عام

التشتت الرقمي

عبدالله عبدالرحمن

في عالم يتسارع فيه إيقاع الحياة بوتيرة لم نشهدها من قبل، حيث تتدفق المعلومات كالسيل وتتغير الاتجاهات والأحداث بسرعة، نجد أنفسنا أمام مشكلة التشتت وعدم التركيز.

انخفض متوسط فترة الانتباه البشري من (12) ثانية في بداية الألفية إلى (8.25) ثانية في الوقت الحالي، مما يضعنا في موقف محرج حيث أصبحت فترة انتباهنا أقل من فترة انتباه السمكة الذهبية التي تبلغ (9) ثوان.

ما التشتت الرقمي؟

التشتت، من الناحية العلمية والنفسية، يُعرّف بأنه عدم القدرة على الحفاظ على التركيز على موضوع واحد أو مهمة واحدة لمدة كافية لإنجازه بفعالية. 

يمكن تمييز نوعين رئيسيين من التشتت:

  • تشتت داخلي: ينشأ من داخل العقل نفسه، مثل الأفكار المتسارعة والقلق والتفكير في مهام أخرى.
  • تشتت خارجي: يأتي من البيئة المحيطة، مثل الأصوات والحركة والإشارات الرقمية.

في العصر الرقمي، أصبح التشتت الخارجي أكثر انتشاراً وتعقيداً من أي وقت مضى، وظهر ما يمكن أن نطلق عليه “التشتت الرقمي المُصمم” – وهو نوع جديد من التشتت ليس عرضيًا أو طبيعيًا، بل نتيجة مباشرة للتصميم المتعمد للتطبيقات والمنصات الرقمية.

اقتصاد الانتباه

أحد أهم الأسباب الجذرية وراء هذه المشكلة هو ما يُعرف بـ”اقتصاد الانتباه”، في هذا النموذج الاقتصادي، يصبح انتباه المستخدمين هو السلعة الأساسية التي تتنافس عليها الشركات التقنية الكبرى.

تستثمر شركات التقنية الكبرى ملايين الدولارات في البحث والتطوير لفهم كيف يعمل الدماغ البشري، وكيف يجذب انتباهه وكيف يتم الاحتفاظ به. وبناء عليها يتم تصميم تطبيقات ومنصات تستغل نقاط الضعف هذه.

يتضمن هذا التصميم المتعمد عدة تقنيات نفسية مثل:

    • التعزيز المتغير: نظام مكافآت غير منتظم يشبه آلات القمار، حيث لا يعرف المستخدم متى سيحصل على “مكافأة”.
    • التمرير اللانهائي: المحتوى يتدفق بلا نهاية، مما يجعل من الصعب على المستخدم أن يجد نقطة توقف طبيعية.
    • الإشعارات المحسوبة: إرسال إشعارات في أوقات محددة لزيادة احتمالية فتح التطبيق والتفاعل معه.
    • الخوارزميات التنبؤية: استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك المستخدم، وتقديم محتوى مخصص يزيد من احتمالية البقاء على المنصة لفترة أطول.

تعدد المهام

أصبح تعدد المهام يُنظر إليه كمهارة إيجابية ومؤشر على الكفاءة، لكن الدراسات تظهر أن الدماغ البشري غير مصمم للقيام بمهام معقدة عدة في نفس الوقت، ما يحدث فعليًا هو “تبديل المهام” السريع، الذي يستنزف الطاقة الذهنية ويقلل من جودة الأداء.

إحصائيات الصادمة

  • انخفض متوسط فترة الانتباه البشري من (12) ثانية في عام 2000م، إلى (8.25) ثانية في عام 2024م.
  • الأطفال والمراهقون يظهرون انخفاضاً أكثر حدة، حيث يبلغ متوسط فترة انتباههم (29.61) ثانية فقط مع انخفاض مستمر بنسبة (27.41%).
  • (73%) من الطلاب يعانون من صعوبة في التركيز لأكثر من (20) دقيقة متصلة أثناء المحاضرات.
  • الشخص العادي يتحقق من هاتفه (96) مرة يوميًا (أي مرة كل 10 دقائق تقريباً أثناء ساعات اليقظة).
  • متوسط فترة الانتباه على الشاشات يبلغ دقيقتين ونصف فقط.
  • الناس يغيرون نشاطهم الرقمي كل (150) ثانية في المتوسط.
  • الموظف العادي يقضي (2.5) ساعة فقط في العمل المركز والمنتج من يوم عمل يبلغ (8) ساعات.
  • الموظف العادي يتلقى (121) إشعارًا يوميًا من مختلف التطبيقات والمنصات.
  • كل مقاطعة تتطلب (23) دقيقة في المتوسط للعودة إلى مستوى التركيز الأصلي.
  • (60%) من الأخطاء في مكان العمل ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالتشتت وعدم التركيز.
  • (68%) من الطلاب يتحققون من هواتفهم أثناء المحاضرات، حتى لو كانت الهواتف في وضع الصمت.
  • الطلاب الذين يستخدمون الأجهزة الرقمية بكثافة يظهرون انخفاضًا في قدرتهم على تذكر المعلومات واستيعابها بعمق، وهذا ما يُعرف بـ”تأثير جوجل” أو “العته الرقمي”.
  • الموظفون الذين يحاولون القيام بمهام عدة في نفس الوقت يستغرقون وقتاً أطول بنسبة (25%) لإنجاز المهام.

العلاقات الاجتماعية

ربما يكون التأثير الأكثر إثارة للقلق لمشكلة التشتت الرقمي تأثيرها على العلاقات الإنسانية والتفاعل الاجتماعي:

  • ظاهرة “الفوبينج”: مصطلح يجمع بين كلمتي “phone” و”snubbing” ويعني تجاهل الأشخاص الحاضرين لصالح الهاتف، وقد أصبحت منتشرة بشكل واسع في المجتمعات المعاصرة.
  • (84%) من الأسر تعاني من مشاكل في التواصل بسبب الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية. الآباء والأمهات يشكون من صعوبة في جذب انتباه أطفالهم، بينما يشعر الأطفال بأن والديهم لا يستمعون إليهم بسبب انشغالهم بهواتفهم.
  • (70%) من الأزواج يشعرون بأن الأجهزة الرقمية تتدخل في جودة وقتهم المشترك.
  • ظاهرة “التكنوفيرنس” – تدخل التكنولوجيا في العلاقات الشخصية – أصبحت سببًا رئيسيًا في المشاكل الزوجية والطلاق في العديد من المجتمعات.
  • ارتفعت معدلات القلق والاكتئاب بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18-25 سنة بنسبة (40%) خلال العقد الماضي، مع وجود ارتباط قوي بين هذا الارتفاع والاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي.
  • “النوموفوبيا”: الخوف من عدم وجود الهاتف المحمول أو عدم القدرة على استخدامه، نوع جديد من القلق أصبح منتشراً بشكل واسع.
  • تدني تقدير الذات: المقارنة المستمرة مع الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي، ورؤية الجوانب المثالية فقط من حياة الآخرين، يؤدي إلى الشعور بعدم الكفاءة وانخفاض الثقة بالنفس.

الاستراتيجيات المقترحة

التخلص من السموم الرقمية (Digital Detox)

يشير هذا المفهوم إلى مدة محددة من الوقت يتم فيها إيقاف أو تقليل استخدام الأجهزة الرقمية بهدف إعادة تأهيل الدماغ واستعادة القدرة على التركيز العميق.

مزايا هذه الاستراتيجية:

  • تحسين الصحة النفسية والعاطفية: تقليل مستويات التوتر والقلق، وزيادة الشعور بالرضا والسعادة.
  • زيادة التركيز والإنتاجية: استعادة القدرة على التركيز لفترات طويلة، وتحسن في جودة العمل والإنجاز.
  • إعادة الاتصال مع اللحظة الحاضرة: تطوير القدرة على الاستمتاع بالأنشطة البسيطة والتفاعل الحقيقي مع البيئة المحيطة.
  • تحسين جودة النوم: تنظيم الدورة الطبيعية للنوم وتحسن في وجودة وعمق النوم.
  • تعزيز العلاقات الشخصية: تحسن في التواصل والتفاعل مع الأسرة والأصدقاء

خطة تطبيق تدريجية:

  • الأسبوع الأول: تحديد ساعة واحدة يومياً خالية من الأجهزة الرقمية، ويُفضل أن تكون قبل النوم بساعة.
  • الأسبوع الثاني: تمديد الفترة إلى ساعتين، وإضافة فترة صباحية خالية من الهاتف لمدة 30 دقيقة بعد الاستيقاظ.
  • الأسبوع الثالث: تخصيص يوم كامل في الأسبوع للتخلص من السموم الرقمية.
  • الأسبوع الرابع وما بعده: تطوير نمط حياة متوازن يتضمن فترات منتظمة خالية من التقنية.

إدارة الوقت والمهام

  • تطوير مهارات إدارة الوقت والمهام أمر ضروري لمواجهة التشتت الرقمي:
  • تقنية البومودورو: تقسيم العمل إلى فترات مركزة مدتها 25 دقيقة، تُسمىبومودورو، تتبعها استراحة قصيرة مدتها 5 دقائق. بعد كل 4 بومودورو، تكون هناك استراحة أطول مدتها 15-30 دقيقة
  • تحديد الأولويات: استخدام مصفوفة أيزنهاور لتصنيف المهام حسب الأهمية والإلحاح
  • تجنب تعدد المهام: التركيز على مهمة واحدة في كل مرة لضمان جودة الإنجاز
  • إنشاء بيئة خالية من المشتتات: تنظيم مكان العمل أو الدراسة بحيث يكون خالياً من المشتتات البصرية والسمعية

تطبيقات وأدوات مساعدة

التقنية يمكن أن تكون جزءًا من الحل وليس فقط جزءًا من المشكلة:

  • تطبيقات حجب المواقع: التي تمنع الوصول إلى مواقع ومنصات معينة خلال فترات العمل أو الدراسة.
  • تطبيقات إدارة الوقت: التي تتبع كيفية قضاء الوقت على الأجهزة الرقمية وتقدم تقارير مفصلة.
  • تطبيقات التركيز: التي تستخدم تقنيات التلعيب لتشجيع فترات التركيز.
  • تطبيقات الضوضاء البيضاء: التي توفر أصواتًا هادئة تساعد في التركيز.
  • معظم الهواتف الذكية الحديثة تحتوي على إعدادات مدمجة يمكن استخدامها لتقليل التشتت:
  • وضع عدم الإزعاج: تخصيص أوقات معينة لإيقاف الإشعارات غير الضرورية.
  • تجميع الإشعارات: تجميع وتسليم الإشعارات في أوقات محددة بدلاً من الإرسال المستمر.
  • إزالة التطبيقات المشتتة: حذف أو إخفاء التطبيقات التي تسبب التشتت من الشاشة الرئيسية.
  • استخدام الألوان الرمادية: تحويل شاشة الهاتف إلى الألوان الرمادية لتقليل الجاذبية البصرية.

دور الأسرة في التربية الرقمية

الأسرة هي الخط الأول في مواجهة مشكلة التشتت الرقمي:

  • وضع قواعد واضحة: تحديد أوقات ومناطق خالية من الأجهزة الرقمية في المنزل.
  • القدوة الإيجابية: يجب أن يكون الوالدان قدوة في الاستخدام الصحي للتكنولوجيا.
  • الأنشطة البديلة: توفير أنشطة ممتعة وتفاعلية لا تتطلب استخدام الأجهزة الرقمية.
  • التواصل المفتوح: مناقشة مخاطر وفوائد التكنولوجيا مع الأطفال بشكل مفتوح وصادق.

بناء مجتمع واعٍ رقمياً يتطلب جهوداً متضافرة من جميع أطراف المجتمع:

– التربية الرقمية:

يجب أن تصبح التربية الرقمية جزءًا أساسيًا من المناهج التعليمية، بدءًا من المراحل المبكرة. الأطفال لا يحتاجون إلى تعلم كيفية استخدام التقنية فقط، بل أيضًا كيفية التعامل معها بوعي وحكمة.

– ثقافة الاستخدام الواعي:

هذا يتضمن تغيير النظرة إلى التقنية من كونها مجرد أداة إلهاء أو ترفيه إلى كونها أداة يجب استخدامها بمسؤولية.

– دور القدوة والمثال:

القدوة والمثال يلعبان دورًا مهمًا في هذا التحول. عندما يرى الأطفال والشباب أنّ الكبار يستخدمون التقنية بتوازن، فإنهم أكثر عرضة لتطوير عادات صحية في استخدام التقنية.

إن مشكلة التشتت وعدم التركيز ليست مجرد تحدٍ فردي، بل قضية مجتمعية تتطلب حلولًا متعددة المستويات، كل واحد منا لديه القدرة على إحداث التغيير، بدءًا من نفسه ثم التأثير على من حوله. معًا يمكننا استعادة انتباهنا.

المراجع والمصادر:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى