الفلسفة

عدم قابلية الخدمات للتجسيم: عقبة كبرى ينبغي تخطّيها عبر الترويج

عدد من المؤلِّفين

ترجمة وتقديم: زيد اولاد زيان

تقديم:

المُترجَم ها هُنا مِحوَر مُستلّ من كتاب مدرسيّ في مجال التسويق، يسلّط الضوء على خصيصة أساسيّة للخدمات في مقابل السِّلَع الماديّة وهي خاصيّة عدم ملموسيّتها، وتبِعات هذه الخصيصة على عمليّة الترويج ضمن سيرورة التسويق. فأردت التقديم بالتنبيه على بعض الأساسيّات لفهم أفضل لسياقه.

  • بلوَرَت أدبيّات مجال التسويق نهجًا من عدّة مراحل، يصاحب المُنتَج المُراد تسويقُه منذ الإرهاصات الأولى به إلى نهايته وموته. فأدبيّات المجال تستدخِل في نطاق التسويق مبحث الابتكار الذي يكون قبل إنتاج مُنتج بعينه، وما يصحب عمليّة الابتكار ويسبقها ويلحقُها من يقظة استراتيجية ومعلوماتيّة. كما يدخُل في نطاق النّهج التسويقي القيام بدراسات السُّوق بما يشمل دراسة الطلب والمنافسين وسلوك المستهلك. وتُواكب هذه المنهجيّة المُنتَج إلى أن تقرّر في وصف خصائصه والخدمات المرافقة له وسياسة تسعيره وعلامته التجارية وتعليبه وتوزيعه وترويجه. وهذه أمثلة فقط لإعطاء تصوُّر عن سعة نطاق التسويق. وكثير من هذه المراحل هي مباحث مستقلة للدراسات، تمتح من العلوم الاجتماعيّة ومن علوم الإدارة.
  • يُلاحَظ ممّا سبق أنّ ثمّة نطاقَين للنّهج التسويقيّ، جرى التّقليد العلمي على تمييزهما: (1) التسويق الاستراتيجيّ، الذي يرتكز على تحليل وفهم السوق من أجل وضع أهداف وسياسات عامّة للمُنتَج، و(2) التسويق العمَليّاتي، وهو يخُصُّ تطبيق الأهداف العامّة بطريقة عمليّة، وجرت العادة على تلخيص التسويق العمليّاتي في إدارة 4 عناصر: المُنتَج، والسّعر، والتوزيع، والترويج، وتُختصر في (4Ps: product, price, place, and promotion). وعنصر الترويج أو (promption) يُترجم للفرنسية بـالتواصل/الإعلان (communication)، واخترنا ترجمته بالترويج. وهو بحدّ ذاته مجال واسع أيضا، يضمّ كلّ طُرق وآليات الترويج من علاقات عامّة وإعلانات ووسائل، فمثلا يدخل في الترويج إدارة فريق البيع والتوزيع (في مجالات واسعة)، لأنّ البائعين وسلوكهم جزء مهمّ من الصُّورة العامّة التي تتكوّن عن المنتج والشركة في ذهن المستهلك، كما يضطلع البائعون التابعون للشركة بنشر وجمع معلومات مهمّة يمكن أن ترسُم ملامح المنتج في أذهان المستهلكين وهذه المعلومات ثروة للشركة في اتّخاذ القرارات. وإدارة “قوة البيع” هذه –وإن كانت تتقاطع مع عنصر التوزيع أيضا– بذاتها مجال قائم في التسويق.
  • إذا استحضرنا ما سبق، فإنّ السياق الذي تدخل فيه هذه الفقرات المترجَمة هو تطبيق منهجيّة التسويق في مجال الخَدَمات، وتُفرِد بالذّكر عنصُر التّرويج من بين عناصر التسويق العمليّاتيّ. فإنّ مراحل نهج التسويق الذي تصِفُه أدبيّات المجال وإن كان موحَّدًا وقياسيّا، فإنّه كلّما طُبِّق في مجال معيّن تُراعَى خصوصياتُ ذلك المجال ويكون لها تبعات على المنهجيّة ذاتها، بحيث تُكيَّف لتستجيب لتلك المواصفات الخاصّة. ولذلك فإنّ تطبيق التسويق في مجال الخدمات يختلف عنه في مجال السلع المادية. فيتمّ توسيع عناصر التسويق العمليّاتي نفسها في مجال الخدمات لتُصبح سبعة بدَل أربعة (7Ps)، هذا على سبيل المثال. ومن أهمّ خصائص الخدمات أنّها غير ماديّة وغير ملموسة، وهذا يؤثر على كلّ سيرورة التسويق، ومن تبعاته أنّ عمليّة الترويج للخدمات يكون عليها جُهد مضاعَف لإبراز الجوانب الملموسة للخدمات وتعزيز صورة ذهنيّة واضحة عنها.
  • يبقى أن نُشير إلى صعوبة تعريف الخدمات، ما جعل أدبيات هذا المجال تعرّفُها بأهمّ خصائصها المشتركة. والتعريف بالخصائص أيضا ليس بالجامع ولا المانع، لكنّه أقرب إلى تحديد خصائص مهمّة تجمع بين أغلب الخدمات وتمنع إلى حدّ كبير من دخول ما عداها. وقطاع الخدمات هو قطاع كبير ومتنوّع جدّا، أصبح هو الأغلب على الاقتصاد المعاصر، ومن أهمّ الخصائص المشتركة لأغلب الخدمات: (1) اللاماديّة، و(2) سرعة التّلَف أو الفوريّة؛ أي أنّ أغلب الخدمات لا يمكن نقلُها عبر الزّمن بتخزينها، و(3) مشاركة العميل في إنتاج الخدمة.

