فكر وثقافة

أيّهما أفضل: حياةٌ سَعيدةٌ، أم حياةٌ ذَاتَ مَعْنَى؟

  • تأليف: روي إف باوميستر
  • ترجمة: محمد خليفة الغافري
  • تحرير: محمد عبيدة

يردّد الآباء في كثيرٍ من الأحيان قوْلهم:”أٌريدُ أنْ يكونَ أطفالي سُعَداء”، ومِنَ النّادِرِ أن تَسْمَع منهم :” أُريدُ أنْ تكون حياة أطفالي ذاتَ مَعْنى”، مَعَ ذلك، فإنّ هذا الأخير هو ما يُريدُهُ مُعظمنا لنِفْسِهِ، فنحنُ نخشى غيابَ المَعنى من حياتِنا، ونشْعُرُ بالقَلق إزاءَ “العدميّة” لِجانِبٍ أو لآخَرَ من ثَقافَتِنا، و نُصاب بالإكتئابِ عندَما نفقِدُ الشّعور بالمعنى. إذن، ما هَذَا الذّي نُطلقُ عليهِ مُصطلح “المَعنى”؟  ولِماذا قد نَحتَاجُهُ بشدّة؟

دعْنا نَبدأ بالسّؤال الأخير، السّعادة والمَعنى يتداخلانِ بشكلٍ متكّررٍ بِلا ريْب، فلربّما تكونُ درجة معيّنَة من المَعْنى شرطًا أساسيًّا لتحقيقِ السّعادة، شرطٌ ضروريّ لكنّه غير كافٍ. وإذا كانَ هذا هو الحال، فسيسعى النّاسُ وراءَ المَعْنى ليَكونَ محضَ أداةٍ للوُصولِ إلى السّعادة. لكن مهْلًا، هل يوجدُ سببٌ يجْعلنا نبْحثُ عن المَعْنى لأجْلِهِ فقط؟ وإنْ لم يوجَد، فلماذَا إذنْ يختارُ النّاس حَيَواتٍ ذاتَ معْنى عِوَضًا عن حَيَواتٍ سعيدة – كما يَفْعلونَ في بعضِ الأحيان- ؟

إنّ الاختلافَ بينَ المَعنى والسّعادة كانَ بُؤرَةَ بَحْثٍ عَملتُ عليهِ مع زملائي في علمِ النّفسِ الاجتماعيّ كاثلين فوس، وجينيفر آكر، وإيميلي جاربينيسكي، ونُشِرَ في مجلّة علم النّفس الإيجابي Journal of Positive Psychology في أغسطس 2013. لقد أجريْنَا دراسةً استقصائيّة لما يَقرُبُ من 400 مواطنٍ إمريكيّ، تتراوَحُ أعمارهم ما بين سنّ 18 و 78، وقدْ طَرَحَ المسحُ أسئِلَةً تَدورُ حَوْلَ مدَى اعتقادِ النّاسِ أنّ حياتهم سعيدَة، ومدى اعتقادهم بأنّ حياتهم ذاتَ معنَى، أي أنّ لها غايةٌ. لم نُزوّدهُم بتعريفٍ للسّعادة أو للمَعنى، لذلكَ؛ كانت إجاباتُ المُستَجْوَبِينَ مَبنِيَّة على مفهومِهم الخاصّ لهاتيْنِ الكَلِمَتيْن. ومِن خلالِ طرْحِ العَديدِ من الأسئِلَة، تَمَكّنّا من مَعرفةِ العَوامِل المؤثّرَة على السّعادة، وكذلك العوامِل المُؤثّرة على المَعنى.

وكَما قدْ تتوقّع، تَتداخَلُ الحالتانِ: السّعادة والمَعنى  بشكْلٍ كبيرٍ جدًّا، فقد وجدْنَا أنّ نصفَ التغيّراتِ تقريبًا، في السّعادةِ يُمكنُ شرحُها بواسطِةِ المَعنى، والعكْسُ صحيح. ومع ذلك، وباستخدامِ ضوابطَ إحصائيّة، تمكّنّا من فكّ الإرتباطِ بيْنَ الحالتَيْنِ، وعزْلِ المؤثّراتِ المُباشِرَة لكلّ حالةٍ منهما، والتّي لم تكن مُؤثّرةً على الحالةِ الأخرى. كما أنّنا ضيّقنا نطاقَ بحْثِنا ليَشمل فقط العوامل التّي لها تأثيرٌ إيجابيٌّ مثلًا على السّعادة، ولها تأثيرٌ مُعاكِسٌ على المَعنى، أو على الأقل، عوامِلَ كانَ لها تأثيرٌ إيجابيٌّ على أحدهما ولم يكن لها حتّى أثرٌ ضئيلٌ على ارتباطٍ إيجابيٍّ بالآخَر. وباستخدامِ هذه الطَّريقة؛ عَثَرنا على خمسِ مجموعاتٍ من الاختلافاتِ الرّئيسيّة بينَ السّعادةِ والمَعنى.

المَجموعةُ الأوّلى كانت لها علاقةٌ بالحصولِ على ما تُريدُهُ وما تحتاجُه، فليسَ من المُستَغرب أنّ إشباعَ الرّغبات كانَ مصدرًا يُعوّلُ عليهِ لحياةٍ سعيدَة، لكن لم يكن له أيّ تأثير-ربّما حتّى أقلّ من لاشيء- عَلَى المَعنى. يكونُ النّاسُ أكثَر سعادةً إلى الحدّ الذي يَجِدونَ عندَهُ حياتهم سهلةً وليست صعبة، والأشخاص السّعداء يقولون إن لديهم من المال ما يكفي لشراءِ ما يُريدونَهُ وما يَحْتاجونَهُ. والصحّة الجيّدة هي عامِلٌ يُسهِمُ في السّعادة وليسَ في المعْنى، والأشخاصُ الأصحّاء أكثر سعادةً من المَرْضى، لكن حياةَ المَرضى ليْسَت خاوِيَةً من المَعنى. وكلّما شَعَرَ النّاسُ بالإرتياح أكثَر -شعورٌ قد يكون منبَعُهُ من الحصولِ على ما يريدونه ويحتاجونه-، إلا وكانوا سُعداءَ أكثَر، وكلّما شَعَروا بسوءٍ أقلّ، كانوا سُعداءَ أكثَر أيضًا، لكن هذا التّواتُر بينَ المَشاعرِ الجيّدةِ والسّيّئةِ ليسَ له أدنى ارتباطٍ مع المَعنى؛ إذ أنّه قد ينبَثِقُ ويزدَهِرُ حتّى في أسوءِ حالاتِ الفرد وأتعَسِهَا عليه.

المجموعةُ الثّانية من الاختلافاتِ ارتَبطت بالإطارِ الزمنيّ؛ فالمَعنى والسّعادةِ، على ما يبدو، يُخْبَرَانِ بشكلٍ مُختَلِفٍ في الأطُرِ الزمنيّة؛  فبينما السّعادة متعلّقة بالحَاضِر؛ فإنّ المعنى مُتعلّقٌ بالمستقبل، أو بدقّةٍ أكبر، متعلّقٌ بالرّبط بين الماضي والحاضر والمُستقبل. فكلّما قَضى النّاسُ وقتًا أكثَرَ في التّفكير بالماضي أو المُستقبل، اصطبغت حياتُهم بالمَعنى، وكانت أقلّ سَعَادة. والوقتُ الذّي يُصرَفُ في تَخيُّل المُستقبل والتّفكيرِ فيه، مُرتبطٌ بشكلٍ وثيقٍ إلى زيادةٍ في المَعنى ونُقصانٍ في السّعادة (نفسُ الحالِ مع القلق، الذّي سأذكرُهُ لاحقًا). وعلى العكسِ تمامًا، فكلّما قضى النّاسُ وقتًا أكثر للتّفكيرِ عن اللّحظة الآنيّة، أي في الحاضر، كانوا سُعداءَ أكثر. وغالبًا ما يكونُ البؤسُ مرتبطٌا بالحاضر، لكن رغمَ ذلك، يشعُرُ النّاس بأنّهم سعداءَ أكثر من كوْنهِم بؤساء. ولو كُنتَ تأمَلُ أنْ تزيدَ مقدارَ سعادتكَ؛ ففكّر بالحاضِر وركِّز عليه، خصوصًأ لو تمّ إشباعُ جميع حاجيّاتك. لكن على الجانب المُقابل، فإنّ المعنى يُعنَى بالوَصْلِ بين الماضي والحاضر والمُستقبَل، ليبدو وكأنّه قصّة متماسكة.

هذا يدعونا للبدء في اقتراحِ نظريّة تُجيب على سؤال: لمَ نهتمّ كثيرًا بالمَعنى؟ ولربّما كانت الإجابة هي: لجَعْلِ السّعادةِ تدوم. تبدو السّعادة وكأنّها مُركّزة على الحاضِر ومُتَعلّقَةٌ بهِ، ولحظاتها عابرة لا تَلْبث أن تزول، بينما المَعنى يمتّدُ من الماضي حتّى المُستقبل؛ مما يجْعلْهُ يبدو مستقرًّا إلى حدٍّ ما. ولهذا السّبب، قد يعتَقِدُ النّاس أنّ السّعيَ وراءَ حياةٍ ذاتَ معنى يُساعدُهم عَلَى البَقاءِ سُعداءَ على الدّوام. قد يكونون على حقّ، ولو أنّه في الواقعِ العمليّ، غالبًا ما تكونُ السّعادة مستَقرّةٌ نسبيًّا بمرورِ الوقت، فمن كانَ منّا سعيدًا اليوم، فمنَ المُحتَمًلِ أن يكونَ سعيدًا أيضًا بعدَ أشهرٍ وحتّى سنينَ من الآن، ومن كانَ منّا مَكروبًا اليوم حِيال أمرٍ ما؛ من المُحتَمَلِ أن يكونَ مكروبًأ حيالَ أشياءَ عِدّة في المُستقبَلِ البَعيد. يبدو الأمر كما لو أنَّ السَّعادةَ تأتِي من الخَارِج، لكنّ ثقلَ الأدلة يُرجِّحُ إلى أنَّ جُزءًا كَبيرًا منها يأتي مِنَ الدّاخل. ورغم هذهِ الحقائق، يَخْبُرُ النّاسُ السّعادةَ كشيءٍ يتمّ الشّعورُ به هُنا والآنَ، ولا يُمكِنُ اعتبارها أمرًا دائمًا. وعلى النّقيضِ من ذلك، يُنظَرُ إلى المَعنى على أنّه دائمٌ، ولذلك، قد يَعتقدُ النّاس أنّ بِواسطةِ تنميةِ المَعنى في حياتِهِم، يُمكِنُهُم إرساء أساسٍ يُعتَدُّ بهِ من أجلِ الإبقاءِ على سعادَتِهم لأطوَلَ وقتٍ مُمكنٍ.

كانت الحياة الاجتماعيّة محلّ مجموعتنا الثّالثة من الاختِلافَات، وكَمَا قد تتوقّع؛ اتّضَحَ بأنّ تواصُلَكَ مع الآخرين يُساهم بشكلٍ مهمٍّ للسّعادةِ، وللمَعنى أيضًا، وكوْنُكَ وحيدا في العالَم، يرتبطٌ بمستويات متدنيّة من السّعادةِ والمَعنى، مثل الشّعورِ بالوِحدة. لكن مع ذلك، فإنّ الطّابع الخَاصّ للصِّلاتِ الاجتماعيّة للفَردِ هو الذي يُحدّد الحَالَة [سعادة أو معنى] التي سَاهَمَ في تحقيقها وزَادَ منها. ببساطَةٍ أكبر، تتحلّى حياة الفردِ بالمَعنى عندَما يُساعد الآخرين، بينَما السّعادة تتأتّى بمُساعدة الآخرين له، وهذا يتَعَارضُ مع الحِكمة التقليديّة: فلقد افتُرِضَ على نطاقٍ واسعٍ أنّ مُساعدتك للآخرين تجعلُكَ سعيدًا. إلى الحدّ الذي يكون عندَهُ هذا صحيحًا، فإنّ التأثير يعتَمدُ كٌليًّأ على التّداخُلِ بينَ المعنى والسّعادة؛ فمُساعدة الآخرين ساهمت بشكلٍ إيجابيِّ كبيرٍعلى المَعنى دونَ السّعادة، ولم يكن هناكَ أيّ مؤشّر على أنّها عزّزت السّعادة بشكلٍ مُستقلٍّ عن المَعنى.  لكن على أيّ حال، لو كانَ هناك مِن شيء، فالتّأثيرُ كان في الاتّجاه المُعاكس؛ إذ بمجرّد أن نَضبِطها فَنستَخدمها لتعزيزِ المَعنى،  فإنَ مُسَاعدة الآخَرين يُمكِن أنْ تَنْقُصَ فِعلاً مِن سَعادةِ المَرء.

لقد وجدنا أصداءَ هذه الظّاهرة عندما سألنا المُشاركين في الدّراسة عن: كم مِنَ الوقْتِ يَقضُونَهُ في رعايةِ الأطفال؟  بالنّسبةِ للمشاركين العُزّب؛ لم يكن لرعايةِ الأطفال أيّ مُساهمة في معدّل السّعادةِ أو المعنى، ومن الواضحِ أنّ رعاية أطفال الآخرين بالنّسبةِ لهم لا يعدّ أمرًا سارًّا، ولا ضارًّا أيضًا. كما أنّه لا يحملُ بينَ طيّاته أي حِس بالمعنى. وفي الجهةِ المُقابلة، بالنّسبة للمُتزوّجينَ الآباء، كانت رعايةُ الأطفالُ مصدرًا وفيرًا للمعنى، على أنّه لا يزالُ يبدو غيرَ ذي صِلَةٍ بالسّعادةِ؛ ربّما لأنّ الأطفال يكونونَ أحيانًا مُمتِعينَ، وفي أحيانٍ أخرى مُزعِجينَ ومُرهِقينَ؛ لذلك تتوازنُ مشاعر الآباء تِجاههم من مُتعةٍ وإرهاق.

شَمِلَ الاستطلاعُ الذي أجريْناهُ أشخاصا يُصنّفونَ أنفسَهُم على أنّهم “مانحونَ” و “مُستَلِمونَ (أو: آخِذونَ)” ، ووجَدنَا بأنّ من يعتَبِرُ نفسَهُ شخصًا مانِحاً، يزيدُ عندَهُ الشّعور بالمَعنى، لكن تنخَفِضُ سعادتُهُ بشكلٍ واضحٍ للغاية؛ بينما كانت نتائجُ من يعتبرون َ أنفسهم مُستلمينَ (أو: آخذينَ) أقلّ وضوحًا؛ وربّما يعودُ السّببُ في ذلك إلى أنّ الشّخص يُقرّ على مَضَضٍ بأنّه شخصٌ مُستَلِمٍ (أو: آخِذٍ)، لكن على العُموم، كان واضحًا بعضَ الشيء أنّ اعتبارَ الشّخصَ نفسَهُ كمُستَلِم (أو: الآخِذ) -أو على الأقلّ، التّفكير بأنّه شخصٌ مُستَلِم- يُعزّز السّعادة لكنّه يقلّلَ الشّعورَ بالمَعنى في حياتِهِ.

يُمكنُ لعُمقِ العلاقاتِ الإجتماعيّة أن تُحدثَ فارقًا في كيفيّة مُساهمة الحَياة الإجتماعيّة في معدّلاتِ السّعادة والمَعنى، حيث أنّ قضاء وقتٍ مع الأصدقاء يزيدُ من السّعادةِ دونَ أن يكونَ له أي تأثير على المَعنى، لذلك، من المُحتَمَلِ أن يكون شُربَ كؤوسٍ من البيرة مع الرُّفقاء، أو الاستمتاعُ بمحادثةٍ لطيفةٍ مع الأصدقاء أثناء تناوُلِ الغداءِ مصدرًا للسّعادةِ. لكن، على العُموم، لا يبدو أنّهما مُهمّانِ جدًّا لحياةٍ ذات معنى. وعلى سبيلِ المُقارنة، فقضاءُ وقتٍ أطوَلَ مَعَ الأحبّةِ اقْتَرَنَ بالمَعنَى دون أن يكونَ له تأثيرٌ على السّعادةِ. الفَرْقُ، على سبيلِ الافتراض، يكمُنُ في عُمقِ العِلاقة؛ فغالبًأ ما يكونُ الوقتُ مع الأصدقاءِ مُخصّصًا للحصولِ على مُتَعٍ بسيطة [أي: مصدر للسّعادة]، دونَ الكثير من المَخاطِر المُتعلّقة بالعلاقة؛ لذلك؛ لربّما يزيدُ من الأحاسيس المُبهِجَة بينَما لا يُساهِم إلّا قليلًا لزيادةِ المَعنى، ولو كان أصدقاؤكَ مُزعجينَ وحادّي الطِّباع، بإمكانِكَ تركُهُم والمُضيّ قُدُمًأ. أمّأ بخصوص الأحبّة، فالوقتُ معهم ليسَ مُبهجًا على الدّوام، ففي بعض الأحيانِ يتعيّنُ عليكَ دفعُ الفواتير، وأن تَتَعامَلَ مع الأمراض والإصلاحات [صيانة المنزل مثلًا]، والقيام بأعمالٍ أخرى غير سارّة؛ ومن المُمكنِ طبعًا أنْ يكونَ التّعامل مع الأحبّةِ صعبًا فتَتذبذب العلاقة؛ وفي هذهِ الحالةِ، يتعيّنُ عليكَ العَمَل على العِلاقةِ وتذليلِ صعوباتِها. لذلك، لربّما ليس من قبيلِ المُصادفةِ أن يكون النِّزاعُ مُقتَرِنًا بزيادةٍ في المَعنى ونُقصانٍ في السّعادةِ.

