أحمد بيومي
مر أربعة عشر قرنًا من الزمان أو يزيد منذ أن أخبر الله تعالى في مواضع عديدة من كتابه العزيز عن اقتراب الساعة، كقوله: ﴿ ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ ﴾ [القمر:1]، وقوله: : ﴿ ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَة مُّعۡرِضُونَ ﴾ [الأنبياء:1]، وكقوله: ﴿ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ ﴾ [النحل:77]، وقوله: ﴿ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيب ﴾ [الشورى:17].
وجاء عن خاتم المرسلين محمد ﷺ أيضًا ما يُؤكد هذا القرب، فقال: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه أو كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى[1]. قال ابن حجر: أشار بهذا الحديث على اختلاف ألفاظه إلى قلة المدة بينه وبين الساعة، والتفاوت إما في المجاورة، وإما في قدر ما بينهما[2]. وفي رواية قال: إن كادت لتسبقني، وهذا يدّل على اقترابها بالنسبة إلى ما مضى من الدنيا[3]. ولم يكن هذا منه حديثًا عابرًا، بل كان على جهة التكرار مع خطبته في الناس، فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله ﷺ يقول في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، وكان إذا ذكر الساعة احمّرت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه، كأنه نذير جيش يقول: صبحكم مساكم[4]. وكذا ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال: إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس[5]. وله محملان -كما ذكر ابن حجر – أحدهما: أن المراد بالتشبيه التقريب، ولا يُراد حقيقة المقدار[6].
وبالطبع فإن تطاول المدة على الناس في الدنيا لن يخرجها عن حدود مصطلح القريب؛ فإنه نسبي بالنسبة لما مضى من زمن العالم، أو لما هو عند الله من تقدير الأيام، ﴿ وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج:47]، وكما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُمۡ يَرَوۡنَهُۥ بَعِيدًا وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا ﴾ [المعارج:6-7]، فإن وراء ذلك معنًى؛ هو الترقب الحذِر لهذا اليوم الذي لا يأتي إلا بغتة، كما يترقب أحدنا منيّته كل لحظة في حياته، قال تعالى عنها: ﴿ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَة ﴾ [الأعراف: 187]، فيبقى منها على واستعداد دائم وحذر مستمر، يؤيد ذلك التنبيه المتكرر في كتاب الله على مفاجأتها الناس بقوله: ﴿ قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ ﴾ [الأنعام:40]، وقوله: ﴿ أَفَأَمِنُوٓاْ أَن تَأۡتِيَهُمۡ غَٰشِيَة مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَة وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ﴾ [يوسف:107]، وقوله: ﴿ هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَة وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ﴾ [الزخرف:66] وغير ذلك من الآيات.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن جعل بين يديها أمارات على دنوها لا تزال تتابع في الناس، فقال: ﴿ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَة فَقَدۡ جَآءَ أَشۡرَاطُهَاۚ ﴾ [محمد:18]، وقال تعالى في ترقب آية الدخان بين يديها: ﴿ فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَان مُّبِين ﴾ [الدخان:10]، وقال في نزول عيسى بن مريم عليه السلام قبلها: ﴿ وَإِنَّهُۥ لَعِلۡم لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِۚ ﴾ [الزخرف:61]، وقال في خروج يأجوج ومأجوج: ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَب يَنسِلُونَ وَٱقۡتَرَبَ ٱلۡوَعۡدُ ٱلۡحَقُّ ﴾ [الأنبياء:96-97]، فإذا رأى الناس ذلك انتبه الغافل وتأكدت الحجة على المكذب، وازداد المؤمنون إيمانًا لـمّا جاءهم تأويل ما سمعوه من الصادق الذي لا ينطق عن الهوى ﷺ، فهي من دلائل نبوته وصدق رسالته، فشَمّروا عن ساعد الجد والعمل، وذلك مصدّقٌ لما كان من المؤمنين يوم الأحزاب إذ قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنا وَتَسۡلِيمًا ﴾ [الأحزاب:22]، وقد نقل القرطبي عن العلماء أن الحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها: تنبيهُ الناس عن رقدتهم وحثُّهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة؛ كي لا يُباَغَتُوا بالْحَوْلِ بينهم وبين تدارك العوارض منهم، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها والله أعلم، وتلك الأشراط علامة لانتهاء الدنيا وانقضائها[7]. بل من الأشراط ما لا يُقبل بعد ظهروه توبة ولا يرفع عمل، كالموت تفجأ الناس فتُغلق الصحائف، قال تعالى: ﴿ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡراۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام:158]. وهي ما أخبر به رسول الله ﷺ أن الله عز وجل جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من قِبله[8].
