإنسانية المعاصرة كمنزلة الفلسفة من العلوم القديمة، فقد أصبحت أساسية، والمعرفة بها أساسية في كل علم من هذه العلوم . ومن هنا، تداخلت مع علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة، وعلم الاقتصاد، بل العلوم الفيزيائية، والعلوم الهندسية إلى كل هذه العلوم.
بعد ما يزيد عن عشرين عامًا، من نشركم لبحث (اللسانيات العربية، في حصاد الخمسين(1) كيف ترى حال اللسانيات العربية والتراث، في حصاد (السبعين)؟ وهل ثمة من جديد يصلح ليكون منطلقاً أو أفقاً للنهوض بحال اللسانيات العربية والتراث؟
أ.د. سعد: أنا لي رؤية خاصة في هذا الموضوع: أنا لا أرى باللحاق باللسانيات الغربية بغرض التطبيق الفوري والجاهز على المادة العربية، وأرى أن علينا -أو على النخبة منّا الذين يجيدون الألسنة الأخرى، ويجيدون الاطلاع عليها، ويجيدون المعرفة بمشكلات ثقافتهم وبمشكلات لغتهم-، عليهم واجب القيام بمهمة الوسيط المعرفي؛ الوسيط المعرفي ينظر بعينين وينظر إلى مجالين. نحن في مرحلة طيبة إلى حد كبير، لأن، مثلاً، الذين استطاعوا أن ينتقلوا بالتركيز في الدرس اللساني من الاهتمام الذي اعتنت به المدارس الغربية التي تدرُس بنية اللغة كالبنيوية الأمريكية أو والتداولية أو غيرها، إلى الاهتمام بوظيفية اللغة، ولابد أن نشير في ذلك إلى بعض الأعلام المغاربيين: الأستاذ طه عبدالرحمن، وأحمد المتوكل. هؤلاء قالوا: نحن لا يهمنا في المقام الأول بنية اللغة وتقعيد اللغة هذه مشكلة أهون كثيراً، إنما يهمنا وظيفية اللغة: كيف تُستخدم اللغة، كيف يتعامل بها الناس، ما الأغراض التداولية والأغراض المقامية؟ ما الأغراض الحجاجية التي يهتمون بها؟
الذين أفادوا من هذا الجانب هم يطبّقون وظيفة الوسيط المعرفي تطبيقاً جيداً، لأن فكرة البلاغة، مثلاً، بلاغة الحجاج جذورها موجودة عندنا، ومباحثها موجودة عندنا، ومبحث الإقناع موجود عندنا، لكنه يحتاج إلى تجديد، وإلى رؤى، إلى منظومة إجرائية للتحليل، ليست في أيدينا. هذا هو المُنجَز الحقيقي في اللسانيات، أو بما يمكن أن نسميه (حصاد السبعين).
أمر آخر: أن الاتجاهات اللسانية التي أفدناها من العُدوة القصوى كانت كلّها لسانيات مُستخرَجَة ومُستنبَطة من أرضية اللغات الأخرى، واللغات الأخرى مختلفةٌ في طبيعتها، ومعظم هذه اللغات لغات تتسم بـ(النَّسَق المنضبِط)، المقيد غير المتغيّر، واللغة العربية تنتمي إلى نَسَقٍ آخر للغات: (النَّسَق الحر)؛ فأنا أعتقد أن اللغة العربية وتراثها عنده ما يمكن تقديمه لنظرية في اللسانيات العامة بوجهٍ عام بحكم اختلاف طبيعة اللغة العربية عن طبيعة اللغات التي استُنبطت منها هذه المناهج وهذه الاتجاهات.
إذا أخذت فكرة الاتجاهات التي تعمل على مباني اللغة، فإنها -بكل تأكيد- تنطلق من لغات ذات نَسَق مُقيَّد، والباحثون يحاولون بشكلٍ أو بآخر أن يُطَوّعوا اللغة العربية لمناهج مُستنبَطة من لغاتٍ تختلف عن طبيعة البنية العربية، هنا يأتي دورنا: ما الذي يمكن أن تقدمه البنية المتفردة للغة العربية لنظرية اللسانيات العامة من جهة إبستمولوجية؟ أي من جهة تصنيف العلاقات بين العلوم، مثلاً: العلاقة بين البلاغة والنحو في اللغات الأخرى تختلف عن العلاقة بين البلاغة والنحو في اللغة العربية، بحكم أن اللغة العربية لغةٌ ذاتُ نَسَقٍ حرّ، ومن هنا يمكن معرفياً أن تكون العلاقة بين علوم اللغة المستورَدة غير العلاقة التي يمكن أن نأخذها من وضعنا الحالي. هناك مجال كبير جداً لأن تقدم اللغة العربية سُهمَتها في نظرية اللسانيات؛ سواء من جهة المبنى، أو من جهة وظيفية اللغة، مثلاً: مبحث الإنشاء والخبر في البلاغة، وعلاقته بالاتجاهات التداولية؛ فعندما تفارق قضية البنية ستجد مجال الكلام ذا سعة، عندما تأتي إلى النظريات المبنية على البنية تجد أن اللغة العربية عندها ما تقدمه لنظرية اللسانيات العامة، من جهة أن بنيتها ذات طبيعة مغايرة ومخالفة لطبيعة اللغات التي استُنبطت من الاتجاهات الغربية. لكن هذا مجال لا يرتاده الباحثون كثيراً، وأعتقد أن الأجيال القادمة أمامها عمل كثير جداً لم نقربه بعد، ولم نمسّه إلا بأطراف البَنان.
وهنا أؤكد: يهمني من اللسانيات الغربية أن أعرفها معرفة المختص، لكن عملية المواءمة والتطبيق والاستفادة والتطوير هذه رهينةٌ بمشكلات لغتي، ومشكلات ثقافتي: عيني على أسئلة لم تستطع ثقافتي أن تجيب عليها، عيني على أسئلةٍ جديدة مطروحة على ثقافتي، وبقدر احتياج ثقافتي أستفيد من الغرب. لكن أن أطبق المنهج التحويلي التوليدي على ديوان حاتم الطائي، فهذه فائدة للتوليدية التحويلية، وليست فائدة للغة العربية، وهذه فرصة للتحويلية التوليدية أن تُطَبّق على ديوان شعر عربي، قد يستفيد منها الدرس الغربي نوعاً من الاستفادة، لكنّها -في رأيي- لا تقدم شيئاً للعربية، وللدارس العربي. فلدينا مشكلة التطبيق الميكانيكي الآلي التلقائي، الذي يحمل قبعة تشومسكي ويكبسها في رأس الإمام عبد القاهر، أو يحمل عمامة عبد القاهر ويلفها حول رأس تشومسكي، هذا في العلم عبث. قراءة اللسانيات الغربية لابد أن تكون بوعي، والوعي الأساسي فيه معرفتي بمشكلاتي، معرفتي بما أحتاجه، وقدرتي على استنباط أسئلةٍ لم يسألها المتقدمون، وأستعين بمعرفتي على الإجابة على هذه الأسئلة، ثم توارد الأسئلة هو الذي يزكّي العلم.
ولذلك، أريد أن أقول: إن لدينا مرضاً هو مرض الموضة؛ فإذا سمع أحد أن هناك رسالة عن التداولية -مثلاً في قصص أحد الأنبياء في القرآن الكريم- (كأن نقولَ مثلاً: دراسة التداولية في قصة سيدنا نوح عليه السلام)، فسيصبح عندك رسائل عن التداولية في قصص جميع الأنبياء في القرآن، لأن الباحث لا يريد أن يتعب نفسه، فيأتي بالنموذج ويطبقه؛ وهذا عبارة عن استنساخ مكرور. وهذا الأمر ليس في التداوليات وحدها، ولكن أيضا في الحجاج، وكان قبل ذلك، -في جيلي- في اللهجات؛ الجيل الأول الذي ذهب إلى مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن (ساوس) درس في اللهجات: اللهجة اللبنانية، ولهجة الكرنك، ولهجة عدن، ولهجة الصعيد. أعداد الرسائل التي صُنعت في اللهجات لا حصر لها.
هذا داؤنا العياء: الكسلَ وتشجيع الباحثين على الكسل، وهذه مشكلة المشرفين، فلو أن المشرف قال له: لا أقبلك تلميذاً لي إلا أن تصنع شيئا ذا بال، فسيصنع وسيٌجيد.
في مسألة التفاضل بين اللغات، يقال أن العربية لغة أهل الجنة، وقد قال الثعالبي: العربية خير اللغات، أما ابن حزم في (الإحكام) فيقول: إن ذلك وهم. فهل هناك تفاضل بين اللغات من منظور علم اللسانيات؟ أم أن ذلك وهم؟
حقيقة الأمر أنه لا الذي يقول إن العربية أفضل اللغات لديه دليلٌ قاطع، ولا الذين يقولون إن جميع اللغات سواء في الإبلاغ والبلاغ أيضاً لديهم دليلٌ قاطع؛ والدليل القاطع إنما يكون عن استقصاء تام لكل الألسنة التي عرفها الإنسان على ظهر الأرض، وهذا الأمر لم يتيسر لا لهؤلاء ولا لهؤلاء. لكن، نحن لدينا قرائن يمكن أن نستفيد منها وأن نقول رأياً في هذا الموضوع: فيكاد يكون إجماعاً بين اللسانيين أنه ليست هناك لغةٌ تفضل لغةً في البلاغ والبيان، وأن كل اللغات قادرةٌ على توصيل الرسائل التي يريد البشر أن يتداولوها فيما بينهم، وقد درجتُ على اعتناق هذا الرأي بحكم انتمائي إلى تخصص اللسانيات منذ زمنٍ ليس بالقليل، (فأول ابتداء اشتغالي لدرجة الماجستير كان عام 1964 من القرن الماضي)، فهذا زمنٌ طويل يمر الإنسان فيه بعدة مراحل؛ منها مراحل يغلب عليها التلقي والتسليم والإعجاب والانبهار، ومراحل أخرى يُعاد فيها التأمل في القضايا لكي يصل الإنسان فيها إلى رأي يكون حصيلة التجارب وحصيلة التفكر في الموضوعات.