هناكَ فئةٌ رابعةٌ من الإختلافات تتعلّقُ بالكِفاح، والمشاكِل، والضّغوطات، وأشباههنّ. بشكلٍ عام، اقتَرنَت هذه الفئة بانخفاضٍ في السّعادة وارتفاعٍ في المَعنى. لقد قُمنا بالسّؤالِ عن عددِ الأحداثِ الإيجابيّةِ والسلبيّةِ التّي مرَّ بها أفرادُ التّجربةِ مؤخّرًا، واتّضحَ بأنّ وجودَ الكثير من الأمورِ الجيّدةِ ساهَمَ بشكلٍ إيجابيٍّ في المعنَى والسَّعادة، هذا أمرٌ طبيعيٌّ لا توجد مفاجأة بهِ. لكن، كانَ للأمورِ السّيئةِ قصّة أُخرى، فالحياةُ ذات المُعدّل الأعلى من المَعنى كانت بها أحداثٌ سلبيّةٌ كثيرة، والتّي بالطّبعِ قد قلّلت من السّعادةِ. في الحقيقةِ، كان الإجهادُ وأحداثُ الحياةِ السلبيّة ضربَتيْنِ قويّتيْنِ للسّعادة، رغم ارتباطِهِما البَارِز بالمَعنى. لقد بدأنا بإمساكِ خيطٍ يفرّقُ بينَ الحياةِ السّعيدة والحياة ذات المَعنى، فالإجْهادُ، والمَشاكل، والقَلق، والنّزاعُ، والتّفكير في التحدّيات والصِّراعَات؛ جميعُها خجولةُ الحُضور أو غائبة كُليًّا في حياةِ الأشخاصِ الذين يعيشونَ بسعادةٍ بحتَةٍ؛ لكنّها على ما يبدو، جزءًا لا يتجزّأ من الحَيَواتِ المُتّسمة بالمَعنى. يُوضّح الانتقال إلى التّقاعد هذا الإختلاف بين الحَياتَيْنِ: فمع التوقّف التّامّ لمُتطلّبات العَمَل والضّغوطات المُصاحِبَة لها؛ يرتَفِعُ معدّل السّعادة، وينخفِضُ معدّل الشّعور بالمَعنى.

هل يخرُجُ النّاس بحثًا عن التوتّر وطَلَبًا له لإضافةِ المَعنى إلى حياتِهم؟ يبدو أّنّه من المُرجّحِ أن يبحثوا عن معنًى وذلكَ بالقِيامِ بمشاريعَ صعبةٍ وغير مؤكّدة النّجاح. يُحاولُ المرء إنجازَ أشياءٍ في العَالَم، وهذا يُحدِث تقلّباتٍ في حياتِه من صعودٍ وهبوط بسبب المَتاعب، بالتّالي؛ فإنّ صافي الزّيادةِ في سعادَتِهِ قد يكونُ ضئيلًا، بينَما تزيدُ هذه العمليّةُ المَعنى سواءً عند الصّعودِ أو الهُبوط. على سبيلِ المثال، مثالٌ قريبٌ منّا، يُضيفُ إجراء الدّراسات والمَشاريع حِسًّا كبيرًا بالمَعنى في حياتِنا ( ما الذي قد يُضفي معنًى أكبَرَ على حياتِكَ أكثَرَ من العَمَل على زيادةِ المَعرفةِ البشريّة؟ [يقصد من خلال الدّراسات، كهذه الدّراسةِ] )، لكن المَشاريع نادرًا ما تسيرُ على الخُطّةِ التي وُضِعَت لها، لذلك تحدُثُ العديدُ من حالاتِ الفشل والإحباطِ التي من شأنها أن تمتصّ كلّ سرورٍ وبهجةٍ أثناء القِيام بمثلِ هذه المَشاريع.

تتعلّق الفئة الأخيرة من الإختِلافاتِ بالذّات والهويّة الشّخصية، فالأنشطةُ التّي تُعبِّرُ عن الذات مصدرٌ مهمٌّ لإضفاءِ المَعنَى على حياةِ الفردِ. لكن ليسَ لها في الغالبِ صِلَةٌ بالسّعادةِ. لقد تمّ عرضُ قائمة تتكوّنُ من 37 نشاطًا (أنشطة مثل: العَمَل، القِيام بتمارينٍ رياضيّة، التأمُّل) على المُشاركينَ في الدّراسة التي قُمنَا بها، وسألناهم ما إنْ كانت تُعبّرُ عن ذواتِهم أو يَروْنَ أنفُسَهُم من خلالها، وتبيّنَ لنَا أنّ 25 نشاطًا من تلكَ القائمةِ كانَ لها تأثير إيجابي على مُعدّلات المَعنى في حياةِ الفردِ؛ ولم يكن لأيِّ تمرينٍ علاقةٌ سلبيَّةٌ بهِ.  في المُقابل، نَشاطَيانِ فقط من تلكَ القائمةِ (مُخالطةُ النّاس، والخروجُ لحفلاتٍ دونَ بيرة) ارْتَبَطَا بشكلٍ إيجابيٍّ بالسّعادةِ؛ لكن كانَ لبعضِ الأنشطةِ علاقةٌ سيّئةٌ جدًّا بالسّعادة، فكانَ أسْوَأَها القَلَق: لو كُنتَ تعتقدُ عن نَفْسِكَ بأنّكَ شخصٌ قَلِق؛ ستَنخَفِضُ السّعادة لديكَ بشكلٍ كبير.

إذا كانت السّعادة تدورُ حوْلَ ما تُريد، فإنّ الشّعورَ بالمَعنى في حياتِكَ يبدو وكأنّه متعلّقٌ بِالقِيامِ بالأشياءِ التّي تُعبِّرُ عن نفسك؛ فحتّى مُجرّد الاهتمام بقَضايَا الهُويّة الشَخصيّة وتَعريفِ الذات ارْتبَطَ بمزيدٍ مِن الشّعورِ بالمَعنى، على الرّغمِ مِن أنّها كانت غير ذي صلةٍ، إنْ لم تَكُن ضارًّةً تمامًا بالسّعادةِ. قَد يبدو هذا مُتناقِضًا تقريبًا: فالسّعادةُ أنانيّة، بمَعنى أنّها تدورُ حوْل الحُصولِ على ما تُريد، وجَعْلِ الأشخاص الآخرينَ يفعَلونَ أشياءً تُفيدك؛ ورغمَ ذلك، النّفسُ مُرتبطة بالمَعنى أكثَرَ من ارتباطِهَا بالسّعادةِ. إنّ التعبيرَعن َنفْسِكَ، والتّعريفُ عنها، وبِناء سُمعةً طيّبةً عنها، وغيرها من الأنشطة التي تَتَمحوْرُ على الذات، هي أمورٌ تتعلّقُ بالمَعنى أكثر من تعلُّقِهَا بالسّعادةِ.

هل كلّ هَذا الذي سَبَقَ يُخبِرُنا أيّ شيءٍ عَن مَعنى الحَياةِ؟ إنّ الإجابةَ بـ “نَعَم” تتوقّفُ على بعضِ الافْتِراضاتِ القَابِلة للنّقاشِ، وليسَ أقلّها فِكرَة أنّ النَّاسَ سوفَ يقولونَ الحَقيقةَ حَوْل ما إذا كَانتْ حَيَاتهم مُتّسِمَةً بالمَعنى أم لا. ويوجَدُ افتراضٌ آخر قابلٌ للنّقاش كما سابِقِهِ أيضًا، وهو أنّنا قادرونَ عَلَى إعطاءِ إجابةٍ حقيقيّة بخصوصِ السؤال السابق. هل يُمكُننا مَعرفَةُ ما إذا كانتْ حياتنَا ذاتَ معنَى؟ ألا يتعيّنُ علينَا أوّلا أنْ نقول بالضّبطِ ما مَعنَى أن يكونَ لحياتِنا معنى؟ تذكّر أنّني وزُملائي لم نُزوّد المُشاركينَ في دراستِنا تعريفًا للمَعنى، ولم نَطْلُب منهم تَعْريفَهُ بأنفُسِهِم، لقد طلبنا منهم فقط تحديدَ إلى أيّ مدًى هم مُتّفقونَ مع عباراتٍ من قبيل:    “بشكلٍ عامّ، أعتَبر أنّ حياتِي مُتّسمة بالمَعنى”، ولكيْ ننظُرَ بعمقٍ أكثر حوْلَ معنى أن يكونَ لحياتِك مَعنى؛ يبدو أنّ توضيحَ بعضَ المَبادئ الأساسيّة سيُساعِدنا في ذلك.

قبلَ كلّ شيء، ما هيَ الحياة؟ واحدة من الإجاباتِ تُقدّمها لنا الرواية المؤثّرة لـ أنتوني مارا بعنوان:” كوكبة من الظّواهرِ الحيويّة” (A Constellation of Vital Phenomena) (2013)، والتي تتحدّثُ عن الشيشان في أعقابِ الحَربيْنِ الأخيرتيْن.  واحدة من شخصيّات الرّواية تقطّعت بها السّبل واحْتُجِزَت في غرفتها، ليسَ لديها أي شيءٍ لتَقومَ به، فقرّرت قراءة القاموسَ الطبيّ لأختِها في الحِقبة السوفييتيّة. لم يُقدّم لها ذلكَ القاموس سوى قليلٍ من المعلوماتِ المفيدةِ، أو حتّى المفهومة، باستثناء التّعريف الذي قدّمهُ عن الحياة، الذي رسمت حوله دائرةً باللون الأحمر: ” الحياة: كوكبةٌ من الظّواهِرِ الحيويّة، كالتّعضّي، والقابليّة للإستثارةِ، والحَرَكة، والنموّ، والتكاثُر، والتكيّف”. إلى حدٍّ ما، هذا هو ما تَعنيهِ الحياة. يُستحسَنُ بي أنْ أضيف الآن أنّنا نَعرِفُ أنّ الحياةَ نوعٌ خاصٌّ من العمليّاتِ الفيزيائيّةِ: ليسَت ذرّات أو مواد كيميائية فقط بحدّ ذاتِهَا، بل هِيَ رقْصَة منظّمة للغَايةِ من العمليّات الحيويّة، فالموادّ الكيميائيّة في الجِسم هي نفسها في اللّحظةِ قبلَ الموت واللَّحظةِ التي بعدهُ، فالموتُ لا يُغيِّرُ هذه المادّةَ ولا تِلكَ: بل تتغيّر الحالَة الديناميكيّة الكامِلَة للنّظام، ومع ذلك؛ فإنّ الحياة حقيقةٌ ماديّة بحتة.

إنّ معنى “المعنى” أكثر تعقيدًا، فالكَلمات والجُمَل لها معنَى، كذلكَ أيضًا الحياة، لكن هل هو نفس الشيء في الحالتَيْن؟ بمعنى ما، يُمكنُ أن يكون معنى كلمة “الحياة” عبارة عن تعريفٍ بسيطٍ نعثُرُ عليه من القاموس، كمثلِ التّعريفِ الذي قدّمتُهُ في الفقرةِ السّابقةِ. لكن لا، ليسَ هذا التّعريف الذي يُريدُه النّاس عندَما يسألونَ عن معنى الحياةِ، بل يريدون تعريفًا يجْعلُ الشّخص الذي يُعاني من أزمة هويّة مُتمّكنًا [أي: عندَهُ الدّافع] من قراءةِ اسمهِ المكتوبِ على رُخصةِ قِيادَتِهِ؛ بل وأكثَر، يتمثّلُ أحد الاختلافات بينَ المَعنى اللّغويّ و معنى “أن تكونَ حياتك ذاتَ معنى” هو أنّ الثّاني يسلتَزِمُ منهُ وجودَ قِيمة حاكِمَة، أو مجموعةٍ منها، ممّا يَعنِي بدوْرِهِ وجودَ نوعٍ معيّنٍ مِنَ المَشَاعِر؛ فعلى سبيلِ المثال، إنّ واجباتك الرياضيّة مليئةٌ بالمَعنى حيثُ أنّها تتالّفُ بالكامِلِ من شبكةٍ من المَفاهيم، أو بكلماتِ أخرى: من معانٍ [هذا هو المعنى اللّغوي]. لكن، في الكثيرِ من الحالات، لا يُوجد الكَثير من المَشاعِرِ المُرتبطةِ بعمليّاتِ الجَمعِ أو الطرحِ التّي تقومُ بها؛ لذلك ،لا يميلُ النّاسُ إلى اعتبارِ أنّها “ذاتُ معنَى” بالمعنى الذي يهمّنا (في الواقِع، بعض النّاس يُبغضونَ القيام بالعمليّات الحِسابيّة وما يتّصلُ بالرياضيّات، ويشعرونَ بالقلقِ حيالَ ذلك، لكن ردودُ الفِعلِ هذه بالكادِ تبدو مُفضية إلى اعتبارِ المَوضوعِ هذا مصدرًا للمَعنى في الحياةِ).

الأسئلة حول معنى الحياةِ تَدورُ حولَ الغايَةِ أو المَغزى منها،. لا نُريدُ معرفة التّعريف القاموسيّ لمَعنى “حياتِنا”؛ إنْ كانَ لديها تعريف أصًلا. نريدُ أن يكون لحياتِنا قيمة، حتّى يكون لها سياقٌ معقولٌ. ومعَ ذلك، يبدو أنّ هذه المَخاوف الوجوديّة تمسّ فقط المَعنى اللّغويّ لكلمةِ “المَعنى”، لأنّها تتطلّب ادراكًا وارتباطاتٍ عقليّةٍ أخرى. من الجديرِ بالملاحظة كثرة المرادفات للمَعْنَى من الحياةِ، والتّي تُشيرُ إلى المُحتوى الحرفيّ البحتِ لهُ؛ فعلى سبيلِ المثال: نحنُ دائمًا ما نتحدّثُ عن الهدف من الحَياةِ، أو أهمّيتها، أو منطقيّتها. لذلك، إذا ما أردنا أن نفهم المَعنى من الحياةِ، لا بدّ لنا من أنْ نتصدّى لطبيعةِ المَعنى بهذا المَعنى الأقلّ شأْوًا.

إنّ المعنى اللّغويّ هو نوعٌ من الارتباط غير الماديّ، وإنّه لمن المُمكن أن يرتبطَ شيئانِ ارتباطًا ماديًّأ، فعلى سبيل المثال، عندما تُسمِّرُ شيئيْنِ معًا؛ فإنّهما يرتبطان ارتباطًا ماديًّا، وكذلكَ الحالُ أيضًا عندما يبذلُ أحدهما سحبًا ثقاليًّا [جاذبيّا] أو مغناطيسيًّا على الآخَر. ولكن يُمكنُ أن ترتبطَ الأشياءُ ارتباطًا رمزيًّأ أيضًا؛ فالارتباط بين عَلَمٍ والبلد الذي يُمثّلهُ ليسَ ارتباطًا ماديًّا، جزيء بجُزيء، وتَبقى الصّلة بينهما كما هيَ ولو كان العَلَمُ في أقصى الشّرقِ والبَلَد في أقصى الغرب بحيث يستَحيلُ أيّ ارتباطٍ ماديٍّ بينهما.

لقد تطوّر العقل البشريّ ليستَخدم المَعنى لفهمِ الأشياء، وهذا جزءٌ من الطريقة البشريّة من أجلِ أنْ يكون اجتماعيًّا: فنحن نتحدّث عن ما نقومُ به وما نجرّبُهُ، ومُعظم ما نعرِفهُ قد تعلّمناه من الآخرين وليسَ من التجربةِ المُباشرة. إنّ بقاءنا يعتمدُ على تعلّمِ اللّغةِ، والتّعاون مع الآخرين، والانصياع إلى القوانين الأخلاقيّة والتّشريعيّة، وما إلى ذلك. واللّغةُ هي الأداة التي يستعملها البشر لتداولِ المَعنى. علماء الأنثروبولوجيا يعشَقونَ إيجاد استثناءات لأيّ قاعدة، لكنّهم فَشِلوا حتّى الآن في العُثور على أيّ ثقافةٍ تستغنِي عن اللّغة. إنّها أمرٌ عالميّ يشتركُ فيه كلّ البشر دونَ استثناء. لكن، هناكَ فرقٌ مهم يتوجّبُ ذكره هنا، فعلى الرّغم من أنّ اللغة ككلّ عالميّة، إلا أنّ اللّغات الخاصّة يتمّ اختراعها: إنّها تَختَلِفُ حسبَ الثقافة. المَعنى عالميٌّ أيضًا، لكنّنا لا نختَرِعُه، بل نَكْتَشِفُه. فكّر بما ذكرناهُ سابقًا عن واجبات الرياضيات: فالرّموزُ فيها هي اختراعات بشريّة تعسّفيّة، لكن أن يكون حاصِلَ ضرب 5×8= 43 هي فكرة خاطِئَة بطبيعتِها، وهذا ليس شيئًا اخَترَعَهُ البشر أو بإمكانهم تغييره.