والساعة بعينها من الغيب الذي لا يعلمه أحدٌ إلا الله تعالى، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ ﴾ [طه:15]، قرأ عبد الله بن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي، وقال قتادة بن دعامة: لعمري، لقد أخفاها اللهُ مِن الملائكة المقربين، ومِن الأنبياء والمرسلين[9]. وقد كان النبي ﷺ أول الأمر كثير الطلب لأمرها، كما جاء عن عائشة قالت: لم يزل النبي ﷺ يسأل عن الساعة حتى أنزل الله عز وجل: ﴿ يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكۡرَىٰهَآ إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَىٰهَآ ﴾ [النازعات:42-44][10]. وربما كان ذلك تبعًا لسؤال الناس إياه، فقد أكثروا السؤال عنها لما حسبوه من إطْلاع الله له على ذلك الغيب، حتى إن قريشًا قالت له: إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة، فقال الله: ﴿ يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَة يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ﴾ [الأعراف:187] وقيل نزلت في قوم من اليهود[11]. وكذلك قال الله في شأن سؤال الناس عنها: ﴿ يَسۡـَٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ﴾ [الأحزاب:63].
فكان رسول الله ﷺ إذا سئل عن شيء من ذلك لم يدل عليه إلا بأماراتها دون تحديده بوقت أو مُدة[12]. فقال ﷺ للأعرابي الذي سأله: متى الساعة؟: إذا ضيعت إلأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة[13]. أو كان ﷺ يحيلهم على خاصة أنفسهم، وهي ساعتهم التي تفجؤهم دون إستئذان فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فعن عائشة، قالت: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله ﷺ سألوه عن الساعة: متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم، فقال: إن يعش هذا لم يُدركه الهرم، قامت عليكم ساعتكم[14]. والمراد – كما ذكر ابن كثير – انخرام قرنهم ودخولهم في عالم الآخرة، فإن كل من مات فقد دخل في حكم الآخرة[15]. وروى عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال قبل أن يموت بشهر: تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة[16]. وجاءه رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله، متى الساعة قائمة؟ قال: ويلك! وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال: إنك مع من أحببت، وجاء أن رسول الله ﷺ كان قائمًا حينئذ يحذر الناس، فقام إليه الرجل يكرر عليه ذلك السؤال والناس يُجلسونه لما رأوا من الكراهة في وجه رسول الله[17].
وهكذا تجد الساعتين حاضرتين في كلام النبي ﷺ، ساعة المرء في نفسه وساعة العامة، ولا يُغني التحذير بإحدى الأجلين عن الآخر، وإن كان المرء قد يُدركه الموت ولـمّا تدركه ساعة القيامة التي لا يعلمها إلا الله، لكنه يظل بموجب الوحي يحيا أنها تباغته من يومه أو غده، وقد كان هذا دأب الأنبياء كلهم، فما من نبي إلا أنذر قومه الدجال مع أنه لا يخرج فيهم بعلم الله، وكذا أكثر النبي ﷺ من بيان أشراطها وأماراتها وما بين يديها من الفتن القريبة والبعيدة؛ ليكون أهلُ كل قرن على حذر منها، متهيئين لها بالأعمال الصالحات، غير منهمكين في الشهوات واللذات[18].
كما أن التخويف بدنو الساعة له معنى آخر غير الذي يفيده مفارقة الإنسان للدنيا بالموت، وهو مفارقة الناس أجمعين لها بفنائها، وتبدل الأرض بما عليها، فهي ممر ليست بمستقر، فيقنع الناس منها بما يقيم أمورهم ويسد حاجتهم، وإلا أسرفوا وعاشوا حياة المترفين، فتأتيهم الساعة بغتة ولا ينظرون، لذا عاب هود عليه السلام على قومه فقال: ﴿ أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَة تَعۡبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ ﴾ [الشعراء:128-129]، أي: كأنّكم تخلدون[19]. وعاب صالح عليه السلام على قومه فقال: ﴿ أَتُتۡرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ ءَامِنِينَ فِي جَنَّٰت وَعُيُون وَزُرُوع وَنَخۡل طَلۡعُهَا هَضِيم وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتا فَٰرِهِينَ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ﴾ [الشعراء:146-151]. وجاء عن النبي ﷺ ذم التطاول والتوسع في البنيان كما روي عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مر علينا رسول الله ﷺ ونحن نعالج خصا لنا، فقال: ما هذا؟ فقلنا قد وَهى فنحن نصلحه، فقال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك[20]. وهذا كله – كما ذكر ابن حجر – محمول على مالا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر[21].
وأجلّ ما يؤكد هذه العناية بالأشراط:
(1): أن الإيمان بها جاء مكونًا رئيسًا من الإيمان باليوم الآخر، الذي هو من جملة الإيمان بالغيب، بل خص جبريل رسول الله ﷺ بالسؤال عنها في الحديث المشهور رغم أنها من جملة الأركان الست التي أجاب رسول الله ﷺ عنها حين سُئل عن الإيمان، ثم قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، وفي رواية قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله، إلى أن قال ﷺ: هذا جبريل جاء ليعلّم الناس دينهم. قال البخاري: جعل ذلك كله من الإيمان[22]. فأمارات الساعة إذًا من جملة الدين الذي جاء جبريل ليعلمه الناس في صور تلك الأسئلة.
(2): ما رُوي من تذاكر بعض النبيين لها في رحلة الإسراء، فيما روي عن رسول الله ﷺ قال: لقيتُ ليلة أُسْري بي إبراهيم وموسى وعيسى، قال: فتذاكروا أمر السّاعة، فردُّوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردُّوا الأمر إلى موسى، فقال: لا علم لي بها، فردُّوا الأمر إلى عيسى، فقال: أمّا وَجْبَتُها فلا يعلمها أحدٌ إِلَّا الله ذلك، وفيما عهد إليَّ ربي أن الدَّجَّال خارجٌ، قال: ومعي قضيبان، فإذا رآني؛ ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله .. إلى آخر الحديث[23]. وهؤلاء أصحابه ﷺ كانوا يجلسون يتذاكرون الساعة، فاطلع عليهم النبي ﷺ، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات .. الحديث[24].
(3): تفصيل النبي ﷺ في الحوادث والفتن التي تَستقبل وإطالته النفس في ذلك، حتى كانت منه أطول خطبة عُرفت، فجاء أن النبي ﷺ: صلى الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا [25]. وفي رواية: وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء؟ فقال رسول الله ﷺ: ألا إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها؛ إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه[26].
وعن حذيفة t – وهو المبرّز في هذا الباب – قال: لقد خطبنا النبي ﷺ خطبة ما ترك فيها شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله[27]. ولعل المقصود بذلك الكوائن العظيمة في مستقبل الأيام كما أشار الذهبي فقال: قد كان ﷺ يرتّل كلامه ويفسره؛ فلعله قال في مجلسه ذلك ما يُكتب في جُزء؛ فذكر أكبر الكوائن، ولو ذكر أكثر ما هو كائن في الوجود لما تهيأ أن يقوله في سنة، بل ولا في أعوام، ففكر في هذا[28]. وكان حذيفة يقول: والله ما ترك رسول الله ﷺ من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا – يبلغ من معه ثلاث مائة فصاعدًا – إلا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته[29]. وقد كان ﷺ عنده علم فيما هو أدق من ذلك فروي عنه قال في شأن ملحمة آخر الزمان: فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله ﷺ: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، أو قال: هم من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ[30].
