أ.د عبدالله بن حمد السكاكر
(4) فقه النفس
قال الذهبي رحمه الله في ترجمة إبراهيم النخعي: «وكان بصيرًا بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن رحمه الله تعالى» ا.ه
و(فقه النفس) مرادف لكلمة (الملكة الفقهية) وهما مما يتكرر في كلام أهل العلم كثيرا للإشارة لمن كان فقيها بفطرته، وليس المعنى أن يولد فقيهًا، وإنما المراد استعداده الفطري لهذا العلم، فإن الفقه في اللغة هو: الفهم. وفي الاصطلاح هو: معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. وهذه المعرفة لا تحصل إلا بالفهم الذي يدل عليه المعنى اللغوي، قال الدكتور محمد عثمان شبير حفظه الله: «فقه النفس: صفة في النفس جِبِلِّيِّة تحقق لصاحبها شدة الفهم لمقاصد الكلام، كالتفريق بين المنطوق والمفهوم، قال السيوطي: «وفقه النفس لا بد منه، وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب» ا.ه
وعبر الشافعي رحمه الله عن هذه الملكة بـ(القريحة) فقال في شروط المفتي: «ويكون له قريحة بعد هذا»، وفي تعريف الجرجاني للاستنباط أنه: «استخراج المعاني من النصوص بفرط الذهن، وقوة القريحة».
وفي مقدمة تحقيق المعيار المعرب ذكر خمسة شروط للمفتي ثم قال:
6- جودة القريحة ومعنى ذلك أن يكون كثير الإصابة صحيح الاستنباط فلا تصلح فتيا الغبي، ولا من كثر غلطه، بل يجب أن يكون بطبعه شديد الفهم لمقاصد الكلام ودلالة القرائن، صادق الحكم، وقد تقدم في كلام الشافعي (أن تكون له قريحة) قال النووي: «شرط المفتي كونه فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر صحيح النظر والاستنباط».
فمن لم يرزق فهمًا عميقًا، ونظرًا ثاقبًا فلن يشم للفقه رائحة، فالفقه علم لا ينال بالحفظ وحده مالم يقارنه فهم ثاقب وحسن نظر، ولو حفظ طالب العلم آلاف المسائل الفقهية ولم يؤت فهما لم يكن بذلك فقيها، وفي الحديث: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه وحسنه الترمذي.
على أن الفهمَ قريحةٌ من القرائح تحتاج إلى مران وشحذ، ومن أعظم ما يحصل به ذلك مجالسة الحذاق من أهل الصنعة ومدارستهم، وقد كانت (المناظراتُ الفقهيةُ) رياضة الفقهاء يُجرون فيها قرائحهم، ويشحذون فيها ملكاتهم، كما أن قراءة كتب أهل الفقه بتمعن وطول نظر لمآخذ الأحكام مما تشحذ به القريحة، ومن ذلك أيضا إمعان النظر في النوازل الفقهية قبل قراءة كلام أهل العلم فيها ثم عرض ما يتوصل إليه الباحث من فهم على كلام أهل الفقه والنظر.
وإذا كانت الملكة الفقهية شرطًا في تكوين الفقيه في العصور التي لم تختلف كثيرًا عن عصر التنزيل فهي في هذا الزمن أشد اشتراطًا فإن ما حصل من اختلاف بين عصر التنزيل وهذه العصور في الأعراف والثقافة واللغة والأحوال الاقتصادية والحضارية يجعل الفقية في مواجهة أعظم التحديات لبيان صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان وحال، وقدرته على تنظيم حياة المسلمين وفق مراد الله سبحانه وتعالى، وما لم يكن الفقيه ذا قريحة متوقدة غُذّيت بالعلم وشُحذت بالمدارسة وطول النظر فلن يكون قادرًا على هذا التحدي.
على أن القريحة إذا أهملت كلّت وصدئت، وقد كان من طلاب العلم من رُزق قريحة سيالة وذكاء مفرطًا سلك بهما مضمار الفقه فسبق أقرانه ثم أعرض عن الفقه واشتغل بغيره فكلّت آلته وخبت جذوة الفقه في قلبه وأصبح في الساقة بعد أن كان في الطليعة حتى إذا أدركه الكبر عض أصابع الندم ولات ساعة مندم.
ويعمد بعض المتخصصين في الفقه -لا شعورياًّ- إلى النظر العقلي في المسائل الفقهية وإجالة النظر العقلي بين الأقوال، فما رآه معقولا نصره، وحشد أدلته، وما رآه غير معقول ضعفه، وناقش أدلته مسكونا بنظره العقلي، معتقدا أن المنقولات لا يمكن أن تعارض معقوله، مطمئنا أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين قال: وليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول.() ينطبق على صريح عقله، وهذا لا شك أنه من المزالق التي يقع فيها الفقيه، ولست أطعن في كلام شيخ الإسلام رحمه الله، فإن صريح المعقول عند شيخ الإسلام غير صريح معقول هذا الفقيه، فإن كثيرًا مما يراه الناس معقولًا أو غير معقول لا يرجعون فيه إلى مسلمات العقل السليم وإنما يرجعون فيه إلى ما بنته ثقافتهم التي اكتسبوها من مسلمات، ثم نسبوا ذلك للعقل وجعلوه حاكما على نظرهم الفقهي، وربما تأثروا بالثقافة الغالبة أو بشبه المستشرقين ومن تأثر بهم، وقد حضرت مؤتمرا علميا في بلد غربي ألقى فيه أحد الباحثين وهو أكاديمي مسلم يقيم ويعمل في إحدى جامعات ذلك البلد ويقرر في بحثه أن قطع يد السارق الثابت في القرآن والسنة ليس قطعا حسيا لليد الجارحة، وإنما هو قطع معنوي، وذهب يحشد الأدلة على أن القطع يطلق على غير القطع الحسي، وأن اليد تطلق على غير اليد الحسية، وأنا أجزم أن مثل هذا الصرف لظواهر النصوص أساسه النظر العقلي المتأثر بالثقافة الغالبة، وقد يظن صاحبه أن النصوص لا يمكن أن تأتي بما يراه غير معقول وهو القطع الحسي لليد الجارحة، ولو أتت فهي ضعيفة أو مؤولة، لأن النقل الصحيح لا يمكنه أن يعارض العقل الصريح.
اطلع على المقالة السابقة: فقه النفس (٣)



