- تأليف : بانكاج ميشرا – Pankaj Mishra
- ترجمة : م. ح. الزهراني
- تحرير : هليل بن ربيع
غالباً ما يتم تصوير الحرب العظمى على أنها كارثة غير متوقعة، لكن بالنسبة للملايين الذين كانوا يعيشون في ظل الحكم الإمبريالي، لم يكن الرعب والتدهور شيئاً جديداً.
اليوم، على الجبهة الغربية كتب عالم الاجتماع الألماني “ماكس ويبر” في سبتمبر 1917م:”هناك يمكث نفايات/خردة من الهمجيين الأفارقة والآسيويين، وحشد من جميع الرعاع اللصوص والمغفلين في العالم”. كان “ويبر” يشير إلى ملايين الجنود والعمال، من الهنود والأفارقة والعرب والصينيين والفيتناميين، الذين كانوا يقاتلون حينئذ مع القوات البريطانية والفرنسية في أوروبا، وكذلك في العديد من المسارح التابعة للحرب العالمية الأولى.
في مواجهة نقص القوى العاملة قام الإمبرياليون البريطانيون بتجنيد ما يصل إلى 1.4 مليون جندي هندي، جندت فرنسا ما يقرب من 500 ألف جندي من مستعمراتها في أفريقيا، والهند الصينية، كما تم إدخال ما يقرب من 400 ألف أمريكي من أصل أفريقي إلى القوات الأمريكية، جنود الحرب العالمية الأولى الغير معروفين حقا هم هؤلاء المقاتلين الغير بيض.
“هو تشي من” الذي قضى معظم مدة الحرب في أوروبا، استنكر ما رآه من إجبار للشعوب التابعة، قبل بداية الحرب العظمى، كتب هو:”كان يُنظر إليهم على أنهم لا شيء، سوى الزنوج القذرة، جيدون ليس لأكثر من سحب عربات الريكاشة”، ولكن عندما احتاجت آلات الذبح الأوروبية إلى علف الإنسان، تم استدعائهم إلى الخدمة، وقد دعم بقوة آخرين من المعادين للإمبريالية، مثل المهندس “غاندي” و “ويب دو بوا” أهداف الحرب لأسيادهم البيض، على أمل تأمين الكرامة لمواطنيهم عقب الحرب، لكنهم لم يدركوا ما كشفته ملاحظات “ويبر”: “إن الأوروبيين سرعان ما أصبحوا يخافون، ويكرهون القرب المادي من رعاياهم غير البيض، شعوبهم المنتعشة الجديدة”، كما وصف “كيبلينج” الآسيويين والأفارقة المستعمرين في قصيدته التي كتبها عام 1899م “عبء الرجل الأبيض”.
يبقى هؤلاء التوابع المستعمرون مهمشين في التاريخ الشعبي للحرب، كما أنهم لا يحتفى بهم إلى حد كبير في الطقوس المقدسة ليوم الذكرى، (المسيرة الاحتفالية إلى القاعة البيضاء في وايت هول، من قبل جميع الشخصيات البريطانية الرئيسية، ودقيقتي الصمت التي تتبع بوضع أكاليل الخشخاش، وغناء النشيد الوطني). كل هذا يؤيد أن الحرب العالمية الأولى كانت عملاً أوروبياً هائلاً من إيذاء النفس.
على مدى القرن الماضي وُصمت الحرب على أنها تمزق كبير في الحضارة الغربية الحديثة، كارثة لا يمكن تفسيرها، مشت إليها مغممة الأعين القوى الأوروبية المتحضرة، بعد السلام الطويل في القرن التاسع عشر، كارثة تسببت قضاياها الغير المحسومة في صراع فاجع آخر بين الديموقراطية الليبرالية، والسلطوية، التي انتصر فيها الأول أخيراً ليعيد أوروبا إلى توازنها الصحيح.
مع أكثر من ثمانية ملايين قتيل، وأكثر من 21 مليون جريح، كانت الحرب هي الأكثر دموية في التاريخ الأوروبي، حتى انتهى الحريق الثاني في القارة عام 1945م، النصب التذكارية للحرب في القرى النائية في أوروبا -فضلاً عن- مقابر “فردان، مارن، باشنديل والسوم” تكرس تجربة مدهشة من الفجيعة، في العديد من الكتب، والأفلام، تظهر سنوات ما قبل الحرب كعمر للازدهار ،والرضا في أوروبا، و صيف عام 1914م، يمثل آخر صيف ذهبي.
ولكن اليوم، مع عودة العنصرية، وكراهية الأجانب، إلى مركز السياسة الغربية، فقد حان الوقت، لتذكر أن خلفية الحرب العالمية الأولى كانت عقودًا من الإمبريالية العنصرية، التي لا تزال عواقبها مستمرة، إنه شيء لا يتذكره الكثيرون على الإطلاق في يوم الذكرى.
في وقت الحرب العالمية الأولى، أيدت جميع القوى الغربية تسلسلاً عنصريًا مبنيًا، حول مشروع مشترك للتوسع الإقليمي، في عام 1914م، أعلن الرئيس الأمريكي: “وودرو ويلسون” عن نيته في الحفاظ على قوة الجنس الأبيض، في وجه الجنس الأصفر، والمحفاظة على الحضارة البيضاء وهيمنتها على كوكب الأرض، كانت أفكار تحسين النسل عن طريق الانتقاء العرقي في كل مكان على الساحة الرئيسية، والقلق المعبر عنه في صحف مثل “ديلي ميل”، التي كانت قلقة بشأن النساء البيض، اللواتي يتصلن بـالسكان الأصليين، الذين هم أسوأ من المتوحشين عندما يتم إثارة شغفهم، تمت مشاركتها على نطاق واسع عبر الغرب. قوانين مكافحة تزاوج الأجناس كانت موجودة في معظم الولايات الأمريكية، تم فرض الحظر على العلاقات الجنسية، بين النساء الأوروبيات، والرجال السود، وإن لم يكن كذلك بين الرجال الأوروبيين، والنساء الأفريقيات، عبر المستعمرات الأوروبية في أفريقيا، يبدو أن وجود “الزنوج القذرة” في أوروبا بعد عام 1914م ينتهك أحد المحرمات الثابتة.
في مايو 1915م اندلعت فضيحة عندما نشرت صحيفة ديلي ميل صورة لممرضة بريطانية تقف خلف جندي هندي جريح، وحاول مسؤلوا الجيش سحب الممرضات البيض من المستشفيات التي تعالج الهنود، ومنعوا الجنود الهنود من مغادرة مبنى المستشفى دون صحبة رفيق أبيض، كان الغضب عندما نشرت فرنسا جنودًا من إفريقيا -أغلبيتهم من المنطقة المغاربية_ عند احتلالها لألمانيا في فترة ما بعد الحرب ، شديدًا بشكل خاص وأكثر انتشارًا، كما أرسلت ألمانيا آلاف الجنود الأفارقة، أثناء محاولتهم التمسك بمستعمراتها في شرق أفريقيا، لكنها لم تستخدمهم في أوروبا، أو في ما وصفه وزير الخارجية الألماني “فيلهيلم سولف”، بـ ” استخدام عنصري مشين لذوي البشرة الملونة .”
وحذر إعلان مشترك للجمعية الوطنية الألمانية، البرلمان في عام 1920 م النساء الألمانيات: “إن هؤلاء المتوحشين يشكلون خطراً مروعاً”، وقد وصف “أدولف هتلر” في كتابه “كفاحي”، في العشرينات من القرن العشرين الجنود الأفارقة على الأراضي الألمانية بمؤامرة يهودية، تهدف إلى إسقاط البيض من آفاقهم الثقافية، والسياسية، النازيون الذين استلهموا من الابتكارات الأمريكية، في مجال النظافة العنصرية، كانوا سيعقِّمون قسراً في عام 1937م مئات الأطفال، الذين ولدهم الجنود الأفارقة، لم يكن الخوف من “الزنوج”، كما سماهم “ويبر” المسلحين، وكره وجودهم على الأرض الألمانية محصوراً في ألمانيا، أو اليمين السياسي، احتجّ البابا على وجودهم، وأطلقت افتتاحية في صحيفة الديلي هيرالد، وهي صحيفة اشتراكية بريطانية، في عام 1920 م، تحت عنوان “آفة سوداء في أوروبا”.
كان هذا هو النظام العنصري العالمي السائد، المبني حول مفهوم إقصائي للبياض، وتدعمه الإمبريالية والعلم الزائف، وأيديولوجية الداروينية الاجتماعية، _في عصرنا_ أدى التآكل المطرد لميزات العرق الموروثة، إلى زعزعة الهويات، والمؤسسات الغربية، كما كشف النقاب عن العنصرية، كقوة سياسية ثابتة وفعالة، مما مكن الدهماويين المتقلبين في قلب الغرب الحديث.
واليوم، وبينما يبني متعصبون من البيض تحالفات عابرة للحدود الوطنية، يصبح من الحتمي أن يسألوا كما فعل دو بوا في عام 1910م : “ما البياض الذي يجب على المرء أن يرغب فيه؟”، عندما نتذكر الحرب العالمية الأولى، يجب أن نتذكرها على خلفية مشروع الهيمنة الغربية، وهو مشروع مشترك بين جميع المشاركين الرئيسيين في الحرب، _في الواقع_ كانت الحرب العالمية الأولى بمثابة اللحظة التي عاد فيها إرث الإمبريالية العنيفة، في آسيا وأفريقيا إلى ديارهم، حيث انفجر في مذبحة ذاتية التدمير في أوروبا، ويبدو أن هذا الأمر ينطوي على قدر كبير من الأهمية في يوم الذكرى هذا، فاحتمال حدوث فوضى واسعة النطاق في الغرب اليوم أكبر من أي وقت آخر في سلامه الطويل منذ عام 1945م.
عندما يناقش المؤرخون أصول الحرب العظمى، يركزون عادة على التحالفات الصارمة، والجداول الزمنية العسكرية، والمنافسات الإمبريالية، وسباقات التسلح، والنزعة العسكرية الألمانية.
كانت الحرب كما يقولون مراراً وتكراراً، هي كارثة القرن العشرين، وهي الخطيئة الأوروبية الأصلية، التي مكنت من اندلاع المزيد من الوحشية، مثل الحرب العالمية الثانية والمحرقة.
هناك أدبيات واسعة عن الحرب، حرفيا عشرات الآلاف من الكتب والمقالات العلمية، تركز إلى حد كبير على الجبهة الغربية، وتأثير المذبحة المتبادلة على بريطانيا وفرنسا وألمانيا، – وبشكل ملحوظ – على (النوى المتروبولية) لهذه القوى الإمبريالية بدلا من أطرافها، في هذه الرواية التقليدية، التي تتخللها الثورة الروسية، وإعلان “بلفور” في عام 1917م تبدأ الحرب بـ “بنادق أغسطس”، في عام 1914م، وترسل الحشود الوطنية المبتهجة الجنود من أنحاء أوروبا، إلى مأزق دموي في الخنادق، يأتي السلام مع الهدنة في 11 نوفمبر 1918م ليتعرض للخطر بشكل مأساوي من قبل معاهدة فرساي في عام 1919م، والتي تمهد الطريق لحرب عالمية أخرى.
في واحدة من الروايات السائدة، لكن الأيديولوجية للغاية من التأريخ الاوروبي، التي تم تعميمها منذ الحرب الباردة: أن الحروب العالمية جنباً إلى جنب مع الفاشية والشيوعية: هي ببساطة انحرافات وحشية، في التقدم العالمي للديمقراطية الليبرالية، والحرية، ولكن من نواحٍ عديدة، كانت العقود التي تلت عام 1945م، عندما خرجت أوروبا التي حرمت من مستعمراتها من أنقاض حربين جائحتين تبدو بشكل متزايد استثنائية، وفي خضم استنفاد شامل مع الأيديولوجيات العنيفة، والجماعية في أوروبا الغربية، بدت فضائل الديمقراطية، وقبل كل شيء احترام الحريات الفردية واضحة، كما كانت المزايا العملية لعقد اجتماعي معدَّل، ودولة رفاهية، واضحة أيضاً، ولكن لم تكن هذه العقود من الاستقرار النسبي، ولا انهيار الأنظمة الشيوعية في عام 1989م ، سبباً لافتراض أن حقوق الإنسان، والديمقراطية، كانت متجذرة في التربة الأوروبية.
بدلاً من أن نتذكر الحرب العالمية الأولى بطريقة تغري تحيزاتنا المعاصرة، علينا أن نتذكر ما أوضحته “هانا أرندت” في كتابها “أصول الاستبداد”، وهو واحد من أول حسابات الغرب الكبرى، مع خبرة أوروبا المأساوية في القرن العشرين للحروب، والعنصرية والإبادة الجماعية، تلاحظ “أرندت” أن الأوروبيين، هم الذين قاموا في البداية بإعادة ترتيب الإنسانية، إلى: عرقي السيادة، والعبيد، أثناء غزوهم واستغلالهم لكثير من آسيا، وأفريقيا، وأمريكا، تم إنشاء هذا التسلسل الهرمي المهين للأعراق؛ لأن الوعد بالمساواة والحرية في الداخل، يتطلب التوسع الإمبراطوري في الخارج حتى يتم تحقيقه جزئيا، نميل إلى نسيان أن الإمبريالية بوعدها بالأرض، والغذاء، والمواد الخام، كان ينظر إليها على نطاق واسع في أواخر القرن التاسع عشر، باعتبارها حاسمة للتقدم، والازدهار الوطنيين، لقد كانت العنصرية ليست أكثر من مجرد تحيز بشع، وهو أمر يجب القضاء عليه، من خلال حظر قانوني واجتماعي، ولقد انطوت على محاولات حقيقية لحل المشاكل، المتعلقة بإرساء النظام السياسي، من خلال الإقصاء، والإهانة، وتهدئة الساخطين في المجتمعات المنكوبة بالتغير الاجتماعي، والاقتصادي السريع.
في أوائل القرن العشرين، أوجدت شعبية الداروينية الاجتماعية إجماعًا على أنه ينبغي النظر إلى الدول على نحو مشابه للكائنات البيولوجية التي كانت عرضة لخطر الانقراض، أو الانهيار إذا فشلت في طرد الأجسام الغريبة، وتحقيق مساحة المعيشة لمواطنيها، إن النظريات العلمية الزائفة عن الاختلاف البيولوجي بين الأعراق، تطرح عالماً تشارك فيه جميع الأجناس في صراع دولي، من أجل الثروة والسلطة، لقد أصبح البياض الدين الجديد، كما شهد “دو بوا” حيث قدم الأمن، وسط تبدلات اقتصادية وتكنولوجية مربكة، ووعد بالسلطة، على أغلبية السكان من البشر.
إن عودة ظهور هذه الرؤى الإستعلائية اليوم في الغرب، إلى جانب الوصمة المنتشرة، باعتبار هذه المجموعات السكانية غير متوافقة ثقافياً مع الشعوب الغربية البيضاء، يجب أن يوحي بأن الحرب العالمية الأولى لم تكن في الحقيقة قطيعة عميقة في تاريخ أوروبا، كان الأمر كما كان “ليانغ تشيتشاو” المفكر الحديث الصيني ، يصر في عام 1918م، بأنه: “ممر وسيط يربط بين الماضي والمستقبل”.
إن الصلوات في يوم الذكرى، وتداعيات الصيف الجميل عام 1913م ، تنكر كلا من الواقع القاتم الذي سبق الحرب، والطريقة التي استمر بها في القرن الواحد والعشرين، إن مهمتنا المعقدة خلال الذكرى المئوية للحرب تتمثل في تحديد الطرق، التي تسلل بها هذا الماضي إلى حاضرنا، وكيف يهدد تشكيل المستقبل؟ كيف أدى الضعف المصيري في هيمنة الحضارة البيضاء، وإصرار الشعوب الغاضبة سابقاً، إلى تحرير بعض النزعات والسمات القديمة جدا في الغرب؟.
بعد ما يقرب من قرن من انتهاء الحرب العالمية الأولى، ظلت تجارب ووجهات نظر المشاركين فيها، والمراقبين الغير أوروبيين، غامضة إلى حد كبير، وتدعم معظم تقارير الحرب هذه القضية، باعتبارها قضية أوروبية في الأساس، الحرب التي تحطم فيها السلام الطويل للقارة بأربع سنوات من المجازر، كما حرف فيها التقليد القديم للعقلانية الغربية.
نسبيا هنالك معرفة قليلة، عن الكيفية التي عجلت بها الحرب الصراعات السياسية في آسيا وأفريقيا، وكيف وجد القوميون العرب، والأتراك، والناشطون الهنود، والفيتناميون المناهضون للاستعمار، فرصاً جديدة في ذلك، أو كيف في الوقت الذي دمرت فيه الإمبراطوريات القديمة في أوروبا، حولت الحرب اليابان إلى قوة إمبريالية خطرة في آسيا.
إن سردًا واسعًا للحرب، الذي يهتم بالنزاعات السياسية خارج أوروبا، يمكن أن يوضّح النزعة القومية المفرطة اليوم، للعديد من النخب الحاكمة في آسيا وإفريقيا، وبشكل أكثر وضوحًا في النظام الصيني، الذي يقدم نفسه على أنه منتقم لمدى قرن من الإذلال الغربي.
جعلت الاحتفالات الأخيرة مساحة أكبر للجنود، وساحات القتال، الغير أوروبيين في الحرب العالمية الأولى، كمجموع تم حشد أكثر من أربعة ملايين من الرجال الغير بيض، في الجيوش الأوروبية والأمريكية، وحدث القتال في أماكن بعيدة جدا عن أوروبا، من سيبيريا، و شرق آسيا، إلى الشرق الأوسط ، أفريقيا الصحراوية ، وحتى جزر جنوب المحيط الهادئ في بلاد النهرين، شكل الجنود الهنود غالبية القوى العاملة المتحالفة طوال الحرب، لم يكن ليحدث احتلال بريطانيا لبلاد ما بين النهرين، ولا حملتها الناجحة في فلسطين بدون مساعدة من الهند، حتى أن الجنود السيخ ساعدوا اليابانيين، على طرد الألمان من مستعمرة تشينغداو الصينية.
بدأ الباحثون في إبداء المزيد من الاهتمام إلى حوالي 140 ألف عامل صيني، وفيتنامي، يعملون بعقود من قبل الحكومتين البريطانية، والفرنسية؛ للحفاظ على البنية التحتية للحرب، ومعظمها حفر للخنادق، نحن نعرف أكثر عن كيف أصبحت أوروبا في الفترة ما بين الحربين العالميتين، مستضيفة لعدد كبير من الحركات المناهضة للاستعمار، مجتمع المغتربين من شرق آسيا في باريس شمل “تشو إنلاي”، الذي أصبح في وقت لاحق رئيس الوزراء في الصين، وكذلك “هوشي من”، كانت سوء المعاملة القاسية في أشكال الفصل وعمل العبيد ، هي مصير العديد من هؤلاء الآسيويين، والأفارقة في أوروبا، وفي وقت لاحق،- أشار “دنغ شياو بينغ”، الذي وصل إلى فرنسا بعد الحرب مباشرة، إلى الإذلال الذي ألحق بزملائه الصينيين من “الكلاب الراغمة الرأسماليين”.
ولكن من أجل فهم عودة الاستعلائية البيضاء في الغرب؛ نحتاج إلى تاريخ أعمق، الذي يظهر كيف أصبح البياض في أواخر القرن التاسع عشر ضمان الهوية الفردية والكرامة، إضافة إلى كونه الأساس في التحالفات العسكرية والدبلوماسية.
سيظهر مثل هذا التاريخ أن النظام العرقي العالمي في القرن الذي سبق عام 1914م، كان نظاماً من الطبيعي تمامًا فيه أن تتم إبادة الشعوب “غير المتحضرة”، أو ترويعها، أو سجنها، أو نبذها، أو إعادة هندستها بشكل جذري -علاوة على ذلك-، لم يكن هذا النظام الراسخ أمراً عرضياً للحرب العالمية الأولى، بمعنى عدم وجود صلة مع الطريقة الوحشية التي فرضت، أو إلى الوحشية التي جعلت أهوال “الهولوكوست” من الأمر المحتمل -بدلا من ذلك-، فإن العنف المتطرف الذي لا يخضع للقانون، وغير المبرر في أغلب الأحيان للإمبريالية الحديثة -في نهاية المطاف- ارتد على منشئيه.
في هذا التاريخ الجديد، تم الكشف عن سلام أوروبا الطويل على أنه وقت حروب غير محدودة في آسيا وأفريقيا والأمريكتين، تظهر هذه المستعمرات باعتبارها بوتقة، حيث بدأت فيها التكتيكات المشؤومة لحروب القرن العشرين الوحشية في أوروبا، الإبادة العرقية، عمليات نقل السكان القسرية، وإزدراء حياة المدنيين.
يحاول المؤرخون المعاصرون في الاستعمار الألماني -وهو مجال متسع للدراسة-، تتبع المحرقة إلى الإبادات الجماعية الصغيرة، التي ارتكبها الألمان في مستعمراتهم الأفريقية في القرن العشرين، حيث رعيت هناك بعض الأيديولوجيات الرئيسية، مثل ليبنسروم (السياسة التوسعية)، لكن من السهل جداً الاستنتاج، -خصوصاً- من وجهة النظر الأنجلو أمريكية أن ألمانيا خرجت عن قواعد الحضارة لوضع معيار جديد للهمجية؛ مما أدى إلى تسليح بقية العالم في عصر من التطرف. كانت هناك استمرارية عميقة في الممارسات الإمبريالية، والافتراضات العنصرية للقوى الأوروبية، والأمريكية.
بالفعل، تقاربت عقليات القوى الغربية إلى درجة ملحوظة، خلال ذروة من “البياض” ، كما أجاب “دو بوا” على سؤاله حول هذه الحالة المرغوبة للغاية، والتي تم تعريفها على أنها “ملكية الأرض إلى الأبد”، على سبيل المثال: كان الاستعمار الألماني لجنوب غرب أفريقيا، والذي كان يهدف إلى حل مشكلة الاكتظاظ السكاني، غالباً ما يساعده البريطانيون، وكانت جميع القوى الغربية الكبرى تقسم بشكل ودي “البطيخ الصيني” في أواخر القرن التاسع عشر، إن أي توترات نشأت بين أولئك الذين يقسمون الغنائم في آسيا وأفريقيا، قد تم نزع فتيلها بشكل سلمي على حساب الآسيويين والأفارقة.
ويرجع ذلك إلى أن المستعمرات، في أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت تنظر إليها على نطاق واسع على أنها صمامات إغاثة لا غنى عنها للضغوط الاجتماعية، والاقتصادية المحلية، وضع “سيسيل رودز” القضية لهم بوضوح مثالي، في عام 1895م بعد لقاء مع رجال غاضبين عاطلين عن العمل في شرق لندن.
الإمبريالية، كما أُعلن، كانت حلاً للمشكلة الاجتماعية، أي من أجل إنقاذ سكان المملكة المتحدة البالغ عددهم 40 مليون نسمة من حرب أهلية دموية، يجب علينا نحن رجال الدولة الاستعمارية الحصول على أراضٍ جديدة؛ لتسوية فائض السكان، لتوفير أسواق جديدة بالنسبة للسلع المنتجة في المصانع والمناجم، في رأي “رودز”:”إذا أردت تجنب الحرب الأهلية ، يجب أن تصبح إمبرياليا”.
وساعد زحف “رودز” في حقول الذهب في أفريقيا، على إطلاق حرب (البوير الثانية)، والتي حول خلالها البريطانيون باستعمال النساء، والأطفال الأفريقانيين، مصطلح “معسكر الاعتقال” إلى لغة عادية.
في نهاية الحرب في عام 1902م، أصبح مألوفًا للتاريخ، كما كتب “هوبسون” :”أن الحكومات تستخدم العداوات القومية، والحروب الخارجية، وبريق صنع الإمبراطورية؛ من أجل إرباك العقل الشعبي، وتحويل الاستياء المتزايد ضد الانتهاكات الداخلية”.
ومع الإمبريالية، وإنفتاح “بانوراما الكبرياء السوقي والإثارة الفجة”، حاولت الطبقات الحاكمة في كل مكان بجهد أكثر إلى “أمبريلة الأمة”، كما كتبت “أرندت”: “سرعان ما تقدم هذا المشروع في تنظيم الأمة؛ من أجل نهب الأراضي الأجنبية، والتدهور الدائم للشعوب الغريبة”. من خلال الصحافة الصفراء المنشأة حديثاً، كانت صحيفة (ديلي ميل) منذ نشأتها في عام 1896م، تثير الفخر في كونها بيضاء بريطانية، ومتفوقة على السكان الأصليين الوحشيين تماماً ، كما تفعل اليوم.
في نهاية الحرب، تم تجريد ألمانيا من مستعمراتها، واتهمتها القوى الإمبريالية المنتصرة -بدون سخرية- من سوء معاملة مواطنيها في أفريقيا، لكن مثل هذه الأحكام التي لا تزال سائدة اليوم، للتمييز بين الإمبريالية البريطانية والأمريكية الحميدة، من النسخ الألمانية والفرنسية والهولندية والبلجيكية، تحاول أن تقضي على التآزر القوي للإمبريالية العنصرية، يقول “مارلو” ، راوي “قلب الظلام” لـ “جوزيف كونراد” (1899م) بوضوح: “ساهمت كل أوروبا في صنع كورتز”، وإلى الأساليب الجديدة المتشائمة في إبادة المتوحشين ، ربما كان قد أضاف.
في عام 1920م، بعد عام من إدانة ألمانيا لجرائمها ضد الأفارقة، ابتكر البريطانيون القصف الجوي كسياسة روتينية في حيازتهم الجديدة للعراق، وهي السباقة في حملات القصف والطائرات بدون طيار، التي جرت اليوم في غرب وجنوب آسيا، وجاء في تقرير صادر عن ضابط في سلاح الجو الملكي في عام 1924م، أن “العرب والأكراد يعرفون الآن ماذا يعني القصف الحقيقي، يعرفون الآن أنه في غضون 45 دقيقة يمكن أن تمحى قرية كاملة الحجم بالكامل، ويقتل ثلث سكانها أو يصابون”، هذا الضابط كان آرثر “بومبر” هاريس، الذي أطلق في الحرب العالمية الثانية عواصف النار في (هامبورغ ودرسدن)، والذي ساعدت جهودهم الرائدة في العراق، التنظير الألماني في الثلاثينات عن (الحرب الشاملة).
غالباً ما يُقترح أن الأوروبيون كانوا غير مبالين، أو مغيبين بشأن ممتلكاتهم الإمبريالية النائية، وأن عدداً قليلاً فقط من الإمبرياليين العرقيين، مثل “رودز، وكيبلينج، ولورد كرزون” اهتموا بما يكفي، هذا يجعل العنصرية تبدو كمشكلة صغيرة تفاقمت؛ بسبب وصول المهاجرين الآسيويين والأفارقة في أوروبا ما بعد عام 1945م، لكن جنون التطرف الذي انزلقت معه أوروبا في حمام دم، في عام 1914م، يتحدث عن ثقافة مولعة بالهيمنة الإمبريالية، وهي لغة مفضلية للتفوق العنصري، والتي جاءت لتعزيز الثقة الذاتية الفردية والوطنية.
انضمت إيطاليا فعليًا إلى بريطانيا وفرنسا، على جانب الحلفاء في عام 1915م، في نوبة من الهوس الإمبراطوري الشعبي، وسرعان ما انغمسوا في الفاشية، بعد أن كانت شهواتهم الإمبريالية غير مرضية.
كان الكتاب الإيطاليون والصحفيون، وكذلك السياسيون، ورجال الأعمال، يشتهون البحث عن القوة والمجد الإمبراطوريْن منذ أواخر القرن التاسع عشر، كانت إيطاليا قد سارعت إلى الاندفاع نحو أفريقيا، فقط ليتم إعادة توجيهها من قبل إثيوبيا في عام 1896م، (موسوليني سوف ينتقم في عام 1935م، من خلال غمر الإثيوبيين بالغازات السامة)، في عام 1911م، رأت إيطاليا فرصة لفصل ليبيا عن الإمبراطورية العثمانية، بعد هزيمتها السابقة، كان هجومها على البلاد الذي أشرف عليه كل من بريطانيا وفرنسا، شرساً ولاقى هتافاً بصوت عالٍ في الداخل، إن أخبار الفظائع التي ارتكبها الإيطاليون، والتي شملت أول تفجير من الجو في التاريخ، أدت إلى تطرف العديد من المسلمين في آسيا وأفريقيا، لكن الرأي العام في إيطاليا ظل يقف وراء المغامرة الإمبراطورية.
تبدو النزعة العسكرية الألمانية الخاصة، التي يلقى عليها باللوم في التسبب في دوامة الموت في أوروبا، في الفترة بين عامي(1914 م – 1918م)، أقل غرابة عندما نعتبر أنه من ثمانينيات القرن التاسع عشر كان العديد من الألمان في السياسة، والأعمال التجارية، والأوساط الأكاديمية، ومجموعات اللوبي القوية مثل رابطة عموم ألمانيا، قد حضوا حكامهم لتحقيق المكانة الإمبريالية، التي تمتلكها بريطانيا وفرنسا، -وعلاوة على ذلك- وقعت جميع الاشتباكات العسكرية الألمانية، من عام 1871م إلى عام 1914 م خارج أوروبا، وشملت هذه الحملات الاستكشافية العقابية المستعمرات الإفريقية، واندفاع طموح واحد في عام 1900 م في الصين، حيث انضمت ألمانيا إلى سبع قوى أوروبية أخرى، في حملة انتقامية ضد الشبان الصينيين، الذين تمردوا ضد الهيمنة الغربية على المملكة الوسطى.
عندما أرسل القيصر قوات ألمانية إلى آسيا، قدم مهمتهم باعتبارها انتقامًا عنصريًا: “لا تعطوا العفو ولا تأخذوا أي سجناء”، وحث الجنود على التأكد من عدم تجرؤ الصينيين أبدًا، على النظر في أمر ألماني، كان سحق “الخطر الأصفر” مكتملاً إلى حد ما، بحلول الوقت الذي وصل فيه الألمان، ومع ذلك في الفترة ما بين أكتوبر 1900م وربيع 1901م، أطلق الألمان عشرات الغارات، في الريف الصيني، التي اشتهرت بوحشيتهم الشديدة.
أحد المتطوعين للقوة التأديبية كان الفريق “لوثار فون تروثا”، الذي صنع سمعته في أفريقيا عن طريق ذبح السكان المحليين، وحرق القرى، ووصف سياسته “الإرهاب”، مضيفاً أنه يمكن أن يساعد فقط في إخضاع السكان الأصليين، في الصين، قام بتلويث قبور مينغ، و رأس بعض أعمال القتل، لكن عمله الحقيقي كان مستقبلاً في جنوب غرب إفريقيا الألمانية (ناميبيا المعاصرة)، حيث اندلعت انتفاضة مناهضة للاستعمار في يناير 1904م، في أكتوبر من ذلك العام، أمر “فون تروتا”، أن يتم إطلاق النار على أعين أفراد جماعة “هيرييو” بمن فيهم النساء والأطفال، الذين هُزموا عسكرياً من قبل، وأن أولئك الذين يفرون من الموت سيقادون إلى صحراء “أوماهيك”، حيث سيُتركون للموت، وقد قُتل ما يقدر بنحو 60.000 – 70.000 شخصاً من “الهريرو”، من أصل مجموعه حوالي 80.000 شخصاً، -في نهاية المطاف- ومات الكثيرون في الصحراء بسبب الجوع، أدت ثورة ثانية ضد الحكم الألماني في جنوب غرب أفريقيا، من قبل شعب الناما؛ إلى زوال نصف سكانهم تقريبًا بحلول عام 1908.
أصبحت مثل هذه الإبادة الجماعية البدائية روتينية، خلال السنوات الأخيرة من السلام الأوروبي، قام ملك “ليوبولد” الثاني البلجيكي بإدارة دولة “الكونغو الحرة”، باعتبارها إقطاعاته الشخصية من عام 1885م، إلى عام 1908؛ مما أدى إلى انخفاض عدد السكان المحليين إلى النصف، مما أدى إلى وفاة ما يصل إلى ثمانية ملايين أفريقي.
أودى العزو الأمريكي للفلبين، بحياة أكثر من 200.000 مدني، وذلك ما بين عامي 1898م و 1902م، وهو الذي كرس في كيبلينج عمله عبء الرجل الأبيض، قد تبدو حصيلة القتلى أقل إثارة عندما يعتقد المرء أن 26 جنرالاً من أصل 30 جنرالاً أمريكياً في الفلبين، قاتلوا في حروب الإبادة ضد الأمريكيين الأصليين في الداخل، أحدهم: العميد “جاكوب سميث”، الذي صرح صراحة في أمره للجنود أنه لا يريد سجناء:”أتمنى لك القتل والحرق، وكلما قتلت وحرقت أكثر ستكون اكثر إرضاء لي”، في جلسة استماع في مجلس الشيوخ حول الفظائع في الفلبين، أشار الجنرال “آرثر ماك آرثر” إلى “الشعوب الآرية الرائعة”، التي كان ينتمي إليها، و”وحدة السباق” التي شعر أنه مضطر لدعمها.
ويبين التاريخ الحديث للعنف أن الأعداء الأقوياء، لم يُبدو أبدًا عدم الرغبة في اقتراض الأفكار القاتلة من بعضهم البعض، لنأخذ مثالاً واحدًا فقط، فإن قسوة النخبة الأمريكية مع السود، والأميركيين الأصليين، قد أثارت إعجابًا كبيرًا بالجيل الأول، من الإمبرياليين الليبراليين الألمان، عقود قبل ظهور “هتلر”، الذي كان أيضًا معجباً بسياسات الولايات المتحدة العنصرية، والتي تتعلق بالجنسية والهجرة، سعى “النازيون” إلى أخذ الإلهام من تشريع “جيم كرو” في جنوب الولايات المتحدة، مما يجعل”شارلوتسفيل” “فرجينيا” مكانًا مناسب مؤخرًا لنشر رايات الصليب المعقوف وهتافات “الدم والتربة”.
في ضوء هذا التاريخ المشترك للعنف العنصري، يبدو من الغريب أن نواصل تصوير الحرب العالمية الأولى باعتبارها معركة بين الديمقراطية، والاستبدادية، باعتبارها كارثة ملحوظة، وغير متوقعة، كان الكاتب الهندي “أوروبيندو غوس”، من بين العديد من المفكرين المعادين للاستعمار، الذين تنبّأوا حتى قبل اندلاع الحرب، بأن “أوروبا المدوية العدوانية المهيمنة”، كانت بالفعل تحت “عقوبة الموت” ، في انتظار الإبادة، بقدر ما استطاع “ليانغ تشيتشاو” النظر في عام 1918م، أن الحرب سوف تكون بمثابة جسر يربط ماضي أوروبا، بالعنف الإمبراطوري بمستقبلها المتمثل في قتل الأخ الأصيل.
هذه التقييمات الداهية لم تكن حكمة شرقية، أو عرافة أفريقية، أدرك العديد من الشعوب الثانوية ببساطة قبل أن تنشر “أرندت” أصول الإستبداد في عام 195 م، أن السلام في “الغرب المتروبوليتاني”، يعتمد بشكل كبير، على الاستعانة بالحرب المصدرة خارجيا للمستعمرات.
كانت تجربة الموت والدمار الجماعي، التي عانى منها معظم الأوروبيين فقط بعد عام 1914م، معروفة على نطاق واسع في آسيا وإفريقيا، حيث تم الاستيلاء على الأراضي والموارد بشكل جبري، وتدمير البنية التحتية الاقتصادية والثقافية بشكل منهجي، وإزالة جماعات سكانية بمساعدة البيروقراطيات، والتقنيات الحديثة، كان توازن أوروبا طفيلياً لفترة طويلة جداً على عدم التوازن في أماكن أخرى.
في النهاية،لم تستطع آسيا وأفريقيا البقاء مكانًا بعيدًا آمنًا لحروب أوروبا الكبرى، في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، عانى السكان في أوروبا -في نهاية المطاف- من العنف الكبير، الذي طال أمده بالآسيويين والأفارقة. وكما حذرت “أرندت”، فإن العنف الذي تتم إدارته من أجل السلطة، يتحول إلى مبدأ مدمر لن يتوقف حتى لا يتبقى أي شيء ينتهك.
في وقتنا هذا، لا شيء يوضح بشكل أفضل هذا المنطق المدمر للعنف الخارج عن القانون، والذي يفسد كل من الأخلاق العامة والخاصة، أكثر من الحرب العنصرية على الإرهاب، وهي تفترض وجود عدو بشري لا بد من إخراجه من الداخل والخارج، وقد رخص باستخدام التعذيب، والإعدام خارج نطاق القضاء، حتى ضد المواطنين الغربيين، ولكن كما تنبأت “أرندت”: لم تؤد إخفاقاتها إلا إلى زيادة الاعتماد على العنف، وانتشار حروب غير معلن عنها، على ساحات قتال جديدة، وهجوم لا هوادة فيه على الحقوق المدنية في الداخل، وتفاقم سيكولوجية الهيمنة، التي تظهر في الوقت الراهن في تهديدات دونالد ترامب، بترك الصفقة النووية مع إيران، وأطلاق العنان لـغضب لم يسبق له مثيل على كوريا الشمالية.
كان من الوهم دائما افتراض أن الشعوب المتحضرة يمكن أن تظل محصنة في الداخل من تدمير الأخلاق والقانون، في حروبهم ضد البرابرة في الخارج، لكن هذا الوهم الذي طالما اعتز به المدافعون عن الحكم الذاتي من الحضارة الغربية قد تم تحطيمه الآن، مع تصاعد الحركات العنصرية في أوروبا، والولايات المتحدة، التي صفق لها في كثير من الأحيان المتعصبون البيض في البيت الأبيض، الذي يتأكد من عدم وجود شيء يتبقى للإنتهاك.
لقد تخلص القوميون البيض من الخطابة القديمة، عن الأممية الليبرالية، وهي اللغة المفضلة للمؤسسة السياسية والإعلامية الغربية لعقود، وبدلاً من الادعاء بأنهم يجعلون العالم آمنًا للديمقراطية، فإنهم يؤكدون بلا شك الوحدة الثقافية للعرق الأبيض، ضد التهديد الوجودي الذي يشكله الأجانب المتطرفون، سواء كانوا مواطنين، أو مهاجرين، أو لاجئين، أو ملتمسي لجوء ،أو إرهابيين.
لكن النظام العرقي العالمي الذي منح منذ قرون السلطة، والهوية، والأمن والمكانة على المستفيدين منه، بدأ يتفكك في النهاية، حتى الحرب مع الصين، أو التطهير العرقي في الغرب، لن يعيد ملكية الأرض للبيض إلى الأبد.
لقد أثبتت استعادة القوة الإمبراطورية والمجد، أنها خيال وهمي خادع يدمر الشرق الأوسط، وأجزاء من آسيا وأفريقيا، بينما يعيد الإرهاب إلى شوارع أوروبا وأمريكا، ناهيك عن إيصال بريطانيا نحو خروجها من الاتحاد الأوروبي.
لا يمكن لأي مشاريع شبه إمبريالية مثيرة في الخارج، أن تخفي مصادمات الطبقات والتعليم، أو تحوّل الجماهير في الداخل،- وبالتالي- فإن المشكلة الاجتماعية تبدو غير قابلة للحل، يبدو أن المجتمعات المتقطبة شديدة الخناق على الحرب الأهلية، التي خافها “رودز” وكما يظهر من “بريكست” ، “وترامب”، فإن القدرة على إيذاء الذات قد نمت بشكل مشؤوم.
ولهذا السبب أيضًا؛ تحول البياض إلى دين أثناء الريبة الاقتصادية والاجتماعية الذي سبقه عنف عام 1914م، وهو أخطر طائفة في العالم اليوم.
التفوق العنصري مورس تاريخيا من خلال الاستعمار، والعبودية، والفصل العنصري، والغيتوز، والعسكرة الحدودية والحبس الجماعي، لقد دخلت الآن مرحلتها الأخيرة، والأكثر يأسًا مع “ترامب” في السلطة.
لم يعد بوسعنا أن نتجاهل الاحتمال الرهيب، الذي وصفه “جيمس بالدوين” ذات مرة: أن الفائزين في التاريخ “المكافحين من أجل التمسك بما سرقوه من أسراهم، والغير قادرين على النظر في مرآتهم، سيعجلون بحدوث فوضى في جميع أنحاء العالم، والتي إذا لم تنه الحياة على هذا الكوكب، فسوف تؤدي إلى حرب عنصرية، لم يشهدها العالم أبداً”.
إن التفكير السليم يتطلب -على أقل تقدير-، دراسة التاريخ والإصرار العنيد للإمبريالية العنصرية، وهو الحساب الذي حاولته ألمانيا وحدها بين القوى الغربية.
من المؤكد أن خطر عدم مواجهة تاريخنا الحقيقي، لم يكن واضحا كما كان في يوم الذكرى، إذا ما واصلنا التهرب من الأمر، فإن المؤرخين بعد قرن من الآن، قد يتساءلون مرة أخرى لماذا سار الغرب في حالة سكون بعد سلام طويل، إلى أكبر مصيبة له حتى الآن!.
المصدر : How colonial violence came home: the ugly truth of the first world war