- تأليف : د. عايض الدوسري
- تحرير : لطيفة الخريف
ما أخطر معلومة على الإطلاق؟
إنها بلا شك المعلومة الأولى، وسبب خطورة الفكرة الأولى أنها تأتي للعقل وهو خالٍ منها، فتكون هي القاعدة التي ينطلق منها، ويحاكم بها المعلومات اللاحقة. وأخطر ما يفسد عقل الإنسان هو تتابع المعلومات الأولى عليه، حتى تُكون منظومة محكمة، يصعب زحزحتها من عقله. ولذلك فالعاقل يفحص أول معلومة تأتيه ويختبرها؛ ليتأكد من صحتها وأصالتها. وأسهل الناس خداعا هم الذين يستسلمون لأول معلومة ولا يقومون بفحصها، فتتحول الأوهام إلى حقائق.
وإن أعظم دور للمربي هو تعويد الأبناء والطلاب على عادة فحص الأفكار الأولى، وعدم تلقيها بالقبول والتسليم.
إن خطورة المعلومة الأولى تنبع من كون الإنسان بطبعه مخلوقًا تصديقيَّا وليس إنكاريَّا، أي يميل بطبعه غالبًا لتصديق المعلومة الأولى وليس إنكارها. والشبهات بأنواعها المختلفة، التي تستحوذ على العقول، هي من هذا الصنف، إذ إنها في أصلها ضعيفة متهالكة إذا وردت عقل العالم، فقوة الشبهات (المعلومة الأولى) بالدرجة الأولى تعتمد على ضعف المتلقي، الذي يعجز عن فحصها ومعرفة بطلانها، لأنها -عنده- أول معلومة. لذا فهي غير قابلة للمقارنة بأي شيء سابق تعرفه.
وإذا كانت المعلومة غير قابلة للمقارنة بأي شيء سابق تعرفه، فلا يمكنك حينئذ أن تقيس عليه أو تستند إلى شيءٍ تعرفه عنها للحكم عليها. وإذا تبين لك ذلك بشكل واضح، فهناك عدة نقاط منهجية يحسن الوقوف عليها أولاً قبل الحديث عن الآليات التي من خلالها يمكن مواجهة المعلومة الأولى.
القراءة في أي مجالٍ تحتاج إلى قواعد قبلية؛ والسبب أن العقل عادة يعتمد على المعلومة الأولى كحقيقة بالنسبة له، فإذا كانت المعلومة الأولى خاطئة فإنها تصبح جزءًا من تصوراته عن الأشياء.
يعتمد البناء الفكري للعقل على البناء التصوري التراكمي الذي يبني التصورات ثم القناعات. لكن مع ذلك، يُمكن للأطر المنهجية التي سوف يستخدمها العقل من خلال التدريب والتعلُّم أن تحمي العقل من سطوة وهيمنة الفكرة أو المعلومة الأولى. أي إذا كنتُ تفتقد أي معلومة عن المعلومة الأولى، لا يعني بالضرورة هيمنتها عليك، إذا كنت تمتلك إطارا عقليا منضبطا قادرا على معالجتها منهجيا.
والطريقة الصحيحة والمنهجية العلمية للبناء التصوري، يُمكن تلمسها من خلال ما يلي:
وجود قاعدة معرفية وعلمية قوية سابقة (مرجعية علمية) يستطيع من خلالها تمييز الصواب من الخطأ بشكلٍ عامٍ، بحيث يتكون لديه حدس مميز للأفكار. ويكون ذلك من خلال اكتسابه أسس المعرفة الصحيحة بحسب التخصص. وهي في باب الشبهات: المعرفة الشرعية الصحيحة وفق قواعد أهل السنة والجماعة.
وإذا لم يتوفر له هذا في مجال معين، فعليه أن يلجأ لأهل الاختصاص لمعرفة الصواب والخطأ من الأفكار والمعلومات. فالمرجعية هنا هو المختص.
هذا هو المنهج العلمي في كل التخصصات، إذ إن المنهجية تحتم الرجوع للعلم الصحيح، إما من خلال البداية بالبناء المعرفي التدريجي أو بالرجوع لأهل التخصص.
