محمد الحنيني
لم يكن لي كبير اهتمام بعلوم الطبري في فترة ماضية، وحده كتاب “التبصير في معالم الدين” قرأته من مدة طويلة -أيضاً- لاهتمام لي في تلك الفترة بعلوم العقيدة. ومع ذلك فإن تفسيره من أوائل مقتنيات مكتبتي، إذ كيف أقرأ لابن تيمية تعظيمه لتفسير الطبري في “مقدمة التفسير” ثم لا أقتنيه، ورغم ذلك فقد بقي سنوات طويله دون أن أتصفحه أو أراجعه حتى علا الغبار على سُطوحه، وبقيت على ذلك ما شاء الله أن أبقى حتى دفعتُ نفسي لقراءته إثر رؤيا منامية رأيتها، ووقع في نفسي أن المراد بها تفسير الطبري “جامع البيان“، فابتدأت به ولي في ذلك عدة أهداف؛ على رأسها استكشاف منهج الطبري وطريقته وأصوله في تفسيره، وتصنيف علومه وآرائه في الفنون الشرعية، فكانت قراءتي في تفسيره قد فتحت عليّ باب “افتتان” بالإمام الطبري، على مصراعيه، وأصبحت أتتبع المقالات، والدراسات، والكتب التي تكلمت عن منهجه وآرائه، ما أمكن منها ورقياً، وإلا فأحفظه إلكترونياً، حتى أني خشيت أن تكون حالة مَرَضِية كثيراً ما تعتري القرّاء أصحاب الكتب!!
وكان مما وقع في يدي؛ كتاب د.زيد بن علي مهارش “منهج الإمام الطبري في القراءات وضوابط اختيارها” فسارعت لاقتنائه، إذ كان مما استرعى انتباهي خلال القراءة في “جامع البيان” اختيارات الطبري في القراءات، وهي المسألة التي فتحت بعضُ جزئياتها باب نقاش طويل بين المتخصصين حول طريقته واختياره نظراً لردّه بعض القراءات المعدودة في المتواتر. كما أن للإمام الطبري كتاباً مستقلاً في القراءات،الظنّ أنه بيّن فيه منهجه وطريقته في الباب، غير أن الكتاب ما زال في عداد المفقود، فكان لا بدّ من دراسة منهج الطبري من خلال تفسيره -كما هو نصّ عنوان كتاب د.زيد مهارش-، خاصة أن الإمام الطبري لا يخلو اختياره وترجيحه من التعليل، فمن تتبع كلامه في القراءات اجتمع لديه مادة كبيرة في الباب -وكذلك فعل د.مهارش، وفقه الله- وعليه:فإن ردّ الطبري لبعض القراءات، وفقدان كتابه المستقل في ذلك، مع عدم إمكان دراسة منهج الطبري في الباب إلا من خلال تفسيره الذي لم يخله من التعليل لاختياره وترجيحه؛ كل ذلك يبيّن مدى أهمية دراسة الموضوع، والخروج بنتائج دقيقة قدر الإمكان، إذ إن فقدان الأصل “كتاب القراءات* يمنع اليقين، لكن الظنّ الغالب معمول به في كافة فروع العلم.
وكتاب د.زيد مهارش هو أوسع ما كتب حول الإمام الطبري ومنهجه في القراءات، فإن ما اطلعتُ عليه في ذلك مقالات في جزئيات من هذا الباب الواسع، وقد امتاز الكتاب بتتبع ظاهر لاختيارات الطبري، حتى حشد كافة الآيات التي تكلم الطبري في قراءاتها، وصنّفها على الضوابط، ثم أخذ لكل ضابط آيتين أو ثلاثاً يتوسع في الكلام فيها وبيان رأي الطبري فيها، ثم يسرد بقية الآيات في ختام الضابط في الحاشية، كما أنه فصّل في الضوابط، وأفرد كل ضابط في مبحث مستقل، وتكلم في فروع هذا الضابط قدر الإمكان، فكانت دارسة واسعة ثريّة تستحق أن تتبنى الجمعية العلمية السعودية للقرآن وعلومه نشرها، وأن يقدّم لها رئيسها، شيخنا واستاذنا د.محمد السريّع.
وبعدُ: فإن الجهد البشري لن يحصّل الكمال وإن أمسك بأطراف الجمال، فإن النقص مما فُطر عليه البشر، فهو لازم لهم لكنه لا يقلل من جودة عملهم، إذا بذلوا وسعهم ووُفقوا إلى الصواب في كثير من عملهم، وهو واقع عمل د.زيد مهارش في كتابه، فكان لي بعض الوقفات التي قيّدتها خلال قراءة فاحصة لكتابه، هي من باب مراجعة العلم، ومذاكرة المتقنين، فأقول:
- من طريقة الإمام الطبري -في الغالب- الترجيح بين القراءات، وهذا ظاهر بيّن لمن قرأ تفسيره، فتجده يعبّر بنحو (أميلُ، أتمُ القراءتين، أعجب القراءتين إليّ، أحبُّ، أولى، أصح، الصواب)، فهذا الغالب على طريقته، حتى مع إقراره في بعض المواضع بقبول كلا القراءتين، إذ إن الترجيح والاختيار لا يعني ردّ القراءة الأخرى، مع أنه في مواضع يمنع القراءة بالأخرى لعلل يذكرها دائماً، لكن د.مهارش جعل الطبري في ذلك على ثلاثة أنحاء (الاختيار، وما ظاهره الترجيح وهو اختيار، والترجيح مع عدم قبول القراءة الأخرى)، وكان الأولى أن يجعلها على النحو التالي:
- الترجيح والاختيار (وهو الكثير الغالب).
- الردّ والمنع (وهو ليس بالقليل).
- وقبول القراءتين بلا ترجيح إحداها على الأخرى. فإن الطبري في مواضع يقبل كلا القراءتين بلا ترجيح؛ لثبوت الرواية بها، وموافقتها لغالب كلام العرب، وموافقتها رسم المصحف العثماني، مع كون القَرَأءة بها كثير.
- لم يفرّق د.مهارش بين ضابط الاختيار، وشرط القبول، والظاهر من تتبع الكثير من كلام الطبري أن ثمّة فرقاً بين الأمرين، فإن ضابط القبول مشعر بصحة القراءة الأخرى، وثبوت القراءة بها، وإن كان الأولى غيرها؛ لأجل هذا الضابط. أما شرط القبول؛ فهو يمنع القراءة بها مطلقاً إذا فقدت تلك الصفة. فمثلاً: “موافقة الرسم العثماني، أو موافقة المصحف الإمام” هو في حقيقة عمل الطبري شرط لقبول القراءة، فدائماً ما يردّ الطبري القراءة لمخالفتها رسم المصحف، ولم يقبل قراءةً هي على خلاف ذلك، وهذه هي طبيعة الشرط (= ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود).
- في ضابط “موافقة رسم المصحف” لم يتطرق د.مهارش لحكم القراءة على خلاف رسم المصحف، وهي من المسائل المهمة المطروقة في علم القراءات، وذلك في مبحث القراءة الشاذة، فإن علماء القراءات كالمجمعين على المنع من القراءة بالقراءة الشاذة -وكونها على خلاف الرسم يجعلها من القراءة الشاذة- بل إن الفقهاء أيضاً تكلموا في حكم القراءة الشاذة، فالجمهور على المنع من القراءة بها في الصلاة، وبعضهم لم يصحح الصلاة بها، فكان حرياً بالمؤلف أن يعرض هذه المسألة، بل يبحث في الشروط العامة لقبول القراءات، وموقف الطبري من ذلك، خاصة أن المؤلف قد بحث مسألة الكتابة على خلاف رسم المصحف.
وهذه المسألة، أعني “الكتابة على خلاف رسم المصحف” بحثها د.مهارش تحت عنوان “هل رسم المصحف توقيفي أم اصطلاحي” وقد رجّح عدم الجواز، ولا إشكال هنا، غير أن الإشكال في تعليله لعدم الجواز إذ قال “لإجماع العلماء على أن من بدّل القرآن بزيادة أو نقص متعمداً فهو كافر” (صـ311)، بالرغم من أن المؤلف قد أورد بعض من قرر الجواز كالعزّ بن عبدالسلام، وابن كثير، والشوكاني. والإشكال من جهتين:
الجهة الأولى: في المراد بهذا الإجماع، فإن المراد به هو زيادة ما لم يلفظ، أو النقص من الملفوظ في القرآن بغير دليل (وقلتُ بغير دليل لتخرج القراءات الشاذة من هذا الإجماع)، وليس المراد الزيادة والنقص بالكتابة، بدليل من قرر الجواز ممن أورد أسماءهم ممن هم أعلم بهذا الإجماع بل قائلين به أيضاً.
الجهة الثانية: ما يلزم من هذا التعليل من نسبة قول كفري لأئمة أعلام، وأنا أعلمُ أن د.مهارش لا يقصد ذلك قطعاً، بل لم يخطر في باله هذا المعنى، لكن الاحتراز في الألفاظ مطلوب، خاصة في هذا الزمان الذي تجرأ فيه أغرار على الطعن في كبار الأئمة بجهلهم!
ولو أن د.مهارش علّل أن ذلك مخالف لما أجمع عليه الصحابة لسُلِّم له التعليل، بل إنه قد أورد من كلام العلماء ما يفيد هذه الحجة نصاً أو معنى، فنقل ذلك عن الطحاوي (321هـ)، والبيهقي (458هـ)، وعبدالفتاح القاضي.
- في مبحث “رسم المصحف” أيضاً، علّل د.مهارش تجريد المصحف من النقط والشكل “ليحتمل ما صحّ نقله من القراءات” (صـ321) وهي علة نصّ عليها جمع من المتقدمين، كأبي عمر الداني (444هـ)، وابن تيمية (728هـ) والجزري (833هـ)، ولم يذكرهم المؤلف ولم يورد أقوالهم -على خلاف عادته في الكتاب- غير أن هذه العلة يشكل عليها أن العرب زمن كتابة المصاحف العثمانية المرسلة إلى الأمصار لم تكن تعرف النَقْط والتشكيل (نصّ على ذلك الداني في “المحكم في نقط المصاحف“)، فكيف يصحّ التعليل بمثل هذه العلة؟ وكان ينبغي على المؤلف تحرير هذه المسألة بشكل وافٍ وإثبات مدى صحة التعليل بها، ولا أقطع هنا برأي، لكن المسألة تحتاج مزيد تحرير وإبانة.
- ذكر د.مهارش ضمن الضوابط؛ ضابط “اختيار القراءة لوجود ما يدعمها من الشعر العربي الفصيح” والحق أني لم أحبّذ هذا العنوان لما فيه من المشاكلة بين القرآن والشعر، وهي الحجة الشركية المشهورة في رد الدين الحق، وتكذيب رسول الشريعة r، وكتاب الملة بوصف ذلك كله بالشعر وآثاره!! كما إنه لا يعبّر عن حقيقة عمل الطبري في هذا الضابط، فإن الطبري يرجّح القراءة لموافقتها لأساليب العرب البيانية، ويورد الأشعار للدلالة على أن هذا الغالب من كلام العرب -والقرآن كما يقرره الطبري ينزل على الغالب بالمشهور من كلامهم-، فهو يرجّح القراءة لموافقتها الغالب من كلام العرب، ويدلل على كون ذلك هو الغالب من كلامهم بما يسوقه من أشعارهم، لا أن القراءة راجحة لأن شعراً من أشعار العرب يدعم ما وردت به القراءة!
أخيراً: ثم ملاحظات كثيراً ما تُلحظ على الرسائل الجامعية في الأكاديميات الإسلامية، فمن ذلك:
- التوسع في التعريفات؛ التعريف بمصطلحات المبحث كالإجماع، ومعنى الآية، وسبب النزول، ورسم المصحف، ونحوها من المتطلبات الأكاديمية التي أعجب من إصرار الجهات الأكاديمية على تضمينها في البحث. فهل يُعقل أن قارئ كتاب في موضوع دقيق كـالقراءات عند الإمام الطبري يجهل معاني تلك المصطلحات؟
قد لا يُلام الباحث في إيراد ذلك ما دام أنها متطلّب أكاديمي لا يمكن التخلص منه، لكن هلّا راجع المؤلف -أيّ مؤلف لا د.مهارش وحده- وهذّب رسالته من تلك المتطلبات التي هي زيادة لا حاجة لها عند قارئ في بحث متخصص مثل هذا البحث!
ومثلها أيضاً: التوسع في التعريف بالإمام الطبري، وهو إمام مشهور لا يُجهل مثله، وموارد سيرته معروفة، غير أن جهاتنا الأكاديمية تصرّ على كل رسالة علمية؛ في القرآن وعلومه، والفقه وأصوله، والحديث، واللغة -وهي رسائل بالعشرات- أن تتضمن ترجمة وافية عن الإمام الطبري!
وبعدُ: فكما أن تشكيل ما لا يُشكل سوء ظن بالقارئ، فكذلك تعريف المعروف الذي عادةً لا يجهله قارئ الكتاب سوء ظن بالقارئ!
- أيضاً: توسع المؤلف د.زيد مهارش في النقول المجردة عن الأئمة والإطالة في ذلك، ففي كل ضابط من الضوابط ينقل فيه من وافق الطبري في هذا الضابط ويورد نصوصاً من كلامهم، وكان يمكن -ولو بعد الإيفاء بالمتطلبات الأكاديمية- أن يُنصّ على أسماء من وافق الطبري، ثم الإشارة في الحاشية إلى المصادر التي وردت فيها تلك الموافقات.
ولو خففت الجهات الأكاديمية من متطلباتها البدهية للباحثين المتخصصين لقلّت أحجام الرسائل الجامعية، ولوفّرت على الدارسين الوقت والمال الذي قد يصرف إلى ما هو خير وأنفع، ولتيسر على طلاب العلم تحصيل الكثير من السائل المتخصصة التي يمنعهم عن ذلك ضخامة الرسالة وما يتبعها من ارتفاع سعرها، لئن أبت تلك الجهات التخفيف من شروطها فلا أقل من أن يقوم الباحث نفسه بمراجعة رسالته، وتهذيبها قبل طبعها، فهو أنْفقُ لكتبهم بين الباحثين والمتخصصين.
كلمة أخيرة وضرورية: ليس في هذه المراجعة تقليل من جهد المؤلف د.زيد بن علي مهدي مهارش، ولا من رسالته المفيدة “منهج الإمام الطبري في القراءات وضوابط اختيارها في تفسيره“، بل هي رسالة قيّمة، كان الجمع فيها شاملاً، والمضمون مفيداً، لكن هي مدارسة أرجو نفعها لنفسي أولاً، والحمد لله رب العالمين.