غيداء العويِّد
مساء رائق تهب نسماته الرقيقة عبر نوافذ السيارة المشرعة فيما كنت أجلس خلف السائق وعيناي تلتصقان بالسماء، كأنما كنت أحاول إشباع ناظري من فتنتها الآسرة.
تبدو لي السماء في تلك الساعة وردية أما غيومها فتتخذ هيئة قلوب حمراء تنتشر في أرجائها، ثم أبصرت قلوبًا صغيرة تنهمر بغزارة على الأرض والبشر كزخات المطر حتى أني رمقت قلبًا وهو يسقط على كتفي. أربت على كتفي الأيمن ثم أرفع بصري مرة أخرى وأحادث نفسي قائلة: كأن السماء ترتدي هذا المساء فستاني الطفولي القديم، كان قطنيًا بلون الورد يفيض بقلوب حمراء داكنة في كافة نواحيه! تُفاجئُني قطرات مطر ناعمة تُنعشني وتحيل الكون إلى قصيدة بديعة لم أسمع كلماتها منذ مدة بعيدة، وهنالك يتنزل عليّ إلهامٌ غير متوقع يأمرني بكتابة نص بعنوان: سماءٌ وردية.
أتلفت حولي أتصفح الوجوه فلا أجد آثار انعكاس القصيدة على ملامحهم، فلا أحد منهم ينظر نحو السماء وغيثها الذي جادت به بعد طول غياب، فأتساءل في عجب: ألا يشاطرني هؤلاء الشعور ذاته؟!
تلفتني طفلة لا تتجاوز الخامسة تفتح النافذة وتمد يمينها، ثم تُقرب كفها المضمومة بحذر من فيها وتلعق قطرات المطر المتراكمة وهي تبتسم بجذل، تحاول إعادة ما فعلته ثانيةً، لكن هذه المرة بيدها اليسرى فتتسع ابتسامتي المستَلطِفة ثم تنتبه أمها فتسحبها من طرف فستانها الأصفر وتحكم إغلاق النافذة، أحاكيها بدوري فأمد يدي أيضًا ولكن ناحية كوب القهوة الذي وضعته في مكانه المخصص عن يميني، ثم أمده في الهواء وأكمل شرب قهوتي وأنا أقول في داخلي: قهوة بطعم المطر!
أعود إلى البيت وذهني يستعيد حوارًا بين أم وطفلها من فيلم شاهدته قبل قرابة الثلاث سنوات أو أكثر، أتذكر أني سجلته في دفتر ملاحظات فأذهب من فوري وأقف أمام الرف المخصص لدفاتر الملاحظات لكني أتساءل في حيرة شديدة عن الدفتر الذي اخترته لتدوين ذلك الحوار! تبدو المهمة شبه مستحيلة أمام هذه الحزمة الكبيرة من الدفاتر.
تسمَّرْتُ مكاني أتأمل الدفاتر بأشكالها وأحجامها وألوانها المختلفة، عيناي تتراكضان من اليمين إلى اليسار ثم من اليسار إلى اليمين لعلي أدرك غايتي، دفاتر جلدية وبلاستيكية وكرتونية وقماشية، بعضها بأغلفة سميكة صلبة والأخرى بأغلفة لينة مرنة، أغلبها بدون سلك حلزوني كما أفضِّل، كلها بأوراق بيضاء مسطرة ناعمة الملمس عدا واحدًا أو اثنين.
ألتقط دفترًا مكسوًا بقماشة وردية منسوجة بخيوط ذهبية، كنت قد ابتعته من زقاق جانبي صغير في شارع الاستقلال بإسطنبول، يتكئ عليه دفتر آخر مغلف بورق مقوى كان هدية من أختي جلبته لي من متجر (هارودز) الشهير في لندن، يليه دفتر باللون الزهري الفاتح منقط بالأبيض ومزود بسلك حلزوني في قمته، اقتنيته لأن غلافه يتزين بالحرف الأول من اسمي بالإنجليزية، في نهاية الرف دفتر بألوان زاهية كنتُ قد طلبتُ قبل سنوات بعيدة طباعة اقتباس على واجهته، مأخوذ من كتاب مترجم: (الإيمان هو الذي يجعلنا نتغلب على أي شيء في هذا العالم) أُلقي نظرة سريعة على بقية المجموعة فأنتبه أن لكل فرد منها قصته الخاصة! أقرر بعدها سحب الدفاتر كلها ونثرها وسط السرير، ثم أتربع قبالتها وأنا أقلبها بين يدي، تنصرف عيني ناحية لوحة حقل الخشخاش للفنان الهولندي فان جوخ المطبوعة على سطح إحدى الدفاتر، أفتحه فأجد في رأس الصفحة الثانية هذه الكلمات:
(أيها المطر! انظر إنهم يهربون منك! لا ينفكون يُضفون عليك الرومانسية ولكنهم لا يطيقونك!)
هذا المقطع من مسلسل تركي حسبما أظن، كان المطر يهطل بغزارة شديدة في الظلام فيتراكض الناس في الشارع هربًا من البلل، المظلات السوداء تهيمن على المشهد، رجل يركض بمِعطفه الرمادي الطويل، مسن يضع يده على كتف مسن آخر وهما يحتميان تحت مظلة واحدة، سيدة شقراء تعتمر قبعة كلاسيكية ويرافقها رجل يمسك لها المظلة. بعد ذلك، تتركز عدسة الكاميرا على شاب بقربه فتاة تبدو وكأنها حبيبته، يقف الشاب فجاءة مستسلمًا تاركًا نفسه للمطر الغزير، يتأمل الشارع وما يحويه حوله ثم يفتح ذراعيه للأفق ويرفع يديه مُلوحًا في الهواء وهو ينظر إلى الأعلى ويهتف مناديًا المطر: (أيها المطر! انظر إنهم يهربون منك! لا ينفكون يُضفون عليك الرومانسية ولكنهم لا يطيقونك!) فيما كنت أمعن النظر في حبات المطر وهي تنزلق بكثافة على جاكيته الجلدي!
في الصفحة المقابلة قرأت العبارة التالية: (بعضنا يولد محظوظًا وبعضنا يولد محرومًا) ثم تحتها مباشرة: (يجب أن يسألوا الأطفال إن كانوا يريدون أن يولدوا أو لا؟!)، أغمضت عيني أحاول تذكر جنسية العمل والمشهد الذي وردت فيه هذه الكلمات، وبعد عدة محاولات لتحريك مياه ذاكرتي الراكدة تذكرته جزئيًا: مركبة واقفة على جانب الطريق، البطل يجلس أمام المقود في سيارته التي يعمل عليها كسائق سيارة أجرة، وبجانبه شابة نظراتها تنطق بالعاطفة. استرجعت ملامحه وهو ينفس عن حنقه من هذه الحياة الظالمة، كأنه كان أيضًا يمسك سيجارة ويدخنها بنزق نافثًا الدخان والكلمات معًا، واضعًا يده الأخرى على طرف المقود.
في قلب الصفحة التالية وجدتني كررت كتابة جملة لثلاث مرات متتالية، يبدو أنها أثارت تأملاتي (ربما هذه المشكلة ثمن سعادة ستعيشها لاحقًا!) وبجانب الجمل الثلاث كلمتيْ: (ثمن السعادة) مع علامة استفهام كبيرة، هذه المرة أتذكر جيدًا سياق هذا الحوار حتى أني أوقفت المشهد ثم التقطت صورة للشاشة بهاتفي الخلوي مع الاقتباس المترجم طبعًا.
تركت ذلك الدفتر المتخم بالاقتباسات ووضعته جانبًا، ثم فتحت ما لمسته يداي، دفترًا جلديًا بسحاب جانبي، فوقعت عيني على العبارة التالية: (مرت سحابة وأدمعت على العشب) ابتسمت وأنا أتأمل الدمعة اليتيمة الملاصقة لكلمة العشب، وعقلي يرتد إلى تفاصيل ذلك المشهد: يستيقظ البطل في الصباح الباكر وينحني أمام المرآة التي تعكس ملامحه الحزينة فيما كان الماء يتدفق وكلمات أغنية تنبعث بلحن شجي هادئ:
مرت سحابة وأدمعت على العشب
يهب نسيم الفجر ويمزق الوردة
وقلب البلبل يخفق كلما نظر إلى الورد
وتتكرر الكلمات وتتابع المشاهد حيث يبدأ الشاب بإعداد فطوره واحتساء القهوة ثم يرتدي بدلته الرسمية متوجهًا إلى عمله.
في آخر صفحة من الدفتر الجلدي ذاته وجدتُ خليطًا متناقضًا من الرسومات والأرقام والكلمات والألوان، لكن اقتباسين استحوذا على انتباهي كنت قد استللتهما من مسلسل كندي جميل، البطلة كانت تتربع على أريكة واسعة وتصف حياة السيدة التي تعمل عندها: (لديها كنزة من الكشمير تُشعرها وكأن ألف حمل صغير يعانقها) ثم تكمل: (تستيقظ كل صباح على منظر المحيط وكأنه خُلق من أجلها وحدها!)
هممت بجمع الدفاتر المنشورة ولكني توقفت عند دفتر ذو تصميم كلاسيكي مكسو بجلد أخضر غامق، تحسست أرقام 2022 المنقوشة بالذهبي على سطحه الخارجي كما لو أني أتحسس أيامًا ولياليَ ومواقفَ وحكايات وذكريات مرت بنا ورحلت بلا عودة، ثم تطلعت ناحية حافات أوراقه المصبوغة بالذهبي أيضًا، فيما أنا كذلك انتبهت للحبر الأحمر الظاهر من طرف إحدى صفحاته، فتحت الدفتر وقرأت الكلمات المكتوبة بالأحمر بشكل طولي على حافة الصفحة: (من خلال لحظات الضوء الوجيزة) وبجانبها بين قوسين بخط أصغر (من فيلم أمريكي).
لا يحضرني السياق الذي جاءت فيه هذه العبارة أو الجزء الثاني من العبارة كما يغلب الظن ويفاجئني ربطي بينها وبين الاقتباس الذي ذكرته آنفًا فأؤلف اقتباسًا جديدًا (ربما هذه المشكلة ثمن سعادة ستعيشها لاحقًا من خلال لحظات الضوء الوجيزة)
لم أستطع العثور على ذلك الحوار المنشود الذي أدى بي إلى الانغماس في بحر دفاتري القديمة، فبحثت عن الفيلم على الشبكة العنكبوتية إلى أن وقعت عليه أخيرًا بعد إنفاق ثلاثين دقيقة في مهمة التنقيب عن الفيلم ثم المشهد المطلوب.
يخطف الابن الهاتف ويركض بعيدًا ثم يجلس على طرف الدرج المظلم ملتصقًا بالجدار، يشكو لأمه توبيخ المعلمة له ومعاقبته بالوقوف في الركن، فتسأله الأم: لماذا؟ فيرد باكيًا: لأنني لوّنت السماء باللون الوردي في حصة الرسم، ثم يردف متسائلًا في عجب: أَوَلَيْسَت السماء وردية يا أمي؟! فتغضب الأم التي تركت طفلها ليكمل دراسته في الوطن وغادرت اضطرارًا إلى بريطانيا من أجل علاج ابنتها المصابة بداء عضال ثم تقول: المعلمة مخطئة تمامًا، يمكنك أن تلون السماء بأي لون تريد، اتبع أحلامك دومًا!
يستمر الطفل في بكائه مشتكيًا من أصدقائه الذين نعتوه بالغبي وأخبروه بأن السماء زرقاء، فتؤكد الوالدة ما قالته: لا داعي لأن تغيّر لون سمائك من أجل أي شخص أبدًا، لكل شخص سماؤه الخاصة!
لست أدري ما هو الرابط الذي يجمع بين كل تلك الاقتباسات التي حرصت على تقييدها وحفظها في دفاتري؟ حاولت إيجاد طرف خيط يجمعها ولكني لم أوفق في ذلك! كما تفكرت كثيرًا في مسوغ حرصي الغريب على كتابتها وجمعها في الأصل رغم أني دونتها قبيل سنوات طويلة ولم أحتج إلى العودة لها لاحقًا كما تصورت أو زعمت حينذاك. فلا أجد تفسيرًا مقنعًا سوى أنها هواية مثل هواية جمع العملات وقد أطلقت عليها (هواية جمع الاقتباسات) فهل سمعت بهذه الهواية من قبل؟!