الفلسفة

مقدمة في العلاقات الدولية فيما بعد الاستعمار

شيلا ناير

ترجمة: عمر الجغثمي

تحرير: أمجاد عبدالرحمن

يُعْرف مصطلح ما بعد الاستعمار بأنه: تقصي كيفية انسجام الحكومات، والشعوب، والمجتمعات التي استُعْمِرَت -سابقًا- مع العلاقات الدولية. ولا يدَّعي الباحثون في دراسات ما بعد الاستعمار على أن استخدامهم لـ”ما بعد” يدل على زوال آثار الحكم الاستعماري، إذ إنها تركز على التأثيرات الناتجة في الطريقة التي شُكِّلَتْ بها الممالك والمستعمرات السابقة المنظور الاستعماري للعالم، وكيف هَمَّش الطرف الغربي من العالم نظيره الشرقي. وعلى الرغم من اهتمام ما بعد الاستعمار بالطريقة التي يسير بها العالم في الوقت الحالي، إلا أنه يناقش المشاكل المتعلقة بمستقبل العالم، والتفاوت في القوة العالمية، والزيادات المهولة في الثروات، ويبحث -كذلك- في الأسباب التي تجعل بعض الدول والأفراد يتمتعون بقوة أكبر من غيرهم، ويسأل -أيضًا- أسئلة مختلفة لنظريات متنوعة عن العلاقات الدولية، مما يسمح -ليس للقراءات التاريخية البديلة فقط، بل لوجهات النظر البديلة- بالنقاش في الأحداث والقضايا المعاصرة.

المنطلقات الأساسية لدراسات ما بعد الاستعمار:

جذب مبحثُ ما بعد الاستعمار الاهتمامَ إلى إهمال نظريات العلاقات الدولية للتباين الحَرِج في السلطة، والعرق، والجنس، والطبقية (إلى جانب عوامل أخرى) في أعمال القوة العالمية التي أعادت صياغة هرمية العلاقات الدولية، حيث إن هذه الهرمية تتمحور حول مركز القوة عِوَضًا عن السعي في التوزيع العادل للقوة بين الأفراد والدول، وجاء مفهوم ما بعد الاستعمار؛ نتيجةً للأساليب الغربية ومنظورهم لغيرهم من الشعوب، حيث انبثق هذا من الإرث الأوروبي للاستعمار والإمبريالية. وصَنَّفَتِ الخطاباتُ -أشياء مكتوبة أو منطوقة- الشعوبَ غير الغربية على أنها أقل منزلة أو مختلفة مقارنة بالشعوب الغربية، وهي وسيلة لإظهارها كشعوب متخلفة لا طائل منها، وللقيام بذلك ساعدت هذه الخطابات القوى الأوربية لفرض سيطرتها على الشعوب الأخرى بذريعة جلب الحضارة والتطور.

ولفهم هذا المبحث بوضوح بإمكاننا أن نأخذ بعين الاعتبار الخطابات التي أدت لترسيخ هذه القوى كسيادة طبيعية أو حتمية، كما أن ما بعد الاستعمار يناقش كيفية تشكيل الخطابات للسلطة وارتباطها بالعلاقات الدولية، إذ تسمح هذه النظرية المتعلقة بالخطابات للباحثين باستخدام هذا النمط المرجعي للتفكير حول العالم ومشاكله التي لا تُصنَّف كمشاكل يمكن التحقق منها بشكل عملي، وعمل استبانة تقوم على الحقائق لنظريات العلاقات الدولية التقليدية مثل الواقعية والليبرالية.

حيث يقترح مبحث ما بعد الاستعمار في مشكلة عدم المساواة في العالم -على سبيل المثال-، بأن علينا اكتشاف السبب حول شيوع الطبقية الاجتماعية العالمية وظهورها بصورة مألوفة، وهذا يوصلنا لكيفية ظهور الفقر العالمي وخصائصه وتصوير الدول والمجتمعات غير الغربية بصور نمطية كالقول بأنها بدائية وذكورية وطفولية. فباختصار، الجدل الحاصل من طرف باحثي ما بعد الاستعمار هو أنه يجب أن تُوضَع حلولٌ لمعالجة الفقر وعدم المساواة في العالم، والتي تأتي ضد توجهات السياسيين الغربيين الذين من الصعب أن يتخلوا عن تحيزهم، ويعالجوا عوامل الهيكلة العالمية الأساسية غِرَار رؤوس الأموال والأصول المتكدسة والفائضة في العالم والمسبِّبَة لعدم المساواة، ولهذا السبب تحديدًا؛ تُرَكِّز الحلول -غالبًا- على التدخل لدعم دول تبدو أقل تطورًا عوضًا عن معالجة الأسباب الرئيسية لعدم المساواة في العالم!.

ويقترح مبحث ما بعد الاستعمار منظورًا أكثر تعقيدًا لتحليل المفاهيم الرئيسية كالدولة والسلطة والحالة الأمنية ليُعَاد تقييم الوضع الراهن متمثلًا بالنظريات التقليدية، فعلى السبيل المثال: يُظهِر مفهوم السيادة كيف أن القوى الأوروبية فرضت هذا المفهوم ليشكل ملامح الدول الحديثة، وحتى الآن لازال يتخذُ الباحثون في فَلسَفَتَيْ الواقعية والليبرالية هذا المفهوم كأمر مسلم به، إذ يتحدى ما بعد الاستعمار -أيضًا- النظرية الماركسية القائلة بأن الصراع الطبقي هو أصل التغيرات التاريخية، عِوَضًا عن كون العِرْق هو الذي شكل التاريخ!. وتُرِكِّز التحليلات على الفشل الطبقي من أجل النظر في كيفية تعريف مصطلح “العالم الثالث” (مصطلح أنشئ إبَّان الحرب الباردة؛ لوصف الدول التي لم تنحز لأي من الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي كدول رجعية وبدائية وغير عقلانية وتهميش اقتصادها باستمرار، وكذلك عندما كان التيار السائد لنظريات العلاقات الدولية والتي كانت ترى النظام العالمي كنظام فوضوي). وعلى الجانب الآخر، رأى باحثوا ما بعد الاستعمار أنه كان نظام هرميًا، حيث كان لدى الاستعمار-برعاية الهيمنة الغربية- سيطرةً ساحقةً على بقية دول العالم، ولا تزال هذه السيطرة فارضةً تَحَكُّمِها الثقافي والاقتصادي والسياسي، حيث إنها ترسم نهج السياسة العالمية.

ويوضح هذا المبحث -أيضًا- النظرة الغربية للإسلام والمسلمين، ونظرتهم لهم على أنهم مصدر للإرهاب، إذ أن الثورة الإسلامية – ممثلة بالثورة الإسلامية الإيرانية سنة 1979م – أظهرت جوهر الثقافة والتحولات الاجتماعية، وليس فقط طرد المستعمرين الجدد، حيث صحبها اقتصاد عالمي أكثر ترابطًا. وفي الجانب الآخر-في الغرب تحديدًا- لخَّصَ صُنَّاع القرار وأكاديميون بارزون وجهات النظر حول هذه الثورة واصفِيها بأنها “صراع حضارات”، بل وأسوأ من ذلك، حيث وُصِفَت بأنها تهديد مباشر للحضارة الغربية. وكشف إدوارد سعيد عام 1997م كيف أن ازدهار إعلام الغرب وأفلامه وأطروحاته الأكاديمية وحتى سياساته اعتمدت على تشويه التاريخ والثقافة العربية، وتشويه سمعة المسلمين -على حد سواء-، وأُطلق على هذا: “الاستشراق”؛ لأن هذا ينشئ فكرة محددة حول ما يُسَمى بـ(الشرق)، وهو مختلف تمامًا عن الغرب في طريقة ازدواجية تفكيرهم، وخصال سكانه التي هي عكس الغرب تمامًا، فغالبًا ما يُصَنَّف سكَّانُ الشرق -على سبيل المثال- بأنهم: غامضون، وعاطفيون، وأنثويون، ورجعيون وشهوانيون، وحمقى… وما إلى ذلك من صفات أخرى، على عكس الغرب، حيث يوجد هناك انحياز إلى صفات أكثر إيجابية بشأنهم كالعقلانية، والرجولة، والتحضر، والتمدن!. إذ أكد كثير من الباحثين فيما بعد الاستعمار على أن الخطابات المستشرقة لاتزال ظاهرة داخل الساحة الغربية حتى يومنا هذا، ويهتم الباحثون في مجال ما بعد الاستعمار بالمفاهيم والإدراك؛ لأنها تفرض ما يمكن اعتباره طبيعيًا أو منطقيًا.

وَيدين مبحث ما بعد الاستعمار بفضل كبير لإدوارد سعيد لتطويره مفهوم الاستشراق. وقد استلهم إدوارد من عديد من الكتاب حول معاداة للاستعمار والمفكرين القوميين مثل: فرانز فانون (1967م)، وألبرت مِمي (1991م) الذين تُنَاقِش أعمالهم قوة “الآخرين”، إذ وَضَّح فانون كيف شكَّل العِرْق -على سبيل المثال- ماهية العلاقة التي تربط ما بين المُسْتعمِر والمُستعمَر-والعكس صحيح- عن طريق تسليط الضوء على كيفية تصرف بعض الشعوب تحت الحكم الاستعماري، وكيف يستوعبون أفكار الاختلافات العِرْقية التي ترى الآخرين أقل شأنًا من الأوروبيين البيض. ويشرح فانون أن الرجل الأسود غُرِسَت فيه فكرةٌ أنه أدنى من المستعمِر الأبيض من خلال جوانب نفسية أثناء الاستعمار، مثل: فرض لغة، وثقافة، وديانة المستعمِر، أو حتى نظامه التعليمي، إذ جاءت اعتقادات المستعمَر على أنه أدنى من غيره من مثل هذه الأفعال، حيث إن هذه الاعتقادات سَهَّلت للمُستعمر أن يبرر ويحمي حكمه. ويركز -كذلك- مبحث ما بعد الاستعمار على الاستمرار في الثنائيات العِرْقية -كيفية تصنيف الأعراق كمختلفة أو معارضة أو “أخرى”- حتى بعد هلاك الحكم الاستعماري، كما أنه لا يركز على الأشكال العنصرية التاريخية فقط، بل على النقاشات المعاصرة، مثل: الأمن الوطني، والسياسات النووية، والقومية، والثقافة، والهجرة، والمساعدات الدولية. ويسلط الضوء على الكفاح من أجل حقوق السكان الأصليين.

ويمكن إيجاد مثال على العنصرية تجاه الآخرين في الخطابات حول عدم الانتشار النووي، حيث يوجد قادة ودول في الجنوب العالمي صُنِّفوا في الخطابات على أنهم ليسوا ذا موثوقية مع الأسلحة النووية، إذ تُصَنِّف هذه الخطابات المهيمنة تلك الدول على أنها خطيرة وغير متوقعة أو غير مسؤولة، وأنها تنتهك القواعد الأساسية للحقوق الإنسانية. إذ عليك فقط أن تلقي نظرة على كوريا الشمالية وإيران، وكيف أن هاتين الدولتين صُوِّرتا على أنهما فاسدتان في خطاب السياسة الخارجية للولايات المتحدة لمجرد أنهما سعتا للانتشار النووي. لكن، يمكن أن يُشاهد التجاهل الغربي لحقوق الانسان في مناجم تعدين اليورانيوم، والتي تكون -غالبًا- في الأراضي المأهولة بسكانها الأصليين حول العالم -بما في ذلك الولايات المتحدة- والتي سببت التدهور البيئي والأمراض والموت. والأهم من ذلك- غالبًا- ما يُغَض الطرف عن أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية (بغض النظر عن الاختبارات) عندما ألقت قنبلتين ذريتين على مدينَتَيْ: ناغاساكي وهيروشيما اليابانية سنة 1945م، حيث نتجت خسائر للأرواح أقل ما يقال عنها وخيمة ومُرَوِّعة!.

ومن ثَمّ، فإن الخطاب القائل بأن بعض الدول لا يمكنها امتلاك أسلحة نووية لأنهم أقل تطورًا أو أقل نضجًا في نهجهم تجاه الحياة البشرية، أو أنهم أقل عقلانية بينما دول أخرى بإمكانها أن تمتلك أسلحة نووية لأنهم أكثر موثوقية، فإن هذا يعد خطابًا عنصريًّا بالنسبة لباحثي ما بعد الاستعمار مثل شامبا بيسواس (2014م). وفي نقاشات مثل هذه، فإن مبحث ما بعد الاستعمار لا يسأل عن الجهات الموثوقة مع مثل هذه الأسلحة، بل بالأحرى مَن الذي يُحَدِّد مَن يمكن الوثوق به، ولماذا؟ إذ إن مجرد النظر إلى المنافسة في السباق النووي للدول لن يخبرنا ما يكفي عن القوى المُسَيِّرة للعلاقات الدولية، وكيف -على سبيل المثال- أن سباق التسلح النووي مدعوم بسلطة بعض الدول في استعمار دول أخرى حتى لا يكون باستطاعتهم أن يمتلكوا أسلحة نووية.

ما بعد الاستعمار وتهميش النساء غير البيض:

كما هو الحال مع نظريات العلاقات الدولية، هناك نقاشات داخلية بين باحثي ما بعد الاستعمار، إذ يوجد في هذه القضية تداخل كبير مع النسوية -خصوصًا- الموجه الثالثة لها؛ حيث أصبحت ذائعة الصيت في تسعينيات القرن الماضي. وتشرح بيل هوكس (2000م) أن ما يُسَمَّى بالموجة الثانية للنسوية ما بين منتصف وأواخر القرن العشرين مُثِّلت من نساءٍ ذوات سلطة، ولم تُلقِ بالًا للنساء الأمريكيات من أصل أفريقي كما هو الحال معها، واللواتي بَقِين في هوامش المجتمع والسياسات، والاقتصاد، حيث دعت إلى نشاطات وسياسات نسوية بديلة وناقدة ومميزة.

-فعلى سبيل المثال- هل تتعرض امرأة فقيرة من جنوب شيكاغو للتمييز الجنسي مثلما تتعرض له امرأة أخرى من الأحياء الغنية؟ بل إن النساء اللواتي ينْتَمِين لنفس العِرْق ربما يختبرن التمييز الجنسي بطرق شتى على حسب طبقتهم الاجتماعية، وهذا ينطبق -أيضًا- على النساء ذوات الأعراق المختلفة، واللواتي يَنْتَمِين إلى نفس الطبقة الاجتماعية. حيث يختبر النساء الملونات والبيض في الولايات المتحدة “البطريركية” (نظام مجتمعي يتصف بهيمنة الذكور البيض على الجنس الآخر) بطرق عدة حتى ولو كُنَّ يَنْتَمِين إلى نفس الطبقة الاجتماعية، إذ وَضَّحت “بيونسيه” في أغنيتها “Lemonade” كيفية عمله، والذي لا يُوضِّح فقط الطريقة التي رُوِّجت بها البطريركية للتحيز الجنسي، بل يكشف كيف أن العِرْق، والنوع، والطبقية، والجنس متجذرة بشدة في تاريخ المرأة السوداء.

حيث إن الامتيازات الطبقية للنساء السود قد لا تُنقص من حقيقة أنهن تعرضن للعنصرية، ولهذا السبب (بالإضافة إلى أسباب أخرى)، يدَّعين باحثات ما بعد الاستعمار النسويات (انظر لشودري غيتا، وشيلا ناير (2002م) لزيادة التركيز على التباين ما بين العِرْق، والجنسية، والطبقة، والنوع، حيث إنهم من خلال هذه الدعوة يشيرون للجوانب المختلفة مِن هوية الشخص كالعِرق، والنوع، والطبقية، والجنس… وهلم جرًّا، إذ تتقاطع لخلق نماذج اضطهادية مختلفة ومتعددة بحيث لا يمكن تمييز جانب على الآخر في فهم الاضطهاد. وعِوَضًا عن هذا، يجب فهم الهويات المختلفة على أنها متباينة في توليد تجربة الاضطهاد، إذ أن فكرة “التباينية” هي محور أساسي في الموجة الثالثة للنهج النسوي.

تتشارك الباحثات النسويات الرغبة في الذهاب لأبعد من تحليل تأثيرات البطريركية وعدم المساواة بين الجنسين والاستغلال الجنسي، إذ سَلَّطْنَ الضوء ليس فقط على محاربة النظام الأبوي (يعرف بصورة عامة على أنه تحكم الرجال بالنساء)، بل وعلى الطبقية والعنصرية التي تُميز المرأة البيضاء على المرأة الملونة، ويُشَكِّكْن في فكرة التضامن العالمي لحركات النساء، ويُجَادِلْنَ بأن النضال ضد النظام الأبوي يتحتم عليه أن يكون مثل النضال ضد عدم المساواة الاجتماعية، حيث يجب أن يكون ضمن الامتياز العِرْقي، والعنصري، والجنسي. ولطالما صَوَّر المجتمع النسوي الغربي الحجاب -على سبيل المثال- أنه اضطهاد للمرأة، وبالرغم من هذا كان هناك الكثير من النساء الجزائريات اللواتي لَبِسن الحجاب وهُنَّ واقفات بجانب الرجال معارضات للقوانين الفرنسية، فبالنسبة لهن يُعَد الحجاب رمزًا لمعارضة النظام الأبوي الاستعماري الأبيض. وَقَفْن النساء في كثير من أجزاء العالم المُستَعْمَر، جنبًا إلى جنب مع الرجل لطرد الحكم الاستعماري من خلال الحركات الوطنية، إذ أظهرن أن النساء في مختلف السياقات الثقافية، والاجتماعية، والسياسية يتعرضن للاضطهاد بطرق شتى. ولفهم القوة التي تتطلب إعطاء اهتمام بالغ للتباينات، وكيف انخرطت في القضايا المطروحة، تلتزم الباحثات النسويات فيما بعد الاستعمار على النهج التبايني في كشف الآثار العميقة للسبب والكيفية التي غُرست بها جذور العنف المنهجي الواضح في الحرب، والصراع، والإرهاب، والفقر، وعدم المساواة الاجتماعية… وما شابه ذلك.

ويَجْزِمْنَ بأن المرأة الملونة تتعرض للاضطهاد من ثلاث نواحي، وهي: العرق، والمكانة الاجتماعية، والنوع، ويمكن أن تُؤخَذْ شروطُ التوظيف للنساء الكثيرات اللواتي يعملن في المصانع في الجنوب العالمي مثالًا على ذلك، فهن يصنعن المنسوجات، وأشباه الموصلات، والسلع الرياضية، والاستهلاكية لتصديرها للغرب. حيث في تايلاند نشب حريق سنة 1993م داخل مصنع “قادر” للألعاب حيث مات نحو 220 عاملة في المصنع، وبلغت أعداد الإصابات الحرجة 500 إصابة، وأثناء ذلك كانت أبواب المصنع مقفلة!. وأظهرت هذه المأساة -حينئذ- الاستغلال والحالة المأساوية التي تعيشها هؤلاء العاملات اللواتي تعاقد معهن مقاولون محليون من شركات أمريكية لصنع ألعاب حيوانات محشوة من أجل بيعها في الأسواق الغربية، وعلى الرغم من التجاوزات التي استمرت لعقود، لم يكن هناك اهتمام كبير من الإعلام الغربي لحالات هذه المصانع أو حتى لمأساة الحريق. حيث كتب هيربرت( 1994م) عن التجاهل لحياة هؤلاء النساء، فقال: يعلم المسؤولون جيدًا أنهم يجنون أرباحهم من كدح اليافعات وعرق جبينهن في أقصى الشرق؛ هم يستطيعون أن يتعايشوا مع هذا وبطريقة جيدة في الحقيقة، ولكن لا يريدون الحديث عن النساء والفتيات اللواتي مِتْنَ وَهُنَّ عالقات في المصانع كبضاعة بسعر زهيد، حيث تنقل جثثهن على عربات النقل مثل مخلفات صناعية!.

وفي مأساة أخرى، انهار مركز الرانا التجاري لصنع الملابس في داكا بنجلادش، حيث قُتِل نحو 1135 خياط للملابس أغلبهم من النساء، وسَلَّطَت هذه المأساة الضوءَ على خياطي الملابس في أنحاء العالم، حيث تجني أشهر العلامات التجارية لصنع الملابس الغربية أرباحها من الأجور المنخفضة والاستغلال وظروف العمل الشاقة التي تكون في دول ذات قوانين متساهلة ومباني متهالكة وانعدام معايير العمل، فالشركات هناك لا تعطي أي اهتمام لحالة العمال أو أنظمة السلامة. ويجادل باحثو ما بعد الاستعمار أن حالات الاستغلال الكثيرة وتجاهل سلامة العمال تُظهِر ذوي البشرة الملونة أقل قيمة من ذوي البشرة البيضاء.

وعلى الرغم من التستر الكبير لهذه الحالات من الإعلام الغربي والعلامات التجارية التي تُنتج ملابسها في مركز الرانا، وكونها فترة دعاية سيئة لهم، كان هناك جهد متواصل لتصحيح الخطأ في عمليات الشركات متعددة الجنسيات. حيث إن البحث عن أعلى هامش ربح أجبر الدول النامية على “السباق نحو القاع” من أجل أن يكون لديهم أرخص يد عاملة وتكاليف إنتاجية قليلة لجذب الاستثمارات من الشركات متعددة الجنسيات.

مما نتج عن ذلك: أجور منخفضة، واستغلال، وأنظمة سلامة شبه معدومة. ويشرح ما بعد الاستعمار الفشل في تغيير هذه الظروف من خلال الكشف عن كيفية تكاتف العِرْق والطبقة والجنس لإخفاء محنة هؤلاء العمال، فيعني هذا أن مسؤولي المصانع -كمُلَّاك مركز الرانا التجاري مثلًا- لا يُحاسَبون حتى تقع الكارثة، بل حتى إذا عُوقِبُوا فإن العقاب لا يشمل الشركات الغربية في أعلى الهرم التي أعطت الصلاحية لاستغلال هؤلاء العمال وقتلهم في بعض الأحيان إذا جاز التعبير. ويكاد يكون مستحيلًا تخيل أن تحدث مأساة مشابهه في الدول الغربية وألا يكون هناك قرارات رادعة للمسؤولين المسببين لها، أو عمليات تفتيش دورية لهذه الحالات الخلاصة.

يستجوب مبحث ما بعد الاستعمار الدول الكبرى المهيمنة على النظام العالمي ومصلحتهم من هذا الاستعمار وطريقة نظرتهم للعالم، ويتحدى المفاهيم التي ترسخت عن طريق تصرف الدول، وماهي المحفزات لهذه التصرفات.؟ ويجبرنا على طرح أسئلة صعبة حول الكيفية والسبب التي نتج عنها نظام دولي هرمي،  كما أنه يتحدى الافتراضات الأساسية للعلاقات الدولية السائدة حول مفاهيم مثل السلطة وكيفية عملها، كما يجبرنا بأن نأخذ في الحسبان الظلم والاضطهاد الحاصل يوميًّا، والذي يمكن أن يُظهِر نفسه بأقسى العبارات خلال لحظة معينة من الأزمة، سواءً كان له علاقة بتهديد السلاح النووي، أم موت العاملين في المصانع لإخراج البضائع إلى الأسواق الغربية، فيطلب منا هذا المبحث تحليل هذه المشاكل من منظور الضعفاء. وفي حين أن ما بعد الاستعمار يتشارك بعض الأسس مع نظريات نقدية أخرى في هذا المجال، إلا أنه يقدم نهجًا مميزًا، فيجمع اهتمامًا عميقًا ما بين تاريخ الاستعمار والامبريالية، وكيف أنها نُقلت إلى وقتنا الحاضر، وكيفية فهمنا للعلاقات الدولية، وكيف أن عدم المساواة والاضطهاد تَرَسَّخَا في العِرْق، والطبقة، والعلاقات ما بين الجنسين على مستوى عالمي. إذ أعطانا ما بعد الاستعمار عدسة مفاهيمية بديلة ومهمة تزودنا بمجموعات مختلفة من الأدوات النظرية لفك تعقيد هذا العالم من خلال ابداء اهتمام شديد لسؤال كيف لعبت هذه الجوانب دورًا في سياقات محددة!.

المصدر
e-ir.info

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى