- تأليف : دوغلاس بوشيه
- ترجمة : فاطمة الزهرة بورباب
- تحرير : خلود الحبيب
لا ريب أن الداروينية الجديدة – النظرية المعاصرة للتطور عبر الانتقاء الطبيعي – هي أساس علم الأحياء المعاصر. هذه النظرية المُجمع عليها تقريبا داخل المجتمع العلمي، مُثبتة إلى حدّ يجعلنا نغفل عن نقاط ضعفها. لا تزال هذه النظرية و إن استندت على دلائل عدة، تُظهر العديد من أوجه القصور بعضها جسيم. تعود هذه الثغرات في معظمها إلى أفكار قديمة تعدّها الداروينية الجديدة نظريات أساسية و إن تبين، في ضوء المعارف المعاصرة، بأنها مُجزَّأة. و فيما يلي ثلاثة من بين هذه النظريات :
- التكيفية ( غولد و ليوونتين، 1982 )، تعود أصولها إلى اللاهوتية الطبيعية للقرن الثامن عشر؛
- المالتوسية ( تشيس، 1977)، النظرية الاقتصادية لبداية القرن التاسع عشر التي استعارها داروين و والاس كأساس لنظرياتهما البيولوجية؛ و
- المنديلية ( ستيرن و شيروود، 1966)، الأساس الجيني للانتقاء الطبيعي الذي اكتشفه ماندل وسط القرن التاسع عشر و ” المُعاد اكتشافه” سنة 1900.
هذه النظريات كانت و لا تزال، بشكل جزئي، بمثابة إضافات هامة لمعارفنا. ما قد ننقمه عليها لا يتعلق بخطئها من عدمه، بل بعجزها عن تفسير التنوع الرائع للعالم الطبيعي بشكل مُرضٍ، بالأخص فيما يتعلق بالحاجة لنظرية تنبؤية للتطور – و هو تحدٍّ لم تتمكن الداروينية الجديدة من التغلب عليه بعد.
التكيفية، لاهوتيتنا الطبيعية
إن فكرة تكيف الحيوانات و النباتات مع وسطها و انحفاظ هذا التكيف بالتخلص من “الأقل كفاءة” ( أو بمصطلحات معاصرة : بالانتقاء المقِرّ )، لم تكن أبدا إسهاما أصيلا لداروين و والاس. هذه المفاهيم كانت أساس ” اللاهوتية الطبيعية” للقرنين الثامن عشر و التاسع عشر، و التي كانت النظرية المتفق عليها قبل الداروينية ( تويلييه، 1981). حسب اللاهوتية الطبيعية، فإن التكيفات المذهلة للعضويات – العين البشرية، أجنحة الصقور، أو تحوّل الحشرات – جميعها دلائل على وجود و رحمة الإله. و بالتالي فإن دراسة هذه التكيفات و وصفها قد تصدر من نوع من التقوى بل قد تصلح كسلاح عقلاني لصالح الدين : فبإثبات تكيف جميع خصائص الكائنات العضوي – حتى أغربها- مع وسطها، تمدّنا دراسة الطبيعة بالدلائل اللازمة على التناغم الذي أبدعه الإله.
و بالطبع لم تعد تعتبر هذه التكيّفات إثباتات من النوع المذكور آنفا، بل على العكس تماما، غير أن المنهجية الأساسية لمعظم الدراسات التطورية لم تتغير إلا يسيرا جدا ( أدعو القارئ إلى النظر في أي عدد معاصر من مجلة American Naturalist أو Behavioral Ecology and Sociobiology على سبيل المثال ). يتم النظر في سمةٍ غامضة ظاهريا لكائنٍ عضويٍ ما لإثبات أن هذه السمة تدين بوجودها لعملية التكيّف الفلانية، و نكون حصلنا على إثبات إضافي .. لا على وجود الإله في كلّ مكان .. بل على وجود التطوّر في كلّ مكان.
أحيانا تكون الإثباتات المستعملة للبرهنة على القيمة التكيفيّة لسمة ما معقدّة جدًّا بالطبع، و تستلزم نماذج رياضية أو تحليلات تركيبية مفصّلة. لكن المقاربة تبقى كما هي :اكتفينا فقط بتغيير إسم الإله. و رغم الدور الرئيسي المناط بالمورثات عند الداروينية الجديدة، فإن معظم الممارسين لا يعتمدون على أي ملاحظة لمورثات حقيقية، و التي تظل افتراضية بقدر افتراضية فعل الخلْق، الخاص بالعصور السابقة. اختُزلت عملية الانتقاء الطبيعي إلى التكيفية ( غولد و ليوونتين، 1982).
انتقد العديد من الباحثين، بالأخص غولد و ليوونتين، التكيفية و ليست لي إلا ملاحظة واحدة أضيفها على تعليقاتهم : أكبر نقطة ضعف للتكيفية بالنسبة لي هي عقمها. فباستمرارنا في القيام بالتقارير على التكيفات الجلية، لا نقوم إلا بتكرار غزوات و فتوحات قديمة أصلا، بل و بأسلحة ضعيفة على أقل تقدير. إذ أن الفارق الأساسي بين نظرية الانتقاء الطبيعي و اللاهوتية الطبيعية ( التي بُعثت من جديد تحت لفظ ” نظرية خلق العالم العلمية” ) لا يكمن في فعل التكيّف، بل في العملية التي تنتجه. ما الذي أحدث التكيّفات هل هو فعل مُبدِعٍ أم الانتقاء الطبيعي ؟ لا توفّر مقاربة التكيفيين أية إجابة عن هذا السؤال.
المالتوسية الاقتصادية و التطورية
أوحت النظرية الاقتصادية لمالتوس – القائلة بأن العشائر تنزع للنمو هندسيا في حين تنمو مواردها الغذائية حسابيا – لداروين و والاس بآلية قد تؤدي إلى الانتقاء الطبيعي. هذه النزعات، المتوازية و غير المتساوية، لا بد أن تحدث صراعا شرسا حول الموارد، و من الواضح أنه في إطار عشيرة متنامية لا بد أن يسود بعض الأفراد على الآخرين. و تتسبب حينئذ نزعة حتمية نحو الاستغلال المفرط للموارد الغذائية في ضغطٍ يظهر أثره في شكل إقصاء الطرازات المظهرية الأقل كفاءة.
دائما ما يتم تقديم هذا الإثبات للرأي العام بصفته أحد أسس الداروينية الجديدة؛ في كتب البيولوجيا المدرسية مثلا أو في العروض المقامة في المتاحف الكبرى حول التطور مثل متحف مؤسسة سميثسونيان Smithsonian Instituion. و يرد أيضا في الحوارات الاجتماعية كتبرير لضرورة التحكم في النمو السكاني. لا زالت هذه الوضعية قائمة رغم أن :
- المعطيات الديموغرافية المتراكمة منذ عهد مالتوس قد نقضت نهائيا هذه الأطروحات في مجال تطبيقها الأصلي، أي البشرية؛
- الأمثلة الكلاسيكية على فعل الانتقاء الطبيعي تستند على ضغوطات انتقائية أخرى غير التنافس على الغذاء، كالمفترسين مثلا، أو الطقس أو المواد الكيميائية التي أدخلتها حضارتنا الصناعية على البيئة.
و بهذا فإن مزاعم مالتوس مُخطَّئة بوضوح بصفتها أطروحات في الاقتصاد السياسي، و ذات أهمية مشكوك بها بصفتها ضغوطات ناتجة عن الانتقاء الطبيعي. أثبت الديموغرافية خطأ التوقعات المالتوسية بشكل جلي. فمنذ عهد مالتوس، تضاعف الإنتاج الغذائي أكثر بكثير من النمو الحسابي، بل أسرع بكثير من الساكنة العالمية ( لابّي و كولينز، 1979). لم تنم الساكنة أسِّيًا بل لوجيستيا ( منحنى على شكل S ممدّد )، مع نزعة ملحوظة إلى انخفاض نسب النمو عند التطور الاقتصادي ( كومونير، 1980). فالذي تسبب في انخفاض مستوى النمو الديموغرافي في الدول الغنية لم يكن التنافس على الموارد النادرة بل وفرتها.
يمكن الإجابة عن هذا بأن صحّة المالتوسية عند أنواع أخرى لم تنقضها المعطيات على تطور الساكنة البشرية. و هذا موقف سليم، لكن الدلائل هنا أيضا متابينة. لا شك بأن الصراع على الموارد قد يكون عاملا للانتقاء و يحدث تغيرات هامة في العشائر الطبيعية، غير أنه تمت إثبات أن ضغوطات أخرى كذلك قد تتسبب في إحداث مثل هذه التغيرات، و بل و إبقاء هذه العشائر في مستويات كثافة ضعيفة تجعل أثر هذا التنافس فيها ضئيلا.غالبا ما تعكس أمثلة الانتقاء الطبيعي في مقررات الأحياء عندنا هذه الضغوطات الأخرى. فالقتامينية الصناعية لدى العثة المفلفلة Biston betularia تعود إلى المفترسين؛ الانتقاء عند الطيور التي درسها بومبوس Bumpus كان سببه البرق؛ و في أيامنا هذه، تبين أن الملوّثات كالرصاص و المخدرات كالكلوروكين و المبيدات ك دي دي تي، كلّها عوامل انتقاء قوية ( فوتويما Futuyma 1979، وُو و آنتونوفيكس Wu et Antonovis 1976، نغويين-دين و تراجير 1978 Nguyen-Dinh et Trager ). و لا شك أن التنافس الطبيعي و ضغوطات الانتقاء الأخرى تتفاعل فيما بينها: فلا يوجد أبدا ضغط انتقائي واحد في العملية، لكن الخلاصة تظل نفسها : أهمية التنافس المالتوسي كقوة محرّكة للتطور لا تزال بعيدة جدا عن الإثبات.
المانديلية البسيطة و علم الوراثة المعقد
وصفنا للمانديلية كأحد العناصر الضعيفة للداروينية الجديدة يبدو عبثيا للوهلة الأولى؛ أليس اندماج الانتقاء الطبيعي عند داروين مع الوراثة الكمّية عند ماندل، هو ما وضع أسس الداروينية الجديدة نفسها في أبحاث الرواد أمثال فيشر و هالدان و رايت ؟ بلى هو كذلك، و إن كانت النسخة الرائجة لهذه القصة تعاني من أخطاء عدّة :
- اعتدنا أن نقيم تعارضا بين الداروينية و اللاماركية، لكن حسب القبول المعاصر ( و غير الصحيح تماما ) للفظ ” اللاماركية”، أي توريث المُكتسب، فإن داروين كان نفسه لاماركيا ( تويلييه، 1982).
- صار من الواضح أن أبحاث ماندل لم تكن مفقودة تماما قبل 1900؛ قام العديد من الباحثين بالاستشهاد بها دون التعرف على أهميتها ( أولدبالي و غوفريه، 1968).
- تُبرز منشورات ماندل تحليلات للمعطيات مشكوك بها على أقل تقدير، إن لم تكن مغشوشة تماما ( ستيرن و ستينوود، 1966).
- كانت الداروينية و المانديلية تُعدَّان عند معظم علماء الأحياء نظريتان متعارضتان ما بين 1900 و 1920، بدل كونها متكاملتان. ( ماير و بروفين، 1980).
- أسهمت نظريات فيشر و هالدان و رايت في تجميع نظرية الداروينية الجديدة بشكل أضعف بكثير مما كنا نعتقد؛ فغالب البيولوجيين لم يكونوا قادرين على فهم استدلالاتهم الرياضية ( ماير و بروفين، 1980).
مع ذلك فإن الفكرة الأساسية للداروينية الجديدة بوصفها تجميعا للداروينية الأصلية و المانديلية، صحيحة بلا شك. و من المفارقة أن ضعف المنديلية ينبع من خصوبتها. فمفهوم المورّث قد ألهم العديد من الأبحاث حول التركيبة الوراثية للعشائر و العلاقة بين النمط الوراثي و النمط الظاهري، و التي أظهرت أن المسألة أكثر تعقيدا مما قد يظنه أكثر المانديليين تطورا. يستلزم تطور معظم الصفات ما هو أكثر من مجرّد مورّث واحد ( موقع الجينة على صبغيتها ) مع حليلان دون اعتبار للبيئة المحيطة ( و التي هي النموذج الأساسي لماندل )؛ بل تتدخل على العكس عدة مورثات، قد تشمل كل واحدة عدة حلائل، أما التفاعلات بين المورثات و مع العوامل البيئية فقد تصل إلى نسبة تعقيد مرعبة ( دوبزانسكي، 1977؛ ليوونتين 1974؛ فوتويما 1979). و عموما، فإن الحقيقة الوراثية تتجاوز بشكل كبير، لا نموذج ماندل فحسب، بل أيضا كل النماذج الأكثر تعقيدا لوراثة العشائر المعاصرة. بل إن الأسئلة الأكثر أساسية مثل التنوع الوراثية للعشائر الطبيعية ( هل هي تكيفية أم محايدة؟ ) لا تجد فيها أجوبتها النهائية ( بلان، 1982).
التحدي الكبير : نظرية تنبؤية
باعتبار نقاط ضعفها، ليس من الغريب أن تعجز النظرية الداروينية عن حلّ المعضلات التي طرحها عليها علماء الأحياء ! بل من المدهش قليلا أنها تمكنت من توفير تفسيرات صلبة بهذا القدر لتنوع الكائن الحي : و هو مجال لا تملك الداروينية الجديدة فيه أية خصوم حقيقية. لا تصير ثغراتها جوهرية إلا حين نُدرج البعد الزماني ( التاريخ و التنبؤ). فبالنسبة لتفسير الماضي و التبنؤ بالمستقبل، تكون الداروينية الجديدة قاصرة تماما.
