الكاتب: عايض بن سعد الدوسري
“جاء المبشر يحمل بيديه الكتاب المقدس، وكانت الأرض بأيدينا، وبعد مدة صار الكتاب المقدس بأيدينا، لكن تحولت الأرض إلى أيدي المبشرين“. الرئيس الكيني جومو كنياته
عبر التاريخ، مرت البشريَّة بحقبٍ متعددة ومختلفة، اكتسبت فيها مجتمعات البشر ثقافاتٍ وحضاراتٍ مختلفة ومتفاوتة، تعاون بعضها مع بعض، فتلاقت الأفكار المختلفة، وتلاحقت وتزاوجت فيما بينها، وأنتجت أشكالاً جديدة ومطورة عن سابقتها. لكن في مقابل ذلك، هناك أفكار ثقافيَّة وحضارات تواجهت فتصادمت، وحصل التلاقح لكن على هامشها، أما مسرح تلاقيها الرئيس فقد كان صراعًا مُحتدمًا على طول حدودها الدامية، بدأ بالصراع الناعم (الثقافي)، وانتهى بالصراع الصلب والخشن (العسكري).
وفي عمليات التلاقي الثقافي والحضاري، يحصل في معظم الوقت عمليات إزاحة ثقافيَّة متبادلة بين الثقافات المتواجهة والمتصارعة، تحاول فيها كل ثقافة فرض هيمنتها على الأخرى لتتمكن من إزاحتها والحلول محلها، محليًا أو عالميًا. وفي هذه العمليات، يتم أحيانًا التداول الفكري، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، وفي أحيان كثيرة، يتم النفي الوجودي للآخر بشكلٍ جزئيٍ أو كليٍ.
وحين ندع التداول الثقافي والفكري جانبًا، ونتحدث عن عمليات النفي الوجودي (الثقافي والفكري)، فإننا نجد أنفسنا أمام أكثر من شكلٍ:
- فهناك نفيٌ وجوديٌ قهريٌ، يكون غالبًا بالقوة الصلبة والخشنة (العسكرية)، وفيه: إما أن يُنفى الوجود كليَّةً بإفناء وجود الشعوب. (كما حصل -مثلاً- مع كثير من قبائل الهنود الحمر وشعوب المايا). وإما أن يُنفى الوجود كليَّةً بإفناء الوجود الثقافي والفكري للشعوب مع وجودها جسديًا، وقطع صلتها بثقافتها وحضارتها الذاتيَّة. (كما حصل -مثلاً- لمن بقي من المسلمين في الأندلس “الموريسكيين“، وكذلك ما حصل مع بعض قبائل الهنود الحمر).
- وهناك نفيٌ وجوديٌ اختياري، وهو حين تختار الشعوب طواعيَّة الاندماج في ثقافة غيرها، متخلية باختيارها عن أفكارها وفلسفتها الذاتيَّة، قاطعة الصلة التي تربطها بثقافتها وحضارتها الخاصة، متماهيةً مع الحضارة العالمية الغالبة والمهيمنة، ذائبة فيها، لتفقد استقلالها الثقافي كأمة مستقلة ذات كيانٍ مستقلٍ.
وفي هذه الحالة الأخيرة، يقول المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون، في كلام مهم وعميق: “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده“.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: لماذا جرت العادة في أنَّ المغلوب يولع بالغالب، ويعجب وينبهر به، ويحرص على محاكاته وتقليده في معظم أو كل أموره؟
لم يدع ابن خلدون هذا السؤال دون جواب، فقد قدم جوابًا مهمًا، قرر فيه قاعدته الاجتماعية-الثقافية الجوهرية، حيث قال:
“والسبب في ذلك أنَّ النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء. أو لما تراه -والله أعلم- من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب، تغالط أيضًا بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، حتى أنَّه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها؛ فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والامر لله”.
فهذا النص نفيسٌ جدًا، يُشخص داء الثقافة المغلوبة والفكر المغلوب، فهو أبدًا ينظر إلى هزيمته المادية على أنها الدليل القطعي على نهاية صلاحيَّة فكره وثقافته، وفي المقابل يرى أنَّ انتصار الغالب ماديًا هو الدليل الذي لا لبس فيه على صدقيَّة وصلاحيَّة فكره وثقافته. فالعقليَّة الانهزامية المغلوبة بطبيعتها تُوَحِدُ أبدًا بين المادي والمعنوي، فالانتصار في الأول (المادة) يعني بشكلٍ حتمي الانتصار في الثاني (الفكرة)، والهزيمة في الأول (المادة) يعني بشكلٍ حتمي الهزيمة في الثاني (الفكرة)، ومن ثم ربطت الحق والصلاحيَّة بالغالبة والانتصار على مستوى القوة الماديَّة.
يقول المفكر الفرنسي-السوري برهان غليون، مُعلقًا على بعض كلام ابن خلدون السابق: “من المعروف تاريخيًا أنَّ كل هزيمة تتكبدها مجموعة بشرية، تنعكس مباشرة على أيديولوجيتها أو اعتقاداتها، فتدفعها إلى التشكيك في صلاحية هذه الاعتقادات، ونجاعة القيم التي تنبع منها“.
واليوم في هذا العصر، المتسم بتطور وسائل التواصل الاجتماعي، المُوهم بالتلاصق الفكري الشديد بين الناس مع التباين الحضاري العظيم بينهم، تحل الغلبة العلميَّة والانتصار العلمي والقوة والتطور محل القوة الصلبة الخشنة، ويبقى الأثر واحدًا، من حيث التأثير والتبعية والانبهار.
وكان من الطبيعي –كما يؤكد ذلك برهان غليون– أنَّ الثقافات التي تتعرض إلى تدفقٍ مستمرٍ من مفاهيم وأفكار ثقافية جديدة، لا تستطيع أن تقاومها ولا أن تستوعها، ينتهي بها المطاف إلى أحد احتمالين: إما أن تحاول تعديل نفسها لتتكيف مع الأفكار والثقافة الجديدة فاقدة جزءًا من هويتها المستقلة، مما يعني مرضها. وإما أن تتفكك وتنحل كثقافة مستقلة، وبهذا يكون موتها أو انتحارها الطوعي، حيث فقدت تمايزها واستقلالها الذاتي، وذابت في غيرها.
إنَّ ما قاله الرئيس الكيني جومو كنياته، يُشير إلى ما تُنتجه عمليات الإزاحة الثقافية، حيث إنَّ عملية السيطرة وامتلاك الأرض، تُسبق بكسب ولاء الناس، وكسب ولاء الناس يُسبق باقتناعهم بأفكار صاحب الثقافة الذي يريد السيطرة عليهم، لينتهي المطاف بهم إلى تخليهم ليس فقط عن أفكارهم طواعيةً، بل بتخليهم عن وجودهم الكامل، وعن ما يملكونه من أرضٍ وفكرٍ وثقافة. ومن تأمل تاريخ الاستعمار، يجده قد بدأ في الغالب بجيوش الأفكار، حتى إذا كسب العقول أخذ الأرض وسيطر على الخلق، وسخر كل ذلك لخدمة أغراضه الخاصة!
فالثقافة الخاصة لكلٍ أمةٍ تُمثل بُعدًا في غاية الأهميَّة، فهي –كما يُـبيِّن ذلك الدكتور حامد ربيع، أستاذ النظرية السياسية- من حيث أنَّها نظام للإدراك الجماعي يُحدد عناصر المثالية السلوكيَّة للأفراد، هي التي تصنع الولاء في قلوب الأفراد، وتمنحهم طواعية في الفعل والترك دون ضغط ولا إكراه من أحد. فهي بنية عقلية تقدم القناعة للأفراد ومن ثم الولاء الذي يكون حافزًا ودافعًا إلى الفعل بالاختيار. والنتيجة الحتميَّة لضعف أي الثقافة، سواء الضعف القهري أو الطوعي -الذي أُشير إليه سابقًا-، ضعف القناعة بها، ومن ثم ضعف الولاء لها، وأخيرًا ضعف العمل بها، بل أحيانًا تغيُّر القناعة اتجاهها بشكلٍ عكسي، من ولاء للثقافة إلى عداء لها، وفعل ما هو ضدها.
والثقافة مثل الكائن الحي، يُمكن أن تمرض وتموت، وموتها أو مرضها إما بسبب عوامل من الخارج، قهريةٍ خشنةٍ أو طواعية ناعمة. أو من داخلها، ويكون ذلك، كما يُشير إلى ذلك برهان غليون، حينما يتعمق الانفصال بين الوعي والواقع، بين الثقافة كوعي وبين الواقع الحيِّ الذي يعيشه الأفراد، فهذا الانفصال يُولد توترًا حَرجًا -إذا لم يمكن تجاوزه- ينتهي عادةً بغلبة الواقع على الوعي، ويفقد الوعي فعاليته وقدرته على التأثير.
وبقدر ما يزداد انتشار الثقافة العالمية المهيمنة، بقوتها المادية الحضارية، بقدر ما تفرض نفسها كثقافة قائدة وملهمة، تعيد تشكيل الواقع الاجتماعي والفكري-الثقافي لدى الشعوب المحليَّة، وهذا بدوره يُجبر الثقافات القومية على التراجع أمامها والانكماش على نفسها، ثم -وهو الأخطر- القطيعة النهائية مع واقعها وثقافتها المحلية. والسبب في ذلك –كما يُبَيِّن ذلك غليون– أن الواقع الجديد لم يعد يتطور من الداخل، بل من خارج القيم الثقافية المحلية، وتظهر الثقافة الذاتية جامدة وخاوية وقديمة وغير صالحة للحياة؛ وأنها ثقافة في أزمة تتمثل في عجزها عن تلبية حاجات الفرد والمجتمع، وهكذا تدريجيًا تفقد الثقافات المحلية دورها العميق في المجتمع، وهذا الفقد ولا شك يُولِّد فراغًا سُرعان ما تدخل الثقافة العالمية –التي ربما هي من أحدثه- لسده، ولتحل محل الثقافة المحلية، وتمارس دورها. وهنا تفقد الثقافات المحلية قيمها وفعاليتها الفكرية والروحية في التأثير على الأفراد، ويترتب عليه فقدان الأفراد والمجتمعات المحلية استقلالها الفكري والثقافي والروحي، وتصبح غير قادرة على التفكير بذاتها وتقييم نفسها إلا من خلال مفاهيم خارج ذاتها.
يقول برهان غليون: “مع استمرار هذه الغلبة [غلبة وسيطرة الثقافة العالمية] وتوسع دائرتها وتعمق الشعور بضخامتها، يزداد إيمان الشعوب الضعيفة بعجزها وفقر ثقافتها، ويترسخ لديها النـزوع إلى الاقتداء وتقليد الغالب في ‘شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده’، وذلك لدى الخاص والعامة معًا لا فرق في ذلك“.
ومن الطبيعي أن تُخْرِج هذه المجتمعات المحلية المهزومة والمغلوبة فئات يُصنفها الناس من الخاصة أي المثقفة، منها: فئة ذات تفكيرٍ هامشيٍ محدودٍ، عقولها مهزومة، وثقتها في ذاتها مهزوزة، تحاول الالتصاق بالغالب، وترى أن التثقف والتحضر إنما يتجسد في كيل المديح والإطراء للثقافة الغالبة والمهيمنة، وشتم وهجاء الثقافة المحلية الذاتية، التي تُمثل –عندها- الجهل والانحطاط والتخلف، ويتم تحميلها كل شرور الفساد والخراب والدمار في العالم كله. وهذه الفئة –في الحقيقة- مأزومة نفسيًا أكثر من كونها مثقفة وعاقلة، تعي بشكلٍ جدي سؤال الحضارة والتقدم.
وهناك فئة أخرى مثقفة بالفعل، لكنها شبه مُستلبة ومبهورة بالثقافة الغالبة والمهيمنة، فهي ترى أنَّ الثقافة الغالبة -بكل ما فيها- هي السبيل الوحيد الذي لا يوجد غيره للرقي والتحضر والتمدن، فالحضارة الحقة والثقافة الحقيقية هي تلك الغالبة والمهيمنة والعالمية، ولا خيار آخر سواها، ولا نجاة إلا من خلالها.
يقول المفكر المصري المعروف زكي نجيب محمود: “والحق أنني لم أبدأ حياتي الفكرية بالرأي الذي تحولت إليه منذ أواسط الستينيات، بل لبثت أعوامًا وأعوامًا لا أرى للحياة القومية المزدهرة إلا صورة واحدة، هي صورة الحياة كما يحياها من أبدعوا حضارة هذا العصر، ولقد شاءت تطورات التاريخ أن يكون هؤلاء المبدعون هم من أبناء أوروبا وأمريكا، فهناك وُلِدَ العصر بعلومه وفنونه ونظمه؛ ولهذا فقد أصبحتْ درجات التحضر لسائر شعوب الأرض إنما تقاس بمقدار قربها أو بعدها من الطراز الغربي القائم. هكذا كان الرأي عندي حتى لقد بلغت فيه حدودًا من التطرف الذي لم يعرف لنفسه حَيْطة وحذرًا، وكان الأمر في ذلك يبدو أمام ذهني وكأنه من البديهيات التي لا حاجة بها إلى مزيد من تأمل وبحث؛ فقد كان يكفيني حينئذٍ أن أرى في الغرب علمًا لا وجود له عندنا إلا نقلاً عنهم ومحاكاة، وأن أرى في الغرب قوة يسيطر بها علينا ويحتل منا مراكز القيادة والسيادة، وأن أرانا في كل مناحي الحياة أتباعًا، هم هناك يبدعون ونحن هنا ننقل عنهم ما يبدعونه، ونحفظ عن ظهر قلب ما يصلون إليه من معرفة، وذلك على أحسن الفروض”.
إنَّه من الضروري إدراك أنَّ وجود الثقافة الخاصة بأي أمة، والاعتزاز بها، يعني وجود هويَّة لها، ووجود هويَّة لها يعني وجود ولاء لها، ووجود كل ذلك يعني وجودها حقيقة مستقلة ، وفقدان الثقافة بكل بساطة يعني فقدانها لوجودها.
ومما زاد هذا العصر خطورة، سرعة انتقال الأفكار، وتلاصق التواصل الفكري، وقوة التأثير الإعلامي في عصر الوسائط الحديثة، بحيث صار تأثير الأفكار أكبر وأعمق، وأصبحت المعركة الحقيقة هي في العالم الافتراضي، حيث القلوب والعقول هي الأهداف المقصودة، والمعلومات بكافة أنواعها وأشكالها هي الوسائل المستخدمة بفعالية.
يقول روبرت رايلي، مدير إذاعة صوت أمريكا، في مقال له بعنوان: “كسب حرب الأفكار“، ما يلي: “الطبيعة الحقيقية للصراع: صراع المشروعيَّة الفكريَّة في قلوب وعقول الناس، وليس القوة العسكرية. إنَّ الحروب تخاض ويتم فيها تحقيق النصر أو الهزيمة في عقول الناس، قبل وقت طويل من بلوغها نهايتها في ميدان قتال بعيد”.
مقال جداً رائع نشكر لك مجهودك.