د. عايض الدوسري
تعود صعوبة دراسة ابن عربي على كثير من الدارسين في الاعتقاد والتصوف إلى جملة من الأسباب التي اختص ببعضها ابن عربي دون غيره. فلم يختلف الباحثون والخصوم مع الأصحاب على رجل مثل ابن عربي، فطائفة ترتضيه وليًا وأخرى تحكم عليه بالزندقة والكفر. فقد ذكر أحد المختصين بابن عربي أنه وجد (٣٤) مخطوطًا في ذم ابن عربي، و(٢٠) في مدحه والدفاع عنه، وعثر على عدد كبير من الفتاوى في شأنه، منها: (١٣٨) في تضليله أو تكفيره، و(٣٣) في مناصرته.
ولعل من أسباب الاختلاف في هذا الرجل من تكفير وتضليل إلى الاعتقاد بولايته وأنه صديق بار، جملة أسباب، منها؛
أولاً: تراث ابن عربي الضخم الذي تجاوز المائة، ما بين كتاب ضخم موسوعي بأجزاء عديدة، وكتاب ضخم، ورسائل مفردة صغيرة في مواضيع شتى. فإنه -بحسب بعض الباحثين- لم يتم دراسته حتى الآن دراسة مستوفية تحلل مؤلفاته كلها، وتتبع عقيدته الصحيحة المبثوثة والمتفوقة.
ثانيًا: أن ابن عربي يستخدم لغة خاصَّة به غامضة متدرجة وربما متناقضة، من لم يفكك مصطلحاتها بصورة صحيحة فلن يتمكن من فهم عقيدته الصحيحة التي يعتنقها. ويرى بعض الباحثين أن من جملة أسباب الاختلاف حول عقيدة ابن عربي، ابن عربي نفسه الذي استخدم طريقةً خاصَّةً ليواري حقيقة مذهبه. فطريقته تقوم على عدم تسجيله أفكاره في مكان واحد، ولم يقل رأيًا واحدًا في المسألة الواحدة بصورة واضحة غالبًا، بل تعمد بلبلة القارئ ليضيع في هذا الكم الهائل المتناقض!
ثالثًا: كثرة مصادر ابن عربي التي يستقي منها فلسفته، وتناقضها وتضادها، وتلبيس مصادره الأجنبية عن الوسط السني مصطلحات إسلاميَّة لتمريرها على القارئ المسلم. ولذا لا يمكن فهم فلسفة ابن عربي ما لم يكن الباحث على دراية جيدة بالعمود الفقري لفلسفته، وهي: الأفلاطونيَّة المحدثة. ولا تقتصر أهميَّة الأفلاطونيَّة المحدثة على فهم تراث ابن عربي، بل أيضًا مهمة لفهم القرامطة، والمذهب الإسماعيلي، وفلسفة الفارابي، وابن سينا، وغيرهم. وقد خلط ابن عربي علم الكلام “السني” بالمذاهب الباطنية الشيعيَّة، وإخوان الصفا، والغنوصية، وبأفكار من أديان شرقيَّة. واستطاع ابن عربي أن يغلف النواة الباطنية الفلسفية بقشرة شرعية، تنجح في تمرير أفكاره في الأوساط الصوفيَّة والإسلاميَّة.
وفي نظري فأن أهم رافد ومصدر في فلسفة ابن عربي الصوفيَّة هو المذهب الإسماعيلي، ومنه دخلت الأفلاطونيَّة المحدثة، ومنه تعرف عليها. فقد تبنت الباطنية الأفكار الأفلاطونيَّة المحدثة في جملتها، وغلفت مصطلحاتها اليونانية بكلمات شرعية. وقد تحدث أفلوطين (٢٧٠م)، عن الأول، والفيض، والعقل، والنفس الكلية، والمادة، والإنسان الحق، وإشراق الأنور…إلخ. وهذه المصطلحات الفلسفية ابتلعتها الباطنية وهضمتها وأعادت انتهاجها مرة أخرى تحت مسميات شرعية ستنتقل لاحقًا إلى الصوفية مثل: العرش المحيط، الكرسي، القلم، اللوح، السابق واللاحق، محمد وعلي، الأنوار الشريفة…إلخ.
يقول إسحاق السجستاني: “العقل هو أول مخلوق ظهر من أمر الله، ويقال للعقل العرش ويقال له الأول”، و”منزلة الرسول في العالم الجسماني كمنزلة العقل الأول في العالم الروحاني”. ويرى أحمد حميد الدين الكرماني أنَّ النبي=الناطق=العقل الأول، وأن عليًا=الوصي=النفس الكلية. ويعلق المستشرق كارل هينرش بكر: “ليس من شك في أنَّ الغنوصيَّة مادة خصبة انتفع بها الفاطميون في دعوتهم الشيعيَّة أولاً ثم الإسماعيليَّة من بعد”. ويقول المستشرق غولدتسيهر: “المذهب الإسماعيلي هو المذهب الذي نقل أصحابه نظريات الأفلاطونية المحدثة”.
ويبين ابن تيميَّة أنَّ الفلاسفة يدعون أنَّ العقول قديمة أزليَّة، وأنَّ العقل الفعَّال هو رب ما تحت الفلك، وأنَّ هذه اللون من الفلسفة دخل فيه الباطنيَّة ومعهم ابن عربي. ويقول ابن خلدون عن ابن عربي وأمثاله من فلاسفة الصوفية: “كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضًا بالحلول وإلهيَّة الأئمة”.
فهذا التراث الأفلاطوني المحدث والباطني تشربه ابن عربي وتولع بِه، فاعتنقه وبثه في تراثه كله، يخفيه تارة ويظهره تارة أخرى. وتتبع الحديث عن جذور ابن عربي واتصالها بالباطنية، يطول ويتشعب، لكن سوف نختصر أهمه هنا. فلعل أول جذور الاتصال كانت من خلال احتكاكه بمدرسة ابن مسرَّة (٣١٩هـ) الأندلسية ذات البعد الباطني ورجالاتها، من أمثال: ابن قسي، وابن العريف، مرورا بأبي مدين، وأبي عبد الله الغزَّال…إلخ، الذين ذكرهم ابن عربي في كتبه. وقد ذكر بعض الباحثين أن ابن عربي كان يتردد على بعض مدارس الأندلس السريَّة التي كانت تدرس مذهب الأمبادوقليسية المحدثة، وأنَّ تلك المدرسة كانت تستخدم الرموز والتأويلات الفيثاغورية والأورفية، وتعلم تلامذتها المبادئ الباطنية الرمزية. وهذه المدرسة تنسب إلى الفيلسوف اليوناني أنبادقليس (٤٣٠ ق م) الذي ينتمي للمدرسة الطبيعة الثانية ويفسر أصل العالم ماديًا، بحركة العناصر الأربعة.
وكان من أشهر أساتذة مدرسة ابن مسرَّة الباطنية شخص اسمه ابن العريف، لم يدركه ابن عربي لكنه تتلمذ على كتبه وعلى يد تلميذه الغزَّال. وقد انضم ابن عربي إلى هذه المدرسة الباطنية وتعلم فيها، وشرح كتاب شيخ المدرسة (خلع النعلين) وهو لابن قسي. يقول الباحث عثمان يحيى، أحد المختصين بابن عربي: “ينبغي أن يدرس ويفهم [=ابن عربي] في ضوء النظريات الشيعيَّة وخاصة الإسماعيليَّة”. كما يؤكد جملة من الباحثين على تأثر ابن عربي وبعض صوفية الأندلس برسائل أخوان الصفا وما احتوته من أفكار المدرسة الأفلاطونيَّة المحدثة.
وبعد أن غادر ابن عربي الأندلس بحمولته الباطنية، توجه إلى مكة المكرمة وخالط جماعة هناك، وتحت إيحاء تلك الجماعة انتقل إلى القاهرة، وسكن بحي القناديل، وهو حي يعج بالباطنية والصوفية، كما يذكر ذلك بعض الباحثين. يقول ابن مَسْدي، تلميذ ابن عربي: “كان ظاهري في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، ولهذا ما ارتبتُ في أمره”.
ولذلك، لن يتمكن الباحث من فهم ابن عربي ولا فهم مصطلحاته ما لم يتمكن من فهم الأفلاطونيَّة المحدثة، والمذهب الإسماعيلي، ورسائل أخوان الصفا، وعلاقته بهم. وإذا فهم تلك الفلسفات، فهم تمويهاته اللفظية من جنس: الكلمة، وروح محمد، والدرة البيضاء، والعنقاء، والروح الأعظم، والورقاء، والزمردة، والسمسمة، والشجرة…الخ! فهي ليست إلا مصطلحات وهمية يقصد بها مصطلحات يونانية باطنية ليس إلا، وإنما استخدم الألفاظ البديلة لتمريرها داخل البيئة الإسلاميَّة. فهو -مثلاً- يقصد بـ: الهباء=الهيولى، والحقيقة المحمديَّة أو الدرة البيضاء=العقل الأول، والورقاء أو اللوح المحفوظ=النفس الكلية…الخ! يقول بن عربي: “وما الغراب؟ الغراب هو الجسم الكل، الذي هو أول صورة قَبِلَ الهباء. والعنقاء هي الهباء فإنها لا موجودة ولا معدومة”، “فإن قلت وما الدرة البيضاء؟ قلنا: العقل الأول صاحب علم السمسمة. فإن قلت وما السمسمة؟ قلنا: هي معرفة دقيقة في غاية الخفاء تدق عن العبارة ولا تدرك بالإشارة”.
ويؤكد عبد الرحمن بدوي أنَّ هذا الفكر وصل لابن عربي عن طريق ترجمات خاطئة لكتاب (أثولوجيا أرسطو)، وهو في حقيقته فصول من كتاب التاسوعيات الأفلاطونية. ويقول أبو الوفا التفتازاني: “كان لنظرية أفلوطين في الفيض وترتب الوجود عن الواحد أثرها على الصوفية المتفلسفين كالسهروردي وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والجيلي”.
ومن الأمور المهمة التي يحسن مراعاتها عند دراسة ابن عربي، شأنه شأن ابن رشد الحفيد والمتفلسفة الطبقيين، معرفة مراتب الاعتقاد ومستوياتها. ومن يخلط بينها يضل عن تمييز عقيدة ابن عربي الحقيقية، وبتمييزها يمكن استخلاص عقيدته المشتتة المترامية وسط تراثه الهائل. فابن عربي لديه ثلاثة مستويات من الاعتقاد بثها في كتبه، بعضها واضح وبين، وبعضها غامض ومشتت ومفرق عمدًا وقصدًا للتضليل. فيدافع عنه ويحبه من يطلع على المستوى الأول من الاعتقاد، ويحبه الصوفية عند الاطلاع على المستوى الثاني، ويدرك حقيقته من يقف على المستوى الثالث.
فالمستوى الأول من الاعتقاد يسميهم أهل الرسوم، ويشتمل على درجتين: الأولى: عقيدة العوام أهل التقليد. والثانية: عقيدة المتكلمة أهل العلوم العقلية. والمستوى الثاني هو عقيدة خواص الله، ويقصد بهم الصوفية من أهل “طريق الله من المحققين أهل الكشف والوجود”. السؤال هنا: هل ينتمي ابن عربي إلى هذين المستويين من الاعتقاد؟ الجواب: بلا شك لا، فهو لا ينتمي لها وإنما يحتمي بها في مواضع كثيرة، ويستفيد من الخلط. إذن ما المستوى الاعتقادي الذي يمثل عقيدة وفلسفة ابن عربي إذا لم تكن عقيدة العوام ولا عقيدة المتكلمة ولا عقيدة المحققين من الصوفية؟! إن الفلسفة الاعتقادية التي يعتنقها ابن عربي هي المستوى الثالث، والتي يسميها ب (عقيدة الخلاصة)، ويحاول أن يبثها مفرقة مبددة في تراثه الضخم.
يقول ابن عربي: “وأمَّا التصريح بـ(عقيدة الخلاصة)، فما أفردتها على التعيين، لما فيها من الغموض. لكن جئت بها مبدَّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة، مبينة. لكنها، كما ذكرنا، متفرقة. فمن رزقه الله الفهم فيها، يعرف أمرها، ويميزها من غيرها. فإنَّه العلم الحق، والقول الصدق. وليس وراءها مرمى. ويستوي فيها البصير والأعمى. تلحق الأباعد بالأداني، وتلحم الأسافل بالأعالي، والله الموفق لا رب غيره”.
والسبب أنَّ ابن عربي يقسم العلوم إلى مراتب ثلاث: علم العقل=النظر في الدليل، وعلم الأحول=سبيله الذوق، وعلم الأسرار= فوق طور العقل. وابن عربي ينتمي إلى عقيدة الخلاصة=علم الأسرار، العلم الذي فوق طور العقل، وهو علم نفث روح القدس الذي يختص به كخاتم الأولياء. يقول ابن عربي: “فهذا الصنف الذي هو علم الأسرار، العالم بِه يعلم العلوم كلها ويستغرقها، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط، الحاوي على جميع المعلومات”.
وحقيقة عقيدة الخلاصة=علم الأسرار ليست سوى خليط من عقيدة الباطنية والأفلاطونية المحدثة، مع تجميع للعقائد الشرقيَّة والقديمة وغيرها تحت قشرة الألفاظ الإسلاميَّة. وبإدراك مصادر ابن عربي الحقيقية، وتفكيك مصطلحاته الموهمة، وتتبع عقيدته المبددة هنا وهناك، ستتضح تلك الفلسفة الباطنية التي حاول سترها بحلاء ووضوح. وبعض الباحثين المتخصصين في دراسة ابن عربي يؤكد أنَّ قلة فهمت ابن عربي وفككت طلاسمه وأزالت قشوره.