يظل وجهان للبعد الزماني للتطور من غير تفسير : الاتجاه و نسبة التغيرات. هذه المشاكل حاضرة في الوقت ذاته على المستوى الميكرو-تطوري ( تكيّف العشائر) و الماكرو-تطوّري ( أصل الأنواع). يظل اتجاه التغيرات المستقبلية غير قابل للتنبؤ ( و هو نفس الإشكال بالنسبة للتغيرات في الماضي ) لأننا لا نستطيع أن نعرف، استنادا على هذه النظرية، أيُّ الضغوطات ستهيمن، و لا كيف ستغير الضغوطاتُ على الأنماطِ الظاهرية الأنماطَ الوراثية. نستطيع الحكم على الأمر بعديا، لكن النظرية لا قيمة تنبؤية لها. تخبرنا فقط بأن ” ما حدث كان ينبغي أن يحدث بالضرورة” و هذا كل شيء. و الخور المنطقي لمثل هذا “التفسير” لا يحتاج لأي تعليق.
يظل الإشكال قائما فيما يتعلق بنسب التغير، سواء تعلق الأمر بالتكيفات مع الأوساط الجديدة أو بأصول الأنواع الجديدة. من الواضح أنه يستحيل التنبؤ بنسب التغير حين يتعلق الأمر بترددها، لكن بالنسبة لمظهرها الكيفي المحض، فإن أنصار الداروينية الجديدة يعترفون بأن النظرية متوافقة مع نسب التغير المتغيرة ( توازنات متقطعة؛ إلدريدج و غولد 1972) بنفس قدر توافقها مع النسب الثابتة ( التدرّجية، ستابينز و أيالا 1981).
الاختيار بين نوعي النسب في جوهره سؤال إمبريقي ( بلان، 1982). السؤال له أهمية تطبيقية كبيرة: فالفارق بين سنة واحدة و عشر سنوات بمصطلحات اقتصادية، مثلا في تطور المناعة ضد المبيدات، فارق جوهري. إن كانت الفترة هي عشر سنوات، فمن الممكن تفادي الصعوبة بتنويع اختيار المبيدات، لكن لو كانت الفترة هي سنة واحدة حينها ينبغي التخلي عن استعمال تماما. شرعنا شيئا فشيئا في إيجاد أجوبة على هذه الأسئلة، غير أنها تستند على معطيات أمبريقية أكثر بكثير مما تستند على النظرية الداروينية الجديدة.
ثغرات نظرية، و أصداء سياسية
في مواجهة مثل هذه الثغرات، قد نتوقع الكثير من التحفظ من لدن علماء الأحياء، فيما يتعلق باستعمال الداروينية الجديدة كإثبات سياسي، لكن الحال للأسف على خلاف ذلك. فبالعكس و منذ عصر داروين بل و قبله، كانت للنظريات الجاري العمل بها في الداروينية الجديدة الحالية أصداء سياسية هامة. سواء تعلق الأمر بالحجج المحافظة لمالتوس، أو بالداروينية الاجتماعية للقرن التاسع عشر، أو تحسين النسل في العشرينيات، أو النازية في الثلاثينيات و الأربعينيات، أو ” القنبلة السكانية” مؤخرا و علم الأحياء الاجتماعي، فإن الروابط بين النظريات البيولوجية و الحجج السياسية ظاهرة جلية ( تشايز 1977، غولد 1979، باكويذ 1981، بلان 1982)، و تبعاتها المأساوية – عنصرية، التعقيم، بل و الإبادة – معروفة محفوظة.
اعتدنا أن ندين هذه الروابط السياسية بصفتها ” تعسف في استعمال ” الداروينية، مؤسفة لكن دون علاقة تربطها مع الصحة العلمية للنظرية. يرى البعض في هذا التزوير حجة قوية لصالح التفريق التام بين العلم و السياسة. بينما أستخلص منه شخصيا درسًا مختلفا تماما : النظريات العلمية ( سواء كانت ” صحيحة” أو “خاطئة” أو ” ضعيفة” أو ” قوية” ) و الإيديولوجيات لا تفترقان. فالعلاقة بين التكيفية، المالتوسية، المانديلية من جهة، و تطوّر الرأسمالية الغربية من جهة أخرى، لعلها حتمية تاريخيا بقدر كونها غير قابلة للتبرير منطقيا.
إن كانت هذه الفرضية صحيحة، يكون إحداث نظرية بديلة للداروينية الجديدة واحدة من أصعب المهام. فالأمر لا يتعلق فقط بمدّ النظرية لتأخذ تعقيد ضغوط الانتقاء بعين الاعتبار و العلاقات مورث-مورث و مورث-وسط، و لا يتعلق فقط بإعادة توجيه مقارباتنا في ضوء للتنبؤ بالتغيّر بدل الاستدلال على التكيّف؛ بل يتعلق أيضا بإعادة هيكلة فضائنا الإيديولوجي.
اقرأ ايضاً: التطور: نظرية فنّدتها الحقائق
[1] من كتاب : داروين بعد داروين، من إصدارات جامعة كيبك.