وعن عبد الله بن عمر يقول: كنا قعودًا عند رسول الله ﷺ فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر .. الحديث[31]. وفي سياق غيره قال عبد الله بن عمرو بن العاص كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جَشَره إذ نادى منادي رسول الله ﷺ: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله ﷺ فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، .. وذكر شيئًا من الفتن الحديث[32]. وهذا أبو أمامة الباهلي يقول: خطبنا رسول الله ﷺ فكان أكثر خطبته حديثًا حدثناه عن الدجال وحذرناه، فكان من قوله أن قال: إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيًا إلا حذر أمته الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة .. الحديث[33]. ولا أدل على ذلك من مئات الأحاديث الصحيحة التي رويت في الفتن عن رسول الله ﷺ من طرق مختلفة، تقطع أنه كان كثيرًا ما يحدث أصحابه بها عامة وخاصة، يجمل مرّة ويُفصّل أخرى.
(4): تربية أصحابَه وكأنّ الساعة تقوم عليهم، وكأنّ الدجال يخرج فيهم حتى ظنوه في طائفة النخل، يقول الراوي بعد أن حدثهم ﷺ عنه: فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم! قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم[34]. وفي رواية أنه وصفه فقال: لعله سيدركه بعض من رآني أو سمع كلامي[35]. وفي رواية: فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جواركم من فتنته[36].
وفصّل لهم في هيئته ومكان خروجه ومدة مكثه وما يقع معه من حوادث وفتن، فكادت قلوبهم تنخلع لذلك، فجاء عن رسول الله ﷺ قوله: إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيتُ أن لا تعقلوا[37]. وقال المغيرة بن شعبة ما سأل أحد النبي ﷺ عن الدجال أكثر ما سألته، فقال له: ما يضرك منه! قلت: لأنهم يقولون: إن معه جبل خبز ونهر ماء، قال: هو أهون على الله من ذلك[38]. وعن أسماء بنت يزيد قالت: كنا مع النبي ﷺ في بيته فذكر من فتنة الدجال، ثم خرج، وبكى أهل البيت، ثم رجع رسول الله ﷺ ونحن نبكي فقال: ما يبكيكم؟ فقلت: يا رسول الله ما ذكرت من الدجال .. الحديث، وفي رواية: قلت: يا رسول الله، لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال[39]. وعن عائشة أنها قالت: دخل علي رسول الله ﷺ وأنا أبكي، فقال لي: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله، ذكرتُ الدجال فبكيت .. الحديث[40]. وعن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: ذكرتُ المسيح الدجال ليلة فلم يأتني النوم، فلما أصبحت دخلت على رسول الله ﷺ فأخبرته .. الحديث[41]. كل ذلك يخبرهم أنه إن يخرج وهو فيهم فهو حجيجه يكفيهموه، وكان ﷺ يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال، ويأمر أمته بالاستعاذة منه[42].
وما حادثة ابن صياد ببعيدة عن تلك الحالة التي كان يعيشها الصحابة مع رسول الله ﷺ، حتى ظنّه ابن صياد، فانطلق في رهط فيهم عمر بن الخطاب قِبَل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة وقد قارب الحلم، فلم يشعر حتى ضرب النبي ﷺ بيده ثم قال لابن صياد: تشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه فقال: أشهد أنك رسول الأميين، فقال ابن صياد للنبي ﷺ: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه وقال: آمنت بالله وبرسله، فقال له: ماذا ترى؟ قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي ﷺ: خلط عليك الأمر، ثم قال له النبي ﷺ: إني قد خبأت لك خبيئا، فقال ابن صياد: هو الدخ، فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك، فقال عمر t: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال النبي ﷺ: إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله، ثم إنه انطلق بعد ذلك وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئًا قبل أن يراه ابن صياد، فرآه النبي ﷺ وهو مضطجع، فرأت أم ابن صياد رسول الله ﷺ، وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صياد: يا صاف – وهو اسم ابن صياد – هذا محمد ﷺ، فثار ابن صياد، فقال النبي ﷺ: لو تركته بيّن![43]. وجاء أن أبا بكرة والزبير بن العوام انطلقا كذلك مرة يبحثان عن الدجال في بعض يهود المدينة[44]. وكان بعض أصحاب رسول الله ﷺ يقسم أنه ابن صياد، فعن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله: أن ابن الصائد الدجال، قلت: تحلف بالله؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي ﷺ فلم يُنكره النبي ﷺ[45]. وكان ابن عمر يقول: والله، ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد[46].
