أ.د عبدالله بن حمد السكاكر
(3) التعليم النظامي
من الشبه التي يلقيها الشيطان في رُوعِ بعض طلاب العلم المبتدئين أن التعليم النظامي لعلوم الشريعة لا بركة فيه، فالذين يدرسون في المعاهد الدينية، والكليات الشرعية إنما يدرسون هذه العلوم ويتعلمونها لوجه الوظيفة والمنصب، والذين يدرِّسون فيها إنما يدرِّسون للراتب والمنصب، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». يَعْنِى رِيحَهَا. [1]
ولهذا يتسرب عدد من طلاب العلم النجباء من الكليات الشرعية تأثما وتحرجا من مثل هذا الوعيد الشديد ويزعمون أنهم سيطلبون العلم في المساجد وحلق العلم حيث تصلح النيات، ويبارك الله العلم.
وبعض الطلاب لا يترك الدراسة لكنه لا يعبأ بها، فتجده يقتصر في الحضور على أقل الواجب، ولا يشتغل فيها بمشاركة ولا مذاكرة، وإنما يكتفي بما يحصل به الاجتياز والنجاح فحسب.
وللجواب عن هذه الشبهة أقول:
1- من اشترط لطلب العلم نية خالصة صادقة صافية فلن يتعلم حرفا واحدا، فإن إخلاص النية لله سبحانه وتعالى ربما يدركه أفراد العلماء الخلَّص في النهايات مع ما فيه من المشقة العظيمة قال سفيان الثوري رحمه الله: «ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نفسي، مرة علي، ومرة لي». [2]
أما في البدايات فأمره أعسر وأشق، ويكفي من طالب العلم أن يجتهد في تحصيل النية وتصحيحها، وإذا كان الشيطان يأتي الطلاب في المدارس والكليات من جهة طلب الوظيفة والرزق فإنه يأتي رواد الحلق والمساجد من جهة طلب الجاه والتصدر والرئاسة، قال سفيان: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة حامى عليها، وعادى. [3]
2- إن علوم الشريعة فيها خير وبركة و(سراية) إذا قارنتها مجاهدة وحرصٌ على تحصيل النية، فإن الله سبحانه وتعالى يزرع الخير في القلب بهذا العلم، قال سبحانه وتعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ “[سورة العنكبوت:69].
وقد حُفظ عن عدد غير قليل من أهل العلم أنهم طلبوا هذا العلم في أول أمرهم ومالهم فيه كبير نية ثم رزق الله النية بعد، قال الذهبي رحمه الله: قال عون بن عمارة: «سمعت هشاما الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يومًا قط أطلب الحديث، أريد به وجه الله عز وجل».
قلت (القائل الذهبي): «والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله، فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولًا لا لله، وحصلوه، ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد، وغيره: طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد.
وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، فهذا أيضا حسن، ثم نشروه بنية صالحة» ا.هـ [4]
و لقد كان الرجل يدخل الإسلام طمعا فما يلبث أن يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها. [5]
وإذا لم يجد الطالب بركة في تعليمه النظامي فلا يتهم المدرسة والكلية، بل يتهم نفسه، فإنما يحاسب عن فعله لا عن فعل غيره، ولو جاهد لتحصيل العلم والنية لحصّل من الخير ما حصَّله غيره من أهل العلم والفضل بالدراسة النظامية.
إن التعليم النظامي يتميز بتكامله حيث وضعت برامجه مشتملة على جميع العلوم التي يحتاجها طالب العلم من علوم الشريعة، وعلوم الآلة، والعلوم المساندة، مع بعض المهارات اللازمة لطالب العلم في مسيرته العلمية والعملية.
كما يتميز التعليم النظامي باختصاره للزمن، حيث وضعت جميع العلوم وفق برنامج زمني محدد ملزم للطالب والأستاذ لا يقبل التسويف ولا التطويل.
كما أن التعليم النظامي مضبوط بعمليات تقييم مستمرة ملزمة تضمن تحصيل الطالب الناجح للحد الأدنى مما يؤهل طالب العلم
وهذه الميزات لا توجد في التعليم غير النظامي كما لا يخفى وهو ما يجعل تأهيل طالب العلم غير المنتسب للتعليم النظامي بطيئا وناقصا لكثير من العلوم التي لا غنى للطالب عنها.
على أن التعليم النظامي لا يمكن أن تطيب ثماره، ويحقق أهدافه كاملة ما لم يكن من الطالب تفاعل إيجابي مع المؤسسة التعليمية، بالمجاهدة لتحصيل النية، والمواظبة على الحضور، وبالمشاركة والسؤال، وبالمذاكرة والمراجعة.
ومن الأستاذ بالنصح والإخلاص في القيام بوظيفته.
• إطلالة
حين قررت عدد من كليات الشريعة والحقوق في العالم الإسلامي تدريس طلابها مادة (تاريخ التشريع الإسلامي) أو)المدخل لدراسة الفقه الإسلامي( قام نخبة من فقهاء العصر [6] بتأليف كتب لهذا المقرر، وقد كانت فكرة هذا المقرر مرتكزة على إعطاء طالب علم الفقه إطلالة على مسيرة الفقه الإسلامي في جميع مراحله، ابتداء من فجر النبوة وعصر التنزيل إلى يوم الناس هذا، وإلقاء الضوء على كل مرحلة من هذه المراحل ببيان فقهاء كل مرحلة، ومصادرهم في التلقي، وآلياتهم في تفسير النصوص، واستنباط الأدلة، وتبصير الفقيه بقصة نشأة المدارس الفقهية، والظروف الزمانية والمكانية التي ساهمت في نشأتها، والبيئات والثقافات التي ساهمت في تشكلها، وعمق هذه المدارس في رجال الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وسمات وخصائص ومزايا كل مدرسة من هذه المدارس، ثم بتنوير عقل الفقيه بنشأة المذاهب الفقهية المتبوعة والمندرسة، بإعطاء نبذة عن أئمتها وفقهائها وأصولها وكتبها ومصطلحاتها ونطاقها الجغرافي وأبرز سماتها ومراحل تطور كل مذهب من المذاهب المتبوعة، كما تتحدث هذه المادة عن مسيرة الفقه في العصر الحديث والتحديات التي تواجهه، والعناية التي يلقاها، ومشاريع النظر الجماعي المتمثلة بهيئات الفتوى، والمجامع الفقهية، والمجالس العلمية داخل الكليات الشرعية .
وللحق فإن هذا المقرر يعد إضافة نوعية لعلوم الآلة التي تؤهل فقيه المستقبل، فإن هذه الإطلالة تساعد طالب العلم على أن ينظر للخلافات الفقهية بمنظار أكثر شمولية، حيث يدرك طالب الفقه سر هذا الاختلاف ومآخذه وأصوله وأي الأقوال أسعد بالحق، كما يساعده على مهارة (التخريج الفقهي) على أصول المذاهب وقواعدها، وعلى أن يضع قدمه في الموضع الصحيح بينها.
اطلع على المقالة السابقة : فقه النفس (٢)
[1] رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني.
[2] سير أعلام النبلاء عند ترجمة الثوري رحمه الله.
[3] المرجع السابق.
[4] سير أعلام النبلاء عند ترجمة هشام الدستوائي رحمه الله.
[5] روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِىَّ -ﷺ- غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِى عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ. فَقَالَ أَنَسٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
[6] من أمثال المشايخ: محمد الخضري بك، وعبد الوهاب خلاف، ود مناع القطان، ود عبد العظيم شرف الدين، ود محمد سعيد رمضان البوطي، وغيرهم ممن جاء بعدهم.