صاغَ عالم الأعصاب مايكل جازانيجا، أستاذ علم النّفس في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، مُصطلح “النّصف الدماغي الأيسَر المُترجِم left-brain interpreter”، وهو مُصطَلَحٌ يُشيرُ إلى جزء من الدّماغ مُكرَّسٌ على ما يبدو للتّعبير لفظيًّأ عن أيّ شيءٍ يَحدُثُ له. لكن تقاريرهُ ليست صحيحة دائمًأ كما أثبَتَ جازينيجا، فالنّاسُ يبتكرون تفسيرًا بشكلٍ سريعٍ لكلّ ما يفعلونَه أو يختَبِرونَه، ويتلاعبونَ بالتّفاصيل حتّى تُناسب قصّتهم؛ أي إن لديهم احتماليّة كبيرة للكذب. دَفَعَت أخطاؤهم جازينيجا إلى التساؤل عمَّا إذا كانت هذه العمليّة لها أيّ قيمَةٍ على الإطلاق، لكن لربّما اصطبغت خَيبةُ أمله بالافتِراضِ الطبيعيّ للعُلماء الذي ينصون على أنّ الغرض من التفكير هو مَعرفة الحقيقة (هذا، بعد كلّ شيء، هو ما يُفتَرَضُ بالعلماء القيام به). لكن على النقيض من ذلك، أقتَرحُ أنّ جزءًا كبيرًا من التفكيرِ غَرَضُهُ مساعدة المرءِ على التحدّثِ إلى أشخاصٍ آخرينَ، فصحيحٌ أنّ عقولنا تَرتَكِبُ أخطاءً، لكن عندما نتحدّث عنها؛ يُمكِنُ للآخرينَ معرفة الأخطاءِ، وبالتّالي تصحيحها. بشكلٍ عامّ، يقتَربُ الجنس البشريّ من الحقيقةِ بشكلٍ جماعيٍّ بواسطة المُناقشةِ والجَدَل، بَدَلًا من التفكيرِ في الأشياءِ كُلًّا على حِدَة.

يُلاحظُ الكثير من الكتّاب، خصوصًا من لديهم خبرةً في التأمّل والزِّن، كيفَ أنَّ الدماغ البشري يبدو وكأنّهُ يُثرثر طوالَ اليوم، فعندما تُحاول التأمّل، يفيضُ عقلك بالأفكارِ، في عمليّة تُسمَّى عادةً “مُحادثةٌ فرديّةٌ داخليّة”. لكن لماذا يفعَلُ العقلُ هذا؟ يرى وليام جيمس مؤلّف كتاب مبادئ علم النّفس (1890) أنّ التفكير متعلّقٌ بالعَمَل، لكن في الواقع يبدو أنّ الكثير من التفكير لا صِلةَ له بالعَمَل أو القِيامِ بما تُفكّرُ بهِ فِعلًا. بل إنَّ التعبير عن أفكارِنا بواسطة الكلماتِ هو إعدادٌ ضروريٌّ لإيصالِ تلكَ الأفكارِ إلى الأفرادِ الآخرين، فالتحدّث أمرٌ مهمٌّ: إنّه سبيلُ الكائن البشريّ للتواصُلِ مع الآخرينَ في المَجموعةِ والمُشارَكَة فيها، وهكذا نحلُّ المشاكل البيولوجيّة الأبديّة بخصوصِ البقاءِ والتكاثُرِ. طور البشر عقولًا تُثرثرُ طوال اليوم لأنّ الثرثرةَ بصوتٍ عالٍ هي الطّريقة التي نَجَوْنا بواسطتها. إنّ التحدّثَ يتطلّبُ من البشر أنْ يُعبّروا عن ما يفعلونَه بواسطةِ الكَلمات، فيُمكنُ للدُّبِّ أنْ يَنزِلَ إلى أسفَلِ التلِّ ليَحْصُلَ على مشروبٍ، كما يُمكِنُ للإنسانِ فعلُ ذلك أيضًا؛ لكن الإنسان هو منْ لديهِ القُدرَة على التّفكيرِ ووضْعِ ما يُفكّرُ به في كلماتٍ فقط دون بقيّة الحيوانات:” سأنزِلُ إلى أسفَلِ التلّ وأحصُلُ على مشروبٍ”. في الواقِع، قد لا يُفكّر الإنسانُ في هذه الكلماتِ فحسب، بل أنْ يَقولَها بصوتٍ عالٍ أيضًا، من ثَمَّ يُمكنُ للآخرينَ سماعه والمجيئُ معهُ في هذه الرّحلة، أو أنْ يُحذّره أحدهم من النّزول إلى أسفَلِ التلّ؛ وذلكَ لأنّه قد شاهَدَ دُبًّا على جانبِ الماءِ. إذن، ومن خلالِ الحَديث، يُشاركُ الإنسان معلوماته ويَتَواصل مع الآخرينَ، وهذا هو ما نحنُ عليهِ ككائناتٍ حيّة.

وتدعَمُ الدّراسات المُتعلّقَة بالأطْفَالِ فِكرَةَ أنّ العقلَ البَشريَّ مُبَرمجٌ بشكلٍ طبيعيٍّ للتّعبيرِ عن الأشياءِ بواسطةِ الكلمات، فالأطفالُ يمرّونَ بمراحِلَ من قَوْلِ أسماءِ كلّ شيءٍ يُواجِهونَه بصوتٍ عالٍ، والرّغبة في منْحِ مُسميّاتٍ لكلّ أغراضِهم الشخصيّة مثل القُمصان والحيوانات ،وحتّى حركة أمعائِهم الدّاخليّة (سابقًا، كانت ابنتُنا تُسمّي الأشياءَ خاصّتها بأسماء أقاربِهَا، طبعًأ ليس سبب هذا عداءٌ أو عدم احترام، على الرّغمِ من أنّنا قد شجّعناها على عدم التّصريح بتلكَ الأسماء). هَذَا النّوع مِنَ الحَديثِ ليسَ مُفيدًا بشكلٍ مُباشِرٍ في حَلِّ المُشْكلاتِ، أو أيٍّ منَ الاستِخداماتِ النّفعيّة [البراغماتيّة] المَألوفَةِ للتّفكيرِ، لكنّه يُساعدُ عَلَى ترجمةِ الأحداثِ الماديّةِ لحياةِ الفردِ إلى خِطابٍ، بحيث يُمكنُ مشاركتها ومناقشتها مع الآخرينَ. تطوّرَ العقلُ البَشريّ للانضِمام إلى الخِطابِ الجَماعيّ، والسّردِ الاجتماعيّ. إنّ جُهودَنا الدّؤوبةِ لفَهْمِ الأشياءْ تَبْدَأ صغيرةً، بحيث أنّها تحتَوي على المَوادِّ والأحداثِ الشّخصيّةِ للفَردِ، لكنّنا بالتدريجِ، نعمَلُ عَلَى وضْعِ أُطُرٍ أَكبر وأَكثر تَكامُلاً. بمعنًى ما، نحنُ نتسلّق سُلّم المَعنى – من الكَلِماتِ والمَفاهيمِ الفرديّة إلى التأليفاتِ البَسيطَةِ (الجُمَل)، ومِنْ ثَمَّ إلى السّردِ الكَبيرِ، والرُّؤى الشّاملة، أو النّظريّاتِ الكونيّة.

تُقدّمُ الديمقراطيّة مِثالًا وَاضحًا لكيفيّة استِخْدامِنا للمَعْنَى، فالديمقراطيّة لا تُوجد فِي الطبيعةِ. وفي كلِّ عامٍ، تُجري مَجْموعات بشريّة لا حَصْرَ لهًا انتخابات،  لكنْ، حتّى الآن، لَمْ يُلاحظ أيّ شخص وجودَ مِثلَ هذهِ الانتخاباتِ في أي نوعٍ حيٍّ آخر عدا البَشَر. هَل اختُرِعَت الديمقراطيّة أمْ أنّها اكتُشِفَتْ؟ لربّما ظَهَرَت بشكلٍ مُسْتَقلٍّ في العَديدِ مِنَ الأماكنِ المُختَلِفَة، ولكنْ أوجُه التّشَابُهِ الأسَاسيّةِ تُشيرُ إِلى أَنَّ الفِكْرة كَانَتْ موجودة سَلَفًا، أيْ أنّها جَاهزة للاكْتِشَافِ. زمن ثَمَّ، تَمّ اخْتِراع مُمارساتٍ مُحدّدةٍ لتَنفيذها (مثلًا: كيْفِيّة أَخْذِ الأَصْواتِ). ومَعَ ذَلك، يَبدو أنَّ فِكرَة الديمقراطيّة كانَتْ تَنتظرُ أَنْ يَعْثُرَ النّاسُ عَليهَا فَيَستخدِموها.

إنّ التساؤُلَ عَنْ الغَايَةِ أو المَعنى منَ الحَياةِ يدلُّ عَلَى أنّ المَرْءَ قَدْ قَطَعَ شَوْطًا طَويلًا صعودًا عَلَى السُّلّم؛ فحتّى نَفْهَم المَعْنَى مِن أو الغَايةِ من بَعضِ الموادِّ التي تَمَّت مُواجهتها حَديثًا، قَدْ يتساءَلُ الأشْخاص عَن سَبَبِ صُنعِها، أو كَيْفَ وَصَلَتْ إلى هُنَا، أوْ عَنِ الفَائدَةِ المرجُوّةِ منها. وعِندما يَتَعلّق الأمْرُ بِمَسأَلَةِ مَعْنى الحياةِ أو الغايةِ منها، تَنْبَثِقُ أسئلةٌ مُماثِلَةٌ: لِمَاذا أَوْ لأيّ غَرَضٍ وُجِدَت الحَيَاةُ؟ كَيفَ وَصلت هَذهِ الحَياةُ إِلى هُنا؟ ما هِيَ الطّريقَةُ الصّحيحَةُ أو الأفْضَل للاسْتِفَادَةِ مِنْهَا؟ إنّهُ لَمِنَ الطَبيعيّ أنْ نَتوقّع ونَفْتَرِضَ وُجودَ إجاباتٍ لهذهِ الأسئِلَةِ. يَتَعلّمُ الطّفلُ مَا هُو المَوْز: إنّه يُشتَرى مِنَ المَتْجَرِ، وَقبْلَ ذَلك، يُؤتَى بِهِ مِنْ شَجَرة، ومن الجيّدِ أَكْلُهُ، وهُوَ مَا تَفْعَلُهُ (مهمٌّ جِدًّا) أوّلًا بإزالةِ القِشْرَةِ الخَارجيّة للحُصُولِ عَلَى الجُزء الدّاخليّ النّاعِمِ والحُلْوٍ. مِنَ الطّبيعيِّ افتراضُ أنّ الحياةَ يُمكِنُ فَهْمها بِالطَريقةِ نَفْسها، ما عَلَيْكَ إِلّا أَنْ تَعْرِفَ (أو تتعلّم مِنَ الآخَرينَ) ما تَدورُ حَوْله [أي الحَياة] ومَاذَا تَفْعَلُ بها. اذهب إِلى المَدرسةِ، ثمّ احصُلْ عَلَى وظيفةٍ، ثمّ تزوّج، من ثَمَّ انجابُ أطفالٍ. بالتّأكيد، و عَلاوةً عَلَى ذلك، يوجَدُ سَبَبٌ وَجيهٌ للرّغْبَةِ فِي الحُصولِ عَلَى كُلّ هَذَا، فَلَوْ كَانَ لديْكَ مَوزَةٌ لكنّكَ فَشِلْتَ فِي ادْراكِهَا [بصورةٍ أو بأخرى]، فَقَدْ لا تَسْتَفيدُ مِن تَنَاوُلِهَا. بنفسِ الطّريقةِ، لوْ كَانَ لحِياتِكَ غايَةٌ لكنّكَ لَمْ تُدْرِكْها، قَد يَنتَهِي بِكَ الأمرُ إِلَى إِهْدَارِهَا. كمْ هُوَ مُحزِنٌ أَنْ تُفوِّتَ مَعْنَى الحَيَاةِ والغَايةِ منها، لَوْ كانَ ثَمَّة هَدَف وغَاية.

لقد بدَأنا في رُؤيَةِ كيْفَ أنّ فِكْرَةَ أنّ للحَياةِ مَعنى تَجْمَعُ شيئيْنِ مختَلِفيْنِ معًا، فالحياة عبارة عن عمليّات فيزيائيّة وكيميائيّة، بينَما المَعنى أو المَغزى منها هو ارتباطٌ لا ماديّ، وهو شيءٌ يكمُنُ حُضوره في شبكاتٍ من الرموزِ والسّياقات؛ وبسبب أنّه ليس شيئًا ماديًّا بحتًا، فلَدَيْهِ المَقدرة عَلَى القَفْزِ عَبْرَ مسافاتٍ كبيرةٍ ليَتّصِلَ عَبْرَ المكانِ والزّمانِ. تذكّر أنّ نتائجنا متعلّقةِ بالفرْقِ في الأُطُر الزمنيّة بين السّعادةِ والمَعنى، فبإمكانِ السّعادةِ أن تكون قريبة مِنَ الواقِعِ الماديّ، وذلك لأنّها تَحْدُثُ هُنا في الوقْتِ الحاضِرِ، وبمعنًى مهمٍّ؛ إنّه لَمِنَ المُمكِنِ أن تكونَ الحَيوانات سعيدةً على الأرجَحِ دونَ أنْ تُلقي بالًا للمَعنَى. بينما في المقابل، فإنّ المَعنى أو الغايةِ، تربِطُ بين الماضي والحاضِرِ والمُستقبل بطُرُقٍ تتجاوَزُ الارتباطَ الماديّ. فعندَما يَحتَفِلُ اليَهود المُعاصرونَ بعيدِ الفصح، أو يحتفلُ المسيحيّونَ بالعشاء الإلهيّ [أفْخارِسْتِيّا] بواسطَةِ شرب الدّم وتناوُلِ لحمِ إلههم بشكلٍ رمزيٍّ؛ فإنّ أفعالهم موجّهة بواسطة روابطَ رمزيّةٍ للأحداثِ التي حَدَثت في الماضي البعيد (في الواقِع، إنّ واقعيّة الأحداث مُتنازَعٌ فيها). إنّ الرابطَ من الماضي إلى الحَاضِر ليسَ رابطًا ماديًّا كذاكَ الرابط الذي يُسقِطُ قِطَعَ الدومينو المصفوفةِ في صفّ، بل هو رابطٌ روحيٌّ يَقفزُ عبْرَ العُصورِ.

إنّ الأسئلةَ المُتعلّقة بالغايةِ من الحياةِ أو المَعنى منها، سبَبُها أكبرُ من مجرّد فضولٍ بليدٍ، أو خوْفٍ من الضياعِ؛ فالمَعنى أداةٌ فعّالةٌ في حياةِ الإنسانِ، ومعرفة استعمالات هذهِ الأداةِ يُساعِدنا على تقديرِ قيمَةَ شيءٍ آخر في الحياةِ، عِوَضًا عن اعتِبارها مجرّد عمليّة تغييرٍ مُستمر. قد يكونُ الكائن الحيّ في حالة تغيّرٍ دائمٍ، لكن لا يُمكنُ للحياةِ أن تكون في وئامٍ مع تغيّرٍ لا نهايةَ له. فالكائناتُ الحيِّة تتطلّعُ إلى الاستِقرارِ، وتَسْعَى إِلى إقامةِ علاقاتٍ مُتناغِمَةٍ مَعَ بِيئَتِهَا؛ إنّهُم يُريدونَ مَعْرِفةَ كيفيّة الحُصولِ عَلَى الطّعامِ والمَاءِ والمَأْوَى وَمَا شَابَه، و يَبحَثونَ عنْ أماكِنَ أو يُنشئونَها بحيث تُوفّر لهم الرّاحَة والأَمَان، وقَد يَحتَفِظونَ بِنَفسِ المَأوى لسنواتٍ. بمعنًى آخر، إنّ الحياة عِبارة عن تغيّر مصحوب بسعيٍ حثيثٍ مُستمّرٍ لإبطاءِ عمليّة التغيير أو إيقافها، والتي تؤدّي في النّهايةِ إلى الموتِ.

لو بإمكانِ التغيّرِ أنْ يتوقّف، خُصوصًا عند نقطةٍ مثاليّة: كانَ هذا موضوع القصّة العظيمةِ لرِهان فاوست مع الشيطانِ؛ فَقَدْ فَقَدَ فاوست روحَهُ لأنّه لم يستَطِع مقاومة الرّغبة وتَمَنّيهِ بقاءَ لحظةٍ رائعةٍ ما إلى الأبد. مِثلُ هذه الأحلامِ عقيمة، فلا يُمكنُ للحياةِ أن تتوقّف عن التغيير حتّى تنتهي، لكن الكائنات الحيّة تَعْمَلُ جَاهِدة لتَأسيسِ درجةٍ مِنَ الاستِقْرارِ، ممّا يُقَلّلُ مِنْ فَوْضَى التّغييرِ المُسْتَمرّ حتّى تكونُ فِي وضْعٍ مُستَقِرٍ إِلى حَدٍّ مَا.

على النّقيضِ من الحياةِ؛ يتميّزُ المَعنى بالثّباتِ على الدّوام. واللّغة تكونُ مُمْكِنةً فَقَط طالَمَا حَمَلت الكلماتُ نَفْسَ المَعْنى عندَ الجَميع، ونَفْس المَعنى غدًا كمَعناها اليَوْم (اللّغاتُ تَتَغيّر، ولَكِن بِبُطءٍ نَسبيًا، ويُعدّ الاسْتقرار النسبيّ ضَروريًّا لِوَظَائِفها)، بالتّالي، فإنّ المعنى يُقدّمُ نفسَهُ كأداةٍ مُهمّةٍ قدْ يَفْرِضُ الحيوانُ البشريّ باستِخدَامِهَا الاستقرارَ على عالَمِهِ. من خلالِ إدراكِ التّناوبِ المُستمّر للفُصولِ، يُمكِنُ للنّاسِ التخطيط للسنواتِ المُقبلَةِ عليهم، ومِنْ خِلالِ إنشاء حُقوق ملكيّة دَائمة، يُمْكُننا تَطوير مَزارعَ لزراعةِ الأغْذيَةِ.

إنّ الإنسانُ يَعْمَلُ مع الآخَرينَ لفرْضِ معانيهِ، ومِنَ الواجب أنْ تكونُ اللّغة مُشْتَرَكة فيما بينهم، لأنّ اللّغات الخاصّة ليست لغاتً حقيقيّة. فمن خلالِ التواصُلِ والعَمَلِ معًا؛ نَخْلُقُ عالمًأ يُمكنُ التنبّؤ به، وفعّالا، وجديرا بالثّقةِ؛ بحيث يُمكنك  أن تركَب حافلةً أو طائرة للذّهابِ حيثما تريد، ونَثِق أنّه بإمكاننا أنْ نشتري الطّعام يوم الثلاثاء القادِم، ونَعْلَمُ أنّكَ لن تضطرّ إلى النّوم في المَطَرِ أو الثلجِ ولكن في سريرٍ دافئٍ وجافّ، وهكذا دواليْكَ.

يُعتبر الزّواجُ مثالًا جيّدًا لتوضيحِ كيفَ أنّ المَعنى يُساهِمُ في بناءِ قواعِدَ راسخةٍ للعالًم وزيادَةِ استقرارِهِ؛ فمُعظم الحيوانات تتزاوَجُ مع بعضها البعض، وبعضها يفعلُ ذلك لفتراتٍ طويلةٍ أو حتّى مدى الحَيَاةِ؛ لكن البشر فقط من يرتَبطونَ برباطِ الزّواج. قد يُخبرك زملائي الذينَ يدرسونَ العلاقاتِ الوثيقة بأنّ العلاقات تستمرّ في التطوّر والتغيّر، حتّى بعدَ سنينٍ طويلةٍ من الزواج. ومع ذلك، فإنّ حقيقَةَ الزواجِ ثابتةٌ. فأنتَ إمّا متزوّجٌ أو غير متزوّج؛ وهذا لا يتغيّرُ من يومٍ إلى آخر، وذلك بالرّغمِ من أنّ مشاعركَ وأفعالَكَ تجاهَ زوجتِكَ قد تتغيّر إلى حدٍّ كبيرٍ، لكنِ الزّواج يُنعّمُ من هذه النتوءات في العِلاقَةِ؛ وبالتّالي يُساعد على استقرارِها. هذا هو أحد الأسبابِ التي تَجْعَلُ الأفراد يميلونَ إلى الاستقرارِ والبقاءِ معًا إذا كانوا مُتزوّجينَ أكثَرَ من غيرهم من الذينَ لا تربطهم علاقة زواج. سَيكونُ تتبّعِ كلّ مَشاعِركَ تِجاهَ شَريكِ حَياتكِ الرّومانسيّ أمرًا صعبًا ومُعقّدًا مع مرورِ الوقْتِ، وربّما غير مُكتَمِلٍ دَائمًا، لكن مَعرفة مَتَى قُمتَ بالانتقالِ مِنْ غَيْرِ مُتزوّجٍ إِلَى مُتزوّجِ أمرٌ سهلٌ، لأنّه حَدَثَ فِي مُناسبةٍ مُحدَّدَةٍ تَمَّ تَسجِيلها رَسْميًا. إنّ المَعْنى أكثر اسْتِقرارًا من العَاطِفَةِ، لذلكَ تستخدْمُ الكَائِنات الحيّة المَعْنَى كجُزءٍ مِن سَعْيهِا الدّائمِ نَحوَ تَحقيقِ الاسْتِقْرارِ.

حَاوَل المحلّل النَفسيّ النمساويّ فيكتور فرانكل، مؤلّف كتاب “الإنسان يبحثُ عن المعنى” (1946) تحديثَ نظريّة فرويد من خلالِ إضافةِ رغبةٍ عالميّةٍ للمَعنى أو الغايةِ، جنبًا إلى جنب مع مُحرّكات ودوافع فرويد الأخرى. وأكّدَ على أهميّة وجودِ هدفٍ أو غايةٍ، وهو بلا شكّ جانبٌ واحد، ولكن ليس القصّة كاملةً. إنّ جهودي الخاصّة لفَهْمِ كيفَ يَجِدُ النّاس المَعنى في الحياةِ قد استَقرّت في نهايَةِ المَطافِ على قائمةٍ من أربعةِ “احتياجاتٍ يتطلّبُها المَعنى” حتّى تتّسم حياة الفرد بالمَعنى أو الغاية، وقد صمدت تلكَ القائمة بشكلٍ جيّدٍ في السّنوات اللاحقة.

ما تُوضّحُهُ هذهِ القائمة هو أنّ اطّرادَ المَعنى في حياتِك ووفْرَتِه مُرتَبطٌ باستيفاءِ هذه المُتطلَّباتِ الأربعةِ، وفي المقابل، فإنّ الأفرادُ الذينَ يفشلونَ في تلبيةِ واحدٍ أو أكثر من هذه المُتطلَّباتِ من المُرجّحِ أن يكون المَعنى في حياتهم أقلّ من كافٍ، كما أنّ أيّ تغيير في هذه المُتطلّباتِ سيُؤثِّر على المَعنى في حياةِ الفردِ، سواءً كان ذَكَرًا أو أنثى.

الحاجَةُ الأولى هِيَ الهَدَف، و فَرانكل كَانَ عَلَى صَوَابٍ: فَبِدونَ هَدَفٍ، سَتَفْتَقِرُ الحياة مِنَ المَعْنَى. والهَدَفُ هُوَ حَدَثٌ أو حَالةٌ مُسْتَقْبليّة تُوَفّر هيْكَلًا للحَاضِرِ، أيْ أنّ حَاضِرَكَ مبنيٌّ على هَدَفِكَ المُستقبليّ، وَبالتّالِي رَبْطُ أوقاتٍ مختلفةٍ في قصّة واحدةٍ. يُمكِنُ تَصنيف الأهدافِ إلى فِئَتيْنِ بيِّنَتَيْنِ، فَقد يسعَى المرءُ نَحوَ هَدَفٍ مُعَيّنٍ (للفَوْزِ ببطولةٍ، أو أنْ يُصبحَ نائبًا للرّئيسِ أو يُرَبّي أطْفالًا أصحّاء)، أو الوُصولِ إلى حالةٍ من تلكَ التّي تَتْبعُ الإنجازِ (السّعادَةِ، الخَلاص الرُّوحيّ، الأمن المَاليّ، الحِكْمَةِ).

إنّ أهدافَ الحياةِ تأتي من ثلاثةِ مصادِرٍ، بمَعنى أنّ حياةَ كلّ فردٍ تَمتلِكُ ثلاثَةَ مصادرَ أساسيّةٍ للهَدَفِ. الأوّلُ هو الطبيعة، فَهي قَد أنْبتتكَ لِغَرَضٍ مُعيّنٍ، وهوَ الحفاظُ على الحَياةِ من خلالِ البقَاءِ والتّكاثُرِ، والطّبيعةُ لا تهتمّ فيما إذا كنتَ سعيدًا، وذلكَ على النّقيضِ من النّاسِ الذينَ يهتمّون بسعادَتِهِم دومًا. نحنُ منحَدِرونَ من أفرادٍ كانوا يُجيدونَ التّكاثُرَ والبَقاء على قيّدِ الحياةِ لفتَرةٍ كافيَةٍ للقِيامِ بذلكَ، وغَرَضُ الطّبيعة منكَ ليسَ شامِلًا لكلّ مناحي حياتِكَ، فهيَ لا تهتَمّ بما تقومُ بهِ في ظَهيرةِ يوم الأحد طَالَما تمكّنتَ مِنَ البقاءِ على قيد الحياةِ، ثمّ التناسُلِ عاجلًا أم آجِلًا.

المَصْدَرُ الثّانِي للهَدَفِ هُوَ الثّقافةِ، فالثّقافةُ تُخبِركَ مَا هِيَ الأمورُ القَيّمة والمُهمّة. لدرَجَةِ أنّ بعضَ الثّقافاتِ تُخبركَ بمَا يَجِبُ أنْ تَفْعَله بالضّبطِ: إنّها تَجْعَلُكَ فِي مكانٍ مُعيّنٍ (مُزارع، جُنديّ، أُمّ، إلخ)، بيْنَمَا بعض الثقافات الأخرى تُقدّمُ لَكَ مجموعةً أكبَرَ مِنَ الخياراتِ بالتّالِي يُمارِسونَ ضَغطًا أقلّ عَليْكَ لتبنّي خيارٍ مُعيّنٍ، على الرّغمِ مِن أنّهم يُمجّدونَ بالتّأكيدِ بعْضَ الخَياراتِ أكثَرَ مِنَ غَيْرِها.

هَذَا يَقُودُنَا إِلَى المَصْدرِ الثّالثِ للأهْدافِ: خَياراتُكَ الخَاصّة. فِي الدّولِ الغَربيّةِ الحَديثَةِ عَلَى وَجْهِ الخُصوصِ؛ يُقدِّمُ لَكَ المُجْتمع مَجموعةً واسعةً من المَسَاراتِ ثمّ تُقرّرُ ما تَرْغَبُ بِهِ منها. ثُمَّ ولأَيّ سَبَبٍ كَان – مُيولَكَ، أوالمّوْهِبة، أو مَدَى صَبْرِكَ، أوْالأجورِ المُرْتفعة، أوْالمَزَايَا الجَيّدة – يُمكنكَ اختيار مَجْموعة وَاحِدَة مِنَ الأهْدافِ لنِفَسْكَ (مِهنتكَ، عَلَى سبيلِ المِثَال). أنتَ هَكَذا تَخْلُقُ معنَى حَيَاتِكَ، وَتُكْمِلُ الرَّسْمَ الذي قَدّمه كل من الطّبيعة وَالثّقافة لكَ. يُمْكنكَ حتّى اخَتيار تَحدّيهِمَا: يختارُ العَديد مِنَ الأشخاصِ عَدَم التّكاثُرِ، والبَعْض الآخَر يَخْتَارُ عَدَم البَقاء عَلَى قيدِ الحَيَاةِ، وَكثيرونَ آخَرونَ يُقاوِمونَ وَيتَمرّدونَ عَلَى مَا اخْتَارَت ثَقَافَتُهم لَهُم.

المُتطلّبُ الثّاني للمَعْنَى هو القِيمَة. هذَا يَعنِي أن يكون لك أساسٌ للتّفريقِ بين ما هو صحيحٌ وما هو خطأ، وما هو حَسَنٌ أو سيّءٌ. إنّ كلماتٍ مثلِ “حَسَن” و “سيء” هي من أوائلِ الكلماتِ التي يتعلّمُها الأطفال، وتُعدّ من بينِ المفاهيمِ المُبكّرةِ والعالميّة الموجودَةِ في جميعِ الثّقافاتِ، ومِن بينِ الكلماتِ القليلةِ التي تكْتَسِبها الحيواناتُ الأليفة في بعضِ الأحيانِ. وبلغةِ الدّماغِ وردودِ فِعْلِهِ، فإنّ الشّعورَ بأنّ شيئًا ما حسنٌ أو سيّءٌ يأتي سريعًا، وتقريبًا بعد إدراكِهِ فوْرًا. إنّ المَخلوقاتِ المُفرَدةِ تحكُمُ بأنّ بخيْريّةِ أمرٍ ما أوْ أنّه شرٌّ بناءً على إحساسِهِم عندَ  مُواجَهَتِهِ (هل يُكافئهم أم يُعاقِبهم)؛ أمّا البشر، فبِوصْفِهِم كائنات اجتماعيّة، فيُمكنهم أن يعرفوا الخيْر والشرّ بطُرُقٍ أرقى، مثل أخلاقيّة الفعلِ من عدمهِا.

عمليًّا، عندَمَا يتعلّقُ الأمرُ بجَعْلِ الحياةِ ذاتِ مَعْنى، فإنّ النّاسَ بحاجةٍ إلى العثورِ على القِيَم التي تُؤثِّرُ بشكلٍ إيجابيٍّ على حياتِهِم، قِيَمٌ تُمكّنِهُم من تَبريرِ من هُم وماذا يَفعلونَ. يَخضَعُ التبرير في النّهايةِ إلى حُكمٍ اجتماعيّ واتفاقيّ بينَ النّاس؛ لذلكَ يَحتاجُ المَرءُ إِلى تقديمِ تفسيراتٍ تُرضِي الآخَرينَ فِي المُجْتَمَعِ (وخاصّةً الأشْخَاص الذينَ يَقومونَ بإنفاذِ القَوانِين). مرّةً أُخرى، تَخلُقُ الطّبيعة بعض القِيَم، ثمّ تُضيفُ الثّقافة حَمولةَ أخرى مِنَ القِيَمِ الإضافيّة، وليسَ من الواضِحِ ما إذا كانَ بإمكان الأفرادِ أن يختَرِعوا قيمهم الخاصّة، لكنِ بعضها ينبَثِقُ من داخِلِ الذاتِ، ثمّ يُعمَل بها، فالنّاسُ لديهم رغبات داخليّة قويّة تُشكّلُ ردودَ أفعالِهِم.

أمّا المُتطلّب الثالثُ للمَعنى هو الفعاليّة والنُّجوع، فليْسَ مِنَ المُرضِي للغايةِ أن يكونَ لديْكَ أهدافٌ وقِيَمٌ إذا لم تتمكّن من فِعْلِ أيّ شيءٍ بها؛ فالأفرادُ يحبّونَ أنْ يشعُرُوا أنّ بإمكانهم إحداثُ تغييرٍ. ويَجِبُ أنْ تتجلّى قِيَمُهم في حياتِهِم وأعمالِهِم التي يقومونَ بها، أو لكي يُنظَر إليها من الجانِبِ المُقابِل، يَجِبُ أنْ يكون الأشْخَاص قَادِرينَ عَلَى تَوْجيهِ الأحْداثِ نَحْوَ نَتَائِجَ إيجابيّة (بِبَصيرَتِهِم)، بَعيدًا عَنِ النّتائِجِ السّلْبيّة.

المُتطلَّبُ الأخير للمَعنى هو تَقْديرُ الذاتِ، فالأشخاصُ ممّن لديهِم معنًى وغاية من الحياةِ عادةً ما يكونُ لديْهِم سَنَدٌ يُساعِدُهم على التّفكيرِ ليَحْسَبوا أنّهم أشخاصٌ جيّدونَ، بلْ ربّما أفضل قَليلاً مِنْ بَعْضِ الأشْخَاص الآخَرينَ بِلا خِلافِ. عَلِى الأَقَلّ، يودُّ النّاس أنْ يُصَدِّقوا أنَّهُم أَفْضَلُ مِمّا لَوْ كَانُوا قَدْ اخْتَاروا أوْ تَصرّفُوا أوْ أدُّوا أَدَاءً سَيِّئًا؛ وبالتّالي يَحْصلونَ عَلَى قَدرٍ مِنَ الاحْتِرَامِ.

إذن، فالحَياةُ ذَات المَعْنَى لَهَا أَرْبَع خَصائِص. الأولَى هي أنْ يكونَ لديْها أهدافٌ تسيرُ على ضوئِها أفعالُنَا من الماضي إلى الحاضِر والمُستقبل، مُضفِيَةً عليهَا الإتّجاه القَويمَ. أمّا الثانية فهيَ أن ييكون لديها قِيَمٌ تُمكّننا من الحُكمِ على ما هُوَ خيرٌ وما هو شرٌّ، وعلى الأخصّ، قِيَمٌ تَسمَحُ لنا بتبريرِ أفعالنا وجُهودنا على أنّها خَيِّرَةٌ.  كَمَا أنّها حياةٌ تَتَميّزُ بِالفَعَاليّةِ والنّجوعِ، بحَيْث تُسْهِمُ أعْمالنا بشكْلٍ إيجَابِيٍّ فِي تَحقيقِ أهدافِنا وقِيَمِنَا. كَمَا أنّها تُوفِّرُ أَسَاسًا وسَنَدًا لِأنْ نُكوِّنَ صورةً إيجَابِيّةً عنْ أنْفُسِنا كَأُناسٍ صَالِحينَ وَفاضِلينَ، وهذهِ هي المزيّة الرّابعة في الحَيواتِ ذواتِ المَعنى.

يَسْألُ النّاس مَا المَعنَى منَ الحَيَاةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ هُناكَ إِجَابةٌ وَاحِدة. لا تُوجَد إجابة وَاحِدة: هُناكَ الآلافُ مِنَ الإجَابَاتِ المُختَلِفَةِ، سَتكونُ الحَيَاة ذَاتَ مَغْزًى أومعنًى لَوْ وَجَدَت رُدودًا عَلَى الأَسْئِلَةِ الأرْبَعَةِ، وَهِيَ الأسئِلَة المُتعلّقة بالهَدَف والقِيمَة والفَعَاليّة وَتقدير الذاتِ. هَذهِ الأسْئِلة، وليْسَ الإِجَابات، هِيَ التي تَدومُ وَتُوَحِّد.

بصفتي عالم سلوك يدرس الاحتياجات النفسية الأساسية، -بما في ذلك الاحتياج إلى المعنى- أنا مقتنع بأن أزمة انتحار أفراد مجتمعنا هي جزء من أزمة انعدام المعنى … اكمل قراءة مقال:ازدادت حالات الانتحار، هل هي أزمة وجودية؟
المصدر
aeon

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى