- تأليف : الإيكونومسيت – The Economist
- ترجمة : محمد بن خليفة الغافري
- تحرير : لطيفة الخريف
هل سيوافق أيّ ملكٍ إقطاعيٍّ عاش في القرون الوسطى على تبديل مكانهِ ليحلّ محلّ كاتب التأمين في أيّامنا هذه؟ لدى الملك العديد من القُصور وجيوشٌ من الخدم، لكنّه يعدّ أيضًا ضحيّةً مُحتَمَلَةً لألم الأسنان، ناهيكَ عن أنّ الأخبار تَصله متأخّرة، وطعامهُ غالبا ما يكونُ عَفِنًا، ويضجَرُ من حاشِيَتهِ. لذلك، لن نستغرب إذا ما وافَقَ على المُقايضة، وعن طيبِ خاطر، بكاملِ مملكتهِ مدى الحياة مُقابِلَ العمل في مكاتب القرن الواحد والعشرين ذاتِ الأعمال الرتيبة، والتي تشمل عناية من قِبَل طبيب أسنان، وهواءٍ مُكيّف، وجوجل ويوتيوب.
هذا السؤال يُبرز أهم التطوّرات الماديّة الأخيرة التي تحقّقت في القرون الأخيرة، وهو يُظهر أيضًا، مدى صعوبة المهمّة عندما يتعلّق الأمر بمقارنةِ مستويات المعيشةِ عبر العصور والمُجتمعات. من الملاحظ أنّ المقارنات خلال العقود الأخيرة يتمّ إجراؤها استنادًا إلى الناتج المحليّ الإجماليّ GDP، هذه المقارنات مزعجة للغاية. لماذا يُعدّ الناتج المحليّ الإجمالي مقياسًا رديئًا للتقدّم؟
الناتج المحليّ الإجماليّ هو مقياسٌ للإنتاج، والدخل، والاستهلاك، جميعها في وقتٍ واحد. كان التطوّر في مستويات المعيشة والناتج المحلي الإجماليّ مترادفانِ في أمريكا وأوروبا في حقبة ما بعد الحرب، وأصبح نموّ الناتج المحلي الإجمالي هدفًا للسياسيين، واستُخدِمَ كاستمارةِ أداء بحيث يتمّ من خلالها الحُكم عليهم من قِبَل النّاخِبين، لكنّ ذلك لم يمنع من أن تطالُه يدُ النّقد، فلطالما شكى أنصار البيئة من أنّ الناتج المحليّ الإجماليّ يُعامل نهبَ الكوكب [خيْراته] كأنّه شيءٌ يُضاف إلى الدّخلِ، عوضًا عن اعتبارهِ تَكْلِفَةً. وهناك أيضًا التّهمة المتكرّرة، وهي أنّ الناتج المحليّ الإجماليّ لا يتضمّن مقياسًا للرفاهية النّفسية، فقد قال روبرت كينيدي ذاتَ مرّة، ناقِدًا مقياس الناتج المحليّ الإجماليّ بأنّه يأخذ اعلانات السّجائر والسّجون بعين الاعتبار، لكنّه يستثني “جمال قصائدنا، وقوّة علاقاتنا”. ومع ذلك، كان نموّ الناتج المحليّ الإجماليّ معيارًا لائقًا- وإن كان تقريبيًّا- للتقدّم الماديّ، فكلّما زدنا الانتاج والدّخل -بعد معايرتها مع التضخّم- كلّما كان ذلك أفضل.
لكن هذه المُعادلة تعمل بشكلٍ جيّد عندما كان الاقتصاد مُركّبٌ من المزارع والمصانع في غالب نشاطاته، ويُنتج أشياءً مُتشابهة في الجودة ويَسهُلُ حسابها. لكن الناتج المحليّ الإجماليّ أقلّ ملائمة لمهمّة قياس الاقتصادات الحديثة التي تجْعَلُ جودة الخدمات نصب أعينها، إنّها اقتصاداتٌ مُوجّهة نحو مُراعاة “جودةِ تجربة المُستهلك” عوضًا من “استهلاك” كميات أكثر. ومن الصّعوبة بمكان أيضًا تحديدُ المدى الذي تعكِسُ فيه التغيّرات في السعر خدمةً أفضل، فعندما ترتفع الرّسوم الطبيّة، سيتمّ اعتبارها عادةً على أنّها تضخّم، حتّى لو كانت جودة الرعاية الصحيّة تتحسّنُ بوتيرةٍ أسرع من ارتفاع الأسعار. وحيثُ لا يدفع المستهلك أيّ مبلغ، كما هو الحال مع العديد من الخدمات الرقميّة، فإنّهم لا يدخلونَ ضمنَ الناتج المحليّ الاجماليّ، بالتّالي فإنّ مَكْسب المُستهلك من خدمات جوجل ويوتيوب يتمّ استبعادها من الناتج المحليّ الإجماليّ. أيضًا، قد أضحت الأشياء المدفوعة سلفًا، كالخرائط والموسوعات والتسجيلات الموسيقيّة، مجانيّةً الآن، لذلك فإنّها قد خرجت من حِسبة الناتج المحليّ الاجماليّ. أضف إلى ذلك أنّ التسوّق والخدمات المصرفيّة، وتدبير لوازم السّفر، كلّها غَدَت مريحةً أكثر عندما أصبحت تتمّ الكترونيًّا، لدرجة أنّ كل هذا يُقلّل الضغط على مباني هذه الخدمات حاليًّا، ويوفّر أيضًا مصاريفَ إنشاءَ مبانٍ جديدة، إلّا أنّ هذا يتمّ استثناؤهُ من الناتج المحليّ الإجماليّ. [هذه أمور زادت من رفاهيّة المستهلكين، وسهّلت لهم الحصول على خدمات معيّنة دون أن يبذلوا جُهدًا، المشكلة أنّ الناتج المحليّ الإجمالي GDP يتعامل مع الأرقام، وتكمن الصّعوبة-مثلا- في وضعِ رقم يوضّح مدى استفادة المُستهلك من خدمات جوجل المجّانية، ليتم إضافتها إلى الناتج المحليّ الإجماليّ (المترجم)].
بالنسبة للجزء الأكبر، فإنّ صعوبة قياس ناتج الخدمات يؤدّي إلى انخفاض القيمة الفعليّة للناتج المحليّ الإجماليّ. لكنّ سوء القياس يعمل بطريقةٍ أخرى أيضًا، فعلى سبيل المثال، لو زجّت طائرة ما بمقاعد أكثر على متنها -بالتالي أرخص- فسيُعتبر ذلك على أنّه إضافة، على الرّغم من انخفاض جودة الخِدمة. وعلى النّقيضِ من ذلك، كلّما زادت المخاطر التي يتكبّدها البنك، زادت مُساهمته في الناتج المحليّ الإجماليّ، حتى لو كانت جودة الإقراض قد انخفضت.
الناتج المحليّ الاجماليّ هو ابن العصر الصناعيّ الذي يتّصف بالإنتاج الهائل للسلع المُتشابهة. إنّه معيارٌ ذو فائدة ضئيلة في الاقتصادات الثريّة المُعاصرة، والتي تُعنى بجودة الخدمة بشكلٍ أكبر عن مجرّد الحصول على الأشياء الماديّة. كما أنّه غير متناغمٍ مع الاقتصادات الرقميّة، حيث أصبحت الأنشطة التي كانت تُدفع سابقًا، كالحصولِ على المعلومات أو الاتصال بالأصدقاء مجانيّةً. بالتالي، فإنّ الناتج المحليّ الإجماليّ يفشل بشكلٍ متزايد في الإحاطة التامّة بالمكاسب المُتعلّقة بمتوسّط مستويات المَعيشة. إنّه لمن الصّعب، مقارنةُ حياة ملكٍ من القرون الوسطى بحياةِ عاملٍ في هذا العصر، إنّها تقريبًا كصعوبة وضع رقمٍ يُمثّل أفضليّة سلة مُستهلك تحتوي على أجهزة ذكيّة و جهاز بثّ موسيقيّ، على سلّةٍ أخرى مليئة بأجهزة الفاكس وأشرطة الكاسيت.
المصدر : Why GDP is a poor measure of progress