عايض بن سعد الدوسري
تُوصَف بعض العقائد في السياقات الدينيَّة والفلسفيَّة بأنها أسرار أو ألغاز عندما تتسم بغموض ذاتي يجعل فهمها عسيرًا، أو حين لا تفصح النصوص التي تَستندُ إليها هذه العقائد عنها بشكل صريح أو مباشر، بل تلمح إليها بإشارات خفية أو دلالات ضمنية. وقد يجتمع الأمران معًا في بعض هذه العقائد، فتكون غامضة في ذاتها، ويغيب عنها الإسناد النصي الواضح، مما يزيد من تعقيد إدراكها وفهمها، وحين يكون النص الديني المؤسس خاليًا من دلالة ظاهرة عليها، سيكون الكشف عن المراد النظري وتفسيره رهينًا بالتأويل الباطني أو النظر الفلسفي.
فمثلاً: يعتبر الاعتقاد بالثالوث، المتعلق بتفسير علاقة ذات الإله وطبيعته بتشخُّصاته، مركزيًّا في الإيمان المسيحي، فـ”الثالوث الأقدس بالغ الأهميَّة في الإيمان المسيحي”، كما يؤكد ذلك الأب هنري بولاد اليسوعي، ويستدرك على هذه الأهميَّة فيقول إلا أنَّه مع ذلك فإنَّ “أكثر الأسئلة وأحرجها هي فيه”. وسرُّ المسألة في الثالوث أنَّه “سر الله، كيف يستطيع الإنسان المحدود بعقله المحدود أن يضع في ميزان عقله سر الثالوث الأقدس، الذي هو سر الله”. وهنا ينبه الأب هنري بولاد اليسوعي على أهميَّة أن يتوقف العقل، فـ”حين نصل إلى مستوى الإيمان نقول: قف! لا تستخدم عقلك لأنَّ في استخدامه لخطرًا”. ويفسر هذه الدعوة إلى التفويض والتوقف في جانب منها إلى أنَّ أحد الأقانيم الثلاثة وهو الروح القدس “شخصيَّة غامضة وشبه متناقضة!”. وعندما حاول الأب هنري بولاد اليسوعي أن يشرح مفهوم الثالوث انتهى إلى التسليم باستحالة ذلك: “حاولنا أن نحلل ما لا يحلل، وأن نفسر ما لا يفسر لنفهم”.
ويؤكد كذلك الأب فاضل سيداروس “أنَّ الله الثالوث الأحد سِرُّ الأسرار المسيحيَّة”. ويبين أنَّ إطلاق كلمة (السر) كان ضروريًّا على الاعتقاد بالذات الواحدة مع الأقانيم الثلاثة أو التَّشخُّصات الثلاثة (وكثير من المسيحيين يسميها الصفات)، فـ”لقد عنونَّا حديثنا اللاهوتي عن الله بلفظة سر، [فإنَّ] المفهوم الشعبي للسر هو ما لا يفهمه الإنسان؛ لما في السر من معنى اللغز والغموض والخفاء، إنَّ هذا التعريف هو بالفعل بحسب الفيلسوف المسيحي تعريف المسألة، إنَّ الإنسان يعرف الله ولا يعرفه في آن واحد”.
هذا من جهة غموض معنى الثالوث، أما من جهة مستنده من النصوص، فيرى كِبَار نُظَّار المسيحيَّة أنَّ فكرة الثالوث وفكرة تقديس رقم (ثلاثة) مع أنَّها أهم فكرة جوهريَّة في الديانة المسيحيَّة إلا أنَّها لم ترِد في ظاهر نصوص الأناجيل المقدَّسة التي تم الاعتراف بها لاحقًا من بين عشرات الأناجيل المختلفة التي كانت متداولة بين المسيحيين خلال قرون عديدة، وإنما مصدرها الأصلي فلسفي. فقد جاء في مطلع إنجيل يوحنا ما نصه: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ“. وهذا الإنجيل بإجماع المسيحيين هو آخر الأناجيل زمنًا وأصعبها لغة وأسلوبًا، فأسلوبه الفلسفي لا يخفى على القارئ، وقد كُتِبَ باللغة اليونانيَّة، واستخدم كاتب الإنجيل كلمة (اللوغوس، بالإغريقية: Λούος، وبالإنجليزية: Logos) التي تُرْجِمَت إلى (الكلمة)، واللوغوس مصطلحٌ فلسفيٌّ معروف استخدمه من قبل الفيلسوف اليوناني هِرَقْليطُس (475 ق. م). إنَّ هذه الفقرة التي وردت في مطلع إنجيل يوحنا بحمولتها الفلسفيَّة أشار إليه قبل ظهور المسيحيَّة الفيلسوف اليوناني أفلاطون. يقول القديس أوغسطينوس (430م) مُشيرً إلى أصل فكرة التثليث التي وردت في مطلع إنجيل يوحنا: “قرأتُ هناك [=يعني في كتب أفلاطون] أنَّه في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. لا بهذه الألفاظ، بل بما يثبته بعينه من الحجج الكثيرة”. ويؤكد هذه الفكرة أيضًا أحد كبار علماء المسيحيَّة في القرون الوسطى، وهو توما الأكويني، أحد كبار النُّظَّار اللاهوتيين والملقب بـ(المعلم الملائكي)، حيث يقول: “في ثالوث الأقانيم، قال أرسطو في كتاب (السماء والعالم): (بهذا العدد [يعني الثلاثي] نعظم الإله الواحد المتعالي عن صفات المخلوقات)”.
ويؤكد الباحث فريتز هيرمان، البروفيسور المتخصص في فلسفة أفلاطون، على أهميَّة فلسفة أفلاطون وأرسطو في تأسيس أهم العقائد في المسيحيَّة، حيث يقول: “لا يوجد فكرٌ لاحقٌ، ولا مفكرٌ أتى بعده، لم يكن متأثرًا بفكر أفلاطون حول الإله والآلهة، وهذا ينطبق على أرسطو قبل كل شيء، وهو الذي غدت كتبه ذات تأثيرٍ رائعٍ على التفكير الغربي بصورة عامَّة وعلى الكنيسة المسيحيَّة في الغرب بصورةٍ خاصَّةٍ. وكتابٌ عن الفلسفة اليونانية لن يكون كاملاً من غير فصلٍ يتحدث عن الدين اليوناني. والسبب في ذلك، على الأقل من بداية القرن الخامس قبل الميلاد فصاعِدًا، أنَّ التفكير اللاهوتي شَكَّلَ جزءًا لا يتجزأ من التفكير الفلسفي فيما يخص بعض أهم المؤثرين الأوائل من فلاسفة ما قبل سقراط“.
ويؤكد العالم الغربي البروفيسور فيليب كيري، المتخصص في الأديان والفلسفة، على الأثر البالغ للفلسفة في باب الإلهيَّات على الأديان السماويَّة، حيث يقول: “من تاريخ التفاعل والتداخل بين الفلسفة والدين في الغرب: استخدام اليهوديَّة والمسيحيَّة لمفاهيم فلسفيَّة، حيث إنَّ المسيحيَّة، بصورةٍ خاصَّةٍ، وربما أكثر من اليهوديَّة، استعارت أو بالأحرى سَرَقَتْ مفاهيمها عن الإله من مفاهيم أفلاطون عن الإله، واستخدمها أحيانًا في غير سياقها”.
ومن الأمور التي تبدو متناقضة، أنَّ معظم الفلاسفة اليونانيين، ومن تابعهم في العصور القديمة، لم يروا تعارضًا بين الوثنيَّة وممارسة عبادة الأصنام وبين مفهوم التجريد الإلهي. فمع كون الفلاسفة اليونان، من الوثنيين الذين يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجارة والرُّخام، إلا أنَّهم في الوقت نفسه كانوا يجردون إلهًا لهم يسمونه: (المحرك الأول) أو (العلة الأولى)، ويعتقدون أنَّه إلهٌ غامضٌ وخفيٌّ ومجهولٌ، وأنَّه عقلٌ محضٌ وصورةٌ محضةٌ، ولا يرون أي تعارض بين الاعتقاد بذلك وبين عبادتهم واتخاذهم الأصنام المجسدة للآلهة، والسبب في ذلك اعتقادهم أنَّ الأصنام مجرد رموز مجازيَّة تدل على تلك الآلهة. فالفيلسوف اليوناني يوهيميروس القورينائي Euhemerus (ت ٢٦٠ قبل الميلاد)، كان يُقَرِّر أنَّ الأصنام والتماثيل التي كانت تُعْبَد كآلهة في المجتمع اليوناني وغيره، هي في الحقيقية ليست أكثر من شخصيات بارزة ومعتبرة في التاريخ، حيث بدأ النَّاس في عبادتهم وتقديسهم كآلهة بعد موتهم. أمَّا الفيلسوف والمنطقي فَرْفُوريوس (Porphyry)، وهو تلميذ الفيلسوف أفلوطين ويُعتبر من أهم من أسهم في تحرير المنطق الأرسطي واستخدمه في نقض عقائد الديانتين اليهوديَّة والمسيحيَّة، فيقول دفاعًا عن الوثنيَّة: “الذين يصنعون التماثيل كتبجيل للآلهة لا يتصورون أنَّ الإله بذاته في الخشب أو الحجر المستخدم في صنعها، إنَّما تم صنعها ليتذكر من رآها الإله؛ لأداء طقوس التطهير، أو لتسهيل أداء الصلاة، حيث يتوسل كل شخص إلى الإله”.
فهؤلاء لم يروا تلازمًا بين التجسيم وعبادة الأصنام وبين الاعتقاد بإلهٍ خفي غامض مجرد عن الصفات. فقد جاء في سفر (أعمال الرسل) للوقا الإنجيلي: “وفيما كان بولُس ينتَظِرُهُما في أثينا، ٱحْتَدَّتْ روحُهُ فيهِ إذْ رأى المدينةَ مَمْلوءَةً أصْنامًا. وكانَ أيضًا بَعْضُ الفلاسِفَةِ الإبِيقورِيِّينَ والرِّواقِيّين يُباحِثونَهُ، ويقولونَ بَعْضُهُم: (ماذا يُريدُ هٰذا الثَّرثار أن يقول؟). ويقولُ آخَرون: (يبدو أنّهُ مُبَشِّرٌ بآلِهَةٍ غَريبَة!). ووقَفَ بولُس وقال: (فإنّي بينما كُنْتُ أتَجَوَّلُ وأُشاهِدُ معابِدكم، وجَدتُ مَذْبَحًا مكتوبًا عليه: (إلى الإلٰهِ المَجْهول. فما تَعْبُدونَهُ وأنتُم تَجْهَلونهُ، بهِ أنا أُبَشِّرُكم. فالله الذي صنَعَ العالم وجميعَ ما فيه، وهو ربُّ السَّماءِ والأرْض، لا يَسْكُنُ في هيكل منْ صُنْعِ الأيدي)”.
وينتقد ابن تيميَّة المسيحيين لتأثرهم بعقيدة وألفاظ فلاسفة اليونان في الإله وخلطهم ذلك بطريقة الأنبياء، حيث يقول: ” وَحِينَئِذٍ فَعُدُولُكُمْ عَنْ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَى طَرِيقَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ. وفي كتبهم أنَّ بولص لما صار إلى أيثينية دار الفلاسفة، وفيها دارُ الأصنام، وجد مكتوبًا على باب دار العلماء: (الإلهُ الخفيُّ الذي لا يُعْرَف هو الذي خَلَقَ العَالَم). فَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَكَيْفَ يُعْدَلُ عَنْ طَرِيقَةِ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ كَمُوسَى، وَدَاوُدَ، وَالْمَسِيحِ، إِلَى طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَطِّلِينَ؟ وَلَكِنَّ النَّصَارَى رَكَّبُوا دِينًا مِنْ دِينَيْنِ: مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُوَحِّدِينَ وَدِينِ الْمُشْرِكِينَ، فَصَارَ فِي دِينِهِمْ قِسْطٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِسْطٌ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ دِينِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، كَمَا أَحْدَثُوا أَلْفَاظَ الْأَقَانِيمِ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ”.
ومما دخل إلى الديانتين اليهوديَّة والمسيحيَّة إثر الخلط بين المكونين: الديني والفلسفي، وذلك بفضل احتضان التراث الفلسفي اليوناني، إعادة النظر في تقييم معاني النصوص الدينيَّة المقدَّسة التي تتعلق بالطبيعة الإلهيَّة (الذات والصفات والأفعال الإلهيَّة)، وذلك من خلال منهج (التأويل الفلسفي). ويؤكد الباحث الغربي الدكتور جون بالمر أنَّ المدافعين المسيحيين اليونان في القرن الثاني الميلادي استخدموا بصورة واضحة وصريحة ومهمة (اللاهوت التنـزيهي اليوناني)، وأنَّ أعظم مصدر استقوا منه هذا اللاهوت التنـزيهي بلا نزاع هو الأفلاطونيَّة الوسطى. وأنَّ هذا المصدر أحيانًا -وفي بعض الحالات- وصلهم عن طريق اليهوديَّة الهِلنسْتيَّة (Hellenistic Judaism). وكان غرضهم الرئيس –كما يؤكد الدكتور بالمر– هو دحض عقائد المخالفين باستخدام المناهج اليونانية التنـزيهيَّة، إلى درجة أنَّ المسيحيين قد اتهموا بسبب ذلك المنهج السلبي بأنَّهم ملاحدة!
ويؤكد الباحث اليهودي ماكس ديمون على أهميَّة دور الفيلسوف اليهودي فيلون السكندري (40م) في دمج المنهج التأويلي الفلسفي في اليهوديَّة ومن بعدها في المسيحيَّة. حيث يقول: “قرَّر فيلون، الذي كان على درايةٍ بالعهد القديم بترجمته اليونانية فقط، أن يجعله أكثر ملائمة لدى العقلانيين اليونان، وذلك من خلال وضع غلافٍ يونانيًّ على الوحي اليهودي. هذا ما فعله بمساعدة المجاز وفلسفة أفلاطون. قام الفيلسوف اليهودي فيلون السكندري بدمج العهد القديم بأعمال الفيلسوف اليوناني أفلاطون. ولقد صاغ فيلون الديانة اليهودية حول إطارٍ ميتافيزيقيٍ إغريقيٍ تمامًا، إلى درجة أنَّه أثَّر على كل من اليهود والمسيحيين في تأسيس علم كلام جديد خاص بهم. وأصبح علم الكلام اليهودي واسع الانتشار، لدرجة أنه أصبح يؤثر على العقيدة المسيحية التي تشكلت في المستقبل”.
ولهذا، حينما جاء فيلون السكندري إلى نصوص التوراة اعتقد أنَّ ظواهرها تُوحي بالتجسيم، وهنا أعمل التأويل الفلسفي فيها، فهو يقول مثلاً: “الله ليس مجسمًا، ويخبرنا موسى أنَّ الإنسان خلق على صورة الله، لكن لا أحد يمثل الشبه من خلال خصائص الجسد، لأنَّ الله ليس في صورة بشريَّة، فكلمة صورة تستخدم هنا فيما يتعلق بالعقل، فهو غير مرئي بينما يرى كل الأشياء، ويدرك مواد الآخرين، لكن جوهره الخاص غير معروف”.
ومن الملاحظات المهمة التي أشار إليها الفيلسوف اليهودي الأمريكي نوربرت سامويلسون حول دخول (التأويل الفلسفي) إلى اليهوديَّة، أنَّ مصدر هذا النوع من التنزيه “ليس الكتاب المقدس”، وإنَّما أتى من سلطان معرفي خارج عن الكتاب المقدس، “هو الذي أجبرَ الفلاسفة اليهود على إنكارِ المعنى الحرفي [=الظاهري] لجميع الصفات المتعلقة بالله التي وردت في النصوص بصيغٍ جسميَّةٍ”.
وهكذا دخل (التأويل الفلسفي) ضمن القراءة العقلانيَّة الدينيَّة للنصوص المقدَّسة اليهوديَّة، قبل ظهور المسيحيَّة وبعدها، وتَعَمَّق هذا الاتجاه، بموازاة الاتجاه التقليدي، حتى وقتنا الحاضر، وكان له حضوره في العصور الوسطى المتأخرة. ومن أمثلة هذا الاتجاه الفلسفي في قراءة التوراة قراءة فلسفيَّة للحاخام والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون الأندلسي، الذي يقول: “أنا أؤمن بإيمانٍ تامٍ أنَّه يجب ألا يُدرك الله بمصطلحاتٍ جسديَّة، ويجب أن تُفهم التعبيرات المُجَسِّمَة المُطَبَّقَة على الله في الكتاب الُقَدَّس [=التوراة] بمعنى مجازي ليس إلا”. فـ”معنى قوله [في التوراة وكتب الأنبياء]: (تحت رجليه)، (مكتوب بأصبع الله)، (يد الله)، (عين الله)، (أذن الله)، وما أشبه هذه الأمور، أنَّ جميعها بحسب عقول بني آدم الذين ليس يعرفون إلا الأجسام، وخاطبتهم الشريعة بحسب لغتهم، فالألفاظ التي تقتضي التجسيم جميعها أمثال”. ولهذا يقول ابن تيميَّة عنه: “موسى بن ميمون صاحب (دلالة الحائرين)…يمزج الأقوال النبويَّة بالأقوال الفلسفيَّة ويتأولها عليها”.
ومن التصورات غير الدقيقة الاعتقاد بأنَّ الاتجاه الكلامي اليهودي لم يكن له دورٌ جوهريٌّ في دخول وتعميق مفاهيم ومبادئ (التأويل الفلسفي) في الاتجاهات الكلاميَّة اللاحقة في المسيحيَّة وفي من تأثر بعلماء الكلام المسيحيين لاحقًا. ففلاسفة اليهود ومدرسة التأويل اليهودي الإسكندري قبل المسيحيَّة، مرورًا بفلاسفة اليهود بعد المسيحيَّة، وبعد الإسلام مثل سعاديا الفيومي، وموسى بن ميمون، وابن كمونة، وغيره، شكلوا اتجاهًا راسخًا ومؤثرًا في اليهوديَّة وفي غيرها من كثير من أتباع الأديان، فالمدرسة التأويليَّة الفلسفيَّة الكلاميَّة اليهوديَّة للطبيعة الإلهيَّة أقدم من مدارس الكلام المسيحية والإسلامية.
ولهذا، كان ابن تيميَّة في تحليله لمصادر المقالات دقيقًا وعارفًا، وقد بيَّن مرارًا أنَّ أصل مقالة التأويل الفلسفي للصفات الإلهية مأخوذة عن فلاسفة اليهود. وقد تعقبه العالم الأشعري ابن جَهْبَل الكلابي، وذلك لعدم معرفته بالعقائد والأديان، فقام بتجهيل ابن تيميَّة والإنكار عليه. يقول ابن جَهْبَل: “ثم أفاد المدعي [ابن تيميَّة]، وأسند أن هذه المقالة مأخوذة من تلامذة اليهود“. وأجاب ابن جَهْبَل عن كلام ابن تيميَّة بقوله: “فيقال له: أيها المدعي أنَّ هذه المقالة مأخوذة من تلامذة اليهود؛ قد خالفت الضرورة في ذلك، فإنه ما يخفى على جميع الخواص وكثير من العوام أنَّ اليهود مجسمة مشبهة، فكيف يكون ضد التجسيم والتشبيه مأخوذاً عنهم؟ وأما المشركون فكانوا عباد أوثان، وقد بينت الأئمة أن عبدة الأصنام تلامذة المشبهة، وأن أصل عبادة الصنم التشبيه، فكيف يكون نفيه مأخوذا عنهم”.
وهنا يظهر أنَّ ابن جَهْبَل لم يكن يعرف ولا يدرك حقيقة قضايا كانت معروفة للمتخصصين والعارفين في تاريخ الأديان والفلسفة، حيث لم يعلم ابن جَهْبَل أنَّ نُظَّار اليهود قبل الإسلام بمئات السنين هم من أرسى دعائم التأويل الفلسفي للصفات الإلهية. وكذلك لم يعلم أنَّ نُظَّار الفلاسفة اليونانيين ومن جاء بعدهم لا يُمانعون من عبادة الأصنام وتجسيد الآلهة في الخشب والرخام ونحوه ذلك، ولا يرون ذلك يتعارض مع تجريد الإله.
وعلى أي حالٍ، وعودة إلى أصل الموضوع (التاريخ الديني للتأويل الفلسفي)، فقد برزت معضلات دينيَّة معقدة واجهت اللاهوتيين تتعلق بمنهجيَّة قراءة وتوجيه النص الإلهي الذي يتعارض مع تلك الأصول الفلسفيَّة، وخصوصًا في باب الطبيعة الإلهيَّة. فالنصوص الدينيَّة المقدسة جاءت فيها الصفات والأفعال الإلهيَّة واضحة وظاهرة مما حَمَلَ هذا التيار المتفلسف على القول إنَّ ذلك الظاهر يدل على التجسيم، ومن ثَمَّ ذهبوا إلى أنَّ هذه الظواهر –ولا بُدَّ- ليست حقيقيَّة، بل غير مقصودة التبة، ولا يجب أن تُحمل على الطبيعة الإلهيَّة؛ حتى لا يُظنَّ أنَّها تثبت التجسيم لصفات الإله، ومن هنا سلكوا طريق التأويل.
وكان من أهم العوامل كان لها تأثيرٌ حاسمٌ في حركة التأويل الفلسفي في فهم وتفسير نصوص: فلاسفة الديانة اليهوديَّة أولاً، حيث ظهر التأويل الفلسفي أولاً في اليهوديَّة وفي مرحلة مبكرة من ظهور المسيحيَّة، ومن بعدهم ظهر على أيدي فلاسفة ومتكلمة الديانة المسيحيَّة، فَظَهَرَ منذ وقتٍ مبكر جيلٌ تبنى واحتضن الفلسفة اليونانيَّة والتأويل الفلسفي للاتجاه الكلامي اليهودي لنصوص التوراة والأنبياء، ثم دخلت تعاليمهم المزدوجة (الدينيَّة والفلسفيَّة) ضمن المتون الاعتقاديَّة الرسميَّة. فالجيل الفلسفي المؤسس أتى معظمه –كما يُنَصُّ على ذلك في تاريخ التدوين المسيحي المبكر- من خلفيات وثنيَّة يونانيَّة، وقد نَجَحَ في تأسيس علم جديد عُرِفَ في الأوساط الدينيَّة المسيحيَّة باسم (apologetic)، أي: “علم الدفاع عن العقائد المسيحيَّة وتزييف العقائد المخالفة”، أو: علم الكلام المسيحي. وترى الباحث الغربية فرانسيس يونغ (2005م) -وهي قسيسة وعالمة لاهوتيَّة بريطانيَّة تعتنق مذهب الميثوديست، وكانت تعمل أستاذة فخرية في جامعة برمنغهام– أنَّ الدافع الأساس لهؤلاء المدافعين المسيحيين الأوائل، الذين كانوا قد تربوا في وسطٍ وثني وتسلحوا بعلم وحجاج الفلسفة اليونانيَّة، هو رفضهم قبول تعاليم الآباء الكلاسيكيَّة (=التقليديَّة) الذي أتوا منها.
ولعل أبرز نقطة اتفق عليها المدافعون المسيحيون هؤلاء، هو أنَّ تأويل ما جاء في النصوص المقدَّسة من تشبيهات تُوهم تجسيمًا (anthropomorphism)، فالله –كما يعتقدون- مختلف كليةً عن أي شيء محسوس، أو عن أي شيءٍ يُمكن أن تتصوره العقول. ومن هذا الموقف الحاسم نشأ التوجه نحو منهج التأويل الفلسفي، أو ما يُعرف باسم اللاهوت التنـزيهي (apophatic theology) أو اللاهوت السلبي (negative theology). وكان من أعظم المؤثرات الفلسفيَّة على هذا الجيل ما يُعرف في تاريخ الفلسفة اليونانية والمسيحيَّة باسم الأفلاطونيَّة الوسطى (Middle Platonism)، والتي تبلورت منذ انشقاق الفيلسوف المعروف أنطيوخُس العسقلاني (Antiochus of Ascalon) (مات حوالي 68 قبل الميلاد)، تلميذ فيلو لاريسا (Philo of Larissa)، الذي دمج مبادئ الرواقيَّة ومبادئ المدرسة المشائيَّة إلى الأفلاطونيَّة، وتخلى عن الأكاديميَّة المحدثة (أكاديميَّة أفلاطون الجديدة) ورفض شكوكها، مُرورًا بالعديد من كبار الفلاسفة المعروفين من أمثال: فيلون السكندري (40م) المؤول اليهودي المعروف، وبلوتارخ (Plutarch)، حتى ننتهي بالفيلسوف المشهور وصاحب أكبر أثر في الديانات، أي أفلوطين (Plotinus)، صاحب الأفلاطونية المحدثة (الأفلوطينيَّة)، والفيض والعقل والنفس الكلية.
وهكذا، أخذت تظهر تبعًا لذلك تقييدات فلسفيَّة تأويليَّة عديدة من قبل رواد وقادة هذا الجيل وتلامذتهم حين الحديث عن النصوص المقدَّسة التي تتناول الطبيعة الإلهيَّة وصفاتها. فعلى سبيل المثال: أريستيدس الأثيني Aristides، كان فيلسوفًا ومُدافعًا مسيحيًا مبكرًا عاش في القرن الثاني الميلادي (كان حيًّا في الفترة من: 124م-126م)، له كتاب (الدفاع) عن المسيحيَّة، قال: “ليس لأحدٍ أن يُطلقَ أسماءً على اللهِ غيرِ الموصوف”. وقال أيضًا: “الله لا اسم له، لأنَّ كل ما له اسمٌ فهو مخلوقٌ من غيره. ولا لون ولا شكل له. لأن من له هذه الخواص يُعد ويُحد. ولا يمتد تحت السماوات لأنه أعلى منها وليست السماء أكبر منه لأن السماء وكل الخلائق محوطة به. ولا يتحرك ولا يُحصى ولا يُعبر عنه لأنه لا يوجد مكان يتحرك فيه أو إليه. وبما أنَّه لا يُعد فهو لا يُحد ولا يحيط به شيء. لا سخط عنده ولا غيظ لأنه لا انفعال عنده، بل هو عقلي”. وكذلك جاستن مارتر (100م-165م)، المعروف بالقديس يوستينوس الشهيد، الفيلسوف المتكلم (المُدافِع)، الذي قال في وصف الله: “الإله الواحد غير المحدود، وغير المنظور، الذي لا يستوعبه عقل، الذي يُفهم من خلال التفكير العقلاني والمنطق”. وكذلك، كان الفيلسوف واللاهوتي إكليمندس الاسكندري (215م)، يستخدم الفلسفة اليونانيَّة لتفسير التراث المسيحي، مقتفيًا نهج فلاسفة اليهود من قبله مع التوراة، ومقتبسًا منهم مرارًا وتكرارًا. ويخبرنا إكليمندس أنه يجب الوصول إلى لله عن طريق التجريد (=التنزيه)؛ لأنه فوق المكان والزمان، وفوق الكلام والفكر. وفي نقطة منهجيَّة مهمة، يؤكد إكليمندس أنَّ الطريق القويم والنهج المستقيم لتدعيم أركان (التنزيه الفلسفي) يتمثل في معرفة الإله عن طريق النفي (=السُّلوب) وليس الإثبات، فمعرفة التنزيه تمر عن طريق النفي! يقول إكليمندس: “ندخل بطريقة ما إلى معرفة القدير، مدركين ليس ما هو، ولكن ما ليس هو”. ويؤكد إكليمندس أنَّ الإله -بصورة صارمة- بلا أسماء على الرغم من أننا نطلق عليه أسماء. والإله ليس لديه وحدة ولا عدد، ولا عرض ولا جوهر، ونحن نستخدم الكلمات والمفاهيم، ليس لأنَّها تصفه، ولكن لأننا بحاجة إلى شيءٍ نستند عليه. فالإله المتعالي ليس موضوعًا للمعرفة ولا يمكن الاقتراب منه. ويعتقد الفيلسوف اللاهوتي المسيحي أوريجانوس (254م)، بوجوب تنزيه الإله، وأنه إذا كانت نصوص الكتاب المقدس تضيف إلى الله صفات كالنفس، فالواجب فيها أن تحمل على المعنى المجازي لا على الظاهر، فالله ليس جسمًا وإلا لكان متغيرًا، والله روح عاقل غير منظور، مستقل عن الزمان والمكان. وحين جاء أحد أعلام مدرسة أنطاكيا وأهم معلمي كنيسة المشرق، وهو أُسْقُف مدينة المِصِّيصَة، مار ثيودورس المصيصي (428م)، قال: “نَزَلَ [الله] لا يعني أنه تحرك من مكان إلى آخر، فلا يجب أن نعتبر الطبيعة الإلهية تنتقل من مكان إلى مكان، لأنه لا يمكن أن تحصر في مكان واحد لأنها لا جسدية”. وكذلك، القديس أوغسطينوس (430م)، الذي يرى أنَّ الله بسيط غير مركب ولهذا فهو عليمٌ بذاته ولا يفتقر للصفات، ويقول: “نسمي الكائن الإلهي الأسمى بسيطًا، لا فرق فيه بين الصفة والجوهر، والذي لا يدين بألوهيته وحكمته إلا لذاته، صحيح أن الكتب المقدسة تسميه كثير المزايا [الصفات]…لكنه هو كل ما له، وكل ذلك ليس سوى ذاته”.
ولهذا، يؤكد الأسقف كاليستوس تيموثي على أهميَّة المنهج القويم المتمثل في تعميق النفي والسلوب حين الحديث عن الطبيعة الإلهيَّة وليس الإثبات والتقرير الذي يحمي تنزيه وتجريد الله، فإنَّه: “بواسطة اللاهوت التنزيهي apophatic theology تحافظ المسيحيَّة على سمو الله المطلق. أمَّا اللاهوت التقريري الثبوتي Cataphatic theology فيحتاج لموازنته وتصويبه عن طريق التعابير السلبية. فقولنا عن الله أنه صالح، حكيم، إلخ، يعبر عن نعوت صحيحة بحد ذاتها، لكنها نعوت ليست ملائمة لتحديد طبيعة الإله في عمقها”.
وهذا المنهج “القويم” الذي يقرره كاليستوس تيموثي هو في الحقيقي خلاف نصوص الكتب المقدَّسة، يقول ابن تيميَّة: “والله سبحانه بعث رسله بإثباتٍ مفصَّلٍ ونفيٍ مجملٍ، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل…فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم..فإنهم على ضد ذلك، يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل”.
إنَّ هذه التقريرات العقائديَّة المسيحيَّة فيما يتعلق بالطبيعة الإلهيَّة وصفاتها إنَّما جاءت بعد إعمال منهج (التأويل الفلسفي)، الذي رأوا أنَّه ضروريٌّ لمعالجة مشكلات ومعضلات النصوص المقدَّسة التي ظهرت أمامهم -بعد قراءتها قراءة فلسفيَّة- يُوهم ظاهر كثيرٍ منها المعاني “الباطلة” و”الكفريَّة” عندهم. وفي الحقيقة، فإنَّ تلك التقريرات العقائديَّة المسيحيَّة تتماهى مع الأصل المقتبس منه، وهو إرث الفلاسفة اليونان ومن تابعهم وجاء بعدهم من الفلاسفة. يقول الباحث الغربي في الفلسفة كينيث سيسكين: “على أيدي الفلاسفة اليونانيين أثَّر التنظيم المنهجي على كل شيءٍ، من الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الطقس، إلى الطريقة التي يتصورون بها الألوهيَّة، من خلال جعل التجسيم يبدو سخيفًا”.
ومن الأمثلة من التراث الفلسفي القديم على (التأويل الفلسفي)، ما يأتي: يقول الفيلسوف اليوناني إكسينوفان: “الله لا يمكن أن يكون لا متناهيًا ولا أن يكون متناهيًا، لا يمكن أن يشبه لا باللاموجود ولا بالموجودات، ولا يمكن أن يتحرك ولا أن يكون لا متحركًا”. وكان الفيلسوف اليوناني إكسينوفان -كما يُقَرِّر ذلك جماعة من مؤرخي الفلسفة الغربية- يؤمن بإله واحد، وهو سيد جميع الآلهة والبشر، ليس مثل البشر لا في الجسد ولا في العقل، ليس له أبعاض، يعقل بذاته ويسمع بذاته، ويرى بذاته، غير متصل حسيًا بالعَالَم، مستندًا في ذلك إلى العقل لا إلى الوحي. ويقول أفلاطون: “لو اضطر [الإنسان] إلى النظر فجأة إلى مصدر النور لما استطاع ذلك بفعل الانبهار، لأنَّ عيون الروح السافلة لا تستطيع إدامة عيونها ثابتة على الإلهي. فماهيَّة العلوي لا لون لها ولا شكل، وهي غير قابلة للجس [للحواس]، بل للتبين بهدى من الروح والذكاء”. ويقول أمونيوس: “أرسطوطاليس كان يقول: الإله لا يتحرك، لأنَّ كل حركة لا تخلو من أن تكون على جهتين: إما مكانية وهي الزمانية، وإما فكرية”. ويقول أرسطو نفسه: “أن هناك جوهرًا أبديًا وساكنًا لا يتحرك، ومفارقًا لعالم الأشياء المحسوسة، ومثل هذا الجوهر لا يمكن أن يكون له حَدّ، وإنما هو بغير أجزاء، ولا يقبل القسمة، لا ينفعل ولا يطرأ عليه أي تغير، ما دامت جميع الأنواع الأخرى من التغير تصبح مستحيلة بدون التغير في المكان”. ويقول إيمبيدوكليس: “ليس بمقدورنا الاقتراب من الألوهيَّة، ولا رصدها بالعين، ولا إمساكها باليد”. ويقول الفيلسوف اليوناني ثاوفرسطيس (٣٧٠ قبل الميلاد): “الإلهيَّة لا تتحرك”. ويقول سمبليقوس: “إنَّ كل الحركات في العالم لها علة أولى أو محرك، وهذا المحرك قد قال عنه أرسطو إنَّه غير متحرك”.
تقول زيغريد هونكه: “الإله عند أرسطو هو صاحب الكمال المطلق، وفقًا للاعتقاد الذي ساد عند الإغريق. إنه إله ثابت لا يتحرك، وليست له نهاية، وهو يحرك كل الأشياء في هدوء، أما هو فثابت لا يتغير، فالحركة هنا تنشأ من كل ما هو ناقص وغير كامل”. ويقول إدموند شيربونييه: “إله أفلاطون أو محرك أرسطو لا يتحرك”. ويقول العالم البريطاني المتخصص في الفلسفة اليونانيَّة ريتشارد والزَر: “الاستمراريَّة غير المنقطعة للتقليد الغربي تستند إلى حقيقة أنَّ المسيحيين في الإمبراطوريَّة الرومانية لم يرفضوا التراث الوثني، وإنما جعلوه جزءًا رئيسًا من مناهجهم التعليميَّة”. ويقول المفكر الفرنسي روجيه جارودي: “التيار المسيحي المتأثر باليهوديَّة كانت له السيطرة، حتى تم الالتحام بالفكر الإغريقي عبر القديس بولس، ولم يلبث هذا التيار اليهودي في المسيحيَّة أن احتواه التيار الإغريقي، بل طغى عليه، وأغرقه في أغلب الأحيان”.
ومن القضايا التي انتقلت إلى دائرة الجدل الديني في الإسلام، قضية التأويل الفلسفي للطبيعة الإلهيَّة، وإذا كانت قد دخلت على اليهود والمسيحيين من قبل جراء اعتمادهم على الفلسفة اليونانيَّة، فإنَّ هذا الأمر تكرر في تاريخ الإسلام، وذلك من خلال الفلاسفة وعلماء الكلام، الذين تبنوا المناهج الفلسفيَّة في قراءة النصوص الدينيَّة، فوجدوا أنَّ منطوق تلك النصوص وحقيقتها لا تتوافق مع تلك الأصول والمبادئ الفلسفيَّة، وكان الحل هو التوفيق بين الأصول الفلسفيَّة والنصوص الدينيَّة من خلال منهج الحقيقية المزدوجة التي تقسم الخطاب إلى عدة خطابات الظاهر والباطن، أو الحقيقة والمجاز، أو طبقات (العامة، الخاصة، وخاصة الخاصة)، أو (العامي، المتكلم، الفيلسوف)، من خلال إعمال منهج التأويل الفلسفي، الذي ينتهي في حقيقته إلى تقسيم النص إلى ظاهر وباطن.
ولهذا، فإنَّه أمام هذه المعضلة في قراءة النصوص الدينيَّة المقدَّسة، لجأ الفيلسوف ابن سينا -مثلاً- إلى أنَّ ما جاء في القرآن الكريم مما يتعلق بالطبيعة الإلهيَّة ليس خطابًا حقيقيًّا، بل هو خطابٌ موجَّهٌ إلى العوام بما يتناسب ومستوى عقولهم الحسيَّة، التي لا تفهم الأصول والمبادئ الفلسفيَّة العقليَّة المتعالية والمجردة، ولو عرضت على تلك العقول تلك المبادئ الفلسفيَّة المتعلقة بالطبيعة الإلهيَّة لقالوا ليس ثمَّة إلهٌ تقرره تلك المبادئ الفلسفيَّة، فليس ثمَّة إلا العدم المحض.
يقول ابن سينا: “أما أمر الشرع: فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد: وهو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة. ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحداً مقدساً عن الكم، والكيف، والأين، والمتى؛ والوضع، والتغير؛ حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع، أو يكون لها جزء وجودي كمي أو معنوي، ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم ولا داخلة، ولا بحيث تصح الإشارة إليه أنها هناك، ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور، ولو ألقي هذا على هذه الصورة، إلى العرب العاربة أو العبرانيين والأجلاف؛ لتسارعوا إلى العناد؛ واتفقوا على أنَّ الإيمان المدعو إليه إيمان معدوم أصلاً. ولهذا ورد التوحيد تشبيها كله؛ ثم لم يرد في القرآن من هذا الأمر الأهم، شيءٌ. ولا أتى بصريح ما يحتاج اليه من التوحيد بيان مفصل؛ بل أتى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر، وبعضه تنزيهًا مطلقًا عامًّا جداً لا تخصيص ولا تفسير له. وأما أخبار التشبيه، فأكثر من أن تحصى. ولكن القوم [=المتفلسفة] لا يقبلونها. وإذا كان الأمر في التوحيد هكذا؛ فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية“.
وواجهت تلك المعضلة نفسها المتكلمين الإسلاميين، أي معضلة التعارض بين نصوص الوحي وبين الأصول الفلسفيَّة المتعلقة بالطبيعة الإلهيَّة.
يقول فخر الدين الرازي، في كتابه (أساس التقديس)، الذي خصَّصَهُ لمعالجة موضوع الصفات الإلهيَّة في القرآن والسنة: “اعلم: أنَّ ذكر هذه المتشابهات، صار شبهة عظيمة للخلق في الإلهيات وفي النبوات، وفي الشرائع. أما في الإلهيات، فلأن المصدقين بالقرآن، اعتقدوا في الله تعالى اعتقادات باطلة، حتى صاروا جاهلين بالله تعالى، وواصفين له سبحانه وتعالى بما ينافي الإلهية والقدم. وأما في الندوات، فلان العارفين بوجوب تنزيه الله تعالى عن هذه الصفات، جعلوا هذا طعنًا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لو كان رسولاً حقًّا من عند الله تعالى لكان أولى المراتب أن يكون عارفا بربه، وحيث لم يعرف ربه، بل وصفه بصفات المحدثات، امتنع كونه رسولاً حقًّا…ومن المعلوم بالضرورة أنَّ هذه الآيات المتشابهات سببٌ عظيمٌ لضلال الخلق، ووقوعهم في التجسيم والتشبيه”.
ويبين فخر الدين الرازي أنَّ “العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق العقليَّة المحضة، فمن سَمِعَ من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظنَّ أنَّ هذا عدمٌ محضٌ فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وتوهموه، ويكون ذلك مخلوطًا بما يدل على الحق الصريح”.
وينقل فخر الدين الرازي عن الفيلسوف أرسطو نصًّا يستأنس به في هذا الباب وفي المدخل إلى المعارف الإلهيَّة، حيث يقول: “ونختم هذا الباب بما روي عن أرسطاطاليس أنَّه كتب في أول كتابه (في الإلهيات): من أراد أن يشرع في المعارف الإلهيَّة فليستحدث لنفسه فطرة أخرى…وإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث له فطرة أخرى وعقلاً آخر، بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات”. ثم يعقب الرازي بقوله: “قال الشيخ [ابن سينا] رضي الله عنه: وهذا كلام موافق للوحي والنبوة”.
ويتعقبه ابن تيميَّة قائلاً: “قد أُثْبِتَ بالفطرة التي اتفق عليها أهل الفطر السليمة وبالنقول المتواترة عن المرسلين من الأخبار وما نطقت به كتب الله تعالى وما اتفق عليه المؤمنون بالرسل قبل حدوث البدع: أنَّ الله تعالى عز وجل فوق العالم، وثبت أيضًا بالكتاب والسنة والإجماع أنَّه استوى على العرش، فالعلو على العالم معروف بالفطرة، والمعقول، وبالشرعة، والمنقول. وأما الاستواء فإنَّما عُلِمَ بالسمع المنقول. وأكثر أهل الكلام والفلسفة من النُّفاة والمثبتة يقولون: هذا لا يمكن إلا أن يكون جسمًا متحيزًا…ثم قال الرازي ونختم هذا الباب بما روي عن أرسطاطاليس أنَّه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى…[فيقال له] أنَّ هذا الكلام هو وما ذكره من الحجة له أشبه بكلام أهل الجهل والضلالة ومن لا يدري ما يخرج منه من المقال من كلام أهل العقل والعلم والبيان، وهو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين من كلام العلماء المجادلين بالحق…ويقال له ألم يكن في أثارة الأنبياء والمرسلين ما يُستغنى به في أعظم المطالب وأشرف المعارف عن ما يروى عن معلم المبدلة من الضالين الذين انتقلوا عن الحقيقة الثابتة بالعقل والدين، وهو رأس هؤلاء الدهرية. ثم هذا الكلام لم تعلم أنه ثابت عنه وإنما قلت بما يروى عنه، فهو منقطع عن هؤلاء الصابئة المبدلين”.
وكذلك ما طَرَحَه العالم الكبير سعد الدين التَّفْتَازَانِي (792هـ) في سؤالٍ مهمٍ جدًا، حيث يقول: “فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة، فما بال الكتب السماويَّة والأحاديث النبويَّة مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك، من غير أن يقع في موضعٍ منها تصريحٌ بنفي ذلك…[مع ما] تَقَرَّر في فِطَرة العقلاء، مع اختلاف الأديان والآراء، من التوجه إلى العلو عند الدعاء ورفع الأيدي إلى السماء؟ أجيب: بأنَّه لما كان التنـزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامَّة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة؛ كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى صلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحقِّ ما يكون ظاهرًا في التشبيه، وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنـزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث”.
ويقول أيضاً: “لما نُقلت الفلسفة إلى العربيَّة وخاض فيها الإسلاميون، حاولوا الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه الشريعة، فخلطوا بالكلام كثيراً من الفلسفة، ليتحققوا مقاصدها فيتمكنوا من إبطالها وهلم جراً إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيات وخاضوا في الرياضيات حتى كاد لا يتميز عن الفلسفة، لولا اشتماله على السمعيات وهذا كلام المتأخرين”. ويعترف العالم والمتكلم أحمد بن يحيى الهروي، المعروف بالتفتازاني الحفيد (916هـ)، بأنَّ مبادئ المنهج التأويلي إنَّما أخذه المتكلمون من الفلاسفة، حيث يقول: “اعلم أن تلك المبادئ ليست مخالفة للشرع أو العقل، لكنها مما استخرجها الفلاسفة أولاً، ودونوها في علومهم التي بعض مسائلها لا تطابق الشرع، وإن لم يقصدوا المخالفة، ثم تبعهم المتكلمون. ودعوى أن المتكلمين استخرجوها من عند أنفسهم بلا أخذ مكابرة”.
ولهذا كانت نتيجة التأويل الفلسفي الذي أَعْمَلَهُ الفلاسفة والمتكلمون في قراءتهم للنصوص الدينيَّة، أن تحولت دلالة تلك النصوص على أصولهم الفلسفيَّة إلى كلمات لا معنى لها، بل أقرب إلى الألغاز والطلاسم. وهذا ليس إلزامًا وإنَّما مما يعترفون به ويقرون له. فمثلاً: حين انتقد ابن تيميَّة المتكلمين في منهجهم التأويلي للنصوص الدينيَّة، وأشار إلى أنَّ استشهاداتهم الدينيَّة على تنـزيهاتهم دلالتها كالإلغاز. رد عليه المتكلم شهاب الدين ابن جَهْبَل الحلبي الشافعي (733 هـ)، فقال: “قال [=يعني ابن تيميَّة]: (هذه الأشياء دلالتها كالإلغاز). أوَما علم المغرور أنَّ أسرار العقائد، التي لا تحملها عقول العوام، لا تأتي إلا كذلك، وأين في القرآن ما ينفي الجسميَّة إلا على سبيل الإلغاز؟”.
وقد اعترض الفيلسوف ابن رشد الحفيد على تأويلات المتكلمين هذه، ومآلاته الخطرة على نصوص الوحي، حيث يقول: “إذا أولت [نصوص الصفات] فإنَّما يؤول الأمر: إمَّا أن يسلط التأويل على هذه وأشباهها، فتتمزق الشريعة كلها، وتبطل الحكمة المقصودة منها، وإمَّا أن يقال في هذه كلها إنَّها من المتشابهات، وهذا كله إبطال للشريعة ومحو لها من النفوس، من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظيم ما جناه على الشريعة”.
ولهذا، فقد حَتَّمَت نزعة إيمانية داخل الوسط الكلامي إلى الفرار من مآلات التأويل الفلسفي المباشرة (=تغيير معاني النصوص الدينيَّة وإحالتها) أو تسرباته غير المباشرة (=الاعتقاد بشناعة ظاهر النصوص الدينيَّة)، إلى الإيمان بالتفويض والمطالبة بالتوقف عن إعمال العقل في تلك النصوص المتعلقة بالطبيعة الإلهيَّة. فيرى العالم المعاصر الأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي أن مذهب التفويض هو الأسلم والأحكم والأعلم، ولهذا ينقل عن إمام الحرمين الجُوَيْنِي -كما نقل عنه السبكي– قوله: “لقد قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ورَكِبتُ البحر الخضم، كل ذلك في طلب الحق، والآن رَجَعْتُ عن الكل إلى كلمة الحق: عليكم بدين العجائز؛ فإن لم يُدركني الحق بلطف بره؛ فأموت على دين العجائز، وتُختَمَ عاقبة أمري عند الرحيل على مذهب أهل الحق“. ويقول السبكي: “والقول بالإمرار، مع اعتقاد التنزيه، هو المَعْزُو إلى السلف، وهو اختيار الإمام [الجويني] في (الرسالة النظامية)، وفي مواضع من كلامه، فرجوعه معناه الرجوع عن التأويل إلى التفويض، ولا إنكار في هذا، ولا في مقابله؛ فإنها مسألة اجتهادية، أعني مسألة التأويل أو التفويض مع اعتقاد التنزيه، إنَّما المصيبة الكبرى والداهية الدَّهْياءُ: الإمرار على الظاهر، والاعتقاد أنه المراد، وأنه لا يستحيل على الباري”. ويقول العالم المعاصر سلامة جمعة داود: “لقد تعددت الآراء في فهم هذه النصوص؛ فهناك مدرسة المفوضين، وهي مدرسة السلف، الذين قالوا بالتفويض في المعنى مع اعتقاد التنزيه”. ثم يشرح حقيقة التفويض هذا، فيقول: “فالتفويض إغلاق باب اللغة، وإغلاق الباب أمام العقل، هذا المذهب هو الذي قال عنه إنه أسلم وأَعْلَمُ وأَحْكم؛ هم آمنوا بما قال الله، وانكفوا عن إعمال اللغة وإعمال العقل؛ لأن العقل له حدود لا يتخطاها”. ولهذا يقول إمام الحرمين الجويني وهو يشير إلى المفوضة أنَّهم: “ممن لا يستبعد أن يكون في القرآن أسرارٌ لا يطلع عليها الخلائق، والرب تعالى مستأثر بعلمها، مع الاعتراف بأن المغيب عن الخلق لا يكون مما تمس إليه الحاجة في عقد أو قضية تكليف”.
وفي الحقيقة، فإنَّ فرار هؤلاء ورعًا إلى التفويض خوفًا من مآلات ولوازم (التأويل الفلسفي)، لم يبعدهم عن الوقوع في تلك المآلات واللوازم، فإنَّهم وقعوا فيما فروا منه. حيث يطرح الباحث الأشعري الدكتور حسام حسن صرصور، وهو من أنصار التأويل الفلسفي للصفات الإلهيَّة التي يُقال عنها متشابهات، إشكالاً مهمًا حول مآل التفويض، يرى أنَّه لا بُدَّ من حله، حيث يقول: “إشكال مهم نابع من التفويض لا بُدَّ من حله: هناك إشكال لا بُدَّ من حله وهو: كيف نطلق على هذه الألفاظ -أي المتشابهة كاليد والوجه- اسم (صفات) وهي فارغة المعنى بالنسبة لنا، فلا المعنى الظاهري ينفع ولا المجازي، ونحن نعلم أن الصفة معنى يقوم بالموصوف فحينما ننفي المعنى الظاهري والمجازي أصبح اللفظ مفرغاً، وحينما يصبح اللفظ بلا معنى أصلاً لم يجز تسميته بأي مصطلح يحمل معنى من المعاني وإلا كان تناقضاً، فحينما أقول اليد صفة مع نفي المعنى الظاهري والمعاني المجازية أكون بذلك متناقضاً، لأن الصفة هي معنى يقوم بالموصوف، وأنا نفيت كل معاني اللفظة، فيكون تسميتها بالصفة ضرباً من التناقض، إضافة إلى أنَّ الله تعالى لا يخاطبنا بما لا نفهم، وكتاب الله تعالى نزل إلى البشر ليتدبروه لا ليقرؤوه بلا فهم، وتفصيل هذا الأمر واقع في فصل الصفة”.
ولم يكن مستغربًا عند كثيرٍ من العلماء أن يهتم ابن تيميَّة كثيرًا بتحليل مضمون الأصول والجذور الفكريَّة التي ألقت بظلالها على القراءة الدينيَّة للنصوص المقدَّسة، ومن هنا جاء اهتمامه وعنايته بتحليل الفلسفة اليونانيَّة والمنطق الإرسطي، بصورة رئيسة، لارتباطهما بموضوع الطبيعة الإلهيَّة وتأثيرهما في كثرٍ من أتباع الأديان السماويَّة. وقد دُعي ابن تيميَّة إلى التأليف في علم الفقه، لكنه أبدى وجهة نظره حول الأولويات التي يجب أن تنصرف لها همته، وهي علم أصول الدين. فقد سأله ذلك تلميذه الإمام الحافظ سراج الدين عمر بن علي البزَّار، فأجابه ابن تيميَّة بما نقله عنه البزَّار فيما يلي: “ولقد أكثر، رضي الله عنه، التصنيف في الأصول فضلًا عن غيره من بقية العلوم. فسألتُه عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء. فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلَّد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه. وأمَّا الأصول، فإني رأيتُ أهل البدع…قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال…وأنَّ جمهورهم أوقع النَّاس في التشكيك في أصول دينهم…فلمَّا رأيتُ الأمر على ذلك بان لي أنَّه يجب على كل من يقدر على دفع شبهم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده…فهذا ونحوه هو الذي أوجب أنَّي صرفت جلَّ همي إلى الأصول”.
وقد أولى ابن تيميَّة اهتمامًا خاصًّا بتحليل ونقد تصور الفيلسوف اليوناني أرسطو (322 ق.م) للمحرك الأول. إذ يعتبر أرسطو علامة فارقة في تاريخ تطور الفكر الفلسفي في اليونان، وأيضًا كان رافدًا رئيسًا في تغيير الفكر الديني داخل أتباع الأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، على يد الاتجاه الفلسفي أو الكلامي الذي احتضن تراثه متفاوتًا في ذلك. فلقد كان مفهوم الإله لدى أرسطو مفهومًا مغايرًا للإله في الأديان السماويَّة، لا من ناحية الكم ولا من ناحية الكيف، ووجد الاتجاه الفلسفي في ذلك التراث الإغريقي ضالته، وبه يُمكن رفع الحرج عن ظواهر النصوص المقدَّسة من خلال القراءات الفلسفية المستوحاة من مفهوم أرسطو عن الإله. إنَّ أرسطو يُقر أنَّ تصور المحرك الأول وعلاقته بغيره: “فيه صعوبة”، وينتهي إلى أنَّ محركه “لا يتغير؛ فالتغير فيه انتقال إلى الأنقص، وهذا هو حركة ما”. لقد كان مفهوم محرك أرسطو محل نقد واضح من قبل علماء وفقهاء المسلمين في شكله ومضمونه لمعارضته لروح الدين، وإن كان قد أثَّرَ على تراث الاتجاهات الفلسفيَّة في الوسط الإسلامي، حيث كان مفهوم محرك أرسطو شعارًا للتجريد الإلهي!
وقد أشار أبو البركات البغدادي، وكذلك ابن تيميَّة، إلى خلل رئيس في مفهوم الفلاسفة القدماء لمصطلح (الإله)، وأنَّ معناه “إضافي بالقياس إلى مَنْ هو إله له”، وأنَّه يصدق على كثيرين، فالمتعلم يسمي معلمه إلهًا، ومن يقتدي بشخصٍ ما يسميه إلهًا له. ويشير ابن تيميَّة إلى أنَّ هذا المفهوم الفلسفي القديم عن الإلهه شرٌّ من مفهوم الإله عند عرب الجاهليَّة، لأنهم لم يفهموا الإله بأنَّه من يقتدى به، بل على معنى التعبد والخضوع له ومحبته، فقد كانوا يتعبدون لله خوفًا وطمعًا، مع اتخاذهم الوسطاء تقربًا وتزلفًا إلى الله، وليس على ما يفهمه الفلاسفة القدماء من كلمة إله. ويفهم في هذا السياق لم عَرَّفَ الفلاسفة القدماء، ومن جاء بعدهم من الفلاسفة الذين يحاكونهم، الفلسفة بأنها التشبه بالإله، فالتأله تشبه وتقليد ومحاكاة يكون بتعلم الفلسفة الإلهيَّة التي هي أشرف العلوم لديهم، ولهذا جعلها ابن سينا العلم الأعلى والأصل، أمَّا العلوم الطبيعيَّة فجعلها من العلوم السفلى أو التوابع. وحقيقة اعتقاد الفلاسفة القدماء في الإله، وخصوصًا أرسطو، كما يشير إلى ذلك ابن تيميَّة، أنَّه ليس رب للعالمين، ولا خالق للعالم، ولا رب للنَّاس الذين يحبونه ويرجونه ويخشونه، فحقيقة إله أرسطو أنه شيءٌ معطل أو فكرة متخيلة لا اتصال له بالناس، ولا أثر له، ولا يتوجه الناس إليه، وقد وصف بعضهم إله أرسطو (المحرك الأول) بأنَّه شخص منطو على نفسه اعتزل العالم في برجه العاجي (تعالى الله عن ذلك)!
ولهذا، ينبه ابن تيميَّة إلى مسألة مهمة، تتعلق بنقل المفاهيم حين نقل الكلمات الأجنبية وترجمتها من لغة إلى لغة، وهي أنَّ كلمة (الإله) لها معناها الواضح في القرآن الكريم وفي اللغة العربية، وأنَّه لما نقلت الكلمة اليونانيَّة إلى اللغة العربيَّة صار في إطلاقها بمعناها المعروف تلبيس. يقول ابن تيميَّة: “ثم لما كان مقصود القوم التشبه به، فهم في الحقيقة لا يعبدونه ولا يستعينونه”. ثم يقول: “من العجب أنَّ القوم يدعون التوحيد، ويبالغون في نفي التشبيه، حتى نفوا الصفات، وهم يدعون أنَّ أحدهم يجعل نفسه شبيها لله…[و]التشبيه الذي أثبتوه شرك صريح في الإلهيَّة التي هي مختصة بالله”. ويؤكد ابن تيميَّة أنَّ المفاهيم الجليلة المرتبطة بالمفهوم الصحيح للإله، مثل: عبادة الله وحده، ونفي الشرك عنه، والرجاء والمحبة والخوف، لا مكانة لها عند أمثاله من الفلاسفة، بل يؤكد ابن تيميَّة أنَّ الفلاسفة يسوغون الإشراك بالله ودعوة الكواكب وعبادة الأصنام، بل بعض القدماء صرَّح بأنَّه لا تعارض بين التنزيه وعبادة الصنم. والرب الذي يعتقد به الفلاسفة القدماء لا يفعل شيئًا بقدرته أو مشيئته، ولا يعلم شيئًا أو لا يعلم إلا الكليات، ولا يقدر أن يغير شيئًا في العالم. ويبين ابن تيميَّة أنَّ أرسطو حتى في تلك الكلمات التي يتحدث فيها عن المحرك الأول، فإن مفهوم الإله عنده ليس واضحًا ولا كافيًا، يقول ابن تيميَّة: “أرسطو واتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود ولا شيء من الأحكام التي لواجب الوجود، وإنَّما يذكرون العلة الأولى، ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكيَّة، يتحرك الفلك للتشبه به”. ويقول ابن تيميَّة: “ادعوا أن ذلك المعشوق [الذي يسمونه لاحقًا إلهًا] الذي هو العلة الغائية، لا يجوز أن يكون متحركًا ولا له حركة أصلاً، ومن هنا قالوا بقدم العالم إذ كان حدوث المحدثات يقتضي حركة يحدث بها، فمنعوا حدوث الحوادث عن المعشوق الذي سموه المحرك الأول لئلا يكون فيه تغير، وحدوث الحوادث عن علة لا تغير فيها ممتنع بصريح العقل، وكلامهم في ذلك في غاية التناقض، وهذا منتهى نظر القوم وعلمهم وحكمهم”.
وهذا التحليل والنقد لمفهوم الإله عند أرسطو، نجد قريبًا منه النقد الذي وجَّهه يوهان موزهايم (1755م) إلى مفهوم أرسطو للإله. ويوهان موزهايم -مؤرخ وعالم لاهوت ألماني، عمل في التدريس الجامعي والكتابة والتأليف في مجال اللاهوت والتاريخ الكنسي بعدة لغات منها اللاتينية والألمانية- له نقد مهم لفلسفة أرسطو، ومفهوم الإله لديه. لقد جاء نقد يوهان موزهايم لمفهوم أرسطو في الإله في سياق عام للرد على الإلحاد، وكأن يوهان موزهايم يُشير إلى أنَّ حقيقة مفهوم أرسطو للإله هو مفهوم إلحادي تعطيلي الحقيقة الإله، بصفاته وعلاقته بالعالم، كما عرفته به نصوص الأديان اليهودية والمسيحية.
ويرى يوهان موزهايم أنَّ إله أرسطو ليس مستحقًا لأي نوع من أنواع العبادة، وذلك لأنَّ هذا الإله لا يمكن اعتباره نافعًا أو ضارًا بالنسبة لمخلوقاته. فإله أرسطو -بحسب يوهان موزهايم– إله عاطل خامل، وكل طاقته ونشاطه تتمثل فحسب في الوجود الأبدي والتأمل أو التخمين. ويعتقد يوهان موزهايم أنَّ أرسطو يساوي بين إلهه وبين العالم من حيث الأزليَّة والوجود، فأرسطو يعتقد أنَّ العالم -الأرض والسماء- يجب أن تكون واجبة الوجود وأبدية مثل الإله، ولهذا اعتبر أنَّ السماء ثابتة لا تتغير مثل من إلهه. وبما أنَّ هذا الإله ثابت لا يتغير ولا يفعل شيئًا أصلاً، فإنَّه في حقيقته إله ليس حرًا في إرادته، فهم محكومٌ عليه وليس بحاكم، بل هو كائن مشلول عاجز، وأنَّه عند التحقيق ليس له وجود حقيقي، بل مجرد فكرة عقلية محضة. وإذا كان هذا الإله الأرسطي يفتقد إلى الإرادة الحرة، فإنَّه -بحسب يوهان موزهايم– لا جدوى من التضرع إليه، ففاقد الشيء لا يعطيه. ومما يؤكد النقطة السابقة، أنَّه إذا كان العالم قديمًا ويتحرك وفقًا لقانون أبدي ولا يمكن تعديل مساره بأي طريقة، “فأنا لا أرى أي مساعدة يمكن أن نتوقعها من هذا الإله”. كما يقول يوهان موزهايم. ثم يؤكد يوهان موزهايم أنَّ أرسطو في الحقيقة لم يعترف بوجود الإله إلا بالكلام، لكنه في الواقع ألغى وجوده. يقول يوهان موزهايم: “ما حاجتنا إلى إله يعيش فقط لنفسه، وذاته لا تتكون إلا من الفكر فقط! فكيف يمكن للإنسان أن يأمل في الراحة والحماية من مثل هذا الإله؟”.
وإذا كان ارتباط تأثير الفلسفة بموضوع الطبيعة الإلهيَّة واضحًا عند معظم المشتغلين في هذا الحقل، فإن قلة قليلة تفطنت إلى مدى تأثير المنطق الإغريقي وارتباطه بموضوع الطبيعة الإلهيَّة. وممّا كان يراه ابن تيميَّة مؤثرًا في الأصول الإلهيَّة: المنطق الإغريقي، حيث يعتقد ابن تيميَّة إنَّه لم يكن علمًا محايدًا، وإنَّما تضمن حمولات معرفيَّة تعكس المفاهيم الفلسفيَّة المخزونة فيه. يقول ابن تيميَّة: “ثم لما كنتُ بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرتُ له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل. واقتضى ذلك أني كتبتُ فيما بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة، ثم تعقبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تم. ولم يكُن ذلك من همتي، فإنَّ همتي إنَّما كانت فيما كتبتُه عليهم في (الإلهيَّات). وتبيَّن لي أنَّ كثيرًا مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيَّات، مثل ما ذكروه من تركب (الماهيات) من الصفات التي سموها (ذاتيات)، وما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من (الحدود والأقيسة والبرهانيَّات)، بل فيما ذكروه من (الحدود) التي بها تعرف (التصورات)، بل ما ذكروه من صور (القياس) ومواده (اليقينيات)”.
إنَّ موقف ابن تيميَّة -إذا كان يمكن اختزاله هنا في عجالة- من المنطق الإغريقي يتمثل في أنَّه -مع إدراكه لصدق جملة من قضاياه- رأى مآلاته على الأصول الإلهيَّة في عقائد الأديان، ولمح فيه آلة غير محايدة مرتبطة ومؤثرة بتصوراته واضعيه عن الطبيعة الإلهيَّة، فهو آلةٌ لقوالب تحمل المضامين الفلسفيَّة للذين وضعوه وطوروه من خارج البيئة الدينيَّة بصورة عامَّة، وخارج البيئة الإسلاميَّة بصورة خاصة. ويتجلى ذلك في نقطتين أساسيتين:
الأولى: أنَّ بعض مبادئ علم المنطق ومفرداته تأسَّست على يد فلاسفة وثنيين كانت لهم تصوراتهم الخاصة للوجود وللإله، كانوا قبل أرسطو، ثم توج ذلك على يد الفيلسوف أرسطو، وهو مثلهم في تصوراته الدينيَّة. فنشأ علم المنطق كقوالب في بيئة بعيدة عن التصورات الدينيَّة الصحيحة المستمدة من الوحي الإلهي.
الثانية: أنَّه بعد زوال الجيل اليوناني المؤسس للمنطق الإغريقي، وظهور الجيل الثاني من رواد المنطق، أي بعد ظهور الديانة المسيحية، احتدمت المعركة بصورة ضارية بين بقايا وأتباع الفلاسفة اليونان من الوثنيين وبين أتباع الديانتين اليهوديَّة المسيحيَّة بمختلف مشاربهم، حول تصوراتهم عن الطبيعة الإلهيَّة والوجود. ولعل من أهم فلاسفة هذا الجيل: أفلوطين، الذي صنع نظامًا عقائديًا فريدًا في تصوراته للإله -المتعالي المحض- قائمة على التجريد، وأنَّ إلهه يسمو فوق كل التصورات وكل الحدود، حسيَّة أو مجردة. وكان أفلوطين مبغضًا ومعاديًا للدين المسيحي، وقدم نظامًا معرفيًا لمواجهته. وتوج هذا الجيل بتلميذ أفلوطين، وهو فرفوريوس الصوري، والذي كانت عداوته للمسيحيَّة صُراحًا جِهارًا، حيث تولى هذا التلميذ إعادة استخدام تراث شيخه أفلوطين وتنظيمه وصياغته ونشره، وكذلك تراث أرسطو والفلاسفة والمنطقيين قبله، من أجل تكوين نظام معرفي وقوالب عقليَّة قادرة على مواجهة أتباع الديانتين. فاستخدم كل ذلك في حربه مع المسيحية خصوصًا، فوظَّفَ منطق الرواقيَّة الخاص بالحدود والقضايا، وأخذ مقولات أرسطو، وكان غرضه من استخدام المنطق بهذه الصياغة هو إعادة “هيكلة النظام الميتافيزيقي”، لمواجهة الأديان السماوية في وقته: اليهودية والمسيحية. وممّا ألّفه فرفوريوس الصوري في هذا الشأن كتابه (ضد المسيحيين). لكن كتابه الأهم هو (المقدمة) أو (الإيساغوجي)، الذي ترك أثرًا عظيمًا بعده، وطال تأثيره لاحقًا التيارات الفلسفية في الديانات السماوية الثلاث، وظهر أثره في تقسيمات الوجود المنطقية، ومفاهيم مثل الجوهر والعرض، ودخولها في العقائد.
يقول الفيلسوف والمنطقي هينتيكا: “ميادين المنطق العارية من المفاهيم الفلسفيَّة، المباشرة أو غير المباشرة، نادرة”.