وفي شأن نزول عيسى ابن مريم عليه السلام آخر الزمان لقتال الدجال روي عنه ﷺ أنه قال: إني لأرجو إن طال بي عمر أن ألقى عيسى ابن مريم، فإن عجل بي موت فمن لقيه منكم فليقرئه مني السلام[47]. وروي موقوفًا كذلك على أبي هريرة، وعن أبي ذر – توفي في نحو ثلاثين من الهجرة – يقول: ما يُوئسُني رقة عظمي ولا بياض شعري أن ألقى عيسى بن مريم[48]. وهكذا نجد الصحابة يترقبون خروج العلامات الكبار فيهم، وكذا كل قرنٍ بعدهم – لما عمّيت عن العباده – يرى أنه أحقّ فيهم ممن سبقهم، وقد أخبر الله تعالى عن أهل الإيمان – وأولى الناس بذلك الوصف أصحاب رسول الله ﷺ – فقال: ﴿ وَهُم مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشۡفِقُونَ ﴾ [الأنبياء:49]، وقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشۡفِقُونَ مِنۡهَا وَيَعۡلَمُونَ أَنَّهَا ٱلۡحَقُّۗ ﴾ [الشورى:18].
ومما يؤيد هذا المعنى أنه لما أخبر النبي ﷺ أن من فتنة الدجال أن يخرج إليه يومئذ رجل من المدينة هو خير الناس، أو من خير الناس، فيقول أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله ﷺ حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا، ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه[49]. قال: قال أبو سعيد: والله ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله[50]. وهذا ابن عباس يقول ذات يوم: ما نمت البارحة حتى أصبحت، قيل: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدجال قد طرق[51]. وهذا بريدة الأسلمي سمع من النبي ﷺ عن فتنة الترك وقوله: أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين، فكان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية يعد ذلك للهرب مما سمع من النبي ﷺ من البلاء من أمر الترك[52]. ثم لم يكن غزو التتار إلا في القرن السابع من الهجرة.
وكان حذيفة بن اليمان t من أنبه من عُرف بهذا من أصحاب النبي ﷺ، وهو القائل: أخبرني رسول الله ﷺ بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته، إلا أني لم أسأله: ما يخرج أهل المدينة من المدينة[53]، وكان يقول: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني، ثم يسأله t عما يصنع فيما يستقبله من الشرور، فيقول: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك[54].
ولم يكن ذلك خاصًا بحذيفة وحده – كما ذكر القرطبي – بل كان غيره أيضًا يسأل عن ذلك، وإنما المقصود: أنه كان أكثر مسائل الناس عن الخير، وكانَت أكثر مسائله عن الشر، وإلاَّ فقد سأل غيره رسول الله ﷺ عن كثير من الشر، وقد كان حذيفة أيضًا يسأل رسول الله ﷺ عن كثير من الخير[55]. لذا قال t: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله ﷺ أسرّ إلي في ذلك شيئًا لم يحدثه غيري، إلى أن قال: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري وقال: وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه [56].
وكان أبو هريرة – وهو أكثر الصحابة حديثًا – يقول: حفظت من رسول الله ﷺ جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو أبثه لقطعتم هذا البلعوم، وذلك الجراب – كما ذكر ابن تيمية – كان فيه الإخبار عن الأمور المستقبلة، مثل الفتن التي جرت بين المسلمين: فتنة الجمل، وصفين، وفتنة ابن الزبير، ومقتل الحسين، ونحو ذلك؛ مما لا تحتمله عقول الناس من أخبار تلك الفتن والحروب[57].
والأخبار في ذلك عن أصحاب رسول الله ﷺ كثيرة تدل على تداول تلك الأشراط بينهم، وترقبهم لما يقع من الغيوب التي أخبر بها لتمييز الخير من الشر فيها، ومواطن الإقدام والإحجام عنها، ولعلنا نستعرض في مقال قادم جانبًا تاريخيًا من تأثير ذلك، وتساؤلات مثارة حول هذا الموضوع إن شاء الله.
[1] انظر (صحيح البخاري): رقم 5301
[2] انظر (فتح الباري): ص11/349
[3] انظر (مسند أحمد): رقم 18770، وانظر (النهاية) لابن كثير: ص1/29
[4] انظر (سنن النسائي): رقم 1578، وانظر (صحيح مسلم): رقم 43 – (867)
[5] انظر (صحيح البخاري): رقم 3456
[6] انظر (فتح الباري): ص11/350-351
[7] انظر (التذكرة) للقرطبي: ص1217
[8] انظر (سنن الترمذي): رقم 3536
[9] انظر (تفسير الطبري) للآية
[10] انظر (تفسير الطبري) للآية
[11] انظر (تفسير الطبري) للآية
[12] انظر (النهاية): ص1/26
[13] انظر (صحيح البخاري): رقم 6496
[14] انظر (صحيح مسلم): رقم 136 – (2952)
[15] انظر (النهاية): ص1/31
[16] انظر (صحيح مسلم): رقم 218 – (2538)
[17] انظر (صحيح البخاري): رقم 6167، وانظر (مسند أحمد): رقم 12703
[18] انظر (الإشاعة) للبزنجي: ص27
[19] انظر تفسير الطبري للآية
[20] انظر (سنن الترمذي): رقم 2335
[21] انظر (فتح الباري): ص11/93
[22] انظر (صحيح مسلم): رقم 1 – (8)، وانظر (صحيح مسلم): رقم 5 – (9)، وانظر (صحيح البخاري): رقم 4777
[23] انظر (مسند أحمد): رقم 3556، وانظر (سنن ابن ماجه): رقم 4081
[24] انظر (صحيح مسلم): رقم 39 – (2901)
[25] انظر (صحيح مسلم): رقم 25 – (2892)
[26] انظر (سنن الترمذي): رقم 2191
[27] انظر (صحيح البخاري): رقم 6604
[28] انظر (السير): ص2/366
[29] انظر (سنن أبي داود): رقم 4243
[30] انظر (مسند أحمد): رقم 3643
[31] انظر (سنن أبي داود): رقم 4242
[32] انظر (صحيح مسلم): رقم 46 – (1844)
[33] انظر (سنن ابن ماجة): رقم 4077
[34] انظر (صحيح مسلم): رقم 110 – (2937)
[35] انظر (سنن الترمذي): رقم 2234
[36] انظر (سنن أبي داود): رقم 4321
[37] انظر (سنن أبي داود): رقم 4320
[38] انظر (صحيح البخاري): رقم 7122
[39] انظر (مسند أحمد): رقم 27568، ورقم 27579
[40] انظر (مسند أحمد): رقم 24467
[41] انظر (صحيح ابن خزيمة): ص1/103
[42] انظر (صحيح البخاري): رقم 833
[43] انظر (صحيح البخاري): رقم 1354، ورقم 1355
[44] انظر (مسند أحمد): رقم 20418
[45] انظر (صحيح البخاري): رقم 7355
[46] انظر (سنن أبي داود): رقم 4330
[47] انظر (مسند أحمد): رقم 7970
[48] انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد: ص4/217
[49] انظر (صحيح البخاري): رقم 7132
[50] انظر (سنن ابن ماجه): رقم 4077
[51] انظر (مستدرك الحاكم): رقم 8419
[52] انظر (مسند أحمد): رقم 22951
[53] انظر (صحيح مسلم): رقم 24 – (2891)
[54] انظر (صحيح البخاري): رقم 3606
[55] انظر (المفهم) للقرطبي: ص4/55، وانظر (المنهاج) لابن تيمية: ص8/135
[56] انظر (صحيح مسلم): رقم 22- (2891)، ورقم 23 – (2891)
[57] انظر (المنهاج) لابن تيمية: ص8/135-139