فدرجتُ زمناً وأنا أؤمن بهذا الرأي؛ لكن حقيقةً، تبين لي أن الأمر يمكن أن يكون على خلاف ذلك؛ فكل اللغات سواء في الغاية الاستراتيجية: غاية البيان، ما يعني أن كل إنسان يستطيع أن يُبلِغ رسالته بأي لسان إلى المستمع؛ لكن، بتأملَ كيفيات الإبلاغ، وقدرات اللغة على تمكين المرسل من الإبلاغ، تَبيّن لي أنها تختلف اختلافاً كبيراً من لغةٍ إلى لغة، فإذا أخذنا مثلاً بسيطاً وهو تناول الطعام: فكلّ طعامٍ في نهايته يؤدي إلى الإشباع، لكنّ ألوان الطعام على اختلافها تتفاوت من حضارةٍ إلى حضارة، ومن ثقافةٍ إلى ثقافة. وكذلك الإنسان؛ يمكنه أن يستر نفسه بأي لباس، لكن الآن الموضات والأزياء والألوان لها معاهد ولها مدارس ومتفاوتة تفاوتاً كبيراً جداً بين الحضارات. هكذا، تبيّن لي أن اللغات كذلك، فاللغة العربية لها من الميزات الظاهرة لنا – في حدود ما نعلم من اللغات، اللغات التي لنا بها خبرة كاللغات العالمية المعروفة: الإنجليزية والفرنسية- لها من الميزات ما يصعب أن تجد له مكافئاً أو نظيراً في اللغات الأخرى.
هناك من يرى أن التفاضل بين اللغات راجع إلى نظرة آيديولوجية، بمعنى: أن من يرى ثقافته مستعلية يرى بأن لغته كذلك، فهل هناك خصائص وسمات لغوية معينة يُحال إليها عند القول بالتفاضل؟
أ.د. سعد: هناك تعديلان على هذا الأمر: فكرة إعجاب كل قومٍ بلغتهم هذه دارجة في جميع الحضارات، وطبيعية جداً: تسمع ذلك من الروس عن الروسية، ومن الفرنسيين عن الفرنسية، ومن الإنجليز وهكذا، وقد تنفر بعض الطبائع من مجرد سماع المتكلم يتكلم بلغةٍ لا يفهمها. لكن، نحن سنحاول أن نعالج المسألة معالجة علمية؛ والمعالجة العلمية لابد أن تكون بقرائن ودلائل، وإلا سيكون الكلام مرسَلاً، ويكون لكل إنسان أن يدعيَ ما يدعيه.
في تصنيف اللغات السائد هناك نوعان من اللغات: لغات ذات نسق مقيّد، تثبّت نسق الجملة فيها، حيث يكون نسقاً ثابتاً، فلا يمكنك أن تقدّم كلمةً على كلمة لكي يكون الكلام صحيحاً مفهوماً، وهذه عادةً يطلقون عليها بالإنجليزية: fixed order language ، ولغات ذات نسق حر، فيها حرية التقديم والتأخير، مع بقاء المحتوى ثابتاً، وتسمى: free order language. وحرية النسق هذه لا تتوافر إلا في عددٍ محدودٍ -بالنسبة للكم الهائل الذي يزخر به العالم- من اللغات، واللغة العربية في القلب من هذه اللغات. فأنت تستطيع أن تقول مثلاً: أكرم زيدُ عمراً، وأكرم عمراً زيدٌ، وزيدٌ أكرم عمراً، وعمراً أكرمه زيد. كل هذه الأشكال تعبر عن لبّ المعنى: أنّ هناك من أَكرَم، وهناك من أُكرِم، وهناك كرمٌ حاصل. أنت لا تستطيع أن تتعامل بمثل هذه الحرية مع الإنجليزية مثلاً -والإنجليزية لغة كثيرٌ منّا على علم بها-، ولا تستطيع أن تتعامل بهذه الحرية مع الفرنسية. هذا الأمر يعطي اللغة، من حيث بنيتها، ميزةً ليست للغات التي لا تتمتع بهذه الميزة، ويترتب على ذلك نتائج بعيدة المدى، سواء في شعر هذه اللغة، أو في بلاغتها،، أو في طرق التعبير التي تتيحها اللغة للمتكلم بها. وإذا دخلنا إلى الموضوع من هذا المدخل، فيمكن علمياً، وبدليل بسيط ومباشر، أن ندرك أن لبعض اللغات مَيزة على بعضها الآخر. وعلى ذلك، نقول – بلا عنصرية، وبلا فخر، وبلا ادعاء-: إن البنية النحوية للغة العربية هي بنية حرّة، فيها التقديم والتأخير.
الميزة الأخرى للغة العربية أيضاً: أنها لغة اشتقاق، فأنت تستطيع من جذرٍ واحد أن تشتقّ عشرات الأفعال، وعشرات الكلمات، وعشرات الصيغ، التي يتباين فيها المعنى، وتتباين ظلال المعنى، مثلا: (يُخادعون الله والذين آمنوا وما يَخدعون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون)، (وما يخدعون إلا أنفسهم)، (يخادعون الله والذين آمنوا)، (يُقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتَلون)، ستجد أنه حتى في ترجمة معاني القرآن في الإنجليزية، فكل هذه الأفعال تُترجم بأفعالٍ مختلفة، لا تُترجم عن طريق الجذر والصيغة، يعني: قاتل fight ، قتل to kill ، أو slay، أيضا: قتّل (أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلا) فكرة المبالغة والتكرار. هاتان الميزتان للغة العربية تظهران جيداً عندما تتوارد اللغات على نصٍ واحد، تحاول أن تنقل مضمون هذا النص إلى المستمع، ومن هنا: اللغة بطريقة الاشتقاق تجمّع فكر المتكلم بها، وتجمّع فكر متلقيها. وبقدرتها، أيضاً، وحريتها في عملية الترتيب والتقديم والتأخير تحتوي الغرض البلاغي داخل التركيب النحوي، لأنّه إذا قال الله تعالى: ( إنّا كلَّ شيءٍ خلقناه بقدر) هذا سيعطي معنى مختلفاً، أو لوناً من المعنى، أو ظلاً من المعنى، مختلف عن قراءة: (إنّا كلُّ شيءٍ خلقناه بقدر). القراءتان موجودتان، وبلغ من الاختلاف بينهما أنّ المعتزلة يحتجّون بقراءة وأهل السنة يحتجّون بقراءةٍ أخرى، كلُّ يذهب إلى القراءة التي تخدم مذهبه، معنى ذلك أن الفارق فارق ليس بقليل بين: (إنّا كلَّ شيء)ٍ، (وإنّا كلُّ شيء).
فإذا كانت البنية النحوية من القدرة والتنوّع بحيث تخدم وجهات نظر، واتجاهات كلامية، واتجاهات فلسفية، وأحكاماً فقهية مختلفة، فإن هذا يدلّك على أنّ هذه البنية ليست بنيةً عبثية، لا يكون التقديم والتأخير فيها لمجرد تلوين الكلام، وإنّما ينشأ عن هذا التقديم والتأخير فروق وخلافات خطيرة جداً تفرّق بين مذهبٍ ومذهب، وبين اتجاهٍ واتجاه.
هذا بالنسبة لفكرة التفاضل، أما نتيجة هذا التفاضل فأشياء كثيرة جداً نستطيع أن نتكلم فيها، ما يترتب على الاختلاف بين الـfree order language والـ fixed order language أمورٌ كثيرةٌ جداً، ومعاينة ومقدورة ومحسوبة، وهي ليست مناطا للجدال.
كتبتَ بحثَ (العربية من نحو الجملة إلى نحو النص) عام 1988 (نُشر في عام 1990)، فهل يمكن أن تحدثنا عن هذا (اللسانيات النصية)، وكيف بدأت وإلى أين وصلت؟
أ.د. سعد: نعم، أولا: فكرة (نحو النص) فكرة لم تنشأ إلا في ستينيات القرن الماضي، ومعنى ذلك أنّها فكرة جديدة حتى على اللسانيات الغربية، ولفت اللسانيون الغربيون الذين كتبوا في هذا الاتجاه إلى فكرة بسيطة جداً تقول: إن الإنسان لا يتكلم جملةً واحدة، ولا يتكلم سلسلةً متعاقبة من الجمل، وإنما يعبّر عن مضمونٍ بطريقة يمثّله مُنَتج مرتبط بعلاقات عامة، يمكن أن نقول إنها النص؛ وعلى ذلك، فعليك أن تبحث لا عن بنية الجملة التي قامت عليها الاتجاهات الوصفية الغربية: هوكت، وتشومسكي، وبلومفيلد وغيرهم، وإنما أن تبحث عن العلاقات التي تُنتج نصّاً ذا فكرةٍ واحدة، وإنْ تجسّد في عدد من الجمل المتعاقبة، وعليك أن تبحث في هذه العلاقات المعنوية، وعلاقات المعاني، وعلاقات المباني. وقد كتبت سنة 1988 تقريبا مقالاً -أقول: كان من أوائل المقالات، وربما يكون أول مقال بعنوان (العربية من نحو الجملة إلى نحو النص)-: كل الأنحاء التي كانت تُدْرَس في العالم لِلُغات العالم حتى الستينيات كانت نحو الجملة، فليست العربية بِدعاً من ذلك، وكما دخلت فكرة نحو النص إلى اللغات الأجنبية، حاولنا أن نستفيد، وهذا معنى الاستفادة من اللسانيات الغربية، أن نستفيد من هذه الفكرة في إعادة النظر في المُنجَز اللساني أو المُنجَز النصي العربي.
الفكرة: أن جزءاً -مثلاً- من إعجاز القرآن لا في آياته آيةً آية، وإنما في بعض السور، وأنا أحذّر، وحذّرت فيما كتبت، من أن تَتَصور أنّ القرآن أنزله الله ليكون مصدقاً لزيريك هارس، أو لبيتوفي، أو لبايوجراند، أو لفلان أو لعلان؛ القرآن لم ينزل مٌصَدّقا لهؤلاء، وهؤلاء لديهم أفكار يمكن أن نستفيد منها في دراسة القرآن؛ لكن، إذا وجدتَ سورة كسورة (البقرة) لا تستطيع أن تدرسها بمواضعات بايوجراند وبريسلر وغيره فليس معنى ذلك أن القرآن نص مُفكك، هذا كلام لا يجوز. لكن بعض سور القرآن الكريم تتذوقها تذوقاً مختلفاً جداً إذا أنت نظرت إليها من منظور نحو النص.
وكان من أوائل ما وقعتٌ عليه، مثلاً، سورة الواقعة، سورة الواقعة تبدأ بـ( إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضةٌ رافعة إذا رُجت الأرضُ رجاً وبُسّت الجبالُ بَسّا فكانت هباءً مُنبثا وكنتم أزواجاً ثلاثة) يلفت النظر إنّ في سورة الواقعة بدأت بشرط: (إذا)، وقد ذهب علماء نحو الفطنة مذاهب شتّى في جواب الشرط، لأنه لا يوجد جواب شرط محدد، ونحو الفطنة (نحو العلماء) يفرض عليك أن تبحث عن جواب شرط، وجواب الشرط غير موجود: السورة في المقدمة تقول لك (وكنتم أزواجا ثلاثة)، وتتحدث عن كل فئة من هذه الفئات، إلى أن تأتي في آخر السورة وتقول (فلولا إن كنتم غيرَ مَدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأمّا إن كان من المُقرّبين فروحٌ وريحانٌ وجنةُ نعيم وأمّا إن كان من أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين وأمّا إن كان من المكذّبين الضّالين فنُزُل من حميم وتصليةُ جحيم فسبح باسم ربك العظيم). هنا جاءتني فكرة ما يُسمى في البلاغة: (رد الأعجاز على الصدور) على مستوى البيت، فيكون: (فسبح باسم ربك العظيم) هو جواب الشرط. ويزيدك يقيناً بهذا أنه في صدر السورة : (وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحابُ الميمنةِ ما أصحابُ الميمنة وأصحابُ المَشْأَمةِ ما أصحابُ المَشْأَمة والسابقون السابقون) لكن (النشر بعد اللفّ) هنا يسمونه: (النشر المُشَوّش) الذي هو إعادة التركيب، لأنه بدأ بـ(السابقون السابقون)، (أولئك المقرّبون في جنات النعيم)، (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين) لكن لكي يتحقق الوعيد، ويعلو صوت الوعيد: ثلّث بأهل المشأمة: (وأما إن كان من المكذبين الضالين فنُزُلٌ من حميم وتصليةُ جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم). هذا ممكن أن يُحِدث، وقد أحْدَث عندي -في بعض ما كتبت- ثورةً في البلاغة العربية: أن تحوّل البلاغة، التي هي بلاغة الشاهد والمثال والبيت والبيتين إلى بلاغة نص، فيتحول الأمر من ردّ عَجُز البيت على صدره إلى ردّ عَجُزِ النص على صدره.
هذا وجهٌ من وجوه الإعجاز في القرآن، لا يكشفه لك إلا النظرة النصية. وهناك كثير من السور القرآنية تبدو مختلفة تماماً في رؤيتها إذا نظرت إليها من الوِجهة النصية. لكن، هنا تأتي المشكلة: إذا أنت صنعت ذلك في سورة الواقعة، فهناك مئة وأربع عشرة سورة في القرآن، فهل معنى ذلك أن يَنْسِل الباحثون من حَدَبِهم فيصنعون مائةً وأربع عشرة رسالة، مادام الأمر مجرد تطبيق ميكانيكي؟ أنا قلت: هذا القرآن لا يُطلبُ منه، وليس مُنتَظَرا منه أن يكون مصداقاً للنظرية النصية، لكنّ النظرية النصية يمكن أن تُلْقِيَ أضواءً على نصوص معينة في القرآن الكريم. هذا هو العقل المطلوب عندما تستورد فكرة من الخارج، من ثقافةٍ غير الثقافة، ومن دينٍ غير الدين، ومن جو غير الجو، لتحاول أن تستفيد بها فيه.
كيف ترون مستقبل الدراسات في علم (البلاغة المقارنة)؟
- المحور الرابع: دور الباحثين في اللسانيات العربية
كيف يمكن أن يقدم البحث أو الباحث الأكاديمي إسهاماً في دراسة اللسانيات العربية، وهل لنا بأمثلة من رسائل أشرفت عليها؟
أ.د. سعد: مثلاً، أنا حاولت فيما أشرفتُ عليه تقديمَ بحوث في اللسانيات التاريخية، التي تكاد الرسائل فيها تكون معدومة، إلا فيما ندر، لأنها مشكلة في جمع المادة، وفي تحليلها أيضا؛ وجهد الباحث فيها أكثر من اللسانيات الوصفية. ففي اللسانيات التاريخية أنت القيّم على جمع المادة، ولابد أن تجري وراءها. وعلى ذلك، فقد حاولت أن أجعل بعض الرسائل التي أشرفتُ عليها في اللسانيات التاريخية، بل، لإيماني بالبينية، جعلت أحد تلاميذي النجباء يضع رسالة في (الأسلوبيات التأريخية)، فأخذته بدراسة رسائل من عبدالحميد الكاتب، الذي كان كاتباً لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، إلى القاضي الفاضل، الذي كان كاتبا لصلاح الدين الأيوبي في عصر الدولة الأيوبية ما بعد الفاطمية، وفيما بين ذلك: ابن المقفع، والجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وغيرهم. ليدرس تغيّر الأساليب في المادة الأدبية تحت وطأة الزمن. وبهذا، أظن أن تلميذي، تحت هذا الإشراف، صنع شيئاً مهماً: أولاً: يكاد يكون أعطى مؤشراً لعلم لا يكتب فيه أحد، وثانياً: صالَح بين التخصصات الأدبية والتخصصات اللغوية، واتخذ مساراً بينياً: المادة أدبية، والمنهجية لغوية، وثالثاً -وهذا هو الأهم-: أنه أحيا نموذجاً من الدراسة هو جديدٌ على النقاد في ميدان الأدب، لأنه يعطي لهم نموذجاً لسانياً في معالجة الأدب، فهذه فكرة.
أيضا، أعطيت رسالة عن (التوجيه الإعرابي للدليل الفقهي)، وهذه رسالة من أجمل الرسائل، درَس الباحث فيها (حروف العطف) و(حروف الجر)، وجرَد المسائل التي اختلف فيها الفقهاء حول معنى حرف العطف: (الواو) مثلاً يقولون إنها لمطلق الجمع والاشتراك: جاء زيد وعمرو، يعني: اشتركا في المجيء، لكن: في آية الوضوء: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسِكم وأرجلَكم -أو وأرجلِكم على اختلاف القراءة- إلى الكعبين)، من أين جاء اشتراط الترتيب في الوضوء؟ المعنى اللغوي للواو أنها لمطلق الجمع، فأنت إذا أخذت بهذا المعنى (مطلق الجمع) في هذه الآية لا عليك إذا بدأت بغسل الرجل، ثم اليدين إلى المرافق، ثم ثلّثت بمسح الرأس، لأن هذا مطلق الجمع. لكن هل من يفعل ذلك بمقتضى النحو يكون وضوؤه صحيحاً؟ قالوا: لا، والترتيب مأخوذ من وجود الممسوح بين المغسولات، لأنه لو لم يُرِد الترتيب ما قطع المغسولات بممسوح ثم أتى بمغسولٍ وهو الرجلين، فالإمام الشافعي أخذ الدليل على وجوب الترتيب من هذا.
ثم: هل (الباء) في (برؤوسكم) زائدة والأصل: رؤوسَكم معطوفة على المغسولات؟ أم أنها تفيد التبعيض؟ هذه مناقشة للدليل الفقهي. كذلك نجد الإمام الشافعي اشترط النية من قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة)، قال: معناها: إذا انتويت، أي: إذا كان في نيتك. ولذلك، إذا فعلت كل هذا وبالترتيب ولم تكن النية حاضرة فليس بوضوء. فهناك تعالق خطير جداً. وهذا يدعوني إلى تذكّر رسالةٍ أخرى أيضاً أشرفت عليها: (الدليل اللغوي بين المعتزلة والأشاعرة).
وهنا مثال آخر: أعطيت إحدى تلميذاتي، طالبة نجيبة سورية، موضوع: (شرط موافقة العربية لصحة القراءة):
علماء القراءات قالوا: يُشترط في صحة القراءة أن توافق العربية ولو بوجه، ويعنون بالعربية: النحو. لكن، ماذا لو خالف القرآنُ نحوَ العلماء؟ وقد كان؛ ففي كثير من الآيات إذا حاكمتها إلى النحو تجد أن الأمور لا تستقيم مع النحو، بل إن علماء البصرة شذذوا بعض القراءات، بل شذذوا قراءات سبعية: ( وأولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) قالوا: جمع (حمل) على (أحمال) شاذ. وقالوا: (استحوذ عليهم الشيطان) شاذةٌ في القياس، فصيحةٌ في الاستعمال، لأن الأصل أنها تكون (استحاذ). فحكّموا بالنحو حين قالوا إن موافقة النحو شرط للحكم على صحة القراءة. وهنا حدث خلاف بين نحو الفطرة الذي جاء به القرآن، ونحو الفطنة الذي استنبطه العلماء؛ أيّهما حَكَمٌ على الآخر؟ نحو القرآن حَكَم على نحو العلماء؟ أم نحو العلماء هو الذي يتحّكم ويقول: هذه قراءة غير صحيحة لأنها لا توافق العربية. فاستعرضت الطالبة في بحثها كل المواضع التي حصل فيها عناد بين نحو الفطرة ونحو الفطنة -عن طريق (معجم القراءات) الذي وضعه أخونا العالم الجليل الدكتور عبداللطيف الخطيب- استعرضتها، وأعادت النظر فيها، وكانت السبيل: إمّا أن تصَحّح القاعدة لكي تكونَ موافقةً للنص، وإما تُعاد صياغة القاعدة، وإمّا أن تُلغى القاعدة أصلاً؛ بحيث توضع قاعدة مختلفة كلّ الاختلاف للحالة. وقد صنعتْ ذلك أيضاً بصبرٍ شديد، واستحضرت في رسالتها: المنظومات القرائية، وحاولت أن تحلّ لنا هذا الإشكال.
يقدم الباحث إسهاماً عندما تكون هناك قضية يعالجها في بحثه؛ إما قضية تخص العلاقة بين السياق العربي والسياق الغربي، أو قضية داخل السياق العربي نفسه. وعلى ذلك، فكل رسالة ليس فيها شيءٌ من هذا الصنف أعتقد أنها تكون تكراراً. وأنت تستطيع أن تقيس الرسالة الجيدة والرسالة الرديئة بحجم عمل عقل صاحبها فيها؛ فكلما زاد النقل غطّى على العقل، وكلما خفّ النقل وتعمّق في الاستنباط أنتج عملاً علمياً جيداً.
قلتَ في نصيحتك لطلابك يوماً ما: (إذا كثُرت المؤتفكات زَكَت الأرض)، مستعيراً عبارة أبي حيّان، لمعنى: إذا انفتح الباحث على المصادر والمناهج من العلوم الأخرى، من جهاتٍ متعددة، زَكَت أرضُ بحثه.
أ.د. سعد: نعم، أنا من المؤمنين جداً بهذا المَثَل، وأعتقد أنّك إذا عارضت فكرةً مُعاندةً أو مُخالِفةً بوجهٍ من الوجوه لِما تعالجه، أنّ هذا هو أفضلُ خدمة تؤديها للفرض الذي تريد أن تدافع عنه. ومن ثَمّ، تجد أن أيّ عراقيل تُثار في طريق فرضٍ ما هي خدمةٌ لهذا الفرض، أمّا تفسير أي ظاهرة تفسيراً أُحادياً فغيرُ علمي، وغيرُ جائز ،وغيرُ مثمر.
الذي قال هذا المثل فعلاً أعطانا سُنّةً من سُنن الطبيعة يزكو بها الزرع والنّبت، يُمكن حملُها على البحث: فكلّما اختلفت المصادر، واختلفت الاتجاهات، ونُظر إلى الموضوع من أكثر من زاوية، كان هذا خدمةً للبحث. وقد جرّبتُ ذلك في حياتي العلمية، سواءٌ مع نفسي أو مع تلاميذي، وأنا دائما أنصح بهذه النصيحة: لا يُخيفنّك فرضٌ مخالف، فالفرض المخالف إما أن يزيَدك استمساكاً بما تقول، وإما أن يُبديَ لك من وجوه الاعتراض ما ينبغي أن تلاحقه وتحاصره، وتُبِينَ وجه الرأي فيه، ففي كل حال فرضك هو المستفيد.
في تراثنا كُتبت كتب كثيرة حول (أدب الكاتب)، وكثير من هذه الآداب لعلها تقارب اليوم أدب الباحث، ما نصيحتك للباحثين من حيث الأخلاقيات والآداب؟
أ.د. سعد: أنا -أولاً- لا أريد أن أكون واعظاً، فالحلال بيّن والحرام بيّن، لكننا نعيش في زمن كثر فيه -للأسف- لصوص الأفكار، ولصوص النصوص، ولصوص الكتب؛ وقد هيأت التقنيات الحديثة للباحث وهدَته النجدين؛ له أن يستثمرها ليستفيد، وله أن يستثمرها ليختلس ويسرق، وكلٌ يعمل على شاكلته. فليس المقام مقام أن أقول لا تسرق لأنّ الله سبحانه وتعالى نزلها في الكتب قبل القرآن، وجاء بها في القرآن، يعني هذه الوصايا العشر موجودة في الكتب السماوية كلها.
أنا يُعجبني جداً مَن يكون في عمله كالنحلة؛ تجمع الرحيق من أزهار شتّى، وتُخرج العسل الخاص بها الذي لا يَشرَكه في خصائصه ما تنتجه نحلةٌ أخرى، هذا هو الواجب. والعقل لا ينبغي أن يكون مخزناً للأفكار، ولكن ينبغي أن يكون معدة هاضمة للأفكار، تتحول فيه الطعوم المختلفة والمذاقات المختلفة إلى نسيج وأعصاب ودم وخلايا في كائنٍ حيّ. هذه عقيدتي التي أخذت بها نفسي، والتي آخذ بها تلامذتي، ولا أقبل من باحث يعمل تحت إشرافي ما يُخِل بهذه الخليقة. فالقضية ليست من باب الأخلاقيات فقط -وإن كانت الأخلاقيات مطلوبة؛ أن تكون أميناً هذا ليس زينة ولا حلية، ولكنه ضرورة- بل هي أيضاً من ضرورات العلم. قال الله سبحانه وتعالى: (قل كلٌ يعمل على شاكلته)، من يأخذ الشهادة ليُزيّن بها مكتبه، أو ليكتسب بها منصباً، فليعلم أنّ كل هذا زائل، قانون سماوي خالد لم يَعْرِض له نسخ: (فأمّا الزّبَدُ فيذهب جُفاء وأمّا ما ينفعُ النّاس فيمكث في الأرض)، كلّ باحث عليه أن يضع هذا القانون أمامه وهو يعمل وأن يُؤْثَر عنه ما ينفع الناس.
- المحور الخامس: بين الفصحى واللهجات
تحدثنا خصائص العربية، ومنها: حرية النسق، والاشتقاق، وهذا يجرني إلى سؤال عن قدرة العربية الفصحى على الدخول في الساحة العلمية اليوم، والساحة العملية؛ وكثير منا اليوم يجد صعوبة في التواصل والتفاعل بها، والترجمة إليها.
أ.د. سعد: هذه طائفة كبيرة ومشتبِكة من المسائل، فأول شيء في هذا الموضوع: أنت لا تستطيع أن تتهم اللغة العربية بما هي لغة as a language بأنها لغة لا تتغير أو لا تتطور. اللغة العربية صاحبت الإنسان المتكلم بها في أحوال كثيرةٍ جداً، وفي أطوارٍ تاريخية بعيدةٍ في الزمان؛ يكفي، مثلاً، أنّ اللغة العربية تحمّلت رسالة القرآن، ورسالة القرآن مخالِفة كلَّ المخالَفة مضموناً وشكلاً ولغةً للغة التي كانت مُستَعمَلةً في ذلك الوقت. ثم إنّ معدَّل التغيُّر فيها معدل عاقل، لأنه لولا هذه العقلانية في عملية التغيُّر ما مَثَلَ القرآن بين أيدينا الآن كما كان بين أيدي الصحابة، ولصِرنا غرباء على القرآن. لكن هذه التغيُّر لم يمنعها مثلاً في العصر العباسي أن تستوعب علوم الأوائل، ليست علوم الأوائل في الفلسفة وعلم الكلام فقط، ولكن علوم الأوائل في علم البصريات، وفي الطبيعيات، وفي الفيزياء، وفي الكيمياء، وفي أمورٍ كثيرةٍ أخرى.
في تاريخ الفصحى، لا يمكن أن تجد عداوة في هذه اللغة لأي مصطلحٍ قادم، يعني: عندما كان متّى بن يونس يترجم كتاب الشعر لآرسطو، ببساطة شديدة تكلم عن القوموذيا والتراجوذيا، ويعني بها الtragedy و الcomedy، فاللغة استقبلت المصطلحات. هل تعلم أنّ مصطلح (موسيقار) -هذا المصطلح الذي لا يجد الناس فيه أي غرابةٍ ويستخدمونه على أنّه كلمة عربية- موجود في (الآثار الباقية من القرون الخالية) لأبي الريحان البيروني. ولذلك، فتاريخ اللغة لا يُكتب من خلال كتب اللغة فقط، يعني: أنه لا يُكتب من خلال (الكتاب) لسيبويه فقط، أو (الخصائص) لابن جني فقط، أو كتب أبي علي الفارسي، أو كتب هؤلاء جميعاً. تاريخ اللغة حاضر في كل الكتب، وفي كل الفنون التي تعاملت مع اللغة، ستجد تاريخ اللغة -كما قلنا- في آثار أبي الريحان البيروني، وفي بصريات ابن الهيثم، وفي فلسفيات وإشراقات ابن سينا، وتجده أيضا في كل طَورٍ من أطوار اللغة، طَور التحامها بالفكر القديم؛ بالفلسفة القديمة، وطور التحامها مع الحروب الصليبية؛ مع القادمين الذين قدموا لهذه المنطقة في علاقة حروب، وليست علاقة سلمية، في انفتاحها في كل مِصرٍ من الأمصار على لغة القوم الذين يتكلمون في هذا المِصر.
وحتى ونحن نتكلم بالعامية، تُمِدّنا الفصحى بالآليات والصيغ التي نستطيع أن نتعامل بها، عندما تستخدم في اللهجة العامية مصطلحا مثل (تسييف) الأرقام، (سيّف) الرقم، (دلّت) الرقم، أنت تستخدم تقنية أمدّتك بها الفصحى، لأن الصيغة (فعّل) صيغة فصيحة، وآلية فصيحة في التعبير عن تكرار الفعل وعن المبالغة في الفعل.
لكن الشيء الجميل -وهذه فكرة عَنّت لي فعلاً وسعدت بها جداً- أن التنوّع اللغوي عندنا، في اللغة العربية، اكتسب القداسة من القراءات القرآنية؛ تخيّل، عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” نزلَ القرآنُ على سبعَةِ أحرُفٍ كلها كاف شاف فاقرؤا ما تيسر منه”[2] أعطى التنوع اللغوي مشروعية القداسة، وعلى ذلك: ما نحن الآن فيه من تنوعٍ لغوي ليس بدعة، بل طبيعي جداً. طبعاً هذه ليست دعوة إلى تغليب العاميّات، لكنها دعوة لإعطاء هذه العاميّات مقامَها الحقّ في كتابة تاريخ اللغة، وهو مقامٌ كبيرٌ جداً.
هل ترى أنّ هذه العاميات هي العدو اللدود لهذه العربية الفصحى؟ أم إنّها الأخت الصغرى؟
أ.د. سعد: هناك منظوران مختلفان: منظور اجتماعي وثقافي، ومنظور أكاديمي؛ اللغة الفصيحة الآن (أنا لا أقول الفصحى لأن الفصحى لم تعد، أقول الفصيحة، الفصحى لها أهلها) بالاعتبار الاجتماعي، وبالاعتبار الثقافي، وبالاعتبار العلمي، لها نوعٌ من الفضل، ونوعٌ من المنزلة، ونوعٌ من المكانة؛ فهي التي تَصِلُنا بالقرآن، وهي التي تَصِلُنا بالتّراث. لكن بالاعتبار الأكاديمي: لا يُكتب تاريخ صحيح للغة العربية في غَيبة اللهجات المعاصرة، بل -وهذه قلتها كثيراً وكانت صدمةً لكثيرين- قد تحتفظ اللهجات المعاصرة بصيغ هي أقدم تاريخياً من الصيغ المكافئة لها في الفصحى.
مثلاً: (قانون التغيُّر) قانون شامل موجود في كل لغات الأرض: أنّ الصيغ التي يكثر استعمالها، ويتحدد سياقها عرضة للتآكل، بحكم أنّ المتلقي يتوقعها. يعني: الآن مثلاً لا أحد يقول: “مساء الخير”، يقولون: “مسا الخير”، وفي بعض المناطق الشعبية عندنا في مصر يقولون: “سا الخير” بحذف الميم، هذا القانون هو نفس قانون: “أنعم صباحاً” و”عم صباحاً” تماماً، لأن السياق تحدّدَ، والمتلقي متوقع للكلمة فلا عليك أن تنطقها بإجادةٍ وإتقان، لأن العناصر الظاهرة فيها تنوب عنها. هذا سنجده -وهذه فكرتي التي ذكرتها في بعض ما كتبت- إن (كاف) التشبيه هي البقية الباقية من (كأن)ّ، وهي البقية الباقية من (كيف)، إذ في اللهجات البدوية عندنا -وفي كثير من الأقطار العربية- يقولون: “فلان كيف البدر”، فـ”كيف البدر” استُخدمت فيها (كيف)، ومعنى الكلام كيفيته ككيفية البدر. فالصيغة الموجودة في الفصحى: “فلانٌ كالبدر”، صيغة تالية تاريخياً للصيغة (كيف) الذي كان يُستخدم للتشبيه في مرحلة سابقة، واحتفظت به بعض اللهجات، وضاع في اللغة الفصحى.
ولذلك نقول: نحن ننظر إلى اللهجات من منظورٍ علميّ، وليس من منظور اجتماعي ولا ثقافي، على أنّها المستودَع الضّخم الرهيب الذي ينتشر على الأرض المتكلمة بالعربية، وقد ترسّبت فيه استعمالات من عصور متقادمة للغة لا يزال لها وجود حتى الآن، إن انتهت أو فَنِيَت في مكان فهي موجودةٌ في مكانٍ آخر. ولذلك، فالجمع المستوعِب بتقنية الأطالس اللغوية، والجغرافيا اللغوية، وعمل أطلس لغوي للهجات الحديثة، معناه: أنّك تجمع تاريخ اللغة المتقادم في وقتٍ واحد، وفي عصرٍ واحد، لأن اللغة لم تتغير بمعدلٍ واحدٍ في جميع الأقطار مرةً واحدة، وإنّما هي على التفاوت، وخاضعة للهجرات أيضاً. فهناك قبائل عربية هاجرت واستقرت في مصر، أو استقرت في الشام، أو استقرت في العراق، أو استقرت في المغرب العربي، والهجرات أيضا ليست في اتجاه واحد، لأن القبائل التي هاجرت إلى المغرب عادت مرةً أخرى إلى مصر؛ فعمليات الهجرة عمليات مركبة. وأنت أمامك كنزٌ من تاريخ اللغة حاصلٌ على الأرض العربية المعاصرة، تستطيع أن تكتب منه تاريخ اللغة العربية، ومن ثمّ تاريخ اللغات السامية، من خلال استقصاء الاستعمالات المختلفة.
والإشكال الكبير الذي حدث بالنسبة للهجات العامية، هي أنّ الفصحى ذات نسق حر free order language واللهجات ذات نسق مقيد fixed order language، وقد نال اللهجات ما نال كثيرا من اللغات الأخرى (من تقييد النسق)، وهذا هو الفيصل في المسألة. ولذلك أقول: إنّه على مستوى تركيب الجملة، وعلى مستوى النحو، هناك فارق جوهري بين اللهجات وبين الفصحى. ولكن على مستوى المعجم المستخدَم، وعلى مستوى الصيغ المورفيمية المستخدَمة لا توجد حدود بين العربية الفصيحة واللهجات.
يبدو اليوم، مع دخول الإنجليزية وتقحمها علينا، أن اللهجات أيضاً في خطر. أرى أبناءنا لا يستخدمون الصيغ العربية عند تعريب الكلمات الأجنبية، ولكنهم يستخدمون الكلمة الإنجليزية، مع مساعد عربي (مثلاً: بدلاً من قولهم: سرّج من search يقولون: اعمل search)، وتتراجع عندهم الاستخدامات العربية العادية، فهل هناك خطر على اللغة العربية يدخلها من تراجع اللهجات؟ وكيف نستطيع إصلاح العربية؟
- المحور السادس: دراسة اللسانيات في موسكو
حصلت على الدكتوراه من جامعة موسكو، هل ترى الدراسات اللسانية في روسيا مختلفة عن الدراسات الغربية؟ هل لها مَيزة وسمة خاصة بها أم هي تبع للدراسات الغربية؟
أ.د. سعد: أقول إنّ سفري إلى موسكو كان قدراً جميلاً، ولم يدُر في بالي ذات يوم أني سأذهب إلى هذه الديار، وأني سأتلقى العلم فيها، وسأحصل على درجتي العلمية هناك، لكن هكذا كان، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اخترت غير الذي كان. كانت طريقي ممهدةً إلى جامعة (سانت آندرور) سنة 1965 ، واستطاع أحد الموظفين بتضييعه (موافقة الأمن على سفري) أن يغيّر طريقي من بريطانيا سنة 1965 إلى موسكو سنة 1971.
أقول: أولاً، من عيوب اتصالنا باللسانيات الغربية، عن طريق الجيل الأول، والرّعيل الأول، الذي ذهب وتلقّى العلم في جامعة لندن على وجه الخصوص، أنهم جميعاً أخذوا العلم، وحضّروا رسائلهم على أستاذٍ واحد هو فيرث . فالدكتور إبراهيم أنيس، والدكتور تمّام حسان، والدكتور عبدالرحمن أيوب، والدكتور كمال بِشر، والدكتور محمود محمد أبو الفرج، والدكتور محمود السعران، كل هؤلاء كانوا تلامذةً لأستاذٍ واحد. فحين تلقّينا أوائل علم اللغة، ونحن في دار العلوم، كان علم اللغة الحديث -أو اللسانيات الحديثة- عندنا تساوي فيرث، لا نعلم عن غيره شيئاً، وأساتذتنا: يقول أستاذنا فيرث، يقول أستاذنا فيرث. والأجيال التي نشأت بعد ذلك، والتي أخذت على هذا الجيل، أو على الأجيال التي تليه أيضاً، كانت تعتبر أن هناك تماهياً تاماً بين فيرث وبين اللسانيات الحديثة.
وأول اكتشاف عدّل رأسي تماماً، عندما ذهبت إلى موسكو، واستطعت أن أقرأ كتاباً بالروسية – كان أول كتاب عكفت عليه، وكدت أكون قد ترجمته تماماً ولكن ضاعت الأصول- اسمه (الاتجاهات الأساسية في البنيوية)، وهذا الكتاب كتبه علماء سوفييت مختصون في اللسانيات، وأعضاء في أكاديمية العلوم السوفييتية، هذا الكتاب يشمل على فصول تعالج مدرسة بلومفيلد، ومدرسة كوبنهاجن، ومدرسة براغ، ومدرسة لندن (مدرسة فيرث)، فاستحال فيرث الذي هو كلّ اللسانيات إلى مجرّد نغمة في سيمفونية معقدة جداً. لم أكن أدري شيئاً عن مدرسة كوبنهاجن، ولا أي تفصيلات عن مدرسة براغ، كنت قرأت شيئاً عن بلومفيلد، باعتبار إن بلومفيلد يكتب بالإنجليزية وكانت اللسانيات الأمريكية أقرب إلينا، وإلى اللسانيات اللندنية، من أي مدرسة أخرى. فأول فائدة استفدتها أنني فهمت أنّ فيرث ليس هو اللسانيات، وأنه مجرد خيط في نسيج لوحة معقدة جداً، واستطعت أن أقيم في نفسي فكرة المقارنة بين هذه الاتجاهات.
وأيضاً: كان هناك حركة ترجمة نشطة جداً، عن الإنجليزية، وعن الفرنسية، إلى اللغة الروسية في اللسانيات. وتكاد تكون ترجمة مواكبة، فقد كان هناك دورية اسمها (الجديد في اللسانيات)، كانت هذه تترجم أمهات المقالات والدراسات التي تصدُر في مجلة Language المجلة الأمريكية الشهيرة، ومجلة Word أيضا، Bulletin التي كانت تصدر عن المدرسة (ساوس) في جامعة لندن، كل هذا كان يُترجم. وكان هناك أيضا نقد للسانيات الغربية في هذه الحقبة، لأن اللسانيات مرّت كما أرى بمرحلة ما قبل قيام الاتحاد السوفييتي، وأثناء قيام الاتحاد السوفييتي، ثم مرحلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. كان هناك عدد من المستشرقين الكبار في روسيا القيصرية، وكانت روسيا القيصرية أيضاً تستقدم علماء من الأزهر ليدرّسوا في جامعة سان بطرسبورغ، الشيخ طنطاوي جوهري كان أستاذاً لكراشكوفسكي وبارتولد أيضا، فكان هناك مدرسة استشراقية مهمة جداً قبل قيام الاتحاد السوفييتي، واستمرت هذه المدرسة وقَوِيَت بحكم العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية بين الاتحاد السوفييتي ومنطقة الشرق الأوسط.
وعلى ذلك، يمكن أن تقول إنّ الدراسات اللسانية في هذا البلد مرّت بعدّة مراحل، ففي ما قبل الحقبة البلشفية (أو الحقبة الشيوعية) في روسيا القيصرية، كان هناك مستشرقون كبار لهم فضل على التراث العربي في نشره، منهم -كما ذكرت-: بارتولد وكراشكوفسكي، مترجم القرآن إلى الروسية. والقرآن الكريم تُرجم إلى اللغة الروسية قبل الحقبة البلشفية عدة مرات. ثمّ في الحقبة الشيوعية كان لستالين رسالة كتبها (مقدمة في اللسانيات)، فهذه تحوّلت إلى وِرد من الأوراد التي يتعبّدون بها، ولا تخلو رسالة ولا كتاب في هذه الحقبة من الرجوع إلى هذه الرسالة، وحتى وضعها في المراجع كان يوضع كما ننزّه نحن القرآنَ ولا نضعه في الترتيب الألفبائي في قائمة المصادر، فكانوا يفردونها، ثم تأتي بعد ذلك المراجع. وهي رسالة بسيطة جداً في محتواها، وفيها إفادة بوجهٍ عام من جهود اللغويين الذين كانوا يعيشون في هذا العصر، لكن بسبب التأثر بالعقيدة الماركسية التي سيطرت وهيمنت في حقبة الاتحاد السوفييتي، ضاقت الحلقة على اللسانيات، وكانت كل المعالجات لابد أن تتم من خلال قوانين المادية الجدلية، وطبعا، فقد كان للفلسفة الماركسية قسم خاص في كلية الآداب. وقد أُجبرنا جميعاً على أن ندرُس الفلسفة الماركسية هناك، باعتبارها مُقرّراً من المقررات التي بغير اجتيازها لا يمكن أن تُناقش رسالتك للدكتوراه.
هل أثرت ا(لمادية الجدلية) أيضاً على أطروحتك للدكتوراه؟
هل هناك علماء لسانيات روس بارزون ومؤثرون لم يعرفهم القارئ العربي، ولم تترجم أعمالهم؟
أ.د. سعد: كثيرون جداً. أولاً هناك نِدّ لدي سوسير هو بودوان دي كورتني، هذا الرجل لا يعرف الناس عنه شيئا هنا، وأطروحاته تقاطعت إلى حدٍّ كبير مع أطروحات دي سوسير، لكن دي سوسير جاءت أعماله بالفرنسية والإنجليزية (أيّاً ما كان الرأي، في أعماله، وفي وفاء هذه الأعمال بعقيدته العلمية، وقد ظهرت مخطوطات جديدة عن دي سوسير الآن).
هذا أمر، وأمرٌ آخر: هناك في المرحلة السوفييتية عددٌ كبيرٌ جداً من العلماء، لا في اللسانيات، وحدها وإنما في التربية، وفي الاقتصاد، وفي علم النفس، شخصيات خطيرة جداً. وربما كانت الترجمة عن الروسية هي العائق الأساسي في تعريف المثقف العربي بهم وبأعمالهم. مثلً شخصية فيغوتسكي، على سبيل المثال، هذه شخصية عرفناها في وقت متأخرٍ، بعد أن تَرجم عمله (التفكير واللغة) صديقٌ وزميلُ لنا: الدكتور طلعت منصور. أيضاً، كان هناك كثيرٌ من الموفَدين من هذه البلاد إلى موسكو، من العراقيين والسوريين وغيرهم، قاموا بترجمة كثير من الأعمال.
- المحور السابع: الترجمة
أستاذنا، أنت مترجم، حصلت على جائزة زايد في فرع الترجمة (عام 2009)، عن ترجمة كتاب (في نظرية الترجمة، اتجاهات معاصرة)، كيف ترون حال الترجمة اليوم في العالم العربي؟
أ.د. سعد: نستطيع أن نقول إنّ هناك ما يمكن أن يُسمى نهضة في قضية الترجمة في العالم العربي؛ هناك مؤسسات جعلت عملها الأساسي واهتمامها الأساسي نقل المُنجَز المعاصر إلى اللغة العربية منها: المنظمة العربية للترجمة، جائزة حمد للترجمة في قطر، في السعودية: مركز الملك عبدالله، المجلس الأعلى للثقافة للترجمة في مصر. فهناك مجموعة من المؤسسات أدركت، بأخرة من الزمان، أهمية هذا الفرع. لكن، تبقى المشكلة أن الترجمة لا تزال تميل إلى الانتقائية، أقرب منها إلى المؤسسية، وهذا عيبٌ خطيرٌ جداً، لأنّك تترجم ما يروق لك، أو ما يؤثّر فيك، لكن ليس في إطار سياسة منظِّمة وحاكمة وضابطة لما ينبغي أن يُترجم ولما لا ينبغي أن يُترجم.
لكن نحن الآن في نهضة، تختلف إلى حد كبير عن الفترة الماضية. يبقى محاولة، لا أقول توحيد، لأنه لا سبيل إلى التوحيد، محاولة عمل تجانس وتنسيق بين الجهات القائمة بعمل الترجمة، واتفاقٍ على حدٍ أدنى فيما يُترجم، ومن اللغات غير الشائعة بيننا، إذ تكاد الترجمة الآن أن تكون مقصورة على الإنجليزية، والفرنسية، وقليل منها من الإيطالية -لوجود بعض الذين يجيدون اللغة الإيطالية-، لكن الترجمة من بقية اللغات لا تزال فقيرة جداً عندنا.
ما معضلات الترجمة؟
معضلات الترجمة قديمةٌ جديدة، معظم المعضلات التي واجهت متّى بن يونس وحنين بن اسحاق عندما تعرّضا لترجمة التراث الإغريقي إلى اللغة العربية في العصر العباسي. نحن نواجه نفس المعضلات نوعيّاً، وإن كان هناك مشكلات جدّت بكل تأكيد في الترجمة. المُعضلة الأولى في الترجمة هي معضلة الاختيار، اختيار ما نحن بحاجة إليه. هناك درس بليغ أعطاه لنا المترجِمون الأولون في العصر العباسي: هم ترجموا -تقريباً- كل تراث اليونان الأساسي إلى الثقافة العربية؛ ترجموا الطب، وترجموا الفلسفة، وترجموا كتاب أرسطو في الشعر، وكتاب أرسطو في الخطابة، وكثيراً جداً من الحكمة القديمة، لكن لم يترجموا الملاحم، ولم يترجموا الدراما الإغريقية، أو الشعر الإغريقي بوجه عام، مرواً عليه كأنه غير موجود، هؤلاء لأن حاسة الاختيار عندهم كانت حاسة رشيدة، فالدراما القديمة مليئة بالآلهة، وصراع الآلهة، وكلها أمور مُضادة تماماً لمفهوم التوحيد الخالص الذي نَدينُ به في الإسلام، فلم تكن ترجمة (حاطب ليل): كل ما يجدونه يترجمونه، إنما الترجمة كانت لما هو مفيد، ولما هو مجدٍ، ولِما كنا آنئذٍ بحاجة إليه. عندما تعرّض البيروني لثقافة الهند، أيضاً، وصف ثقافة الهند وصفاً شاملاً في كتابيه الشهيرين، لكنه لم يعنِّ نفسه بترجمة أي شيء يخالف المعتقَد، وإنما أشار إلى أن هؤلاء القوم يفعلون كذا وكذا.
نحن الآن نحتاج إلى ترشيد الاختيار، وإلى أن نختار ما نحن بحاجة إلى ترجمته. الترجمة ضرورة للتعارف بين الشعوب، (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) ولن يتمّ هذا التعارف إلا عن طريق الترجمة من لسان إلى لسان. وعلى ذلك: سنجد مظاهر سلبية كثيرة في حركة الترجمة المعاصرة، مثلاً: تعدد الترجمة في أماكن مختلفة للنص الواحد، أو غياب الترجمة لنص مهم يُعتبر أساسياً في سياق علم من العلوم.
والمشكلة الثانية: مشكلة المصطلح في الترجمة، لأنه ليس هناك اتفاق على الكيفيات التي يُنقل بها المصطلح. هناك أيضاً اختلاف كبير، ولا سيما بين المدرسة المغاربية في الترجمة والمترجمون المشارقة، على مواضعات المصطلح وكيفيات النقل والإيثارات؛ متى نُعرّب المصطلح الأجنبي؟، ومتى نلتمس المكافئ العربي؟، وإذا عرّبنا: ما القوانين التي تحكم التعريب صوتياً أو صرفياً؟
ومن معضلات الترجمة أيضاً: تعرّض كثير ممن لا أهلية لهم للترجمة باعتبارها وجهاً من وجوه الرزق، فتُختار -عادة- الأحجام الكبيرة فكل ما يكون فيه زيادة في الجُعل والمكافأة يكون أكثر جاذبيةً للأنظار.
وهنا أقول: لا يشترط للترجمة الإجادة للغة الهدف أو لغة المصدر فقط، وإنما الإجادة أيضاً لثقافة المصدر، وثقافة الهدف، وللفن أو العلم الذي يحِل فيه هذا النص، لأن الترجمة مهمة عسيرة، وبقدر مشقتها بقدر ما يكون جدواها وفائدتها.
هل هناك علوم لسانية مهمة تعاني قصوراً في الترجمة إلى العربية؟
ثمّة علوم لسانية لم نجد فيها آثاراً مُترجمة على الإطلاق، على أهميتها البالغة، مثلاً: اللسانيات التاريخية، لم ينتبه إلى أهميتها أحد، علماً بأنها من أهم الجوانب التي تزيدُنا معرفةً باللغة العربية. وهذا الجانب أيضا يشتكي قصوراً لا في الترجمة فقط، لكن أيضا في الممارسة، فلا توجد أطاريح علمية -بدرجة كافية- لتغطي هذا الجانب، لا توجد مُصَنفات أو مؤلفات في هذا الجانب تكافئ أهميته ومنفعته وجدواه لسياقنا العربي. فبعض فروع اللسانيات تعاني قصوراً في هذا الجانب، بينما يوجد إسراف شديد في ترجمة أعمال أخرى. مثلاً، المقدمات في علوم اللغة، الـ introductions كثيرة جداً، ترجمةً وتأليفاً؛ تأليفاً: من حيث يظن بعض الناس أن مقدمات العلم أسهل، ورأيي أن مقدمات العلم لا تقل صعوبة عن التأليف في مسائل العلم.
جانب آخر: أننا نشتكي من الجزئية، ليس في الترجمة وإنما في التأليف أيضاً، فكثير من أهل العلم عندنا نجدهم فقهاء في المسائل المفردة، ولكنهم لا يولون أهمية مُستَحَقة لفقه الظواهر ولفقه المسائل. نجد انصرافاً عن النظر في الظواهر الكلية سواء عند الباحثين الشباب، أو عند كثير من الشيوخ من أمثالي. هذا -أيضاً- نوع من توجيه البوصلة إلى مجالات مُستحَقة للتأليف ولممارسة البحث العلمي.
ما نصيحتكم للمشتغلين بالترجمة من الشباب؟
هذه النصائح معروفة وشائعة ودارجة بين الناس، أهم نصيحة ابتداءً: أن يُقرأ الكتاب مرة واحدة قبل الشروع في الترجمة، وإذا استطاع أن يقرأه أكثر من مرة فهذا أفضل، لأنه في هذه الحالة تنطبع عنده صورة كلية للكتاب، ولموضوعه، وللمسائل التي عالجها، ويستطيع أن يتبيّن مواقع المشكلات، ويتبيّن المواضع التي تحتاج منه إلى تهيّؤ واستعداد خاص للترجمة، فيسبق بتهيئة نفسه للكيفية التي سينقل بها هذا المضمون من اللغة التي يترجِم منها إلى اللغة التي يترجِم إليها.
ولا تُتَرجِم إلا موضوعاً تحبه، ولا تُترجِم إلا موضوعاً تحس بأهميته، لأنه في فترة من الفترات في الترجمة، يحدث نوع من السأم، ونوع من عدم التحمل، ولا تستطيع أن تصبر عليها وعلى مشكلاتها إلا إذا كنتَ مُحباً للموضوع ملماً به حريصاً على أن تنقله من لسان غيرك إلى لسانك. المترجِم يحتاج إلى خلفية ثقافية عامة، ليست فقط ثقافة في الجزء الذي يترجمه، يحتاج المترجم، أيضاً، إلى مقدرة مصطلحية، لالتماس المكافئات المصطلحية المناسبة، وخصوصاً إذا كان العلم من العلوم العسيرة التي تحتاج إلى شيء من الجهد.
هناك مشكلة في الترجمة تعرِض للإنسان، عادةً، وهي: إحساسه بأنّ الذي سيقرأ هذا الكلام يمكن أن لا يفهمه، أو لا يستطيع أن يتلقاه، فكن حريصا على أن تلتمس أقرب الطرق للتوصيل. ولابد أن يكون لديك من الثروة اللفظية التي تعينك على التماس المكافئ المناسب في الموضع المناسب. ومن غير شك، فالترجمة تجربة ممتعة جداً، ولكنها باهظة التكاليف، وما في الكتاب من خير هو لمؤلفه في المقام الأول، وقد يعود عليك منه شيء.
- المحور الثامن: تجارب معرفية ذاتية
لقبك إيهاب النجدي بـ (آخر أحفاد شوقي)، هل لك أن تحدثنا عن علاقتك بشوقي، وبالشعر عموماً؟
جميلٌ جدا وكرمٌ من الابن العزيز الدكتور إيهاب النجدي إطلاقُ هذه التسمية، وفرحي بها لاقتران الاسم بالشاعر العظيم أحمد شوقي. حقيقة الأمر أن شوقي هو أول من قرأت له، وأول من حفظت له ، وأول من أوصاني الوالد رحمه الله بشعره. وكنتُ، عندما بدأتُ محاولاتي الأولى في كتابة الشعر، جمعتها في كُرّاس وأطلعتُ عليه الوالد -رحمه الله-، فقدم لي هذا الكراس ببيتين، يقول فيهما:
إن ما امتاز به شعرك من ذوق وفوقِ
لضمينٌ أن ستحتل غدا مقعد شوقي
تلك هي الأمنيَة التي أدخلها الوالد في رأسي، وتمكنت مني كثيراً. لم أحقق أمنيته في ذلك، فشوقي هو شوقي، ومقعده لم يحتله أحد بعده. لكن هذا الأمر لفت نظري جيداً إلى هذا الفن العظيم: فن الشعر، الذي لا أعدِل به فناً قولياً آخر، لا مسرحاً، ولا قصة، ولا رواية ولا أي شيء. لأن فن الشعر هو أعلى الفنون القولية على الإطلاق، ولهذا علةٌ طريفةٌ جداً، كتبتها في بعض ما كتبت؛ قلت: إن الفنون الجميلة فن الموسيقى، فن النحت، فن التصوير، فن الرسم، مادةُ الفن مُستقِلّةٌ عن الفنان، لذلك هو يمتلكها امتلاكاً تاماً؛ النّحات يملك الحجر يشكّله كيف يشاء، والموسيقي يملك النغم يشكله كيف يشاء، والرسام يملك اللوحة، أيضاً، يرسمها وينفعل بألوانها كيف يشاء، إلا الشعر: الشعر هو ملك الناس جميعاً، وليس ملكاً للشاعر. وهو كلام متداوَل وشائع على الألسنة ومورث عن مصنفات القدماء، وعلى الشاعر أن يلتقط هذا الشائع، هذا الدارج، هذا المبتذل، ليمسح عنه غبار الاستعمال، ويصنع منه الكلمة الخاصة به هو. هذه عملية شاقة، لا يستطيعها إلا الموهوب. ومن هنا، كان للشعر هذه المكانة، وكان، بالنسبة لي، الفن الأول بين الفنون القولية. وأمر آخر: أن الشعر فيه من كل الفنون: فيه الموسيقى، وفيه الدراما، وفيه التصوير. فهو فن جامع للفنون الأخرى غير القولية أيضاً، ولكن من طريق القول. فمن هنا، أنا أعتز بالشعر جداً، وصحيح أنني بيني وبين مقعد شوقي فجوة هائلة، لكني مُحب له، ومُحب لفنه، وممارس لهذا الفن بين الفينة والفينة بقدر ما تتيح الظروف والانشغالات.
عرّفتَ نفسك -في ملفك التعريفي في بعض وسائل التواصل الاجتماعي- بأنك طالب علم عجوز، كيف يتفاعل طلب العلم بتقدم السن، وما أثر الوقت على الباحث والمشتغل بالعلم؟
مهمٌ جداً للمشتغل بالعلم أن يُحس إحساساً حقيقياً بشباب عقله، وأن يَحُل التناقض بين هرم الجسم وتحولات العمر وبين توقّد العقل وتوهّجه، وأن يحتفظ لنفسه دائماً -في التعامل مع ظواهر الوجود وظواهر العلم- بحقّه في الدهشة: في أن يجد في كل شيء أمراً مدهشاً يستحق التوقف ويستحق التساؤل. من هنا: في هذه التسمية جمعتُ بين الأمرين، بين تواصل طلب العلم، وبين ما آل إليه الأمر من تقدّم في العمر وتقدّم في السن. وما بين المبدأ والمنتهى هناك مراحل كثيرة مرّ فيها الإنسان. من حسن الحظ أنني -تقريباً- مررتُ بجميع هذه المراحل، واجتمعت لي مجتمعةً في أواخر العمر. فقد بدأتُ حياتي وطلبي للعلم بمرحلة (المثافنة)، وكانت المثافنة مع الوالد -رحمه الله-، منه تلقيتُ مباشرةً كثيراً جداً مما أنا مدينٌ به إلى الآن، إلى هذه المرحلة المتأخرة من العمر. في هذه المثافنة فُتحت لي الأبواب، وتلقيتُ الإشارات إلى مواضع الخصب ومواضع الجنى الداني في تراثنا العربي.
أيضاً، عشتُ مرحلة (المثاقفة) مع الكبار، وعلمتني هذه المرحلة ألا أتهيب أحداً ما دمت مقتنعاً برأيي الذي أريد أن أعبر عنه، والحمد لله لم يخذلني هذا الحس. وربما مثالاً على ذلك: المقال الذي كتبتُه بملاحظاتٍ لي على كتاب الكاتب العظيم الأستاذ محمود شاكر (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا). في الحقيقة أنّ الأستاذ شاكر مخيف جداً، ورهيب جداً، وقادر مقدرة لا محدودة على أن يُفحم وأن يَقمع، وكان هذا وحده كافياً جداً لكي أنصرف عن تسجيل ملاحظاتي على هذا الكتاب، ولكني بما تزودته من مرحلة المثافنة استطعت أن أعيش مرحلة المثاقفة، وأن أجتازها بشكل طيب، فلم تُقعدني الهيبة عن التعبير عن رأيي مع كمال التوقير والاحترام لمن أثاقفهم.
هجرتي العقلية ومهمة الوساطة المعرفية التي قمتُ بها بين اللسانيات المعاصرة والسياق العربي أدخلتني في مرحلة (الوِجادة)، أخذت كثيرا من معارفي من الكتب التي قرأتها، والتي صاحبتها، والتي ترجمتها، فمرت حياتي تقريبا بكل مراحل الطلب بأشكاله المختلفة، من المثافنة، إلى المثاقفة، إلى الوجادة. ووجدت بركة ذلك في كل ما أفعل والحمد لله، وأرجو أن يحفظ الله علي ما رزقني من هذه النعمة فهي نعمة عظيمة أحمد الله عليها.
هل لك أن توضح الفرق بين (المثافنة) و(المثاقفة) و(الوجادة)؟
ما أعنيه بـ(المثافنة): التلقّي المباشر على العالم؛ ثفنة إلى ثفنة أي: ركبة إلى ركبة، بغير وساطة. وبركة العلم الآتية من المثافنة بركةٌ عظيمة، لأنها تُتيح السؤال بلا قيود ولا حدود، وتُعطي المتلقّي فرصة لأن يعيش موقف التعليم والتعلم، وأن يكرره في حياته بشيء غير قليل من التحسين والتجويد والإتقان. ولذلك أنا أفدتُ من المثافنة، بهذا المعنى، شيئاً فوق العلم: وهو الموقف التعليمي نفسه، الذي عشته مع طلابي، سواء أفي مرحلة الإجازة الجامعية الأولى، أم في مرحلة الدراسات العليا، أم في مرحلة الإشراف على أبحاث الماجستير والدكتوراه.
أما (المثاقفة) فهي مُطلق الحوار، بغير قيود الزمان والمكان. ولذلك تستطيع أن تثاقف الجاحظ، وأبا علي الفارسي، وابن جني، ويمكن أن تثاقف المعاصرين أيضاً، ويمكن أن تثاقف (السيد إكس) الذي لا تراه. فمفهوم المثاقفة مفهوم عام جداً، وقد جربتُ المثاقفة في كتابٍ كتبته وعمري خمسة وعشرون عاما: كتاب (حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر)، كان في ذلك السياق من الحاضرين المثاقَفين: أرسطو، وقدامة بن جعفر، وحازم القرطاجني، وابن سينا، والفارابي، وابن رشد، والدكتور شكري عياد، والأستاذ محمد خلف الله أحمد، وكثيرٌ من المعاصرين والمتقدمين شملهم مفهوم المثاقفة بهذا المعنى.
أما (الوِجادة)، فقد كان لها إتاءٌ آخر، وفيضٌ آخر. لأنني حين اطلعتُ أو وجدتُ في كتاب فلان كذا وكذا سواء من المعاصرين أو من أهل الثقافة العربية أو من الغربيين، كانت الوِجادة بحمد الله عن وعي؛ آخذ عن وعي، وأترك عن وعي، وأنقد عن وعي، وأستفيد وأوظف وأستنتج ما قرأتُه أموراً كثيرة -لم أقرأها- بحكم الأسئلة المُلحّة التي أطرحُها على عقلي ولم تُطرح على عقل كاتب الكتاب، فكانت الوِجادة وجادةً تفاعلية ليست مجرد لمجرد الأخذ المستسلم الخاشع لما يقرؤه الإنسان.
نصيحة أخيرة للمهتمين بالمعرفة من الشباب
أقول ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في واحدةٍ من جوامع كلمه، قال -صلى الله عليه وسلم-: “نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ”[3]. الصحة والفراغ أكبر النعم التي يمكن أن تُمنح للإنسان بوجه عام، وللباحث على وجه الخصوص. في مرحلة من المراحل يتوافر للباحث من الصحة ما يعينه على أن يكون جَلْداً مُتحمّلاً قادراً على أن يُصابر البحث، ويُصابر المتاعب في سبيل التحصيل، ويُتاح له من الفراغ ما يمكن أن يستثمر به الوقت، مع هذه الصحة، مع هذا الجَلَد، فتكون الحصيلة رائعة ومثمرة. وبتقدم العمر، تتراجع الصحة، ويتراجع الجلد، وتكثر المشاغل والشواغل، فيتراجع أيضا الفراغ. من هنا، يحضُر الحديث الشريف الآخر، حديثٌ رائع جميل، يقول :”اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.”[4]. من هذين الحديثين تأتلف منظومة رائعة لكل باحث يريد لنفسه، أو ينذر نفسه لخدمة العلم، ولطلب الاشتغال بالعلم. الصحة والفراغ نعمتان مهمتان جداً في مرحلة الشباب، واغتنام الشباب قبل الهرم، والصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، هما تتمة هذه النعمة.
كلنا زائلون، والأجيال القادمة لها حقٌّ علينا، هذا الحق يتمثل في ما يُيَسّرك الله له أن تقول له: هنا كنزٌ ينبغي أن تبحث فيه، وهنا مكانٌ ينبغي أن تستكشفه، وهنا فكرةٌ يجب أن تفعّلها. ليس شرطاً أن تستقصي أنت كل شيء، لأنْ الأوقات ضيقة، والحاجات أكثر من الأوقات. وإذا استطعت أنْ تقوم بدور الدليل والمؤشّر والمستنهِض والمحفّز فإن عقلك لن يشيخ، بل سيحيا في مَن سيستجيبون لك، وفي مَن سيجدون فيما أشرت به عليهم شيئاً ذا بال. ولذلك، أعتقد أنّ الباحث إذا فقدَ الدهشة فقدْ فقدَ حقيقة العلم، ولا ينبغي أن تنزلق عينك على سطوح الأشياء، وينبغي أن تدهَش فيما لا يدهَشُ غيرك منه، والشاعر القديم قال:
وهُلْكُ الفتى ألاّ يَراحَ إلى النّدى
وألاّ يرى شيئا عجيبا فيَعجبا
قلت كثيرا لأبنائي: لا تكتب ما يكتبه غيرك، ولا تكتب أيضاً حتى -إن استطعت- ما يمكن أن يكتبه غيرك، وحاول دائماً أن تطأ أرضاً جديدة. لا تسلك الطريق المأنوس، الطريق المأنوس لا يُفضي إلى شيء، الطريق المأنوس تقطعه في ثوانٍ، لكن إذا انحرفت إلى المهابة والقفار، بركة السير كيلومترين، أو عدة كيلومترات قليلة في هذا المكان أعْوَد عليك وعلى العلم، وعلى طالب العلم، من أن تقطع بالسيارة طريقا طويلا مُمهّدا ليس فيه عقبات.
وأقول لهم: هذه كلمات أيضاً هي من طالب علم عجوز، حاول أن يلخص أو يكثف تجربة نصف قرن في سويعات قليلة. وشكراً لكم وألقاكم دائما على خير بإذن الله.
* قنوات التواصل مع أ.د. سعد عبدالعزيز مصلوح: الموقع الشخصي | تويتر | فيسبوك | يوتيوب | إنستغرام
[1] – ورقة بحثية قرئت في الندوة العلمية الدولية الثانية التي أقامتها كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس تحت عنوان: “الأصيل والدخيل في التراث العربي الإسلامي” 27 – 28 نوفمبر 1998.
[2]– وجدته (في موسوعة الدرر السنية) بلفظ: “نزلَ القرآنُ على سبعَةِ أحرُفٍ أيَّها قرأْتَ أصبْتَ”. بتخريج: “أخرجه الحميدي في (المسند) (340)، وابن أبي عاصم في (الآحاد والمثاني) (3320) واللفظ لهما، والطحاوي في (شرح مشكل الآثار) (3100) باختلاف يسير”. (المحرر)
[3] – صحيح البخاري (6412). (المحرر)
[4] – شرح السنة (7/277). (المحرر)