الثمرة بين الوحي والوَهم

أمجاد عوده

﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ﴾ [النجم: 39-41]

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.

أكثر الوساوس التي ترد قلب الإنسان هي من باب انتظاره واستعجاله ثمرة عمله وجزائه في الدنيا عاجلًا غير آجلًا.

في عمله الدنيوي والديني سواءً، فكم مرة حدثتك نفسك بمثل: أنا فعلت كذا وسعيت وبذلت وسع جهدي، ولم أحصد شيئًا ولم أنل ما سعيت إليه! 

ويشتد الأمر على الإنسان ويكون باب انتكاسة إن كان الأمر في الدين، فكم من عاملٍ متحمس لدين الله يقوده الفأل، ثم ما إن يتملّك اليأس قلبه فتراه ينقلب على عقبيه أو يتسخط! 

ولكثرة المصائب والبلايا في بلاد الإسلام، من كوارث طبيعية، واحتلال، وفساد وظلم. تظهر أسئلة من قبيل: لمَ لم نُنصر حتى الآن؟ لم نعمل وندعو ليل نهارٍ  ولا يُستجاب لنا؟ والأسوأ إن أدّى لسؤال: أين الله من هذا كله؟

وهذا كلّه لبسٌ لمفهوم الدنيا وحكمة الله ومعنى الثمرة وأنواعها؛ فهذه محاولة لنتدبر معًا، ونفهم معًا من كلام الله سبحانه ونبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ليستقيم فهمنا، وننفض تلك الوساوس، وكي نعمل ولا نيأس!

العمل شرط للثمرة، والثمرة ليست شرطًا للعمل

هذه قاعدة استقرأناها من نصوص الشارع، فالله أمرنا ببذل الأسباب، وأنه لا يغير ما في قوم حتّى يغيروا أنفسهم، ونبينا خير أسوة في أخذه بالأسباب في هجرته وغزواته وسائر حياته، فلا ثمرة إن جلسنا منتظرين معجزة لتغير العالم. لكن العمل ليس شرطًا للثمرة (الدنيوية).

فالإسلام يقرر أنّ المسلم مُحاسبٌ على سعيه، لا النتيجة

ففي سورة النجم قال الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ﴾ [النجم: 39-41].

ثم لو كانت الثمرة نتيجة العمل، لكان الأنبياء والصحابة أحقّ بها، روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: “قالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ” [صحيح مسلم].

وأخبرنا الله سبحانه أنّ بني اسرائيل كانوا يقتلون أنبياءهم. ثم إنّ الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام إن ما عليه إلا البلاغ ∶﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]  و ﴿  مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [المائدة:99].]  ۗ

ثم كم من صحابيٍ مات قبل أن يرى التمكين وقبل أن تقوم للإسلام قائمة؟ فأول شهيدة في الإسلام هي سمية بنت الخياط، ومات كثيرون يوم أُحد ومنهم مصعب بن عمير، وحمزة بن عبد المطلب. قال خباب رضي الله عنه: “ هَاجَرْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَبْتَغِي وجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أجْرُنَا علَى اللَّهِ، ومِنَّا مَن مَضَى -أوْ ذَهَبَ- لَمْ يَأْكُلْ مِن أجْرِهِ شيئًا، كانَ منهمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ…” [صحيح:مسلم]..

حتّى لمّا ذكر الله الجهاد في سورة الصف؛ ذكر الثمرة الدنيوية آخرًا بأنها شيء يحبونه، وليس الأساس! فتأمل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: 10-13]

وقد حثّنا الإسلام على العمل في وقتٍ لن ترى ثمرته! قال النبي عليه الصلاة والسلام: “إن قامتِ الساعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةً ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها” [السلسلة الصحيحة]

بل إنّ الإسلام يقر أنّ العمل بذاته عبادة ومقصود ولو لم يحقق نتيجة دنيوية

وعشرات النصوص تقرر ما ذكرناه، فالله ذكر أن الدنيا دار بلاء، ليبلونا أينا أحسن عملًا∶ ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]

والعمل حجة لك، فستُسأل ماذا عملت؟ كما في قصة أصحاب السبت: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف:164].

وبيّن الله أنّ المنع والعطاء كلاهما بلاء، ذكر الله في سورة الفجر الإنسان الذي يظن أنّ منعه إهانة وبينةٌ على كره الله له، والذي يظن أن العطاء والسعة في الرزق بينةٌ على حب الله إياه وإكرامه، وينفي الله كلاهما، ويقرر أنهما بلاء واختبار.

﴿َفأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا﴾ [الفجر:15-17].

وعلى لسان سليمان عليه السلام تفسير هذا:  ﴿ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]

بل وحتّى الثمرة الدنيوية بلاءٌ وليست نهاية البلاء! فالله يمكننا لنرى ماذا نصنع! قال سبحانه:  ﴿ ٱلَّذِینَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡا۟ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ﴾. [الحج:41].

وحدّثنا الله عمّن يجعل أصل عمله لثمرة الدنيا العاجلة فقال: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفࣲۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَیۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةَۚ ذَ ٰ⁠لِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِینُ﴾ [الحج:11].  يا الله! فلا هو الذي ربح الدنيا، ولا ربح الآخرة بضلال فكره!

وبيّن لنا الفرق بين صادق الإيمان ومن خالط قلبه نفاقٌ فقال: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَاۤ أُوذِیَ فِی ٱللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِۖ وَلَىِٕن جَاۤءَ نَصۡرࣱ مِّن رَّبِّكَ لَیَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِی صُدُورِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (10) وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ﴾. [العنكبوت:11].

  والعمل لدين الله غير أي عمل ثانٍ، فالبلاء فيه أشد لسنّة التمييز والتمحيص، ورفعة الدرجات، فقال الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2]

وفي نفس السورة: ﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ وفي آخرها وعدٌ لا يُخلف: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

تصحيح لمعنى الثمرة

صحيحٌ أنّنا ذكرنا قريبًا أنّ أصل الثمرة هي الثمرة الآخروية، وهذا لا ينفي أنّ من الثمرات ما هو دنيوي، ولكن الثغر يكمن في حصر الثمرة الدنيوية في شكل واحد، والثمرة كالفاكهة مختلفة ألوانها، فهاهنا نرى ونتدبر معًا في معاني الثمرات.

أولًا: أم الثمرات الفوز بالجنة والنجاة من النار، قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].

وهذا ما علينا أن نفقهه حق الفقه، ونعيه حق الوعي.

وفي معنى هذه الآية آيات كُثر. مما لفت نظري تقديم القتل في هذه الآية على الغلبة، كأنها إشارة صريحة بأن الموت في سبيل الله هو الثمرة! ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا  ﴾ [النساء:74]

وفي قصة أصحاب الأخدود عبرٌ، فغلام الساحر الذي آمن في زمن الملك الظالم، وعاقبة قصته أن قُتل، وبعد قتله آمن نفرٌ كثير. فأولًا كانت ثمرة سعيه بعد مماته، بأن كان سببًا لأن يؤمنوا. وثانيًا يذكر الله لنا في سورة البروج حفر الظالم أخاديد وإضرامه نارًا فيها؛ فقذف فيها المؤمنين إلا أن يرجعوا عن إيمانهم، فحُرقوا. والعجيب أنّ الله بعد سرد هذه القصة، لم يذكر عقوبة دنيوية لهؤلاء الظلمة الذّين حرّقوا المؤمنين وأطفالهم! بل ما ذكر إلا عذاب الآخرة! ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج:10].

ثم بعد هذا كله ذكر أنّه الفوز الكبير لمن آمن وأُدخل الجنة! ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج:11].

وانظر رحمك الله وأطل النظر في هذه الآيات: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس:20-2]. (27)

لقد أُغضّ الطرف عن موته، فقد ذُكر في التفاسير أنّه قُتل، وأنار القرآن على الثمرة الكُبرى وهي دخول الجنّة والغفران!

ثمّ إن من أهم الثمرات في الدنيا ثمرات غير ملموسة، مثل: استعمال الله لك، الهداية والتثبيت على الحق، غفران الذنوب، إلقاء المودة لك في قلوب العباد، التيسير والتوفيق ومعية الله وغيرها كثير. 

في سورة محمد بعد ذكر الله لحكمته في دفع الناس بعضها ببعض، ذكر المجاهدين ثم وعدهم بالهداية وصلاح الحال! 

﴿ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:4-7].

وفي سورة الفتح، يمتنُ الله على نبيه بالفتح، ثم يعلله بالمغفرة، وبعد ذلك النصر!

﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح: 1-3].

وفي الود: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾ [مريم:96].

 ووالله إنّها لأكثر من أن يسعنا ذكرها، فاستصحب هذه المعاني دائمًا ولا تجعلن عينيك تدور في فلك المادة ليس إلّا!

تأخير الثمرة

إنّ الله سبحانه وتعالى قد وعد بنصر المؤمنين حقًا مقضيًا، والله غالبُ على أمره، لكن الخطأ ظنّك أنك الموعود بهذا النوع من النصر، ربما شهدته وربّما لا، إن النصر لدين الله أتٍ، ونصرك قد تراه فيما ذكرنا سابقًا، فلا تحكر نصر الدين فيك.

حين ذكر الله ظلم فرعون وإفساده في الأرض، ذكر إرادته في المنّ على المستضعفين وجعلهم الوارثين.

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ  وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص:5]. فماذا جرى؟ أمكّنوا فورًا؟ أنزلت صاعقة من السماء أبادت الظلمة؟ كلا! بل هنا وُلد موسى! وصنعه الله على عينه، حتّى بلغ أشده وأرسله الله إلى فرعون!

إن كثيرًا من الأطفال والشبّان قتلوا واستضعفوا  ولم يروا التمكين، لكن من خلفهم بعدهم أورثوا الأرض! تلك حكمة الله وعلمه!  

ثم إنّ من الثمرات ما يخفى بدءًا، كصلح الحديبية، وأذكره اختصارًا فلا تنس أن تقرأ الحديث كاملًا.

 فقد خرجوا يريدون العُمرة وصدّتهم قريش عنها، وتعاهدوا على شروط يظن الظان أنّها هوان للإسلام ومذلة، وكان أشدّه أن جاءهم أبو جندل رضي الله عنه بسلاسله يريد الخلاص، فلم يجيزوه للنبي وتركوه عند المشركين.  وقد تزلزل المسلمون وكمدوا لها كمدًا، حتّى إن عمرًا راح يسأل النبي عليه الصلاة والسلام: “ألَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قالَ: بَلَى، قُلتُ: ألَسْنَا علَى الحَقِّ وعَدُوُّنَا علَى البَاطِلِ؟ قالَ: بَلَى، قُلتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إذًا؟ قالَ: إنِّي رَسولُ اللَّهِ، ولَسْتُ أعْصِيهِ، وهو نَاصِرِي، قُلتُ: أوَليسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أنَّا سَنَأْتي البَيْتَ فَنَطُوفُ بهِ؟ قالَ: بَلَى، فأخْبَرْتُكَ أنَّا نَأْتِيهِ العَامَ؟ قالَ: قُلتُ: لَا، قالَ: فإنَّكَ آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ به” [صحيح البخاري].

وأتى أبا بكر وسأله نفس الذي سأل، وأجابه أبو بكر بنفس الذي قال النبي عليه الصلاة والسلام.

إنه مشهد زلزلت فيه قلوب الصحابة وكظموا غيظهم، ثم أتعلم أنّ الله سماه فتحًا؟ لقد كانت بيعة الرضوان هي الفتح، والميسرة لفتح مكة. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: “تَعُدُّونَ أنْتُمُ الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وقدْ كانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، ونَحْنُ نَعُدُّ الفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ” [صحيح البخاري].

وكانت تلك الشروط سببًا لنقض العقد وفتحت مكة بعدها بسنتين! 

أعطى قليلًا وأكدى!

وعلى النقيض مثلًا رجلٌ أعطى قليًلا وأكدى! ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ (33) وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ﴾ وذكر أهل العربية أنّ الكدي هو أن يحفر الرجل فتعترضه صخرة (كدية) فيتعطّل حفره فينصرف. فالله يعتب على من يعطي قليلًا ثم يتوقف!  ولقد دلّـت الآيات التي سقناها بدءًا أنّ الإسلام يحثّ على السعي، حتى الفسيلة يوم القيامة!

وفريقٌ عملوا وصبروا فأعطوا ثمرة الدنيا العاجلة، المستضعفون من بني إسرائيل، قالوا لنبيهم وقال لهم: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف:129].

وقد نصرهم الله، ويستمر البلاء في ماذا سيعملون؟ لكنهم فشلوا فيه، وأول ما قالوا: اجعل لنا إلهًا! ثم جاءت المعاصي تترًا.

﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: 137-138].  

فلا تكونن كالذي أكدى، ولا تجعلن هدف الدنيا ينسيك أن الهدف الأول هو مرضاة الله لدخول الجنّة، وإن رأيت الثمرة فلأنه الشكور، وإلّم ترها فلا تنتكس وتذكر أن عشرات الثمرات الخفية تحيطك، فاسعى، وسعيك سوف يُرى. فإن لك ربًا ترجو منه ما لا يرجون!

﴿إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء:104].