صاحب المعلومة هو صاحب القوة والمهين على الساحة، وصاحب القوة في كافة المجالات هو الذي يمتلك تلك المعلومات، أما غيره فرأس ماله هو مجرد التوقع والتخمين والظن.
إنَّ أهم دور للمثقف هو تقديم المعلومة الأولى الصحيحة، من خلال تثقيف المجتمع، وعند توفير المعلومة الصحيحة تضمحل وتتقلص المعلومة الخاطئة. ولذلك أصحاب العقول النيرة والكبيرة يعلمون أن مهمتهم الأولى والأساس هي الانشغال بالتأسيس بالتثقيف الصحيح. فالقاعدة هي: إن الفكرة الصحيحة السابقة تطرد الخاطئة التالية. ووجود البناء الصحيح القوي السابق هو بحد ذاته هادم للفكر الوافد الخاطئ.
ومن المهم أن يفرق الإنسان الواعي والمثقف بين نوعين منفصلين من أنواع المعرفة السائدة في ساحات الأفكار، وهما: الأول المعلومة والثاني الرأي؛ فالمعلومة قيمتها أساسًا في صحتها وصدقها وموثوقتها، أما الرأي فقيمته من قيمة قائله، وما يمثله بوصفه متخصصًا في باب من أبواب المعارف المختلفة. فهناك انفكاك وعدم تلازم بين المعلومة والرأي، فقد تكون المعلومة قوية والرأي هزيل، وقد تكون المعلومة مشكوكًا فيها والرأي قويًّا ومتماسكًا. وتكون العلاقة مهمة ومتلازمة بين المعلومة والرأي إذا بني الرأي الصحيح على المعلومة الصحيحة والموثوقة، وذلك هو الذي ينتج العلم والمعرفة.
وهنا نطرح تساؤلا فنقول: كيف أستطيع أن أفحص الفكرة أو المعلومة الأولى ذات الطابع الديني، التي تأتيني لأول مرة، وليس لدي في السابق حكم عليها؟ حسنا: يمكن ذلك من خلال ما يلي:
أولاً: فحص المصدر، أي مصدر المعلومة الأولى والفكرة الأولى، وهل هو مصدر موثوق ويُمكن الاعتماد عليه أم هو مصدر مشكوك فيه أو مزيف ومخادع؟
والمصدر هنا قد يكون حديثًا شفهيًا، أو كتابًا، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو برامجًا علمية أو أفلامًا وثائقية، أو قنواتٍ إعلامية أو صحفًا.. إلى آخر تلك المصادر والمشارب المتعددة والمتنوعة بل والمتضادة. ويُمكن حصر كل تلك المصادر وإرجاعها في الحقيقة إلى الإنسان، فكل تلك مجرد نوافذ يستخدمها الإنسان لتمرير أفكاره التي يناصرها. ففي الحقيقة، أنت تواجه إنسانًا مثلك تمامًا، يستخدم واجهات متعددة من خلالها يُمرر إليك ما يرده من معلومات وأفكار. والسبب أنه من خلال تلك المعلومات والأفكار الجديدة عليك يُمكن له أن يُسيطر على عقلك دون أن تشعر، ومن ثم يوجه فعلك للمجال الذي يريده ويحقق مصلحته!
وكما يقول المفكر فرانك أنلو، في كتابه (القيادة والتغيير): “راقب أفكارك جيدًا، فإنها تصبح كلمات، وراقب كلماتك فإنها تصبح أفعالاً”. فاقتناعك بتلك المعلومات والأفكار يولد لديك قناعة تزداد يومًا بعد يوم إذا أهملت فحصها، ومن ثم تحملك على الفعل طواعية بناء على قناعتك تلك!
إن فحص الفكرة أو المعلومة الأولى هي عملية مدافعة عقلية، تهدف إلى تحرير العقل من هيمنة تسلل أفكار مزيفة يُمكن أن تستحوذ عليك بشكل تدريجي. وكما يقول ابن القيم رحمه الله: “دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت شهوة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة”. فتركك الأفكار والمعلومات تتوارد إلى ذهنك من غير فحصها وفحص مصدرها ونقدها، يجعلها تكتسب قوة مع الوقت، لتصبح هي من يتحكم فيك!
يقول إيزايا برلين: “إن إهمال الأفكار من [غير] تبني نظرة ناقدة للأفكار قد يؤدي أحيانًا إلى اكتسابها قوة كاسحة، لا يمكن مقاومتها أو كبحها”. وقد تطورت أساليب تزييف المعلومة والتهرب من توثيقها عبر مسار التاريخ كله، ومن أشكال التزييف، عزو المعلومة إلى مثل: حدثني ثقة من الثقات، وأخبرني رجل معروف، أو مصدر مسئول مطلع، أو أكدت مصادر قريبة من الحدث. أو في رؤيا صادقة لرجل تقي، أو قرر كثيرٌ من الخبراء والمتخصصين، أو ثبت في دراسة علمية.. إلخ وغيرها من الأساليب المتكررة. ومن أخطر أساليب تزييف المعلومات والأفكار هو ما يعرف بالأفلام الوثائقية العِلمَويَّة أو الحوارات الموجهة، التي تُظْهِر الحياد والموضوعية.
ويرد هنا سؤال جوهري هو: كيف أستطيع أن أفحص مصداقية الفكرة أو وثوقية المعلومة الأولى، التي لا أعرفها، ولست متأكدًا من ثقتها أو زيفها؟
والجواب: يمكن ذلك من خلال طريقين اثنين: الأول هو فحص الفكرة نفسها إذا لديك معلومة سابقة عامة مؤسِسَة تكشف حقيقة الفكرة أو المعلومة الجديدة. أو بالرجوع والتأكد بنفسك -إذا كنتُ متعلمًا- من وجود تلك المعلومة في المصدر والمرجع المحال إليه. لأن كثيرا من الإحالات تجدها مزورة أو محرفة.
أما إذا لم تكن صاحب دراية بالمصادر والمراجع، فأسهل طريقة لفحص المعلومة أو الفكرة الأولى، هو الرجوع لمتخصص ثقة في علمه وأمانته. فطلب المساعدة من الآخرين لفحص الفكرة يكون من خلال الرجوع لأصحاب التخصص العلمي والأمانة العلمية لكشف حقيقة المعلومة الأولى. واحذر في الوقت نفسه من طلب المساعدة ممن يفتقد إلى التخصص أو الأمانة العلمية، فهؤلاء خطرهم عظيم، فقد يرسخون الفكرة الخاطئة أو يزيفون الفكرة الصحيحة.
إنَّ أخطر ما تفعله هو إهمال الأفكار والمعلومات الجديدة الواردة إليك، فاحذر من تركها تتكاثر عليك بدون عملية فحص أو نقد، فإنها سوف تتغلب عليك. ولا تتوهم أنك تعيش في ساحات فكرية نزيهة أو حيادية، بل في الحقيقة هي ساحات فكرية متصارعة، تتصارع فيها مشاريع مختلفة ومتضادة، كلها تريد كسبك!
يقول روبرت رايلي مدير إذاعة صوت أمريكا، في مقال: (كسب حرب الأفكار): “الطبيعة الحقيقية للصراع صراع المشروعية الفكرية في قلوب وعقول الناس”. ويضيف روبرت رايلي: “إن الحروب تخاض ويُحقق النصر أو الهزيمة في عقول الناس، قبل وقت طويل من بلوغها نهايتها في ميدان قتال بعيد”. ولذلك إذا نجحتَ في فحص مصدر الفكرة أو المعلومة الأولى حين قدومها، بنفسك أو بمساعدة مختص، تكون نجحت في منع تمرير الأفكار الزائفة لعقلك.
ثانيًا: ماذا لو نفذت وتسللت فكرة أو معلومة أولى خاطئة وزائفة إلى عقلك قبل أن تفحصها وتكتشفها؟ ماذا يمكن أن تفعل كي تتحرر منها؟
والجواب: لكي تعرف أن ثمة أفكار أو معلومات خاطئة سابقة عندك؛ فعليك أن تتعلم العلم الصحيح في أي مجال ومن مصادره الصحيحة، العلم هو طريق الأفكار الصحيحة. فالمعلومة الصحيحة والأفكار الحقيقية طاردة بطبيعتها للمعلومات والأفكار الخاطئة والزائفة والمحرفة.
كذلك، من الأساليب الجيدة والناجحة والمحببة للنفس: تدارس معلوماتك وأفكارك مع من تثق فيه من أهل التخصص والأمانة، لتفحص معلوماتك وأفكارك. وعليه، فإن التحرر من الأفكار والمعلومات السابقة الخاطئة والمزيفة والمحرفة، يكون من خلال: زيادة مستوى العلم، وتدارس أفكارك مع متخصص ثقة.
إن أخطر أمر في هذا المجال هو الاستهتار بأمر المعلومات والأفكار الأولى، فهي عادةً في البداية مجرد قطرات، لكنها لاحقًا تصبح كالطوفان الجارف. فالشبهات مثل كرة الثلج، لا تظن أنك إذا تركتها تتدحرج في نفسك سوف تصغر، لا، بل ستكبر وإن كانت بطيئة، فهي مارد قابع في نفسك يعيش في الظل!
يقول أحد المختصين برصد الشهبات ونقدها: “إذا تعرضت لشبهة فلا تهملها وتكمل طريقك وتواصل عملك، بل توقف فورًا عن كل شيء، وأجعل همتك كلها منصبة في اقتلاع تلك الشبهة الواحدة، من خلال نفسك بالبحث، أو بالرجوع لأهل العلم والتخصص”.
وتأمل نصيحة شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم، والتي قال عنها ابن القيم: “ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك”. يقول ابن القيم: “قد جعلت أورد عليه [أي ابن تيمية] إيرادًا بعد إيراد”. يقصد أخذ يعرض الشبهات واحدة بعد واحدة، لأنها تعرض للكثير منها! فأوقفه ابن تيمية ليعلمه قبل الجواب العلمي على آحاد تلك المسائل، الجواب المنهجي المتمثل في فحص الأفكار وتمييزها من خلال العلم الصحيح. فقال له ابن تيمية: “لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته”. ثم يقدم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا التوجيه المنهجي المحوري، فيقول: “إذا أَشربتَ قلبكَ كل شبهةٍ تمرُ عليه؛ صارَ مقراً للشبهاتِ”.
إن الشبهات الدينية تشبه تمامًا الفيروسات، وليس من الشجاعة ولا من العقل ولا من الإيمان أن تقتحمها وأنت مجرد عن المناعة الصحية. فلا يوجد عاقل ولا منهج علمي أو طبي يحمد المتهور الذي يدخل نفسه في مستنقعات الفيروسات والبكتيريا والأمراض، حتى وإن خرج منها سالمًا. بل يحمدون الذي يفر من مواطن الأمراض والعدوى، ويقي نفسه شرها بالوسائل العلمية والاحتياطات الطبيعة، لأنه ربما أرداه فيروس لا يراه بعينه!
أما الطبيب الحاذق الذي أخذ عدته الطبية وفحص ودرس تلك الفيروسات والأمراض والعدوى؛ فالعلم والطب يحمدان ويثمنان له جهوده العلمية النافعة.
إن السذّج هم أكثر ضحايا حرب الأفكار، فيسهل استدراجهم وخداعهم وحقنهم بأفكار مغلوطة أو منحرفة، إما للسخرية بهم أو من أجل إضلالهم وإفسادهم. والسذّج هم عادة حملة أكاذيب الإعجاز العلمي الملفقة، التي يصنعها بعض الملحدين أو جهات مشبوهة للسخرية بالمؤمنين أو لتشكيك البسطاء بدينهم.
والسذَّج هم في العادة من يؤمن بالعلاجات الطبية أو الشعبية المزيفة ويروج لها، وهم الذين يروجون للشائعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية! والسذَّج هم عادة الذين يفتقدون مبدأ فحص الأفكار الذاتي، أو عرضها على المختص، وهم جسر معظم الأفكار والمعلومات الزائفة والخاطئة والشائعات!
فهؤلاء يفتقرون إلى مبدأ مواجهة الفكرة أو المعلومة الأولى بالنقد، ويتصفون بالتسليم الأعمى لكل ما يعرض عليهم من أفكار، ويقبلونها من دون سؤال.