أ.د. عبدالله بن حمد السكاكر
التبني العلمي
ينجذب كثير من الطلاب نحو الأستاذ المتميز بحسن الخلق، والقوة العلمية، ما يجعل بعضهم يتجاوز المنطقة الشخصية للأستاذ، ويقترب منه خاصة إذا وافق من الأستاذ قبولًا ورضا، فيقترب هذا الطالب من شيخه، وينال منه من الاهتمام والاطلاع على أحواله، ما لا يناله غيره من الطلاب، وفي هذا مصلحة مشتركة، فالطالب يتاح له من وسائل التلقي ما لا يتاح لغيره، والشيخ يستثمر في طالب نجيب يشارك في صناعة شخصيته العلمية.
وقد حفل التاريخ العلمي للأمة بنماذج فريدة من التبني العلمي الذي أنتج أئمة وعلماء، ورثوا علم شيوخهم، ومناهجهم، في التعلم، والتعليم، والتربية، والتنسك، وورّثوها سلوكًا ورواية لمن بعدهم، وأكثر ما رُوي من سير العلماء كان بألسنة خواص طلابهم، وفي هذا ينبغي للشيخ أنْ يستثمر في نجباء طلابه، ممن يتوسم بهم خيرًا، وينبغي لمن ظفر من شيخه بمنزلة خاصة، أنْ يستثمرها في بناء شخصيته العلمية ولا يفرط بهذا القرب، أو يجعله فيما لا يفيد.
لسان ابن عباس
روى الإمام أحمد بسنده: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمَ؟ قَالَ: «بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ» [1] ، أما القلب العقول فموهبة من الله، وأما اللسان السؤول فكسب العبد، وقد أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أهم وسائل طلب العلم، فحُسن المسألة نصف العلم، وإنما يستنطق ما في قلب العالم من العلم بالمسألة، ومن لم يحسن السؤال فاته من العلم بقدر ما فاته من السؤال، وليس الشأن أنْ يسأل الطالب شيخه، وإنما الشأن كيف يسأله، فبينما يسأل كثير من الطلاب شيوخهم عن آرائهم الفقهية، وترجيحاتهم في المسائل التي تعم بها البلوى، ويكثر عنها سؤال الناس، حتى يصبح الطالب كالأرشيف لآراء شيخه، وترجيحاته، يعمد آخرون إلى نوع آخر من الأسئلة تتعلق بالمنهج، والصناعة الفقهية، من مثل: السؤال عن أصول الأدلة، وكيفية بناء الدليل، ونقضه أو قلبه، وكيفية التعامل مع الأدلة المتعارضة، بالجمع أو الترجيح، ومثله السؤال عن التخريج على قواعد الأئمة وفتاواهم، وعن ضوابط ما يحتاج إلى ضبط من الأصول والقواعد، والسؤال عن أصول الخلاف، وأسبابه، وثمراته، ونحو ذلك، مما يصقل الملكة الفقهية، وينمي الصناعة الفقهية عند الطالب، وما يزال الطالب يسأل بأدب، لا يمنعه حياء، ولا يصده ما يلقاه من عنت، أو توبيخ متى ظن أنّ ما يسأل عنه موجود عند شيخه، وليقيّد ما يظفر به من فوائد، فإنّ الذاكرة تخون.
الأصول الفقهية
الأصول الفقهية: أحكام عامة على أفراد الباب لا يخرج عنها، إلا ما دل دليل خاص على خروجه.
وذلك من مثل قولهم: (الأصل في العبادات الحظر)، و(الأصل في المعاملات الإباحة)، و(الأصل في الأبضاع التحريم) وهكذا.
ولا يحكم بهذه الأصول حتى يدل عليها الدليل، فإذا دل الدليل عليها أصبحت دليلًا على جميع أفراد الباب، لا يخرج عنها إلا ما دل دليل خاص على خروجه، فإذا ثبت أنّ (الأصل في العبادات الحظر)، فلا تثبت مشروعية عبادة من العبادات، إلا بدليل ثابت على مشروعيتها، فإنْ لم يثبت بمشروعيتها دليل فهي بدعة، للأصل الذي قرره أهل العلم في العبادات.
وإذا ثبت أنّ (الأصل في المعاملات الإباحة)، أصبح هذا الأصل دليلًا على كل معاملة من المعاملات، ولم يحتج الفقيه إلى دليل خاص لكل معاملة، وأصبح البحث المتاح إنما هو في دليل الحظر الناقل عن هذا الأصل، فإنْ لم يوجد فالمعاملة مباحة بدليل الأصل.
واستصحاب هذه الأصول عند الدخول في أي باب من أبواب الفقه، مما يسهل على طالب العلم النظر الفقهي، ويحدد نطاقه فيما يخالف الأصل، وهذا الأصل قد يجده طالب العلم مصرحًا به، كقول النووي رحمه الله: فلما كان الأصل في الربويات، وفي الأبضاع التحريم، اشترط فيها العلم بالشروط، والأصل في البيع الحل. [2]
وقول ابن القيم رحمه الله: والأصل في الأبضاع التحريم [3] . وقد يُفهم هذا الأصل من كلام الإمام فهمًا، كقول ابن قدامة رحمه الله في المياه: خلق الماء طهورًا. [4]
وقد يكون الأصل متفقًا عليه، وقد يكون مختلفًا فيه، فإذا كان مختلفًا فيه، فعلى طالب العلم أنْ يحقق النظر فيه حتى يستقيم نظره في فروع الباب، وذلك كخلاف الجمهور مع الظاهرية، في الأصل في الشروط في البيع، فبينما يجعل الجمهور الأصل فيها الإباحة، يخالفهم الظاهرية ويجعلون الأصل فيها الحظر.
إنّ العناية بهذا المدخل من مهمات النظر الفقهي، ولا ينبغي لطالب العلم أنْ يغفل عنه، ووددت لو أنّ أحد طلاب العلم اعتنى بجمع هذه الأصول من مظانها، مستدلًا للمتفق عليه منها، ومحققًا الخلاف في المختلف فيه منها، تقريبًا للعلم، وتسهيلًا على طلابه.
الخلاف في الأصول أصل الخلاف في الفروع
يرجع الخلاف في كثير من مسائل الفقه الفرعية، إلى الخلاف في القواعد الأصولية المنظمة للنظر الفقهي، كالخلاف في مقتضى الأمر أو النهي، والخلاف في بعض أصول الاستدلال، كالخلاف في حجيّة عمل أهل المدينة، أو قول الصحابي، وكالخلاف في حجيّة خبر الواحد، أو في تقديم القياس على خبر الواحد، وفي الدلالات وغيرها كثير.
ومتى تيسر للباحث في مسألة فقهية أمران، فقد اختصر وقت النظر فيها، وانكشف له مشكلها، وهما:
- إمكانية رد الخلاف في المسألة الفقهية إلى الخلاف في مسألة أصولية.
- تحقيق الباحث للمسألة الأصولية، وانتهاؤه إلى رأي راجح فيها.
وإذا كان الخلاف في المسائل الأصولية أحدَ أهم وأكثر أسباب الخلاف في المسائل الفقهية، فإنّ كتاب بداية المجتهد لابن رشد الحفيد رحمه الله، من أكثر المصنفات عناية بأسباب الخلاف، مما يساعد الباحث في رد الخلاف إلى أصله.
وإذا رد الباحث الخلاف الفقهي إلى خلاف في مسألة أصولية، فلن يستقيم له النظر الفقهي حتى تتحرر له المسألة الأصولية، ويصل إلى رأي مختار فيها تطمئن له نفسه، وهو ما يؤكد أهمية أنْ تتحرر لطالب علم الفقه المسائلُ الأصولية، قبل النظر في المسائل الفقهية، وإلا اضطرب نظره وتناقضت ترجيحاته.
1 فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (2/ 970)
2 المجموع شرح المهذب (10/ 233)
3 إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 245)
4 عمدة الفقه (ص: 13)
5 انظر: الشروط في عقد البيع للدكتور صالح السلطان (رسالة ماجستير لم تطبع).