عدم قابلية الخدمات للتجسيم

عقبة كبرى ينبغي تخطّيها عبر الترويج

يجعلُ عدَمُ الملموسيّة تَرويجَ الخدماتِ أكثرَ تعقيدًا. إذا كان بمُكْنَتِنا، في الواقع، عرضُ قارورة عطر أو لوحةٍ رقميّة أو سيّارة بسُهولة، فإنّ الأمر ليس مُماثِلا بالنّسبة للتّأمين، أو لخدمةٍ سياحيّة، أو خُطّة تأمينٍ صحّي. إذن ينبغي الحرص على خلق صورة ذهنيّة واضحة وفوريّة للخدمة في أذهان المستهلكين بقدر الإمكان، وبالتالي زيادة “حقيقيّتها”، بينما هذه الحقيقيّة حاصلة للسّلع الماديّة([1]).

يمكن تسجيل خمسة خصائص لعدم القابليّة للتجسيم([2])، كلُّ واحدة منها لها تداعيات بخُصوص التّرويج:

  • الغياب المادي [عدم الوجود الجسماني]: الخدمة من حيث هي ليست متشكّلة من مادة فيزيائيّة ولا تَشغَلُ حيِّزًا. فالخدمات غيرُ متاحة للحواسّ. وبالتالي فإظهار الخدمات من حيث هي غيرُ مُمكن.
  • التّجريد: مزايا كثير من الخدمات كما الرّفاه، والسّلامة، والمُتعة هي مفاهيم وليست أشياء، ما يجعلها يصعُب مُعاينتُها وأحيانا يصعُب إدراكُها([3]).

عدم الوجود المادي والتّجريد يفسّران أنّ ترويج عرضِ خِدمةٍ يمُرُّ عبر رسالة تُبرِز وعدًا بالخدمة: الرسالة تتركّز على تجربة العميل أثناء استخدام عرض الخدمة، بفضل الموارد التي يُتيحُها المزوِّدُ أثناء هذا الاستخدام. لذلك فإنّ حملة البريد (La Poste) «أحبّ تبسيط حياتي» ما بين مارس وأبريل 2014 هي موجَّهَة نحو منفعة يستشعِرُها العميل أثناء استعمال عرض الخدمة البريدية، مع اقتراح ميزات الخدمة التي تساعد على هذه السُّهولة فيما يخُصُّ العلاقة بالعميل أو الابتكار لحُزَمٍ نموذجيّة للخدمة (مثل: دَفع الرّسائل المُسبَق).

  • العُموميّة: عدد من الخدمات تُظهِر أوجُه تشابُهٍ قويّةً وتشكّل موضوعا لوُعود جدّ عامّة (مثل: تأجير السيارات). حتّى لو كان الزبناء يفهمون ما يمكن للخدمة أن توفِّر لهم، فإنه من الممكن أن يواجِهوا صُعوباتٍ في التّمييز بين العُروض. كما هو الحال في الخدمات الماليّة، التي يُنظَر إليها عادةً على أنّها مُتماثلة ومن الصّعب المُقارنة بينها. يتوجّب إذن التّرويج لما يميّز العرض ويُعلي من شأنه بالقياس مع الخدمات المُنافِسة. على سبيل المثال، لعبت سلسلة فنادق «Première Classe» سنة 2009 على حقيقة كونها العلامة الاقتصاديّة الوحيدة التي توفّر حمّامات خاصّةً داخل الغُرَف. لقد عَرَضت عميلًا مشتعِلا حماسًا في غُرفة الاستحمام (يلهو خلف مرآتِه وهو يتظاهر بأنّه محترِف للكونغ-فو بمنشفته، يُحاكي مغنّيا بجعل مشطه كميكروفون، أو يحاكي أيضا بشكلٍ ساخِرٍ جيمس بوند وهو يُشهِر مجفِّف شعره كنوعٍ من السلاح) ومعه نفس التعليق دائما: «غرفتي وحمّامي لوحدي».
  • عدم إمكان الفحص: لا يمكن اختبار الخدمات بحُكم طبيعتها قبل الشراء، حتّى لو كان من الممكن استنباط المؤشّرات المادّيّة المرئيّة مُسبقًا. على سبيل المثال، يمكن حصول فكرة عن جودة وكالة عقاريّة من خلال مختلف الشواهد الماديّة، مثل واجِهَتِها، وعلامتها التّجاريّة، وموقعها، والإعلانات المُلصقة في نافذة العرض، والمظهر الداخليّ (الأثاث، الديكور، مدى النظافة…). هذه الإثباتات المادّيّة توفِّر دعامةً للتّرويج؛ لكن وحدَها التجربة العمليّة ستسمح باختبار جودة الخدمة فعليّا. وبترتّب على ذلك أن احتمال المخاطِر المتصوَّر من قِبَل المستهلِك مرتفع بالنسبة للخدمات بالمقارنة معه في السِّلَع، وتقلُّب [تغيُّر] الخدمة([4]) يُسهِم أيضا في هذه المشكلة.
  • صُعوبة التمثيل الذهنيّ: عدم قابليّة التّجسيم الذهني ينتُج عن عدم قابليّة التجسيم المادّي، وتزداد عدم القابليّة هذه ما دامت الخدمة متعدّدة الأبعاد. لأجل ذلك فإنّ خدمات المعالجة الفيزيائيّة للأشخاص ومعالجة السِّلَع (مثل: البستنة، والحلاقة) تمثّل عدم قابليّة أقلّ للتّجسيم بالمقارنة مع خدمات معالجة المعلومات والمحاكاة الذّهنيّة (مثل: الخدمات الماليّة، والتّدريب). فالأولى، في الواقع، يمكن أن تَؤول إلى نتيجة ماديّة مرئيّة، قابلةٍ لأن تكون ممثَّلَةً عند التّرويج.
خلاصة

من بين السِّمات المحدِّدة العديدة للخدمات، والتي ينبغي أخذُها في الاعتبار عند صياغة سياسة التّرويج، فإنّ عدم قابليّتها للتجسيم هو العامل الأهمّ. ومن الأهمية بمكان زيادة «حقيقيّة» الخدمات من أجل الحدّ من المخاطر التي يتصوّرُها العميل وتيسير إدراكِها وتقييمها وتمييزها.

[1] – Sempels C. (2005), L’intangibilité d’une offre globale de services : conceptualisation, opérationnalisation, variables d’influence et impact sur le niveau de risque perçu, Thèse de doctorat, Université catholique de Louvain.

[2] – Mittal B. (1999), « The advertising of services: meeting the challenge of intangibility », Journal of Service Research, vol. 2, n° 1, p. 98-116.

[3] – يمكن الإشارة في هذا الصّدد إلى التبِعات الشرعيّة والفقهيّة لخصائص الخدمات.  ومن الخدمات التي ناقشها الفقهاء من قديمٍ الكراءُ والتعليم. فقد وقع في «المدونة الكبرى» نقل اختلافٍ في السّماعات في حُكم كراء الدُّور والحمّامات، واشترط فيها الإمام ابن القاسم (تـ 191هـ) ونقل فيها عن الإمام مالك شرط أن يكون ما اكتُري وما سيستفيد منه المكتري معلوما في قدْرِه، متّفقا عليه. وقد علّل الإمام سحنون (تـ 240هـ) نهي الإمام مالك عن الإجارة على تعليم الفقه بأنّه ليس له حدٌّ يُنتَهَى إليه، عكسَ تعليم القرآن. وخالفَ سحنون آخرون من الفقهاء. كما نجِد الإمام أبا الحسن القابسي (تـ 403هـ) يتعرّض لهذه القضيّة السابقة، ونجِدُه أيضا يُناقش إشكالا يتعلّق بشرط الحِذْق إذا اشترطه الوليّ على المعلّم الذي استأجره لتعليم ولده القرآن، وحدِّ هذا الحِذْق. وكلُّ الخدمات عموما تتّسم بعدم إمكانيّة التّعيين، فنجد التعليم في ذاته كخدمةٍ غير معيَّن، وعلى إرادة تعيينه لا يمكن ذلك أحيانا إلا بما ليس له حدّ معروف (كالحِذق)؛ ما يطرح إشكال الغرَر فيها، فصار كثير من العلماء في إباحة بعض أشكال الخدمات غير المعيّنة إلى الاستحسان بالعُرف، وجعل العُرف كذلك حاكِمًا في تعيين ما اتُّفِق عليه بين المزوِّد والمستهلِك (مثلَ أنْ يكون الحِذق في التعليم هو ما جرَت العادة على اعتباره كذلك). وهذا محلُّه كتب الفقه، ومرجِعُه إلى نظَر الفُقهاء واجتهادِهم، إنّما المقصود هنا الإشارة إلى ما تطرحُه الخدمات من حيث طبيعتها من إشكالات ومسائل فقهيّة. (المترجم)

[4] – على عكس المنتج المادي المتماثِل، فإنّ الخدمة الواحدة لا يمكن أن تكون متماثلة في تنفيذها. (المترجم)

المصدر:

Patrick Gabriel, Ronan Divard, Marine Le Gall-Ely et Isabelle Prim-Allaz (2014), Marketing des Services, Paris, Dunod.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى