جوناثان ماليزيك
ترجمة: إسراء المصري
تحرير: عمر عبد الناصر
عندما بدأت الاختصاصية الاجتماعية جانيت موريسون لين العمل لدى مؤسسة دالاس غير الربحية والتي تركز على معالجة الفقر الحضاري، كانت على علم بارتفاع معدلات الاحتراق الوظيفي والدوران الوظيفي في مجالها. وكانت الإحصائية التي سمعتها عن مدة بقاء الأشخاص في وظيفة مثل وظيفتها هي سنتين لكنها عزمت على البقاء مدة طويلة. وتبنت ثقافة المنظمة التي تعمل بها، تلك الثقافة التي بُنيت على علاقات وثيقة بين الموظفين. وكان لها حضور دائم مع نمو وتغير المؤسسة غير الربحية على مدى السنوات الست عشرة التالية.
ولكن بعد ذلك انتهى برنامج تعليم الشباب الذي قادته، وأخذت دورًا مختلفًا، مستهدفة تشرد البالغين. تقول: “لم يكن موطِن قوتّي”.
“لقد كنتُ مُحبطةً، وغاضبة لأننا فقدنا هذا البرنامج.” تراجعَت وجدانيًا عن العمل. ولكن نظرًا لوجودها في المؤسسة مدة طويلة، افترض زملاؤها في العمل أنها تستطيع التعامل مع أي مهمة، بداية من العمل في مخزن الأغذية إلى التقاط الصور. تقول: “كل شيء كان يتراكم، جانيت تستطيع فعل هذا، جانيت تستطيع فعل ذلك، لكن لم يكن هناك تشجيع.” عِلاوَةً على ذلك، قُتل زميل لها في العمل. وكان الإجهاد العاطفي والاحتراق الوظيفي شديدين. تقول: “لقد شعرت بكثير من الاحتراق الوظيفي”.
عندما تحدّثتُ مع موريسون لين في عام 2020 ومرة أخرى عام 2022، سمعت عن إرهاقها وتشاؤمها، وشعورها بعدم فعاليتها في وظيفتها، وهي العناصر الكلاسيكية الثلاثة للإرهاق أو الاحتراق الوظيفي. واعتقَدَت أن بها خطباً ما. تقول: “عندما انتقلت من مرحلة الصبا إلى البلوغ، كان لا يزال ذلك يزيد. كان يجب أن يتغير ذلك، لكنه لم يتغير. ” عَاوَدَت التفكير، “لماذا لا أستطيع القيام بذلك؟” واستقالت، بعد مرور عام.
بينما تقترب جائحة كوفيد-19من عامها الثالث، قد تكون مثل عدد لا يحصى من العمال الآخرين الذين يشعرون بالإجهاد ومستعدون للاحتراق الوظيفي. أو ربما تكون احترقت بالفعل. وإذا قرأتَ المواقع المختصة بالأعمال التجارية والصحة، فسوف تظل في مواجهة نفس النصائح عن كيفية منع العاملين من الوقوع في هذه المشكلة: ممارسة العناية بالنفس، وتحسين جدولة المواعيد، والتأمل، وتعلم قول “لا” للمهام الجديدة.
نشرت (The Muse) قبلُ نصائح بشأن كيفية اتخاذ الأفراد العاملين خطوات لمحاولة التعافي من الاحتراق الوظيفي. وعلى الرغم من رغبة المؤلفين الصادقة في المساعدة، فإن نصائحهم يمكن أن تبعث برسالة خفية مفادها أن الاحتراق الوظيفي مشكلتك، والأمر عائد إليك لحلها. وبالتبع، إذا احترقت، فهذا خطؤك.
“ليس الاحتراق الوظيفي مشكلة الموظفين، بل البيئة الاجتماعية التي يعملون فيها”
– كريستينا ماسلاش ومايكل لي.
ولكن في الحقيقة، ما من عمل فردي يستطيع تجنب الاحتراق الوظيفي؛ هذا لأن أعمالك الفردية ليست هي سبب الاحتراق الوظيفي. وإنما ينشأ الاحتراق الوظيفي من الفجوة بين ما تتوقع أن يكون عليه العمل أو ما يجب أن يبدو عليه وبين ما تفعله فعلا في وظيفتك. وهذا يعني أن المجتمع والثقافة. ويؤدي مكان عملك المحدد أدوارًا أكبر بكثير مما تفعله سواء كنت محترقًا أو لا. وهذا يعني أيضًا أن منع الاحتراق الوظيفي هو مهمة المنظمة كلها، بدءًا من القادة والمديرين الذين يصممون الوظائف ويتحكمون في بيئة العمل.
وكما تعلمت أثناء تأليف كتابي: “نهاية الاحتراق الوظيفي: لماذا يستنزفنا العمل؟ وكيف نبني حياة أفضل؟”، يعترف أفضل بحث عن الاحتراق الوظيفي بدور المنظمات في تعزيزه. كتب كلٌ من كريستينا ماسلاش ومايكل ليتر في كتابهما المؤثر: “الحقيقة حول الاحتراق الوظيفي: كيف تتسبب المنظمات في الإجهاد الشخصي؟ وما الذي يجب فعله حيال ذلك؟”: “ليس الاحتراق الوظيفي مشكلة الموظفين أنفسهم، بل البيئة الاجتماعية التي يعملون بها. فعندما لا يتعرف مكان العمل على الجانب الإنساني من العمل، ولا يلبى احتياجات الناس ورغباتهم المادية وغير المادية، عندئذٍ يزداد خطر حدوث الاحتراق الوظيفي، حاملاً معه كلفة باهظة”.
حدد كل من ماسلاش وليتر ستة مجالات يؤدي فيها “عدم التطابق” بين توقعات العمال وواقع مكان العمل إلى الاحتراق الوظيفي: أعباء العمل، والتحكم، والمكافأة، والمجتمع، والإنصاف، والقيم. وهذا يعني أنك أكثر عرضة للاحتراق عندما تعمل أكثر أو تعمل عملا مختلفا عما كنت تتوقع، وعندما يكون لديك استقلالية أقل، أو عندما لا تحصل على الراتب أو التقدير الذي ترى أنك تستحقه، أو عندما ينهار مجتمع مكان العمل، أو عندما ترى أنك تُعامل بغير العدل، أو عندما تنحرف قيم الشركة عن قيمك أنت.
يتحكم أصحاب العمل في معظم تلك المجالات؛ فهم يحددون الواجبات والجداول الزمنية، ويضعون الرواتب والاستحقاقات ومعايير الترقيات. ويستطيع المديرون تعزيز الشعور بالانتماء إلى الوسط الوظيفي، وإنصاف الموظفين، وكذلك يستطيعون إزالة ذاك. ويوضح القادة – بالقول والفعل – قيم العمل في عصر أصيب فيه العمال الأمريكيون بخيبة أمل شديدة في تعامل أصحاب العمل معهم أثناء الوباء: بداية من دعم الآباء العاملين إلى تفويضات العودة إلى المكتب، وتلوح في الأفق أوجه عدم التطابق.
صحيح أن توقعات العمال غير الواقعية لأنفسهم وكذلك لوظائفهم ومهنهم قد تؤدي دورًا في الاحتراق الوظيفي. ولكن في كثير من الأحيان، تتشكل هذه التوقعات من خلال المعايير التنظيمية والصناعية. إذا كان المسؤولون التنفيذيون في الشركة يتفاخرون بأسابيع العمل التي تبلغ 80 ساعة، أو إذا أرسل المديرون بريدًا إلكترونيًا إلى موظفيهم في الساعة 11 مساءً يوم الجمعة، فإنهم يرسلون رسالة مفادها أن الموظف المثالي يجب أن يكون مستعد دائماً.
كذلك تساهم التوقعات الثقافية على المستوى الوطني في تحقيق القيم العليا التي يجلبها العمال إلى وظائفهم. وفي الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى، يُعد ” العمل الكادُّ ” ذا قيمة ثقافية رئيسة. يعمل الناس بكد لتجنب الخزي الذي يأتي من الوسم بـ “كسول”. ولكن بسبب طريقة السعي إلى المَكَانَة هذه، قد يؤول أمر العمال إلى الإفراط في العمل، بل قد يجعلهم يستمرون في وظائف لا تناسبهم. وقد لا ينهي تغيير الوظائف احتراق الشخص إذا كانت قيم وظروف مكان العمل الجديد مثل تلك التي كانت في العمل السابق.
كان أحد المساهمين الرئيسين في إرهاق موريسون لين هو التغيير الثقافي الذي حدث في عالم المنظمات غير الربحية طوال مسيرتها المهنية. حين بدأت عملها عام 1990، كانت وكالات التمويل – بما في ذلك المؤسسات والحكومات – تثق في المنظمات غير الربحية للقيام بالعمل الذي وعدوا به. غير أن الوكالات بعد ذلك بدأت تطالب بمزيد رقابة. تقول موريسون لين: “لا بد أن يكون الأمر متعلقًا بالمقاييس”، والتي أضافت عددًا كبيرًا من المهام الجديدة التي يتعين إكمالها والتي تتناسب مع التوقعات.
على سبيل المثال، بينما كانت تدير برنامج التعليم، شعرت بضغط خارجي لتنمية البرنامج بدلاً من التعامل مع الأطفال الذين يخدمهم. تقول: “لم أتمكن من معرفة كيفية توسيع نطاقه، وأردت التركيز على الشباب والقيام بأشياء معهم، لا أن أركز على كيفية إنشاء صفحة من ورقة واحدة كما يرغب المموّلون”. “أعتقد أن هذا أثر عليّ كثيرًا؛ تَطلب تجاوز الاحتراق الوظيفي تغييرًا خارجيًا كبيرًا في وظيفتي. وكان لا بُدَّ أن أستقيل”.
يتردد صدى قصة موريسون لين بشدة معي جزئيًا لأنني مررت بشيء مشابه. بدأتُ مسيرتي المهنية أستاذًا جامعيا مُفعَما بالمبادئ العليا والطاقة. وكنت سأعيش حياة العقل. كنت أرتدي سترة توِيديّة في كل مكان. وطوال ثمانِ سنوات، ازدهرت وأُثنيَ على تدريسي، ونشرت مقالات وكتابًا، ونِلت منحًا ومناصب.
بعد ذلك توليت المزيد من المسؤوليات: على سبيل المثال، قيادة لجنة المناهج الدراسية، وترأس مركز التدريس. لقد فعلت ذلك جزئيًا لأن الناس طلبوا مني ذلك، فعلته جزئيًا لأنني اعتقدت – خطأً – أنني الوحيد القادر على القيام بهذا العمل المهم. وفي الوقت ذاته، أصابت الكلية أزمة في الميزانية والاعتماد الأكاديمي. وقع تسريحٌ للعمال، وتخفيضات في الفوائد، وتجميدٌ للرواتب. وما كان إلا أن ازداد العمل الذي يتعين على كلٍّ القيامُ به، وازداد النزاع على الموارد الشحيحة. وتبنى التعليم العالي التقييمَ والمقاييسَ، مثل القطاع غير الربحي. لذلك لم يكن عليّ أن أدَرس جيدًا فقط؛ بل كان عليّ أيضًا توثيق ما فعلته بالضبط لتحسين تعلم الطلاب من فصل دراسي إلى آخر.
ظللت عامين أتساءل ما الخطب معي؟ اعتقدت أن الأستاذ المثالي يجب أن يكون قادرًا على القيام بكل شيء، ولكنني لم أستطع. وتزايدت مشاعر الإحباط وفقدت الثقة في قدرتي على التدريس. أستلقي في الفراش ساعات في الصباح وأتجنب المكتب ما استطعت. أود أن أوجز خطة درسي في ورقة ملاحظة لاصقة، فإذا انتهت الحصة، أُلقي الملاحظة بعيدًا.
بالنسبة لي – كما كانت حال موريسون لين – تَطلب تجاوز الاحتراق الوظيفي تغييرًا خارجيًا كبيرًا في وظيفتي. كان عليّ أن أستقيل. بالنظر إلى الماضي الآن، فأنا أعلم أنني استوعبت قيمًا عليا من الثقافة الأكاديمية والتي لم يكن تحقيقها ممكنًا، وعملت في مؤسسة كانت تحت ضغط كبير. كنت أتمنى أن يمنعني أحدهم من العمل كل هذا. كنت أتمنى لو شعرت بمكافأة وتقدير أكبر. أتمنى لو كنت قادرًا على التركيز على نوع العمل الذي أحببته حقًا.
لمنع الاحتراق وعلاجه، نحتاج إلى التركيز على موضع أسبابه الحقيقية: لا على قلب أو عقل العامل الذي يعاني، بل على الظروف التي تجعلهم يعانون. ويجب على القادة والمديرين أن يفكروا في طريقة وضع سياساتهم – بدءًا من إيصال التوقعات إلى اعترافهم بالعمل الجيد – التي قد تخلق حالات عدم التطابق التي يحددها ماسلاش وليتر. إذا كنت في مثل هذا الدور، فكيف تستطيع تشجيع الموظفين على القيم غير المنطقية: التفاني والوفاء من خلال العمل؟ وكيف ستفشل الظروف التي يعملون فيها؟
بصفتك موظفاً فردًا، لا تستطيع إصلاح احتراقك الوظيفي أو تغيير الأعراف في مجتمعنا ولا في مؤسستك وحدك. ولكنك تستطيع أن تفكر في طريقة فعل ذلك بالتعاون مع زملائك في العمل والمشرفين والعملاء، قد تعيد تشكيل وظيفتك حتى تتماشى تماشيا أفضل مع قيمك العليا، قد يقتضي ذلك جداول أو مسؤوليات مختلفة، وقد يقتضي الانتقال من قسم أصبح فيه المجتمع سامًا، وبالطبع قد يقتضي ذلك أيضًا خفض مُثُلك في العمل، وقد تحتاج أن ترى عملك وسيلة لدعم مجالات الحياة الأخرى التي تجعلك ما أنت عليه، أكثر منه فرصة لفعل ما تحب.
أماكن العمل هي أكبر المساهمين في الاحتراق الوظيفي، غير أن الناس أعلى وأسفل المخطط التنظيمي هم مكان العمل. لا يسَعُ العمال والمديرين والقادة الانتظار حتى ينتهي الوباء للتعامل مع الاحتراق الوظيفي في مؤسساتهم، يجب أن نبدأ الآن. ونستطيع أن نجعل العمل أفضل للجميع من خلال المحادثة الصادقة والعمل الجماعي.